الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تكاسل ولا تثاقل. وكل ما يقوم به المسلمون في سبيل هذا الواجب مهما كان شأنه بدنيا أو ماليا أو استعدادا أو مرابطة هو داخل في مشمول هذا الواجب ومستحق لأجر الله الموعود.
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
. (1) فلولا: هنا في معنى الحضّ أو الاستدراك.
(2)
طائفة: هنا بمعنى جماعة قليلة من جماعة أكثر.
في الآية:
تقرير تنبيهي بأنه ليس من الضروري أن ينفر جميع المؤمنين إلى الجهاد وأنه يكفي أن ينفر من كل فريق منهم قسم. وأن من شأن ذلك أن يتيح لبعضهم التفقّه في الدين وإنذار قومهم حينما يعودون إليهم حتى يحذروا مما يجب الحذر منه.
تعليق على الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً
…
وما ينطوي فيها من صور وتلقين
ولقد تعددت الروايات التي يرويها الطبري وغيره «1» في سبب نزول هذه الآية. منها أنه لما نزلت الآيات السابقة في التنديد بالمتخلّفين قال الناس هلك المتخلّفون بعد الآن فصاروا إذا دعا النبي إلى الجهاد يسارعون إلى النفرة بقضّهم وقضيضهم ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من الخارجين إلى الغزوة ولو لم تكن الحاجة ماسة. ومنها أن من قبائل البدو التي أسلمت من أخذ ينتقل إلى المدينة بقضّه وقضيضه ويقيم فيها أو حولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له وحجة
(1) انظر البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي أيضا.
مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم والاستماع منه والتفقّه بالدين. وكان هذا مما يضيق على أهل المدينة. ومنها أن فريقا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البادية وأصابوا خيرا فأقاموا ثم أخذوا يدعون الناس إلى الإسلام فقيل عنهم إنهم تركوا صاحبهم فوجدوا في أنفسهم وعادوا جميعا فنزلت فيهم بعذرهم وإيذانهم بكفاية وجود جماعة من كل فريق منهم عند النبي ليتعلموا منه ويعلّموا قومهم إذا رجعوا إليهم.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة.
والرواية الثالثة لا تتسق مع مفهوم الآية ولا مع روحها وسياقها كما هو المتبادر من حيث إن الآية في صدد جميع المؤمنين أو غالبيتهم العظمى على الأقل. والرواية الثانية ليست بعيدة الاحتمال. فإن المدينة بعد فتح مكة أخذت تعجّ بوفود قبائل العرب. وتدخل في دين الله أفواجا. فلا يبعد أن يكون منهم من حاول الإقامة في المدينة وحولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له ومصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم والتفقّه بالدين فسبّب هذا ضيقا على أهل المدينة.
وقد صوب الطبري الرواية الأولى. وقد يكون التصويب في محلّه مع شيء من التعديل تقتضيه الوقائع المعروفة. فلم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بنفسه غزوة ما بعد تبوك. كما أنه لم يرو خبر سرايا عديدة سيّرها إلا ما كان من خبر سرية سيّرها إلى اليمن بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإعداد جيش إلى البلقاء بقيادة أسامة بن زيد. ويتبادر لنا أن المسلمين خارج المدينة قد فزعوا وتحسبوا من عواقب الآيات السابقة فصاروا يقبلون على المدينة للاشتراك في الجهاد ومصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم والاستماع له والتفقه بالدين. وكان في ذلك حرج عليهم وعلى أهل المدينة معا فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية على سبيل التخفيف والتطمين والتعليم. وعلى كل حال فالآية متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا مع رجحان نزولها لحدتها بعدها من حيث إنها مترتبة عليها. والله أعلم.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره في المقصود بالجملة الثانية من الآية. منها أنهم الذين ينفرون إلى الجهاد حيث يعاينون نصر الله لأهل
دينه فيكون ذلك لهم فقه في الدين ويرون مكائد الأعداء فيكون ذلك موضوع إنذار وتحذير لقومهم حين رجوعهم إليهم. ومنها أنهم الذين يبقون حول رسول الله حيث يتفقهون بما يسمعون منه من قرآن وحكم وينذرون بذلك قوم الذين نفروا إلى الجهاد حين رجوعهم.
ويتبادر لنا على ضوء الشرح المعدل الذي نقدم والذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن الجملة عائدة للطوائف التي أذن لها أن تنفر من كل فرقة وتفد إلى المدينة لتكون مع رسول الله مقيما أو مجاهدا فتتفقه بما تسمعه من قرآن وحكم وتنذر قومها بما تعلمته حين تعود إليهم والله أعلم.
والآية في حدّ ذاتها وبإطلاق عبارتها شاملة التعليم والتلقين لجميع المسلمين في مختلف ظروفهم. وفيها تعليم أسلوب من أساليب الاشتراك في الجهاد أو السعي للتفقه في الدين والوقوف على مقتضيات الأمور- حسب احتمال مضمون الآية- حيث أوجبت اشتراك جميع الفئات، دون اشتراك جميع الأفراد. ولعلّ فيها إلهاما بالمناوبة في الاشتراك بين أفراد كل فئة فلا يتعطل الجهاد والسعي للتفقه ولا تتعطل مصالح الناس معا. وقد اعتبر بعضهم الآية مستندا لوصف فرض الجهاد بأنه فرض كفاية إذا قام به فريق سقط عن الباقين «1» . وقد يكون هذا في محله إذا كان قيام فريق من المسلمين كافيا للحاجة وسادّا لها. أما في حالة الضرورة فإن هذا الفرض يكون فرض عين على كل قادر. وقد كتب على المؤمنين جميعا على ما انطوى في الآية [216] من سورة البقرة. فإذا لم يقم به حينما تدعو دواعيه من الفئات ما يسدّ الحاجة أثم القاعدون.
ولقد أورد البغوي وهو إمام محدث أيضا بعض الأحاديث النبوية في سياق تفسير هذه الآية وفي صدد ما احتوته من التفقه بالدين رأينا من المفيد نقلها عنه لأن فيها تعليما وتوجيها نبويين عظيمين في هذا الصدد لكل المسلمين في كل ظرف.
منها حديث عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقّهه في
(1) انظر تفسير الآية في تفسير القاسمي عزوا للسيوطي.
الدين» «1» وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقّهوا» وعلّق البغوي على هذا الحديث تعليقا لا يخلو من الوجاهة حيث قال: «والفقه هو معرفة أحكام الدين وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية. ففرض العين مثل علم الطهارة والصلاة والصوم فعلى كلّ مكلّف معرفته. وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على واحد يجب عليه معرفتها ومعرفة علمها مثل الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه. وأما فرض الكفاية فهو أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا فإذا قعد أهل بلد عن تعلّمه عصوا جميعا. وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث» . ومما ساقه في صدد ذلك حديث نبوي جاء فيه «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» وحديث عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» «2» . وحديث عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد» «3» وأردف هذا بقول للشافعي وهو «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة» «4» .
(1) هذا الحديث رواه الأربعة أيضا عن معاوية. وله تتمة وهي «وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» التاج ج 1 ص 53.
(2)
روى هذا الحديث الترمذي وفي روايته هذه الزيادة ثم قال: «إنّ الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير» التاج ج 1 ص 56.
(3)
روى هذا أيضا الترمذي انظر المصدر نفسه.
(4)
ومن هذا الباب حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء جاء فيه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله له طريقا إلى الجنّة وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إنّ العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما. إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» التاج ج 1 ص 54 و 55 وعن أبي هريرة رواية الترمذي: «قال النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» وفي رواية «من طلب العلم كان كفّارة لما مضى» المصدر نفسه ص 55، 56 وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال:«قال النبي صلى الله عليه وسلم من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» المصدر نفسه ص 64 وروى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» المصدر نفسه ص 66.