الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يؤيدان ما قلنا من أن فصول هذه السورة قد ألّفت بعد تمام نزول ما اقتضت الحكمة أن تحتويه من فصول.
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ
…
إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وصور وأحكام وتلقين وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمؤمنين باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. وبيانا بأن كلا منها رجس وشرّ واجب الاجتناب. وتنبيها على ما يؤدي إليه الخمر والميسر بخاصة بوسوسة الشيطان من العداوة والبغضاء بين المؤمنين ومنع متعاطيهما منهم عن ذكر الله وعن الصلاة. وسؤالا فيه معنى اللوم والتبكيت وإيجاب الانتهاء عمّا إذا كان المؤمنون منتهين بعد الآن عن هذين العملين المنكرين. وحثا على طاعة الله ورسوله فيما يأمرانهم به وينهيانهم عنه.
وتحذيرا من المخالفة بأسلوب ينطوي على الإنذار. فإذا لم يحذروا فليس على الرسول إلّا البلاغ وأمرهم لله القادر عليهم.
ولقد روى الطبري حديثا جاء فيه «قال عمر: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية البقرة [219] فدعي فقرئت عليه فقال اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية النساء [43] فدعي فقرئت عليه فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية المائدة فدعي فقرئت عليه فقال: انتهينا انتهينا» «1» وإلى هذا
(1) هذا الحديث رواه أصحاب السنن أيضا انظر التاج ج 4 ص 94.
الحديث فإن الطبري أورد روايات أخرى كسبب لنزول الآيات. منها أن جماعة من المهاجرين والأنصار شربوا خمرا في وليمة أقامها أنصاري فانتشوا فتفاخروا فتشاجروا وضرب بعضهم سعد بن أبي وقاص على أنفه فكسره فنزلت الآيات.
ومنها أن جماعة سألوا النبي عن الخمر والميسر فنزلت آية البقرة ثم سألوه فنزلت آية النساء ثم سألوه فنزلت آية المائدة «1» .
وعدا الرواية الأولى التي يرويها أيضا أصحاب السنن فليس شيء من الروايات الأخرى واردا في كتب الحديث، ويلحظ أن الروايات حتى أولاها التي هي أقواها سندا مقتصرة على الخمر في حين أن الآية احتوت نهيا عن الأنصاب والأزلام. والميسر أيضا.
ولقد قال الطبري حينما أورد الآية الأولى إن هذا بيان من الله تعالى للذين حرموا على أنفسهم طيبات ما أحلّ الله لهم تشبها بالقسيسين والرهبان بما هو الأولى والأوجب عليهم أن يحرموه. والقول وجيه ويربط بين هذه الآيات والآيات السابقة. مع التنبيه إلى أن حكمة التنزيل اقتض توجيه الكلام فيها إلى جميع المسلمين كما هو الشأن في الآيات السابقة جريا على النظم القرآني في المناسبات المماثلة.
ولعلّ وضع الآيات بعد تلك مباشرة مما يقوي هذا التوجيه ويسوغ القول باحتمال نزولها بعدها. وهذا لا يمنع أن يكون وقع ما روي في الحديث والروايات الأخرى كلّه أو بعضه. فاقتضت حكمة التنزيل جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام معا في النهي والبيان.
ولقد تضمنت آية سورة البقرة المار ذكرها تنبيها إلى أن إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما وتضمنت آية سورة النساء المار ذكرها نهيا عن الصلاة في حالة السكر. فجاءت هذه الآيات أقوى من المرتين بل خطوة حاسمة لتحريم الخمر
(1) هناك روايات أخرى يرويها الطبري ويرويها المفسرون الآخرون فاكتفينا بما أوردناه لأنها متقاربة.
والميسر. حيث يصح القول بأن حالة العهد المدني صارت تتحمل هذه الخطوة الحاسمة إلى تحريم هذه الأفعال الضارة التي كان لها رسوخ شديد بين العرب ومتصلة بمصالحهم الاقتصادية في الوقت نفسه والتي اكتفي بسبب ذلك بالخطوات التمهيدية في صددها في آيتي البقرة والنساء.
ولقد قال بعض المتمحلين إن أسلوب الآيات أسلوب تحذير وكراهية أكثر منه أسلوب تشريع وتحريم حاسم. وحاولوا تأييد تمحّلهم بالقول بأن حدّ شارب الخمر ليس قرآنيا وإنما هو سنّة نبوية وراشدية متموجة المقدار. وليس من حدّ على لاعب الميسر. وهذا وذاك لا يقومان على أساس صحيح لا من حيث أسلوب الآيات ولا من حيث مضمونها. بل ومن الحقّ أن يقال إن أسلوبها ومضمونها احتويا قوة في التحريم. ويكفي أن يكون الخمر والميسر قد قرنا مع الأنصاب بالذكر للتدليل على ذلك. فإنه لن يسع أحدا أن يقول مثلا إن النهي عن الأنصاب التي كان يقيم المشركون طقوسهم الدينية ويقربون قرابينهم عندها هو من قبيل التحذير والكراهية وليس من قبيل التحريم الزاجر. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول هذه الآيات. يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر القرآن المسلمين بأخذ ما آتاهم والانتهاء عمّا نهاهم، كما أنه من الله- من أحاديث عديدة في تحريم كلّ مسكر وفي اعتبار كل مسكر خمرا وفي لعن شاربها وبائعها وحاملها وإنذار شاربيها ومستحليها ومسمى بعضها بأسماء أخرى بالنذر القاصمة. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر وجاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام» «1» وحديث رواه الخمسة عن عائشةو جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم «كلّ شراب أسكر فهو حرام» «2» وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن طارق الجعفي «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها
(1) التاج ج 3 ص 126- 130.
(2)
المصدر نفسه.
للدواء فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء» «1» وحديث رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا يا رسول الله بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوّى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: هل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، فقلت: إن الناس غير تاركيه، قال:
فإن لم يتركوه فقاتلوهم» «2» وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام» «3» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كلّ مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكفّ منه حرام» «4» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» «5» وحديث رواه النسائي والترمذي عن ابن عمر ونفر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه، وفي رواية: فاضربوا عنقه» «6» وحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشربنّ ناس من أمتي الخمر يسمّونها بغير اسمها» «7» وحديث رواه أصحاب السنن «قال النبي صلى الله عليه وسلم: من شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: صديد أهل النار. ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» «8» . أما كون القرآن لم يضع حدا على شارب الخمر ولاعب الميسر
(1) التاج ج 3 ص 126- 130.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
(6)
المصدر نفسه.
(7)
المصدر نفسه.
(8)
المصدر نفسه. [.....]
فالمتبادر أن ذلك راجع إلى كونهما ذنبين شخصيين لا يتعلق بهما حق الغير.
فالحدود القرآنية إنما تفسّر بهذا الأصل فيما يتبادر لنا في جملة ما تفسّر به أيضا.
ويلحظ أن القرآن لم يعيّن حدّا على تارك الصلاة والصوم والحج والزكاة وهي أركان الإسلام مما يمكن أن يفسر بمثل ذلك. والقول بعدم حرمة المسكر والميسر كفر لا ريب فيه بإجماع علماء المسلمين في كل زمن ومكان استنادا إلى هذه الآيات وروحها والأحاديث النبوية العديدة. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى أن يجلد شارب الخمر دون لاعب الميسر فحكمة ذلك ما في شرب الخمر من إضاعة عقل وكرامة واحتمال إقدام الشارب على أفعال ضارة به وبغيره كما هو المتبادر.
ويلحظ أن المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك يجعل السنّة النبوية من باب التعزير والتأديب حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس «أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وفي رواية: أنه أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. وفي رواية للترمذي: أنه ضرب شارب الخمر بنعلين أربعين» «1» وروى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال: اضربوه، فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان» «2» وروى البخاري «أنه كان رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسمّى عبد الله وكان يلقّب حمارا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال بعض القوم: اللهمّ العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فو الله ما علمت إلّا أنه يحبّ الله ورسوله» «3» وليس في النهي النبوي في الحديثين ما يخفف إثم شارب الخمر واستحقاقه للتعزير وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير تجاوز ذلك إلى لعنه. وفي هذا تأديب نبوي رفيع كما هو المتبادر.
(1) التاج ج 3 ص 28.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه.
ولقد استلهم أصحاب رسول الله سنته من بعده فروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أن أبا بكر جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال ما ترون في جلد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود فجلد ثمانين «1» .
ولقد روى الشيخان عن ابن عمر قال سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول «أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل» «2» والجملة الأخيرة من الحديث المتوافقة مع بعض الأحاديث التي أوردناها قبل تزيل الوهم بحلّ ما يمكن أن يصنع من غير المواد المذكورة من شراب مسكر كما هو ظاهر. والمتبادر أن المواد التي ذكرت في الحديث هي ما كان يصنع منه الخمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه.
هذا، وهناك أحاديث أخرى فيها بعض الأحكام في صدد الخمر أيضا. منها حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن النبيذ فنهاهم أن ينتبذوا في الدّباء والنقير والمزفّت والحنتم» «3» والانتباذ هو نقع الزبيب والتمر وما من بابهما وشرب نقيعه الذي كان يسمى نبيذا. وقد روى مسلم والترمذي حديثا فيه تفسير للألفاظ عن ابن عمر لسائل سأله عنها جاء فيه «نهى النبيّ عن النبذ في الحنتم وهي الجرة والدباء وهي القرعة والمزفّت وهو المطلي بالقار والنقير وهي جذع النخلة المنقور وأمر بأن ينتبذ في الأسقية» «4» وهناك حديثان معولان للحديث النبوي روى أحدهما الخمسة إلا البخاري عن بريدة جاء فيه فيما جاء «قال النبي صلى الله عليه وسلم نهيتكم عن الأشربة إلّا في ظروف الأدم فاشربوا في كلّ وعاء غير ألّا تشربوا مسكرا» «5» وحديث رواه الخمسة جاء فيه «قال
(1) التاج ج 4 ص 94.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
التاج ج 3 ص 126 وما بعدها.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيتكم عن الظروف. وإن ظرفا لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه. وكلّ مسكر حرام» «1» حيث يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم لحظ احتمال تغير النقيع في الأوعية المذكورة حتى يصير مسكرا. ثم استدرك في الحديثين فركز النهي على المسكر. بحيث صار هذا هو القاعدة والضابط. مع ملاحظة الأحاديث السابقة التي تقول ما أسكر كثيره فقليله حرام. وهناك حديثان فيهما توضيح متسق مع هذا الاستدراك رواهما مسلم وأبو داود والنسائي أحدهما عن ابن عباس جاء فيه «كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقع له الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى أو يهرق» «2» وثانيهما عن عائشة قالت «كنّا ننبذ للنبي صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى أعلاه وله عزلاء ننبذه غدوة فيشربه عشاء وننبذه عشاء فيشربه غدوة» «3» وهناك حديث آخر فيه توضيح آخر رواه الخمسة عن عائشة قالت «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل فقال كلّ شراب أسكر فهو حرام» «4» .
وهذه أحاديث نبوية أخرى فيها بعض الأحكام منها حديث رواه مسلم والترمذي عن أنس جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلّا فقال لا» «5» وحديث رواه أبو داود عن أنس جاء فيه «إنّ أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا قال أهرقها. قال أفلا أجعلها خلا قال لا» «6» وروى الإمام أحمد حديثا جاء فيه «أهدى رجل زقّ خمر لصديق له بعد نزول الآيات فقال له إن الله حرّمها فاذهب فبعها. فقال رسول الله إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها فأهرقت في البطحاء» «7» .
(1) التاج ج 3 ص 126 وما بعدها.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
(6)
المصدر نفسه. [.....]
(7)
المصدر نفسه.
وقد يرد سؤال وهو ما إذا كان للمضطر أن يشرب الخمر قياسا على إجازة القرآن للمضطر بأكل الميتة ولحم الخنزير والدم وما أهلّ لغير الله به على ما جاء في آيات عديدة منها الآية الثالثة من هذه السورة. ولقد أوردنا قبل قليل حديثا فيه جواب نبوي يفيد النهي عن صنع الخمر وشربها كدواء. ويتبادر لنا أن نصّ الحديث غير حاسم. وأن من السائغ أن يقال إن للمضطر في حالة المرض الشديد الذي لا يكون له علاج إلا الخمر وإن له في حالة العطش الشديد الذي لا يجد صاحبه ما يدفع به عطشه إلا الخمر أن يتناول من الخمر ما يشفي مرضه ويدفع عطشه في نطاق الرخصة القرآنية المنطوية في جملة فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام [145] وفَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة [3] والله تعالى أعلم.
وفي صدد الميسر نقول إننا شرحنا معناه اللغوي في سياق تفسير سورة البقرة [219] ونقول هنا إن صيغة الآية تفيد أن تحريم كلّ ما يندرج في معنى الميسر وهو أخذ مال من آخر بدون حقّ وسند شرعي وبأسلوب اللعب والرهان بخاصة هو بنفس قوة تحريم الخمر. وهناك أحاديث في صدد تحريم بعض الألعاب. منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة ومنها ما رواه أئمة حديث آخرون. فمن الأول حديث رواه مسلم وأبو داود عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» «1» وحديث رواه أبو داود عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» «2» . ومن الثاني حديثان في صيغة متقاربة أوردهما ابن كثير أخرج أحدهما الإمام أحمد عن ابن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجرا فإنهما من ميسر العجم» وأخرج ثانيهما ابن أبي حاتم عن أبي موسى قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر» وقد روى
(1) التاج ج 5 ص 261.
(2)
المصدر نفسه.
ابن كثير قولا عن عبد الله بن عمر عن الشطرنج أنه شرّ من النرد وعن عليّ أنه من الميسر. وقال إن مالكا وأبا حنيفة وأحمد حرّموه وإن الشافعي كرهه. وروى عن عطاء ومجاهد وطاووس أن كل شيء من القمار هو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والبيض. ويصحّ أن يفرع على هذا ألعاب الورق التي لم تكن معروفة قبل.
وظاهر مما تقدم أن كل ما يمارس، من ألعاب وأعمال فيها رهان وقمار وأخذ مال الغير وبنية ذلك يدخل في معنى الميسر ويتناوله الوصف والحظر القرآنيان. وفي قول مجاهد وعطاء وطاووس الذي يرويه ابن كثير دعم لذلك.
وفي صدد الأزلام نقول إن المستفاد من كلام الطبري وغيره أن المقصود من الكلمة في الآية هو ما يذبح من ذبائح على سبيل الميسر. وهي الطريقة التي شرحناها في سياق آية سورة البقرة [219] حيث أريد بالعبارة القرآنية هنا التنبيه إلى أنّ كل ما يذبح من ذبائح على سبيل الميسر هو رجس حرام. وتأويل الأزلام بالذبائح التي تذبح على سبيل الميسر هنا وجيه. غير أن ذكر الأزلام مع الميسر قد يفيد أن الكلمتين غير مترادفتين. والذي يتبادر لنا أن الميسر هو القمار بصورة عامة وأن الأزلام نوع منه اختص بالذكر لأنه الأكثر ممارسة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته ممتدّا إلى ما قبل. وقد يدعم هذا الاكتفاء بذكر الميسر في الآية الثانية.
والأنصاب هي ما كان العرب ينصبونه للعبادة والطقوس من حجر وشجر وكانوا يذبحون عندها قرابينهم باسم معبوداتهم التي يشركونها مع الله وقد ذكر ذلك في الآية [3] من هذه السورة. حيث حرّم ما يذبح عليها وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ولعل المقصود هنا أيضا توكيد تحريم أكل الذبائح التي تذبح عليها لأن هذا هو المتناسب مع مقام الآيات.
هذا، وأسلوب الآيات شديد في الوصف والتحذير. مما قد يدلّ على قوة جذور هذه العادات وتعلّق الناس بها وبخاصة الخمر والميسر. وقد نبهت الآية الثانية إلى ما في تعاطي الخمر والميسر من مضارّ عظيمة اجتماعية وخلقية ودينية مما هو من باب حكمة التشريع ومما هو متسق مع الأسلوب القرآني بوجه عام.