الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باشره النبي بإلهام أو وحي قرآني وصار له به سلطان زمني بالإضافة إلى مهمة التبليغ عن الله. ولا يعني هذا أنه صار له على قلوب الناس وأفعالهم سيطرة مانعة لهم من أي فعل وتفكير. فقد كان وظلّ يقوم بتبليغ ما أمره الله به لهم ويعمل فيهم في نطاق ذلك. وما كان يبقى في حيز تفكيرهم رفع عنهم إثمه لأن الله قرر لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ كما جاء في الآية [286] من سورة البقرة وفي نطاق شرحنا لها. وما كانوا يفعلونه إن كان حلالا ومباحا أقرّهم عليه. وإن كان بغيا وعدوانا أقام عليهم فيه أحكام الله في نطاق تبليغاته ووحيه وإلهامه. والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
…
إلخ وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت:
(1)
نهيا للمسلمين عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور بدون مناسبة وضرورة.
(2)
وتعليلا للنهي بأنهم قد يجابون إجابة فيها ما يكرهون أو يسيئهم بشدته ومشقته.
(3)
وتنبيها تدعيميّا للنهي والتعليل. فقد كان بعض من سبقهم يسألون أنبياءهم مثل هذه الأسئلة فكانت أجوبتها سببا لجحودهم وتمرّدهم.
(4)
وإيعازا لهم بأنهم إذا كانوا يودّون السؤال عن شيء فليسألوا عنه حين ينزل قرآن فيه مناسبة لذلك. فهذا هو ما يصحّ وما يحسن أن يسألوا عنه بدون حرج
ولا خوف عاقبة فيجابوا بما فيها البيان.
(5)
وإيذانا بأن الله تعالى قد عفا عمّا وقع من مثل هذه الأمور وهو الغفور الحليم.
والآيات فصل مستقل كما يبدو. ولعلها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها في ترتيب السورة. وقد روي في سبب نزولها روايات عديدة. منها رواية رواها البخاري والترمذي عن ابن عباس قال: «كان قوم يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل من أبي ويقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي فأنزل الله الآيات» «1» .
ورواية رواها الترمذي ومسلم عن عليّ قال «لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا يا رسول الله في كلّ عام فسكت قالوا يا رسول الله في كل عام. قال لا. ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله الآيات» «2» ورواية رواها البخاري ومسلم عن أنس قال «بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال عرضت عليّ الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشرّ ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا فما أتى على الأصحاب يوم أشدّ منه حتى غطّوا رؤوسهم ولهم خنين فقام عمر فقال رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيا فقام رجل فقال من أبي قال أبوك فلان فنزلت الآيات» «3» . ولقد أورد الطبري هذه الروايات مع شيء من الزيادة وبطرق أخرى. فالرواية الثانية رواها عن أبي هريرة فيها زيادة «ولو وجبت لكفرتم» وليس فيها أن السؤال ورد حينما نزلت الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وإنما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس فقال «كتب عليكم الحجّ» والرواية الأخيرة رواها بهذه الصيغة «سأل الناس النبيّ صلى الله عليه وسلم فألحفوا في المسألة فغضب فقال لا تسألوني عن شيء في مقامي إلّا أجبتكم عليه فقام رجل كان يدعى إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله فقال له أبوك حذافة. فقام رجل آخر فقال
(1) التاج ج 4 ص 94.
(2)
المصدر نفسه ص 95.
(3)
المصدر نفسه ص 95. [.....]
أين أبي يا رسول الله فقال له في النار، فقام عمر فقبّل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إنّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك فاعف عنّا عفا الله عنك فسكن غضبه، وفي رواية قال رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبنبيّنا محمد رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن فنزلت الآية» .
وإلى هذا فإن الطبري روى عن ابن عباس أن الآيتين نزلتا بسبب سؤال بعضهم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام التي ورد ذكرها في الآية التي تأتي بعد الآيتين اللتين نحن في صددهما. وليس في كتب التفسير زيادة عما في كتاب الطبري.
ويتبادر لنا أن السؤال عن البحيرة وأخواتها لا يقتضي نهيا ولا إنذارا ولا غضبا من الله ورسوله. وهذا ما جعلنا نفرد الآيتين عن الآيات التالية لها. إلا أن يقال إن السؤال أورد في مناسبة أو في صيغة غير لائقة والله تعالى أعلم.
ويلحظ أن الأحاديث التي يرويها البخاري ومسلم والترمذي متباعدة إلّا أن يقال إن من الجائز أن يكون كل ما ورد فيها كان يحدث حتى كثرت الأسئلة بدون مناسبة وضرورة وكان منها ما هو غير لائق في مداه أو صيغته فوقف النبي صلى الله عليه وسلم موقف الغاضب ونزلت الآيات ناهية منذرة معلمة.
ومهما يكن من أمر فالآيتان كما هو متبادر من فحواهما بسبيل التحذير من اللجاجة والمواقف والأسئلة المثيرة التي قد يكون لها نتائج ضارة وسيئة لأصحابها وغيرهم. وفي هذا ما فيه من تلقين تأديبي وتعليمي رفيع مستمر المدى.
ولقد روى مسلم عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرّم فحرّم على الناس من أجل مسألته» «1» وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «2» . ولقد أورد ابن كثير والقاسمي حديثا عزاه
(1) التاج ج 4 ص 95.
(2)
المصدر نفسه (كتاب التفسير سورة الحشر) . وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بشيء من المغايرة وهي «ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم» وأورده البغوي والزمخشري بشيء من الزيادة وهي «فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» .
الأخير إلى ابن ماجه والترمذي والحاكم جاء فيه «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا» وأورد ابن كثير حديثا وصفه بالصحيح جاء فيه «إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» .
وينطوي في الأحاديث تلقينات رائعة واسعة المدى متسقة مع التلقين القرآني وفيها مثل أخلاقية واجتماعية وسلوكية وتعبدية يحتذيها المسلم ويقيس عليها أمورا كثيرة من شؤون الدين والدنيا مماثلة لها في كل ظرف ومكان والله تعالى أعلم.
وواضح من روح الآيات والأحاديث أن الأسئلة المكروهة هي ما كان فيه تنطّع وتكلّف وحذلقة وقصد إحراج ومماراة وجدل من دون ما ضرورة من شرع ودين ومصلحة. وأن الأسئلة التي لا يكون فيها ذلك وكان فيها رغبة معرفة حدود كتاب الله وسنّة رسوله ليست مكروهة ولا محظورة بل هي واجبة على المسلم. ولقد روى أبو داود حديثا عن جابر قال «خرجنا في سفر فأصاب رجلا منّا حجر فشجّه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمّم. قالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال» «1» .
هذا ولقد روى الطبري في صدد جملة قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ أنهم الذين سألوا عيسى إنزال المائدة فلما أعطوها كفروا أو إنهم قوم صالح سألوا معجزة فلما أظهر الله لهم معجزة الناقة كفروا أو إنهم بعض المنافقين واليهود طلبوا من النبي بعض الأمور فلما أجيبوا كفروا. وليس شيء من
(1) التاج ج 1 ص 113.