الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4)
وأمر لهم بالتعاون والتضامن فيما فيه برّ وتقوى ونهي عن التعاون على الإثم والعدوان.
وانتهت الآية بأمرهم بتقوى الله وتنبيههم إلى أن الله شديد العقاب تنبيها ينطوي فيه إنذار لمن يخرق حرماته ويتجاوز أوامره ونواهيه وأحكامه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في معنى شَعائِرَ اللَّهِ وفي معنى الْقَلائِدَ فمما رووه عن معنى الأولى أنها حدود الله ونواهيه أو أنها مناسك الحج وحرماته عامة. أو أنها الهدي المنذر للتضحية من الأنعام المشعر أي الذي يعلم بجرح لإسالة دمه حتى يحترمه الناس ولا يعتدوا عليه. ومما رووه عن معنى الثانية أنها الهدي المنذور للتضحية من الأنعام الذي يوضع في رقابه قلائد من الخيطان أو لحاء الشجر أو ورقه لمنع الاعتداء عليه أو أنه الحجاج الذين كانوا يضعون مثل هذه القلائد في رقابهم ليمنعوا عن أنفسهم العدوان أو أن التعبير قد شملهم. وكل هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمتين وإن كنّا نرجح أنهما عنتا في الدرجة الأولى الأنعام المقلّدة بالقلائد المشعرة بالدم بالإضافة إلى ما في الآيات من استحلال الهدي بصورة عامة لأن في الآيات نهيا عن العدوان على الحجاج والتعاون على الإثم والعدوان وعدم إحلال الشهر الحرم. وفي الآية الأولى أمر بالوفاء بالعهود. وكل هذا يمكن أن يدخل في معنى حدود أوامر الله ونواهيه ومناسك الحج أيضا والله تعالى أعلم.
تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ودلالات عباراتهما وما فيهما من أحكام وتلقين وصور
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآية الأولى. وقد تعددت أقوالهم في دلالات عباراتها.
فأولا: روى الطبري عن ابن عباس أن العقود التي أمرت الفقرة الأولى منها هي عقود الله التي أوجبها على المسلمين فيما أحلّ وحرّم وفرض وبيّن من حدود.
وروى عن قتادة أنها عقود المحالفات في الجاهلية وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام. وروى لتأييد ذلك أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال له: لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله. قال: نعم. قال: لا يزيده الإسلام إلّا شدة. وروى عن ابن زيد أن العقود المأمور بالوفاء بها في الآية هي عقد النكاح وعقد الشركة وعقد اليمين وعقد العهد وعقد الحلف. وروى قولا لآخرين لم يسمهم أنها أمر موجه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به الله عليهم من ميثاق بالعمل بما في التوراة والإنجيل من تصديق النبي صلى الله عليه وسلم.
وما عدا القول الأخير الذي يبدو غريبا لأن الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين فإن الأقوال الأولى مما تتحمله العبارة القرآنية. وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب هو قول ابن عباس.
ولم تخرج أقوال المفسرين عن نطاق ما أورده الطبري الذي استوعب جميع الأقوال في صدد الجملة.
على أنه يتبادر لنا على ضوء الآية الثانية على ما سوف نشرحه بعد أنها في صدد الأمر باحترام عقد صلح الحديبية.
وإن كان إطلاق العبارة يجعلها شاملة لكل عقد مشروع بين الناس ثم لكل ما صار بمثابة عقد بين الله والمسلمين بعد إذ آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه.
وواضح أن الجملة بذلك قد انطوت على تلقين جليل مستمر المدى بوجوب احترام المسلمين لعقودهم وعهودهم مع الله ومع الناس في كل ظرف وعدم الإخلال بها في أي حال. وهو ما تكرر تقريره بأساليب متنوعة وفي سور عديدة مكية ومدنية بحيث يصح أن يقال إنها من أهم المبادئ القرآنية المحكمة «1» .
(1) انظر آيات سورة البقرة [27 و 40 و 176] وآل عمران [76] والأنعام [152] والرعد [22] والنحل [91 و 95] والإسراء [34] والمؤمنون [8] والأحزاب [23] والفتح [10] والمعارج [32] .
وقد قيدنا العقد بقيد المشروع لأن كل شرط أو قيد في أي تعاقد بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم مخالف لأوامر الله تعالى ونواهيه في القرآن وسنة رسوله باطل. وهذا أمر لا يحتمل شكّا في ذاته. وقد رويت أحاديث نبوية تؤيده جاء في أحدها «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا والمسلمون على شروطهم» «1» وجاء في حديث آخر عن عائشة «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. وإن كان مائة شرط. قضاء الله أحقّ. وشرط الله أوثق. وإنما الولاء لمن أعتق» «2» .
وثانيا: روى الطبري عن قتادة أن جملة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ هي لتحليل أكل لحوم الأنعام إطلاقا عدا ما ذكر في القرآن من حالاتها المحرمة. وهذه الحالات هي ما ذكرته الجملة التي بعدها غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أو ما ذكرته الآية الثالثة من السورة على اختلاف الأقوال. وروى كذلك عن ابن عمر وابن عباس أنها لتحليل أكل الأجنة التي توجد ميتة في بطون ما يذبح من الأنعام. وروى أيضا عن الربيع بن أنس ما يفيد أن عبارة بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تشمل بالإضافة إلى الإبل والبقر والغنم بقر الوحش والظباء وأشباهها المماثلة للأنعام وأن الجملة تعني حلّ أكل هذه البهائم. وقد عقب على هذه الأقوال قائلا إن أولاها بالصواب هو أنها في صدد تحليل الأنعام الأليفة أي الإبل والبقر والغنم كلها أجنتها وسخالها وكيارها عدا ما ذكر في القرآن من حالاتها المحرمة. وأنكر أن تكون بقر الوحش والظباء التي تصطاد صيدا من جملتها.
(1) انظر تفسير الآية في المنار. والحديث الأول من مرويات أبي داود والدارقطني والترمذي والثاني من مرويات أصحاب المساند الصحيحة الخمسة. انظر التاج ج 2 ص 185 وورود جملة (الولاء لمن أعتق) في الحديث الثاني بسبب مناسبة الحديث. ولكن تلقين الحديث عام شامل كما هو واضح.
(2)
المصدر نفسه.
وقد ذكر البغوي رواية تذكر أنها في صدد تحليل الأجنة وأورد حديثا عن أبي سعيد بسبيل تأييد ذلك جاء فيه «قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه» «1» . وإلى هذا روي عن قتادة والحسن أن المقصود من الجملة هو تحليل ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم. والمراد من ذلك على الأغلب ما حكي عن تقاليد العرب من تحليل وتحريم في آيات سورة البقرة [173] والأنعام [118 و 119 و 138 و 139] والنحل [114- 116] والحج [30] على ما شرحناه في سياقها وقد أورد البغوي إلى هذا قولا معزوا إلى الكلبي يفيد أن تعبير بهيمة الأنعام يشمل وحشها وهي الظباء وبقر الوحوش وحمر الوحش.
وليس في كتب التفسير الأخرى زيادة على ذلك. والذي يتبادر لنا على ضوء الجملة التي بعدها وهي غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أن مقصد الجملة أو من مقاصدها رفع الحرج عن المسلمين في ذبح الأنعام وأكلها وهم في حالة الحرم باستثناء ما ذكر من حالاتها في القرآن لأن تحليل أكل الأنعام مطلقا قد ورد في آيات سابقة مكية ومدنية عديدة. وفي أحدها ورد ذلك بعبارة مثل العبارة التي وردت هنا وهي ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [سورة الحج: 30] ولا تبدو حكمة في ذكر ذلك بالمعنى الذي صرفوه إليه في هذا المقام. كما أن صرف العبارة إلى الأجنة بعدا وتكلفا. وهذا لا ينافي الخبر الذي احتواه حديث أبي سعيد وهو أنه أو غيره سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الأجنة الميتة. والحديث لم يرد ولم يورد في أصله لتفسير العبارة.
ويتبادر لنا من فحوى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ
(1) الذكاة والتذكية في أصلها إتمام الاشتعال ثم صارت اصطلاحا إسلاميا يطلق على ذبح بهيمة الأنعام للأكل وذكر اسم الله عليها حين ذبحها وهذا الحديث من مرويات أبي داود وأحمد والترمذي انظر التاج ج 3 ص 95.
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أن القول المروي عن الربيع بن أنس والكلبي بشمول كلمة بهيمة الأنعام للوحش المماثل لها في محلّه وأن الذي منع هو صيدها في حالة الحرم وحسب. والله أعلم.
ثالثا: لقد أوّل الطبري وغيره جملة وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بحالة الإحرام للحج أو العمرة. وجملة غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بأنها للتحذير من استحلال الصيد في الحالة المذكورة وقد أوضح بعضهم هذه الحالة إيضاحا متسقا مع الأحكام الإسلامية أيضا. وهي تسربل الرجال بالملابس والأزر غير المخيطة قبيل دخول حدود الحرم المكي وقبيل الوقوف في عرفات وفي أثناء زيارة الكعبة لأول مرة والوقوف في عرفات وامتناعهم عن الحلاقة وتقصير الشعر والتزين والتطيب ومباشرة النساء على ما شرحناه من سياق تفسير آيات البقرة [196- 203] .
وبعضهم «1» زاد على ذلك فقال إن حالة الحرم تعني أيضا الوجود في داخل منطقة الحرم «2» .
والقول الأول يعني أن الصيد يحل للمسلم حينما يتحلل من إحرامه خلال أشهر الحج ويتمتع بين العمرة والحج ولو كان في منطقة الحرم. والقول الثاني يعني أن الصيد لا يحل قط داخل منطقة الحرم سواء أكان المسلم محرما متسربلا
(1) انظر الخازن. [.....]
(2)
خصصنا الرجال بالذكر لأن السنّة سمحت للنساء باللباس العادي. فقد روى أصحاب السنن حديثا عن ابن عمر قال «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسّ الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سراويل أو قميصا أو خفّا» (التاج ج 2 ص 106) أما في صدد إحرام الرجال فقد روى الخمسة عن ابن عمر أيضا «أن رجلا قال يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب. قال لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلّا أن لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين» (المصدر نفسه ص 105) وروى أصحاب السنن عن أبان بن عثمان قال «سمعت أبي يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكح المحرم ولا يخطب» ص 108.
بثياب الإحرام أو متحللا متمتعا. وإنما يحل خارج هذه المنطقة ولو كان ذلك خلال أشهر الحج.
وهذا وذاك مما قال به الفقهاء في سياق تقرير وبيان أحكام الحجّ ومناسكه استنادا إلى الآثار المروية. والقول الثاني مستلهم من حرمة القتال في منطقة المسجد الحرام المستفادة من آية البقرة وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ.. وتبعا لها كما هو المتبادر.
وهناك حالة ثالثة يمكن أن ينطبق عليها (حالة الحرم) وهي ظرف الأشهر الحرم استلهاما من الآيات التي تحرم القتال في الشهر الحرام على ما شرحناه في سياق سورة البقرة أو تبعا لها كما هو المتبادر. والروايات القديمة تفيد أن حرمة الأشهر الحرم كانت قبل الإسلام شاملة لجميع بلاد العرب وغير قاصرة على الحرم المكي وحجاجه على ما شرحناه في سياق سورة البقرة وأن الصيد كان محرما أثناءها سواء أكان ذلك داخل منطقة الحرم أم خارجها. وهذه الحالة تجعل الصيد محرما طيلة الأشهر الحرم سواء أكان في منطقة الحرم أم خارجها.
ولقد روى البخاري والنسائي عن أبي قتادة «أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم لو سألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه فسألناه فقال قد أحسنتم هل معكم منه شيء قلنا نعم قال فاهدوا لنا فأتيناه منه فأكل وهو محرم» «1» وروى أصحاب السنن حديثا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «صيد البرّ لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» «2» حيث يستفاد من الحديثين أن الصيد وأكله حلال لغير المحرم ولو في منطقة الحرم وفي الأشهر الحرم. وأنه يجوز للمحرم في منطقة الحرم في الأشهر الحرم أكله إذا لم يصده بنفسه أو يصد له خصيصا. وهذا إنما ينطبق على تأويل الكلمة بالتأويل الأول.
(1) التاج ج 3 ص 83 ومعنى (وهو حلال) أي غير متسربل بلباس الإحرام أو هو في حالة التمتع.
(2)
التاج ج 2 ص 107.
ولا يعني هذا فيما يتبادر لنا أن القولين الثاني والثالث غير واردين. ومن الممكن أن يقال إن الحديثين قد تضمنا تعديلا استهدف التخفيف والتيسير والإذن للمسلمين بالصيد خارج منطقة الحرم خلال الأشهر الحرم حينما لا يكونون في حالة الإحرام والله تعالى أعلم.
وقد يرد سؤال عن سبب أو حكمة تحريم الصيد في (حالة الحرم) بينما أصل ذبح الأنعام الأليفة فيها سواء أكانت هي حالة الإحرام أو ظرف الأشهر الحرم أو منطقة المسجد الحرام. ولم نقع في كتب التفسير على ما اطلعنا عليه على جواب لذلك. والذي يتبادر لنا أن حلّ ذبح الأنعام الأليفة في حالة الحرم هو تشريع إسلامي. وأن تحريم الصيد فيها هو إقرار لعادة قديمة مع تعديلها تعديلا فيه تيسير للمسلمين بقصر حرمة الصيد على حالة الإحرام وإباحة ذبح الأنعام الأليفة للأكل في هذه الحالة. ولقد كان من جملة هذا التعديل تحليل صيد البحر مطلقا على ما سوف يجيء بيانه في مناسبة أخرى في هذه السورة. وأما من جهة ما قبل الإسلام فيتبادر لنا أن ذلك آت من فكرة تأمين ما من العادة أن يكون خائفا من الطيور والحيوانات البرية من مطاردة الصائد وهو مسلح بمثل سلاح القتال من قسي ونبال ورماح اتساقا مع فكرة تأمين العدو الذي من العادة أن يكون خائفا أو غير مطمئن وهذا غير وارد بالنسبة للأنعام الأليفة كما هو ظاهر.
هذا في صدد الآية الأولى. ولقد روى ابن كثير عن بعض الشيعة في سياق جملة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عزوا إلى ابن عباس أنه قال «ما في القرآن آية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا أنّ عليا سيدها وشريفها وأميرها وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلّا علي بن أبي طالب» .
وفي هذا ما فيه من غلوّ عجيب لا يتسق مع منطق وحقّ. مع الاحترام لجلال قدر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد أنكر ابن كثير القول وعزاه إلى غلوّ الشيعة.
ونأتي الآن إلى الآية الثانية فنقول إن المفسرين يروون- كمناسبة لنزولها- أن
الحطم بن هند البكري أحد بني قيس بن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده وخلف خيله خارج المدينة فدعاه إلى الإسلام فقال انظروا (انتظروا) لعلي أسلم ولي من أشاوره ثم خرج ومرّ بسرح من سرح المدينة فساقه. ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلّد وأهدى فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، وفي رواية قال له ناس من أصحابه خلّ بيننا وبينه فإنه صاحبنا- أي الذي أخذ سرحنا- فقال إنه قد قلد. قالوا إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية فأبى عليهم ولم تلبث الآية أن نزلت «1» . وإلى هذه الرواية فإن ابن كثير يروي عن زيد بن أسلم أن المسلمين قد اشتد عليهم صدّ المشركين لهم عن البيت يوم الحديبية فمرّ بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نصدّ هؤلاء كما صدّنا أصحابهم فأنزل الله الآية.
وروى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المشركين كانوا يحجون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك في الآية.
وقد أورد الطبري أقوالا عديدة عن السدّي وقتادة وابن عباس ومجاهد في تأويل جملة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً تفيد أنها في صدد المشركين وأنها تعني أنهم كانوا يلتمسون بحجهم فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم ومعايشهم ويترضونه.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ويلحظ (أولا) أن الآية احتوت نهيا عن أمور عديدة. (وثانيا) أن جملة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً تلهم بقوة أكثر أنها في صدد حجاج مسلمين رأوا فيما تمّ من صلح الحديبية فرصة للذهاب إلى مكة بقصد العمرة أو الحج وقد أقرهما القرآن وفرضهما على المسلمين. فأراد بعضهم أن يصدّهم ويثبط عزيمتهم بأسلوب فيه عدوان ما. (وثالثا) أن في الآية أمرا لا صلة له بالروايات وهو ما احتوته جملة وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.
(1) الطبري والبغوي والطبرسي.
وننبه على أن بعض المفسرين «1» رووا عن بعض التابعين أن جملة آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قد عنت المسلمين. وهو ما قلنا إن فحواها يلهم ذلك بكل قوة..
وعلى كل حال فالمتبادر من فحوى الآية وروحها أنه بدا من بعض المسلمين حركة فيها إخلال بحرمة الحج وتقاليده التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة الهدي الذي يهدى إلى الله من الأنعام مقلدا بالقلائد أو مشعرا بجرح ليسيل دمه علامة على ذلك حسب العادات القديمة. وفيها عدوان على الحجاج أو منعهم من الحج والعمرة بقصد إلحاق الضرر بأهل مكة انتقاما منهم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام يوم الحديبية فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآية متضمنة ما تضمنته من أوامر ونواه وتنبيهات مطلقة وعامة ورائعة على النحو الذي شرحناه قبل.
وبالإضافة إلى هذا فإنه يلحظ وجود مشاركة بين الآية الأولى والثانية حيث احتوت الأولى نهيا عن الصيد في حالة الحرم وإباحة له بعد التحلل من هذه الحالة. وهذه المشاركة قد تدل على ارتباط الآيتين ببعضهما ظرفا ونزولا وموضوعا. وإذا صحّ هذا وهو ما نرجوه إن شاء الله جاز القول إن جملة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قد تضمنت حثا على وجوب الوفاء بما تمّ بين المسلمين وأهل مكة من صلح أو مهادنة وعدم الإتيان بما يخلّ في ذلك.
وقد ينطوي في الآية الثانية بل في الآيتين معا على ضوء ما قلناه أنهما نزلتا بعد صلح الحديبية بمدة قصيرة. وقد يكون هذا هو المبرر لجعل ترتيب السورة بعد سورة الفتح.
والتحلل من حالة (الإحرام) الذي عبر عنه بالجملة وَإِذا حَلَلْتُمْ إما أن يكون أثناء أشهر الحج وإما أن يكون بعد انتهاء مناسك الحج جميعها وبعد الوقوف في عرفات. وما كان أثناء أشهر الحج يكون بعد زيارة الكعبة فقط وهي المسماة
(1) انظر تفسيرها في الزمخشري ورشيد رضا والقاسمي.
بالعمرة، حيث يصح أن يتمتع الحاج بحالة الحلّ بين العمرة ووقت الوقوف في عرفات على ما شرحناه في سياق آيات الحج في سورة البقرة. والتحلل من حالة الإحرام بالنسبة للقول بأنها التسربل بلباس الإحرام والامتناع عن الطيب والنساء هو ممارسة ما كان ممنوعا من حلاقة الشعر أو تقصيره ولبس الثياب المخيطة والتطيّب والتزين ومباشرة النساء بعد نحر الهدي. ولقد شرحنا قبل مدى حرمة الصيد في حالة الحرم. وهناك أحاديث نبوية تسوغ قتل الحيوانات الضارة في هذه الحالة صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبدو جوابا على سؤال أو بسبيل الاستدراك منها حديث رواه الخمسة عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خمس من الدوابّ لا حرج على من قتلهن الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور. وفي رواية خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة» «1» ومنها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل المحرم السبع العادي» «2» . وحكمة الأحاديث ظاهرة فضلا عن أن هذه الحيوانات ليست صيدا.
والعبارة القرآنية في الآيتين مطلقة. بحيث تشمل صيد البرّ والبحر وقد اقتضت حكمة التنزيل أن يستثنى صيد البحر من التحريم في آية أخرى من هذه السورة على ما سوف يأتي شرحه بعد.
ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين «3» عن أهل التأويل أقوالا مختلفة في صدد ما إذا كانت الآية الثانية منسوخة أو محكمة. منها أن جميع الآية منسوخة بآية التوبة هذه فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ومنها أن المنسوخ منها هو وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ
(1) التاج ج 2 ص 107.
(2)
انظر تفسير البغوي للآيات [94- 97] من هذه السورة.
(3)
انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن والطبري والزمخشري ورشيد رضا والقاسمي.
فقط وأنها نسخت بآية التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [28] وبالآية الخامسة المذكورة آنفا أيضا. ومنها أن المنسوخ منها هو القلائد التي كان الحجاج يتقلدون بها خوفا من الاعتداء لأن الآية حرّمت إخافتهم. ومنها أن الآية في حق المسلمين وأنها محكمة لم ينسخ منها شيء.
والعجيب في هذه الروايات أن الذين يروونها رووا وقالوا إن سورة المائدة نزلت دفعة واحدة وإنها آخر ما نزل من القرآن! وننبه على أنه ليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ولقد رجحنا أن جملة آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ هن في صدد الحجاج المسلمين استلهاما من باقي الآية وهذا ما يجعلنا نتوقف في نسخها بآيات التوبة. وحتى على فرض أنهم من المشركين فإن الآية [5] من سورة التوبة هي في صدد قتال المشركين الناكثين وقد استثنى سياقها المشركين المعاهدين المستقيمين على عهودهم وأمر بالاستقامة لهم ما استقاموا على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وليس في آيات التوبة ولا في آيات أخرى ما يمكن أن يدل على نسخ للقلائد سواء منها ما روي أنه قلائد الحجاج أم أنه قلائد الأنعام. وقد تكون القلائد بنوعيها قد أهملت بعد الفتح لأن كلمة الله أصبحت هي العليا وسلطان النبي أصبح هو النافذ وصار الحج مقصورا على المسلمين وحظر دخول المشركين للحرم وصار الهدي والحجاج في أمن وسلام فكان القول بالنسخ تطبيقا للممارسة وليس مستندا إلى نصّ، والله تعالى أعلم.
هذا، ومع خصوصية الآيتين الزمنية والموضوعية فإن الفقرات الأخيرة من الآية الثانية بخاصة احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى. سواء أفي النهي عن التأثر ببغض قوم ما وجعله وسيلة أو مبررا للعدوان والإثم والضرر ولو كان على جماعة من غير المسلمين إذا كانوا مسالمين أو حياديين أو معاهدين، أم في بيان ما هو الأمثل بالمسلمين من التعاون على البرّ والتقوى وإيجابه، أم في تشديد الإنذار