الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم المحاباة في توزيع الصدقات ويعيب عليه ذلك. وكان هذا منهم لمنافعهم الخاصة ومآربهم الشخصية حيث كانوا يسخطون إذا لم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم منها ويرضون إذا أعطاهم.
2-
وتنديد بهم: فقد كان الأولى بهم أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله وأن يعلنوا ثقتهم واكتفاءهم بفضل الله ورسوله ورغبتهم بما عند الله.
3-
وتقرير لأصناف المصارف التي لا يجوز أن تصرف الصدقات إلى غيرها لتعطى لمن لا يستحقها وهي الفقراء والمساكين والموظفون القائمون بأمرها والمؤلفة قلوبهم وعتق العبيد والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل حيث كان هذا فرض الله الواجب الوقوف عنده وهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي لا يأمر إلّا بما فيه الحكمة.
تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ
…
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين. وما روي في صددها من روايات وما روي من أحاديث وأقوال ومذاهب متنوعة في مصارف الزكاة وتوزيعها ونصاب الزكاة في مختلف الأنواع وجبايتها
ولقد روى البخاري حديثا عن أبي سعيد في سياق هذه الآية قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه بشيء فقسمه بين أربعة وقال أتألّفهم فقال رجل: ما عدلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين» «1» . وروى الطبري هذا الحديث بزيادة كبيرة عن أبي سعيد قال: «إن رسول الله كان يقسم إذ جاءه ذو
(1) التاج ج 4 ص 118. وروى شارح الحديث أن هذا هو ذو الخويصرة حرقوص بن زهير التميمي. وأن الأربعة الذين تألفهم النبي صلى الله عليه وسلم هم الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر وزيد الطائي وعلقمة العامري الكلابي. وهم من مشاهير زعماء قبائل العرب.
الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك ومن يعدل إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب ائذن لي فأضرب عنقه، فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فينظر في قدحه فلا ينظر شيئا ثم ينظر في نصله فلا يجد شيئا ثم ينظر في رصافه فلا يجد شيئا قد سبق الفرث الدم آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة. يخرجون على حين فترة من الناس. قال أبو سعيد:
أشهد أني سمعت هذا من رسول الله وأشهد أن عليا حين قتلهم- يعني الخوارج- جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم» «1» . وروى الطبري أيضا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال له ويلك فمن ذا يعدل؟ ثم قال احذروا هذا وأشباهه. فإن في أمتي أشباه هذا. يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن. وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورآه رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت الآية. وننبه على أن الطبري لم يذكر أن الآية نزلت إلا في مناسبة الرواية الأخيرة دون الروايتين السابقتين وكذلك البخاري فإنه لم يذكر في حديثه أن الرواية التي تضمنها الحديث كانت سبب نزول الآية «2» .
وذو الخويصرة هو حرقوص بن زهير الذي يذكر شراح الأحاديث أنه المعني في الحديث الأول كان على رأس الجماعات التي خرجت من البصرة إلى المدينة واشتركت في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه. وبايع عليا رضي الله
(1) روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا. انظر التاج ج 5 ص 284 و 285.
(2)
هناك حديثان آخران من باب هذه الأحاديث يرويهما الشيخان والترمذي عن أبي سعيد وفيهما بعض الزيادات (انظر التاج ج 5 ص 283 و 284) . ولم يذكر في سياقهما أيضا أنهما في صدد نزول الآية. فلم نر إيرادهما ضرورة اكتفاء بما أوردناه.
عنه وكان في جيشه مع قومه وحارب معه في وقعة الجمل التي كانت بينه وبين الجموع التي تجمعت حول عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم للمطالبة بدم عثمان والثأر من قاتليه ثم في وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. ثم كان من الذين خرجوا على عليّ لقبوله التحكيم وقتل في من قتل في وقعة النهروان التي كانت بين علي وأتباعه وبين الخوارج «1» . ولقد روى الطبري أن عليّ بن أبي طالب قال لأتباعه حين انتهت وقعة النهروان إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قوما يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد، وأمر أتباعه أن يلتمسوه بين القتلى وأن يقطعوا يده ويأتوه بها إذا وجدوه. وقد وجدوا فعلا رجلا مخدج اليد بين القتلى فقطعوا يده وأتوه بها فلما رآها قال ما كذبت ولا كذبت «2» .
والمشهور أن الخوارج كانوا من أشد المسلمين تعبدا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن وتقشفا في الحياة حيث ينطبق كل ذلك على الوصف الذي احتوته الأحاديث. وإذا صح حديث عليّ الذي يرويه الطبري فيكون فيه، وعلى ضوء الأحاديث الأخرى فيكون فيها معجزة نبوية بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بغيب وقع بعد موته.
هذا مع التنبيه إلى أن قولنا يصح إذا كانت الوقائع المماثلة أكثر من واحدة. لأن الأشخاص المحكية عنهم متنوعون كما هو واضح من الأحاديث ومع التنبيه كذلك إلى أن روح الآية الثانية قد تلهم أن الذي صدر منه القول أو أحد من صدر منهم القول- إذا كانت الوقائع متعددة- من منافقي المدينة. وهذا ما ينطبق على الرواية الأخيرة. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا من عطف الآيات على سابقتها. ومن ضمير الجمع الغائب الذي يعبر عن فريق كان موضوع الحديث في الآيات السابقة أن الآيات لم تنزل لمناسبة من المناسبات المروية لحدتها وأنها ليست منفصلة عن
(1) انظر تاريخ الطبري ج 3 ص 376 وما بعدها وج 4 ص 52- 65 وننبه على أن الطبري يسميه حرقوص بن زهير السعدي ولا ندري هل هو التميمي أم غيره.
(2)
المصدر نفسه ج 4 ص 68، 69.
السياق. وكل ما في الأمر أنها احتوت إشارة إلى موقف كان وقفه بعض المنافقين من نوع ما ذكرته الأحاديث في معرض التذكير بأقوال ومواقف المنافقين وتقريعهم والتنديد بهم بمناسبة تثاقلهم عن غزوة تبوك.
والموقف الذي حكته الآية الأولى يدل على ما كان من جرأة المنافقين على الطعن في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدله والتهويش عليه في سبيل منافعهم الخاصة.
ويدل على ما كانوا عليه من خبث طوية وفراغ إيمان وقلة ثقة بالله ورسوله. ثم على ما كان النبي يلقاه من هذه الفئة الخبيثة. والذي نرجحه أن ذلك الموقف مما كان يبدر منهم حينما كانوا أكثر قوة أو حينما كان النبي والمسلمون أقل قوة واستعلاء مما صاروا إليه حين نزول الآيات. وقد أشير إليه هنا على سبيل التذكير والتنديد كما قلنا.
والموقف المحكي هو في الآية الأولى فقط. أما الآيتان الأخريان فقد جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد حيث احتوت الثانية تنديدا بالمنافقين وتنبيها إلى ما كان الأولى بهم لو كانوا مخلصين حقا وحيث احتوت الثالثة تحديدا للمصارف التي لا يجوز أن تعطى الصدقات لغيرها.
ومع أن الآية الثالثة قد جاءت مع الآية الثانية كما قلنا على سبيل التعقيب والاستطراد فإنها هي الوحيدة التي وردت في القرآن عن أصناف مستحقي الصدقات جميعها وكانت من أجل ذلك هي المستند التشريعي في هذا الأمر.
والمجمع عليه أن الصدقات المقصودة في الآية هي الزكاة المفروضة خاصة.
ولعلّ في ورود جملة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ في الآية قرينة على ذلك. هذا مع القول إن هذه الجملة قد تكون في نفس الوقت بسبيل التشديد على واجب إبقاء الزكاة في نطاق مصارفها المعينة.
والمفروض في الآية الثالثة هو مصارف الزكاة وليست الزكاة. لأن فريضة الزكاة قد فرضت كما استلهمنا من آيات مكيّة منذ أواسط العهد المكي أو قبل ذلك. وقد استلهمنا من آيات مكيّة أخرى أن مقاديرها أيضا كانت معينة في العهد
المكي على ما نبهنا عليه في سياق سور الأنعام والذاريات والمعارج والمزمل.
وبناء على ذلك نعتقد أن القول بأن في الآية فرضا للزكاة هو تحميل لها غير ما تحمله نصا وروحا. وغير متسق مع الأوامر القرآنية العديدة المكيّة ثم المدنيّة التي نزلت قبل هذه الآية بمدة غير قصيرة بوجوب إيتاء الزكاة وقرنها بالصلاة واعتبارهما الركنين المتلازمين اللذين لا بد منهما لصحة دعوى الإسلام.
ولقد قال بعضهم إن هذه الآية نسخت ما جاء في القرآن من أوامر الصدقة حيث قامت فريضة الزكاة مقام ذلك. وهذا القول منبثق من اعتبار الآية فرضا للزكاة. قد نبهنا على ما في هذا الاعتبار من تجوز قبل قليل. وهذا فضلا عن أن روح الآيات القرآنية الكثيرة المكيّة والمدنيّة تلهم بكل قوة أنها أوسع من أن تحصر الصدقة بالقدر المحدود المستوجب بالزكاة المفروضة. فمهما كثر مقدار هذه الزكاة فإن مجال الإنفاق في سبيل الله في معناها الشامل وفي وجوه البرّ ومساعدة المحتاجين يظل أوسع من أن يملأ ذلك القدر المحدود وتظل حكمة التنزيل مستمرة المفعول بالنسبة للصدقات التطوعية. وفي الآية [103] من هذه السورة التي نزلت بعد الآيات التي نحن في صددها دلالة قوية على ذلك حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ صدقة من أموال الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا ليزكيهم ويطهرهم بها. والمتبادر أن هذه الصدقة هي غير الزكاة المفروضة. وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه دليل على ذلك رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت «سألت النبي صلى الله عليه وسلم أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال إنّ في المال لحقّا سوى الزكاة. ثم تلا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلى آخر آية سورة البقرة [177] «1» وفيها أمر بإيتاء المال بالإضافة إلى ذكر الزكاة.. وفي الآية الأخيرة من سورة المزمل جملة لها مغزى عظيم في هذا الباب وهي: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً
…
وكل هذا يسوغ القول إن الزكاة المفروضة المحددة المقدار بالسنّة النبوية هي
(1) التاج ج 2 ص 39.
الحدّ الأدنى لما يجب على صاحب المال أن يؤديه تطهيرا لماله.
والزكاة واجبة على جميع الأموال التي تبلغ النصاب الأدنى المعين بالسنّة النبوية. وتشمل الغلات الزراعية شجرا أو حبا والماشية والنقود والعروض التجارية المتنوعة الأخرى كما هو المجمع عليه أيضا. والقرآن لم يعين إلا مصارفها. أما المقادير الواجبة فقد عينتها السنّة النبوية. وإذا لاحظنا أن الآية الثالثة إنما جاءت على سبيل الاستطراد والتعقيب والردّ على اللامزين ظهرت لنا حكمة عدم ذكر المقادير فيها. ويصح أن يقال إن هذا الأمر ترك للنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه بإلهام الله وفقا لما تمليه الظروف والمصلحة والإمكانيات.
والمصارف الثمانية التي ذكرت في الآية قد جمعت كل وجه محتمل من وجوه الإنفاق سواء أكانت المصالح العامة للإسلام والمسلمين أم الطبقات المعوزة. وهو ما اجتمع في مصارف الغنائم والفيء على ما شرحناه في سياق تفسير آية الأنفال [41] وآية الحشر [7] حيث يبدو التساوق قويا رائعا.
وقد يلحظ أن معظم المصارف المذكورة في الآية قد ذكرت في آيات أخرى وردت في سور سبق تفسيرها. منها ما ورد في آيات الغنائم والفيء في سورتي الأنفال والحشر. ومنها ما ورد في آية سورة البقرة [177] حيث جاء فيها وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ....
ويمكن أن يقال إن ما جاء في آية سورة البقرة وما من بابها قد جاء للحثّ على إعطاء الفئات المحتاجة المذكورة فيها بصورة عامة مما قد يدعمه ذكر الزكاة في آية البقرة مستقلا أيضا ثم شاءت حكمة التنزيل أن تجمع مصارف الزكاة المفروضة في آية واحدة ليكون ذلك فرضا إلزاميا فكان ذلك في الآية التي نحن في صددها التي نزلت بعد تلك الآيات. كما يمكن أن يقال في صدد تكرر ذكر بعض مصارف الغنائم والفيء في عداد مصارف الزكاة أن حكمة التنزيل لحظت احتمال عدم تيسر الغنائم والفيء دائما أو عدم كفايتهما للحاجة فشاءت زيادة في العناية
بالفئات المحتاجة أن تكرر ذكر بعض ما ذكر في آيات الغنائم والفيء والله أعلم.
وقد يلحظ أيضا في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية ثلاثة لم ترد في مصارف الفيء والغنائم. وهي المؤلفة قلوبهم والرقاب والغارمون. وقد تكون حكمة التنزيل اقتضت ذكر هذه الفئات نصّا نتيجة لتطور حالة المسلمين والسلطان الإسلامي. على أن هذه الأصناف لا تخرج في الوقت نفسه عن المجموعتين اللتين يوزع عليهما الفيء والغنائم وهما المصالح العامة والطبقات المعوزة.
وقد يلحظ كذلك أنه ليس في مصارف الصدقات اسم (رسول الله) في حين كان هذا الاسم بين مصارف الغنائم والفيء. ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة بأوساخ الناس ونبّه على أنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد على ما رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن الحارث الهاشمي حيث قال: «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد» «1» . وكان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل وإن قيل صدقة لم يأكل على ما رواه الترمذي ومسلم «2» . حتى أنه لم يحلها لمولى من مواليه لأن مولى القوم من أنفسهم على ما رواه أبو داود والترمذي. حيث رويا عن أبي رافع مولى رسول الله «أنّ النبيّ بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم فقال له اصحبني فإنك تصيب منها قال حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله فأتاه فسأله فقال: مولى القوم من أنفسهم وإنّا لا تحلّ لنا الصدقة» «3» .
ويتبادر لنا إلى هذا حكمة أخرى. وهي أن خلوها من اسم رسول الله قد يكون بمثابة ردّ على ما حكته الآية من لمز النبي بالصدقات. فكأنما أريد أن يقال لهم من باب المساجلة إن رسول الله نفسه ليس له نصيب في الصدقات وإنّه والحالة هذه فوق كل مظنة وشبهة ولمز. ومسألة الأموال العامة ولا سيما التي تؤخذ من
(1) التاج ج 2 ص 30- 31 وفي الحديث الأخير تلقين إنساني رائع في صدد اعتبار مملوك المرء من نفسه.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه.
المسلمين مسألة حسّاسة يتسع فيها مجال التهويش والفخر فكان ذلك من أسباب ما يتبادر لنا من حكمة في تنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها خلافا للغنائم والفيء التي تكسب من أموال الأعداء وتوزع على مستحقيها بقطع النظر عن فقرهم وغناهم. وفي هذا تلقين قوي لمن يتولّى أمر المسلمين ومصالحهم وأموالهم العامة أيضا مع التنبيه على علوّ مرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرامته عن كلّ مرتبة وكرامة.
ولقد فرق أهل التأويل «1» بين زكاة الماشية وغلة الأرض وزكاة النقد والعروض حيث ذهب بعضهم إلى أن حق بيت المال محصور في جباية زكاة الماشية وغلة الأرض طوعا أو كرها دون زكاة النقد والعروض. التي يستطيع الواجبة عليه توزيعها مباشرة ولا يحق لبيت المال جبايتها كرها. وحيث ذهب بعضهم إلى أن لبيت المال الحق في كل ما تجب فيه الزكاة.
ويلحظ أن الآية مطلقة ولا تتحمل هذا التفريق. وأن تعبير وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ما يمكن أن يسوغ القول إن جباية أنواع الزكاة حقّ لولي الأمر بواسطة عماله. ومن الذين قالوا القول الأول من استدل على قوله بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يرسل جباته لجباية زكاة الغلات والمواشي فقط. وليس هناك أحاديث نبوية تؤيد القول الأول هذا بأسلوب حاسم وقطعي. في حين أن هناك أحاديث وردت في الكتب الخمسة فيها دلالة على صحة القول الثاني، من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي جاء فيه «إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام» «2» والعباس لم يكن صاحب مواش وإنما كان صاحب أموال سائلة على ما هو المشهور. ومن ذلك حديث رواه الإمام مالك عن القاسم بن محمد جاء فيه «إن أبا بكر الصديق لم يكن يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وكان إذا أعطى الناس أعطياتهم يسأل الرجل هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة. فإذا
(1) اقرأ الفصل الطويل الذي عقده الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال على الصدقة ص 349 وما بعدها وص 567 وما بعدها وانظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(2)
التاج ج 2 ص 24 و 25.
قال نعم أخذ من عطائه زكاة ذلك وإن كان قال لا أسلم إليه عطاءه ولم يأخذ منه شيئا» «1» . وحديث رواه الإمام مالك أيضا عن عائشة بنت قدامة عن أبيها أنه قال «كنت إذا جئت عثمان بن عفّان أقبض عطائي سألني هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة فإن قلت نعم أخذ من عطائي زكاة ذلك المال وإن قلت لا دفع إليّ عطائي» «2» . وحديث رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة الحديث المشهورين عن عبد الرحمن بن عبيد القاري قال «كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها شاهدها وغائبها ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» «3» .
وإذا كان حقا أن جباة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يباشرون جباية زكاة المواشي وغلة الأرض فحسب فالمتبادر أن هذا إنما كان لأن أكثر الثروة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي المواشي وغلات الأرض.
وفي كتاب الأموال للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام بحث طويل «4» سرد فيه أقوال عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في هذا الأمر جاء في أوله عزوا إلى ابن سيرين أن الصدقة كانت تدفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمر به وإلى أبي بكر وعمر وعثمان أو من أمروا به. فلما قتل عثمان اختلفوا فكان منهم من يدفعها إلى الخلفاء وكان ابن عمر ممن يدفعها إليهم. ومنهم من يوزعها بنفسه. ثم أخذ أبو عبيد يورد أقوالا أخرى لأصحاب رسول الله وتابعيهم حيث قرر بعضهم وجوب دفع الزكاة عن جميع الأموال لبيت المال وجوّزه بعضهم. وجعل بعضهم الخيار للمسلمين في زكاة النقود والعروض في أدائها لبيت المال أو توزيعها من أيديهم. ومنهم من لم يجوز دفعها لبيت المال بل قال بتوزيعها مباشرة. وقد علل أصحاب القول الأخير مذهبهم بأن بيت المال صار في يد ملك عضوض فلا يجزىء أداء الزكاة له عن
(1) الموطأ ج 1 ص 128. [.....]
(2)
المصدر نفسه.
(3)
كتاب الأموال ص 425.
(4)
المصدر نفسه ص 567 وما بعدها.
الغرض. وقد أوجب علماء الشيعة دفع جميع أنواع الزكاة للإمام العلوي الذي كان هو الإمام الشرعي عندهم ولو لم يكن يمارس سلطانا. وكانت عائشة أم المؤمنين ممن يدفع الزكاة إلى بيت المال على ما ذكره الإمام أبو عبيد في فصل كتابه المذكور آنفا.
والأخذ والرد والنقاش كان يدور حول زكاة النقود والعروض كما قلنا.
وجمهور المتكلمين يسلمون بجباية بيت المال لزكاة الغلات والماشية. والذين قالوا بعدم جواز دفع زكاة النقود والعروض لبيت المال في حكم الملك العضوض قالوا إن أداء زكاة الغلات والماشية اضطراري لأن هذه الزكاة لا يمكن أن تمنع إلّا بالقوة التي يمكن أن ينتج عنها فساد وفتنة بعكس زكاة النقود والعروض التي يمكن أن تمنع لأنها مما يمكن أن لا تعلم. والذين أوجبوا أو جوزوا أداء زكاة النقود والعروض لبيت المال قالوا بناء على هذا المعنى الأخير بعدم الإجبار وبتصديق من يقول أدى زكاته مباشرة.
والمستفاد من كل هذا أنه لم يكن في البدء خلاف في حق ولي أمر المؤمنين في جباية جميع أنواع الزكاة. وتولّي توزيعها. وهو المستفاد من فحوى الآية وروحها. وأن ما وقع من فتن وخلافات حزبية في صدر الإسلام هو الذي أدى إلى هذا التفريق الذي كان قديما جدا والذي جرى عليه العمل منذ ذلك الزمن القديم الذي يبلغ في حساب السنين ألفا وثلاثمائة ونيفا. والراجح أن الأمويين الذين كان العمل بهذا في عهدهم واستمر بعدهم قد جنحوا فيه إلى التساهل تفاديا من الفتنة في حالة إجبار الناس عليه وقد كثرت مواردهم واكتفوا بما كان يأتيهم منه طواعية دون إكراه. ثم بزكاة الغلة والماشية التي تعرف على حقيقتها ولا يمكن إخفاؤها ولا التفلت من زكاتها. إذ يكون ذلك عصيانا يسيغ التنكيل. وكان موقف أبي بكر من مانعيها ما يزال حديث عهد اشترك في التضامن معه فيه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل انحصار ثروة الوسط العربي في الماشية وغلة الأرض تقريبا في الظروف التي قامت فيها الدولة الأموية في أول عهدها مما جعل هذه الدولة قليلة الاهتمام لزكاة النقد القليلة أو سوغ انصراف الذهن عنها بعض الشيء. فكان هذا
وذاك أصلا أو مسوغا لما جرى عليه المسلمون. وقد يحسن أن يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث فيها إذن لبعض المسلمين بإعطاء صدقاتهم للأزواج والأقارب كالحديث المروي عن سلمان الضبي الذي جاء فيه «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة رحم» «1» والحديث الذي قال فيه لزوجة ابن مسعود جاءت إليه تستأذنه في إعطاء صدقتها لزوجها وولدها «زوجك وولده أحقّ من تصدقت به عليهم» «2» وما أثر عن عمر رضي الله عنه من إذنه لرجل أتى إليه بزكاة ماله «بأن يذهب بها فيقسمها» «3» وما أثر عن عثمان رضي الله عنه من قوله «من تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا» «4» حيث يسوغ أن يكون ذلك من مبررات ما كان من جعل الناس بالخيار في هذا الأمر.
وعلى كل حال فليس هناك قرآن ولا سنّة تمنع الدولة من جباية جميع أنواع الزكاة من جميع ما هي مفروضة عليه من أموال المسلمين وتوزيعها على مستحقيها أسوة بالغنائم والفيء.
ولقد نبهنا على خطورة تشريع الزكاة وما ينطوي فيه من حكمة ربانية جليلة تهدف إلى ضمان أمن المجتمع الإسلامي. وتخفيف أزمات المحتاجين من بنيه.
وبثّ التعاون والتضامن بين أفراد هذا المجتمع في تعليقنا الأول على الزكاة في سياق تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وفي كتب التفسير والحديث بيانات متنوعة «5» في صدد الجهات والفئات
(1) كتاب الأموال ص 353، هذا الحديث من مرويات الشيخين والنسائي والترمذي أيضا انظر التاج ج 2 ص 35.
(2)
المصدر نفسه ص 586- 587.
(3)
المصدر نفسه ص 571.
(4)
المصدر نفسه ص 437 و 531.
(5)
انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي لتفسير هذه الآيات وانظر التاج ج 2 ص 3- 40 وكتاب الأموال ص 349- 613 وكتاب الخراج لأبي يوسف ص 43- 47.
الثمانية المذكورة في الآية الثالثة وتوزيع الزكاة عليها نوجزها فيما يلي مع ما يعنّ لنا من تعليق. مع التنبيه على أن هناك تفريعات وخلافات مذهبية لم نر ضرورة للتبسط فيها.
1-
الأقوال مجمعة على أن (الفقير) و (المسكين) صنفان. وهذا ملموح في ذكر الاثنين. ومما ذكره المفسرون عزوا إلى بعض أهل التأويل أن الفقير هو المحتاج المتعفف عن السؤال وأن المسكين هو المحتاج الذي يسأل. كما رووا أن الفقير هو المحتاج من المسلمين والمسكين هو المحتاج من الذميين. مع أن هناك حديثا نبويا فيه تعريف حاسم رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس وتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» . وقد ورد في الآية [177] ذكر للسائلين والمساكين معا وفي هذا دعم قرآني.
ولقد اختصت حكمة الله المسكين بالذكر أكثر من الفقير وجعلت له نصيبا في الفيء والغنائم كما جعلته هو الذي يجب أن يطعم ويكسى من كفارات الأيمان والظهار وقتل الصيد في حالة الحرم إلخ إلخ لأنها رأته على ضوء وصف النبي صلى الله عليه وسلم له هو الأشد حاجة والأوجب رعاية من الذي يسأل ويطوف على الناس وفي هذا ما فيه من مغزى جليل. وقد كان هذا الأمر موضوع تعليق لنا في سياق أول آية مكيّة ذكر فيها المسكين في سورة المدثر.
ولقد رويت أحاديث نبوية في من تحلّ له المسألة أي سؤال الناس وفي من تجوز عليه الصدقة. منها حديث رواه أصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي» «1» وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن أنس قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة: لذي
(1) التاج ج 2 ص 28 و 29.
فقر مدقع أو لذي غرم مفظع. أو لذي دم موجع» «1» وحديث رواه كذلك أصحاب السنن عن عبد الله قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح. قيل يا رسول الله وما يغنيه قال خمسون درهما أو قيمتها من ذهب» «2» . وحديث رواه أبو داود وابن حبان عن سهل بن الحنظلية قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سأل وله ما يغنيه فإنّما يستكثر من النار، وفي رواية من حجر جهنّم. قالوا يا رسول الله وما يغنيه. قال قدر ما يغديه أو يعشيه وفي رواية أن يكون له شبع يوم وليلة» «3» وحديث رواه أبو داود وأحمد والحاكم عن عطاء بن يسار قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحلّ الصدقة لغني إلّا لخمسة:
لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدّق على المسكين فأهداها للغني» «4» . وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لأن يحتطب أحدكم جزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» «5» . وحديث رواه الإمام أبو عبيد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده «قال قلت يا رسول الله إنا قوم نتساءل أموالنا فقال صلى الله عليه وسلم يسأل الرجل في الجائحة والفتق ليصلح بين الناس فإذا بلغ أو كرب استعفّ» «6» وحديث رواه الإمام نفسه عن عدي بن الخيار أنه حدثه رجلان قالا «جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع والناس يسألونه الصدقة. فزاحمنا عليه الناس حتى خلصنا إليه فسألناه من الصدقة فرفع البصر فينا وخفضه فرآنا جلدين. فقال إن شئتما فعلت ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» «7» . وحديث أورده ابن كثير عن عمر بن الخطاب
(1) التاج ج 2 ص 28 و 29.
(2)
المصدر نفسه ص 29 و 30 و 177.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه. [.....]
(6)
كتاب الأموال ص 548 و 549 ومعنى إذا بلغ أو كرب استعفّ أي إذا بلغ صاحبه أو قريبا منها تعفف عن السؤال.
(7)
المصدر نفسه.
جاء فيه: «ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الأخلق الذي ليس له حظّ من كسب» .
وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن قبيصة بن مخارق الهلالي جاء فيه: «لا تحلّ المسألة إلّا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش. ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش. فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا» «1» .
وروى الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم صاحب المسألة ما له فيها لم يسأل» «2» . وعن أم سنان الأسلمية قالت: «جئت رسول الله فقلت يا رسول الله إني جئتك على حياء وما جئتك حتى ألجأت الحاجة فقال لو استغنيت لكان خيرا» «3» وعن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك» «4» . وروى البزار عن أبي هريرة قال: «إنّ رجلين أتيا رسول الله فسألاه فقال اذهبا إلى هذه الشعوب فاحتطبا فبيعاه فذهبا فاحتطبا ثم جاءا فباعاه فأصابا طعاما ثم ذهبا فاحتطبا أي ضا فجاءا فلم يزالا حتى ابتاعا ثوبين ثم ابتاعا حمارين فقالا قد بارك الله لنا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» «5» وروى أبو يعلى عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتح أحدكم على نفسه باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر» «6» .
والأحاديث بسبيل تأديب المسلم ورفع مستواه الخلقي والأدبي. وتجنيبه ذلّ السؤال. وحثّه على الكسب. وهي رائعة في بابها. وفيها تلقين جليل بأن أخذ
(1) التاج ج 2 ص 28.
(2)
مجمع الزوائد ج 3 ص 93- 95.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
(6)
المصدر نفسه.
الصدقة لا يمكن ولا يصح أن يكون حلا لمشكلة الفقر وأن هذه المشكلة لا تحل إلا بالعمل والكسب. وأن الصدقة إنما هي للمحتاج غير القادر على الكسب لسبب من الأسباب. ولقد أمر الله الناس بالعمل والكسب وابتغاء فضل الله ورزقه في آيات كثيرة مبثوثة في السور المكيّة والمدنيّة التي مرّ تفسيرها حيث يتساوق التلقين القرآني والنبوي في هذا الأمر. ولقد كره بعضهم بناء على ذلك إعطاء القادر على الكسب ولو كان محتاجا. وكره بعضهم إعطاء من ليس في حاجة عاجلة ما دام عنده ما يسدّ رمقه في حالته الحاضرة. ومنهم من قدر ذلك بخمسين درهما أو عدلها ذهبا وفضة. ومنهم من قدر ذلك بشبعه وشبع عياله يوما «1» . ولقد قال الإمام أبو عبيد تعليقا على الأحاديث إنها من قبيل التغليظ على السائل والسؤال. وإن المعطي يجزئ عنه ما يعطيه للسائل. وإن هذا هو ما عليه أمر الناس وفتيا العلماء.
وقد يكون هذا وجيها بخاصة بالنسبة لحاجة السائل الملحة. غير أن التلقين الذي نوهنا به يظل هو الأقوى فيما هو المتبادر.
وننبه على أن الكلام هو في صدد السؤال والسائلين أما المحتاج الذي لا يسأل ولا يقدر على الكسب أو لا يتيسّر له مجال للكسب فليس من حرج في إعطائه مطلقا. وهذه صفة المسكين على ما جاء في الحديث الذي أوردناه قبل.
وحقّه في الزكاة منصوص عليه والله تعالى أعلم.
وهناك من كره أن يعطي الشخص الواحد من الفقراء والمساكين أكثر من خمسين درهما. وفي قول أكثر من مائة درهم. وهناك من أجاز ذلك. وقد روي في صدد الإجازة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «إذا أعطيتم فأغنوا» «2» وقوله: «لأكررن عليهم الصدقة وإن راح على أحدهم مائة من الإبل» «3» . وفي هذا من السداد والحكمة ما فيه. بل نراه عظيم الهدف لأن به يخلص فقير من الفقر ولا يظل موضعا للصدقة.
(1) انظر كتاب الأموال ص 553 وما بعدها.
(2)
المصدر نفسه ص 565.
(3)
المصدر نفسه.
والأقوال مجمعة على جواز إعطاء المكلّف صدقته لأقاربه الفقراء والمساكين الذين لا تجب عليه إعالتهم شرعا. وقد روي في صدد ذلك حديث نبوي عن سلمان بن عامر الضبي جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» «1» . بل لقد روي حديث نبوي أجاز فيه إعطاء الزوجة زكاتها لزوجها وولدها الفقراء على اعتبار أنها غير مكلفة بهما شرعا حيث روي عن ابن مسعود أنه أفتى لامرأته أن تعطيه صدقتها فأبت حتى تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت فاستأذنته «فقال لها صدق ابن مسعود زوجك وولده أحقّ من تصدقت به عليهم» «2» .
وهناك من أجاز إعطاء اليهودي والنصراني والمجوسي بل وغيرهم من الصدقة إذا كانوا فقراء ومساكين لإطلاق الآية. وهناك من لم يجز ذلك. وهناك من أجازه إذا لم يكن فقيرا أو مسكينا من المسلمين. ولقد روينا في سياق بحث الجزية أي في سياق الآية [29] من هذه السورة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رتب من بيت المال الذي تجتمع فيه الصدقة وغيرها ليهودي طاعن ضرير مرتبا مما يدعم القول الأول. وهناك آية في سورة البقرة فيها إشارة داعمة له أيضا على ما شرحناه في سياقها. وهي الآية [272] ومع ذلك فإن القول الثالث لا يخلو من وجاهة وصواب أيضا.
2-
والأقوال مجمعة على أن وَالْعامِلِينَ عَلَيْها هم السعاة عليها قبضا وقسمة. وهناك من قال إن لهم ثمن ما يجبون. وهناك من قال إنهم يعطون أجرة مثلهم على قدر عمالتهم ولو كانوا أغنياء عنها وهو الأوجه الذي عليه الجمهور.
3-
وأكثر الأقوال على أن المؤلفة قلوبهم هم الذين يتألفون على الإسلام استصلاحا لهم ولذويهم واستفادة من خدماتهم ولو كانوا أغنياء. ولقد روى
(1) كتاب الأموال ص 353.
(2)
المصدر نفسه ص 586- 587 والحديث جاء في سياق طويل اكتفينا بالجوهري المتصل بالمسألة منه.
الطبري عن الزهري أحد أئمة الحديث من التابعين أنهم أو أنه يدخل فيهم من أسلم من اليهود والنصارى ولو كانوا أغنياء. وهناك مأثورات أوردناها قبل قليل تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى لزعماء قبائل أغنياء من الصدقات لأجل هذه الغاية. وهناك أقوال عديدة بأن هذا الصنف قد بطل بعد أن أعز الله الإسلام. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاءه عيينة بن بدر فقال: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ليس اليوم مؤلفة وقد قال الطبري الصواب عندي أن الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما سدّ خلّة المسلمين والثانية معونة الإسلام وتقويته.
فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطى في كل وقت وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وعزّ الإسلام وقال الإمام أبو عبيد إن حكم هذا الصنف محكم ولا ناسخ له من كتاب ولا سنّة «1» . وفي هذا وجاهة وسداد ظاهران. ومعناه بعبارة أخرى أنه يجوز لولي أمر المؤمنين أن يعطي من الصدقات من يرى في إعطائه مصلحة للإسلام والمسلمين في كل وقت ومكان ولو لم يكن محتاجا. ويدخل في ذلك الرغبة في تأليف من دخل في الإسلام جديدا أو ضعفاء الإيمان من الزعماء والقائمون بأعمال نافعة للإسلام والمسلمين.
وهناك من قال يدخل في هذا الباب الكفار لدفع شرّهم إذا خشي أو لجلبهم إلى الإسلام إذا رجي «2» . ولا يخلو هذا من وجاهة. وهناك من أدخل فيه من هم في حدود بلاد الأعداء من المسلمين لتقويتهم «3» . ومع وجاهة هذا القول أيضا فإنه أدخل في باب سبيل الله أكثر منه في باب المؤلفة.
4-
وأكثر الأقوال على أن المقصود من وَفِي الرِّقابِ هم المكاتبون أي الذين يشترون أنفسهم من مالكيهم لقاء مبلغ يؤدونه إليهم على أقساط. وعلّل القائلون قولهم بأن الذي يعتق رقبة مباشرة يكون له حقّ ولائه وبعبارة أخرى يكون له حقّ في إرثه على ما جاءت به الآثار. فيكون في ذلك منفعة مستمرة للعاتق. في
(1) كتاب الأموال ص 607. [.....]
(2)
تفسير رشيد رضا.
(3)
المصدر نفسه.
حين أن الزكاة لا يجوز أن يكون فيها ذلك على ما شرحه الطبري في صدد تصويبه لهذا القول. على أن هناك من قال إن الكلمة تعني فكّ رقبة المملوك إطلاقا. وقد روي عن ابن عباس جواز عتق الرقاب من زكاة المال والإطلاق أوجه على ما يلهمه الإطلاق في الآية حيث يتناول المكاتب وغير المكاتب. فالله سبحانه حثّ على فكّ الرقاب إطلاقا وشرع بعض التشريعات بسبيل ذلك مما مرّ منه أمثلة. ففي هذا توجيه عام إلى ذلك العمل الإنساني الكبير.
5-
وهناك من قال إن وَالْغارِمِينَ هم المدينون العاجزون عن الأداء الذين استدانوا لغير معصية وسرف وتبذير. وهناك من قال إنهم الذين حملوا حمالة «1» أو ضمنوا دينا وعجزوا عن تحمل ذلك من أموالهم أو أجحف أو يجحف أداء ذلك بهم. ويتبادر لنا أن النوع الثاني متفرع أو صورة ما من النوع الأول. ولقد رويت أحاديث نبوية تفيد أن التعبير يشمل النوعين حيث أبيح فيها إعطاؤهما من الصدقة. منها حديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: «أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق عليه الناس فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلّا ذلك» «2» ومنها الذي روي عن قبيصة بن مخارق وأوردناه في الفقرة الأولى حيث وعد رسول الله فيه إعطاء الرجل الذي حمل حمّالة.
وقد أجاز بعض التابعين في احتساب الدائن دينا له على مدين معسر من الزكاة «3» . وفي هذا وجاهة ظاهرة فيما نرى. وفي آية سورة البقرة هذه وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ دعم لذلك.
6-
وأكثر الأقوال على أن سَبِيلِ اللَّهِ في الآية تعني الجهاد الحربي وأسبابه. وهناك من قال إن كل ما فيه برّ عام وتقوية للإسلام يدخل في هذا
(1) الحمّالة هي ما تحمّله الإنسان من دية قتيل أو غرامة ليصلح بين متخاصمين.
(2)
التاج ج 2 ص 27، 28.
(3)
كتاب الأموال ص 436.
التعبير. ومن ذلك تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ويدخل فيه بطبيعة الحال الجهاد الحربي وأسبابه.
وهذا هو الأوجه كما هو المتبادر. لأن سبيل الله كما قلنا في مناسبات عديدة سابقة أشمل من الجهاد الحربي الذي ليس هو إلّا وسيلة من وسائلها. وهناك من قال إن إعانة المسلم على الحجّ يدخل في هذا الباب. وليس من سند قوي يسند هذا القول كما أن الحجّ هو فريضة على المستطيع بنفسه ولا يترتب على غير المستطيع.
7-
ومعظم الأقوال على أن وَابْنِ السَّبِيلِ هو المجتاز من أرض إلى أرض وقد نفد ما في يده وأصبح محتاجا إلى مساعدة ولو كان في بلده غنيّا. وهناك من قال إنه الضيف إطلاقا. وروح الآية تجعل الرجحان للأول. على أن القول الثاني لا يبعد عن باب الأول إذا كان الضيف غريبا محتاجا كما هو الواضح. وحقّ ابن السبيل في الزكاة هو أن يعطي ما يكفيه لمعيشته وبلوغه إلى بلده.
8-
والأقوال مختلفة في صدد جواز الاجتزاء بإعطاء صنف أو أصناف دون أخرى مما ذكر في الآية. حيث قال بعضهم بجواز ذلك وحيث قرر بعضهم وجوب تجزئة الصدقة وتوزيعها على الأصناف جميعها. ولقد أورد المفسرون في صدد هذه المسألة حديثا نبويا رواه أبو داود جاء فيه: «أن رجلا جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة فقال إن الله تعالى لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزّأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» «1» . وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب أن الله جلّ ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم وإنما عرف خلقه أن الصدقات لا تتجاوز هذه الأصناف إلى غيرهم. وهذا وجيه سديد كما هو المتبادر. وليس في الحديث ولا في نصّ الآية وروحها ما يؤيد القول الثاني. والأكثر على القول الأول. وقد يصح أن يقال في هذا الصدد إن القول بوجوب إعطاء الصدقة لجميع الأصناف متعسر
(1) هذا الحديث ورد في التاج برواية أبي داود انظر ج 2 ص 27.
التنفيذ أيضا إذا كان المعطي هو المكلّف لأنه قد لا يكون ما يجب عليه مجزيا لتوزيعه على أكثر صنف أو صنفين بل إن هذا هو الغالب. أما إذا كان بيت المال هو الذي يعطي فإنه مستطيع أن ينفق على كلّ صنف لأن الصدقات تتجمع فيه من كل نوع ومكان. ويجب عليه والحالة هذه أن ينفق على كل ما يتطلب الإنفاق من كل نوع.
9-
وهناك من نبّه إلى أنه لا يجوز إعطاء حصة صنف من الأصناف إلى أقل من ثلاثة منهم. وليس في هذا أثر نبوي ولا صحابي. ونحن نراه غريبا لأنه قد لا يكون وقت الإعطاء أشخاص عديدون من صنف واحد وقد لا يكون ما يعطيه المكلف إذا أعطى صدقة بنفسه مجزيا للتوزيع على أكثر من شخص واحد.
10-
وقد كره بعضهم إعطاء صدقة بلد إلى أهل بلد آخر مع وجود المستحقين في البلد واستندوا في ذلك إلى حديث نبوي يوصي فيه معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن حيث جاء فيه: «فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم. فإن هم أطاعوا بذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» «1» .
وليس في الحديث تأييد حاسم للقول المذكور فيما نرى. لأنه إنما احتوى شرح مبادئ الإسلام والزكاة. ولا سيما أن الله قد جعل للزكاة مصارف عديدة ولم يجعلها للفقراء وحدهم. أو لعلّ بعثة معاذ قبل أن تنزل الآية التي تذكر مصارف الزكاة. وبيت مال المسلمين تتجمع فيه الصدقات من كل ناحية وتوزع منه على مصارفها في كل ناحية. فليس من حكمة لتخصيص زكاة كل بلد لأهل ذلك البلد.
وقد يكون في القول وجاهة بالنسبة للمستوجب عليه الزكاة إذا أراد توزيعها بنفسه.
(1) رواه الخمسة عن ابن عباس انظر التاج ج 2 ص 3- 4، والقصد من النهي عن كرائم الأموال أن لا يأخذ الزكاة من أحسن ما عندهم أو من أحب ما عندهم أو أحسنه وأحبه إليهم.
استئنافا بالأحاديث النبوية التي تجعل الأولوية للأقارب وذوي الأرحام. وقد أوردنا بعضا منها قبل قليل.
ونكرر هنا ما قلناه في تعليقنا الأول على الزكاة في سورة المزمل أنه ليس هناك ما يمنع أن ينشأ بمال الزكاة أو بجزء منه منشآت لمصلحة المعوزين مثل المياتم والمشافي والعيادات ودور العجزة والملاجئ والصنائع والضيافة حيث يكون هذا أدوم وأشمل وأهدى والله أعلم.
هذا، ولقد شاءت حكمة التنزيل أن لا يرد في القرآن مقادير الزكاة فبينت ذلك السنّة النبوية. وهو ما كان شأن الصلاة أيضا. وقد رأينا أن نورد المبادئ الرئيسية من ذلك إتماما للكلام. مع التنبيه على أن هناك تفريعات وخلافات مذهبية لم نر أن نتبسط فيها:
1-
النصاب الأدنى في الإبل السائمة خمس فلا صدقة فيما دون ذلك. وفي الخمس شاة ثم تزداد الفريضة بنسب محددة من الزيادة «1» . ويستثنى من ذلك العوامل أي التي تعمل في حرث وسقي. فزكاتها مندمجة في زكاة الغلة التي تنتج من عملها «2» . ويستثنى من ذلك الإبل المعدة للتجارة. فإن زكاتها تكون حسب قيمتها كعرض «3» .
2-
النصاب الأدنى في البقر ثلاثون فلا صدقة فيما دون ذلك. وفي الثلاثين تبيع ثم تزداد الفريضة بنسب محدودة من الزيادة. والاستثناءان الواردان في صدد الإبل واردان هنا أيضا. وصدقة الجواميس مثل صدقة البقر «4» .
(1) كتاب الأموال 358 وما بعدها وفي هذا الفصل أحاديث وبيانات كثيرة اكتفينا بالأساس منها. وفي التاج أحاديث فيها تعيين للنسب والمقادير وما أوردناه في المتن مستخلص من كل ذلك. انظر التاج ج 2 ص 10 وما بعدها.
(2)
المصدر نفسه ص 381.
(3)
المصدر نفسه ص 382.
(4)
المصدر نفسه 378 وما بعدها.
3-
النصاب الأدنى في الغنم- الضأن والماعز- أربعون. ولا صدقة فيما دون ذلك. وفي الأربعين شاة إلى أن تبلغ مائة وعشرين فتزداد الفريضة بنسبة الزيادة. ويستثنى من ذلك ما كان للتجارة فإنه يقوّم وتؤدى زكاته حسب قيمته «1» .
4-
النصاب الأدنى في الذهب عشرون دينارا. وفي الفضة مائتا درهم.
وليس فيما دون ذلك صدقة «2» . وفي النصاب وما فوقه اثنان ونصف في المائة.
ولا تستحق الصدقة إلّا إذا حال على النصاب أو ما فوقه حول حيث يكون معنى ذلك أنه فائض عن نفقة الحائز كما هو المتبادر. وهناك قول بأن صدقة الذهب تعطى ذهبا وصدقة الفضة تعطى فضة، بحيث إذا ملك شخص النصاب في أحدهما ولم يملكه في الثاني يؤدي زكاة عن ما يملك نصابه دون الثاني. وهناك قول بأن الذهب والفضة يقدران معا فإذا بلغت قيمتها النصاب الذهبي أو الفضي وجب عليه الزكاة بقطع النظر عن نقص نصاب الذهب أو الفضة. وهذا هو الأوجه في ما هو المتبادر. لأن النقد ثمن السلعة وليس سلعة. والقيمة تقدر بنفعها الاستعمالي.
والأقوال مجمعة على أن النصاب الذي يحول عليه الحول يجب أن يكون زائدا على الدين الذي قد يكون على مالكه.
وبالنسبة للزمن الحاضر يصحّ أن تقدر قيمة العشرين مثقالا من الذهب أو المائتي درهم من الفضة بما تساويه اليوم فتكون قيمتها الحاضرة هي النصاب الواجب أداء الزكاة عنه وعن ما يزيد عليه على ما هو المتبادر. وهو ما يقرر جمهور العلماء المعاصرين.
5-
هناك حديث يرويه الدارقطني والحاكم صححه عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «في الإبل صدقتها. وفي البقر صدقتها. وفي البزّ صدقته» «3» حيث ينطوي تشريع نبوي يجعل عروض التجارة إذا بلغت قيمتها النصاب خاضعة
(1) كتاب الأموال ص 382 وما بعدها و 386.
(2)
المصدر نفسه 408 وما بعدها والأقوال المذكورة في هذا الفصل أيضا.
(3)
التاج ج 2 ص 19. البزّ بالفتح الثياب أو ثياب التجارة. [.....]
للزكاة. وهو ما عليه الجمهور. والمتواتر أن هذه العروض تقوم بقيمتها حين ما يحول الحول عليها وتؤدى صدقتها يحسب ذلك كصدقة النقد. وقد روى الإمام أبو عبيد عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: «كنت على بيت المال في زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها شاهدها وغائبها ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» «1» وروي عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: «مرّ بي عمر فقال يا حماس أدّ زكاة مالك فقلت مالي مال إلا جعاب وأدم فقال قوّمها وأدّ زكاتها» «2» وروي عن نافع عن ابن عمر أنه قال: «ما كان من رقيق أو بزّ يراد به التجارة ففيه زكاة» «3» .
والجمهور على أن الرقيق الذي تجب على قيمته الزكاة هو ما كان للتجارة «4» .
وهذا في محلّه.
ولقد اختلف المؤولون والفقهاء في اللؤلؤ والجواهر والمصوغات الذهبية والفضية. فهناك من أوجب على قيمتها الزكاة في أي حال. وهناك من أوجب الزكاة على ما كان منها للتجارة دون الحلية لأن الحلية في منزلة أثاث البيت ومتاعه فلا تجب عليه صدقة «5» . وقد يكون هذا هو الأوجه. وتبدو وجاهته قوية إذا ما لوحظ أنه ينفد بالزكاة في بضع سنين لأنه غير نام. والله تعالى أعلم.
6-
في المال المدين أقوال عديدة «6» . منها وجوب تزكية الدين إطلاقا.
ومنها أن زكاته لا تجب على صاحبه ولكنها تجب على المديون. ومنها أن لا زكاة عليه إلّا بعد قبضه. ومنها أن ما كان مرجو القبض يزكي عنه صاحبه وما لم يكن كذلك يؤجل حتى يقبض. ولعلّ أوجه الأقوال كما هو المتبادر لنا تزكية الدين
(1) كتاب الأموال ص 425 و 465 و 466.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه ص 129.
(5)
المصدر نفسه ص 441.
(6)
المصدر نفسه ص 425 وما بعدها.
المرجو قبضه وتأجيل غير المرجو إلى أن يقبض.
7-
ليس في الخيل والبراذين والحمير زكاة إذا كانت للاستعمال وتجب عليها إذا كانت للتجارة حيث تكون كالإبل والبقر والغنم المعدة للتجارة «1» .
8-
النصاب في الحنطة والشعير والتمر والزبيب خمسة أوسق. وليس فيما دون ذلك صدقة. والوسق 15 مدا والمدّ ملء إناء ماء يكفي الوضوء أو وزن رطلين أي نحو 400 غرام «2» . وفي النصاب وما فوقه العشر في ما يسقى بماء المطر والعيون. ونصف العشر فيما يسقى بماء الآبار والسواقي والنواضح «3» . أي أن زكاة هذه المواد أربعة أضعاف زكاة النقد.
9-
العنب والبلح والقطاني كالحمص والعدس والعسل والزيتون والخضار مما اختلف في وجوب الصدقة فيه لاختلاف الأحاديث في ذلك حيث ذكرت في بعض الأحاديث وأغفلت في بعضها. وقال بعضهم إذا بيعت تحسب كسلعة تجارية وتؤدى صدقتها إذا بلغت نصاب النقدين. خلافا للحنطة والشعير والتمر والزبيب التي يجب أداء صدقتها إذا ما بلغت النصاب. ولو كانت لطعام صاحبها «4» .
10-
وقد اختلف في وجوب أداء صدقة غلة الأرض إن كان صاحبها مدينا فقال بعضهم بوجوبها وقال بعضهم بعدم وجوبها وتوسط بعضهم بإسقاط قيمة الدين فإن بقي نصاب تؤدى زكاته «5» . وهو الأوجه. والله أعلم.
11-
وأقوال العلماء القدماء على أن قيمة أدوات حرفة الصانع لا تدخل في تقويم ما يجب على صاحب الحرفة من زكاة ما يملكه من عروض ونقد في نهاية الحول.
غير أن الظروف الحاضرة غيرت الصورة بعض الشيء حيث صار هناك معامل
(1) كتاب الأموال ص 468 وما بعدها.
(2)
المصدر نفسه ص 463 وما بعدها.
(3)
المصدر نفسه ص 468 وما بعدها.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
ومصانع ودور صناعة ومهن تقدر قيمتها بمبالغ كبيرة. وقد أوجب بعض العلماء المعاصرين تقويمها وأداء الزكاة عن قيمتها. واعتبرها بعضهم مالا مجمدا كالأرض وأوجب الزكاة على ما تدره من ربح بعد طرح أجور العمال وأكلاف مواد العمل إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يربحه من هذه الأدوات إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يريحه من هذه الأدوات إذا بلغ ربحه النصاب أو زاد وحال عليه الحول وكان زائدا عن حاجة معيشته أثناء السنة. ومع ذلك فقد يكون أوجه من القول بأن على صاحب المصنع الكبير تقويم قيمة مصنعه وأداء الزكاة عنها. لأنه يقتضي أن يدفع زكاة قيمة مصنعه سنويا مضافا إليها ما زاد عن حاجته من أرباحه. فيكون قد دفع مضاعفا ودفع زكاة مال مجمد يستنفده الدفع في بضع سنين أيضا والله تعالى أعلم. بل ولعل القول الثاني أوجه من باب أولى أيضا لأن الأرض ثابتة ومستمرة الإغلال في حين أن المصنع معرض للاستهلاك مع الوقت ومحتاج إلى نفقة الترميم والإصلاح مستمرة أيضا مع شيء من التعديل. فزكاة غلة الأرض تؤدى حين حصادها وهذا مستند إلى نص قرآني وهو آية الأنعام هذه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [141] بقطع النظر عن حيلولة الحول. ونفقة حياة صاحبها. ثم إن زكاة الأرض التي تسقى بها والسواقي والآبار والنواضح تكون نصف زكاة الأرض التي تسقى بماء المطر والضخ بدون كلفة. ويلحظ أن زكاة غلة الأرض تبلغ نحو أربعة أضعاف زكاة النقد والعروض التجارية. والحكمة المتبادرة من ذلك هي أن الأرض لا يدفع عنها زكاة مع أنها ذات قيمة كبيرة لأنها مجمدة فاقتضت الحكمة أن تكون زكاة غلتها مضاعفة بالنسبة المذكورة وأن تدفع يوم حصادها وجنيها بقطع النظر عن حيلولة العام والله أعلم.
13-
وفي العصر الحديث صورة جديدة لم تكن في القديم وهي أسهم الشركات المساهمة التي يشتريها ويتداولها الناس ويأخذون ربحها حسب نتائج
وحسابات إدارة الشركات. ومع ما قد يرد على البال من فرق بين هذه وبين المصانع والعقارات المعدة للإيجار فإن الأسهم في يد صاحبها مجمدة.
والجمهور على أن دور السكن لا يؤخذ عن قيمتها زكاة ولكن صار يقوم عمارات متنوعة معدة للإيجار وبيوت للسكن وفنادق وحمامات ومخازن ودكاكين وأندية ومقاهي إلخ.. وهذه ذات قيمة كبيرة. ولكن الأموال مجمدة فيها وإذا أخذ زكاة قيمتها يكون جنفا على أصحابها لأن هذه الزكاة قد تبلغ نصف الريع أو ربعه ولذلك يتبادر لنا أيضا أن أسلوب غلة الأرض ينطبق على هذه أيضا فيكون زكاة هذه العمارات مستوجبا على ريعها. ويكون مضاعفة مثل غلة الأرض وريع المعامل والمصانع. ولما كانت هذه العمارات تحتاج إلى إصلاح وتجديد فتكون زكاتها مثل زكاة غلة الأرض التي تسقى بماء الآبار والضخ والله أعلم.
وقد يقال إن قياس المعامل والعمارات المعدة للإيجار على الأرض فيه تجوز لأن الأرض دائمة والمعامل والعمارات قد تزول غير أنه يتبادر لنا أن هذه العمارات والمعامل قد تدوم عشرات بل مئات السنين واستثناؤها من التعويض أكبر من نسبة النقد من جنف عن مورد الزكاة ومصارفها ولذلك لا نزال نرى أن مضاعفة زكاة ريعها يظل وجيها والله تعالى أعلم. على كل حال وربحها محدود لا يتجاوز العشرة في المائة من قيمتها. على أحسن الحالات. فيكون في إيجاب زكاتها حسب قيمتها مضاعفة لقيمة الزكاة وإجحافا لصاحبها الذي قد لا يكون له مورد آخر. ويتبادر لنا أن الزكاة الواجبة عليها هي زكاة ربحها حسب النصاب الشرعي بكامله دون المناصفة. لأن المناصفة جعلت لغلات الأرض التي تسقى بالآبار والنضح وقيس عليها المصانع والعقارات المعدة للإيجار لأنها في حاجة إلى ترميم. وهذا وذاك ليس واردا بالنسبة لإسهام الشركات والله تعالى أعلم.
14-
وهناك صورة أخرى. وهي ما يتقاضاه أرباب الوظائف الحكومية وغير الحكومية من مرتبات وما يحصل عليه أصحاب المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين من أجور. ومن هذه وتلك ما يكون كبير المقدار. ويتبادر
لنا أن ما يبقى في يدهم في آخر كل سنة خالصا لهم تجب عليه الزكاة إذا بلغ النصاب أو زاد. والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث عديدة في عدم التضييق والتشديد على الناس في مقاضاة الزكاة الواجبة عليهم. وفي إيجاب التزام الحق على الجباة. منها حديث رواه الإمام أبو عبيد وأبو داود أيضا عن رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته» «1» وحديث رواه الإمام مالك ورواه الخمسة أيضا عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بعث معاذا إلى اليمن «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات عن كل يوم وليلة. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة أموالهم. فإن أقروا بذلك فخذ منهم واتق كرائم أموالهم. وإياك ودعوة المظلوم فإنه ليس لها دون الله حجاب» «2» . وحديث رواه الإمام أبو عبيد عن عروة عن أبيه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فقال لا تأخذ من حزازات أنفس الناس شيئا. خذ الشارف والبكر وذا العيب» «3» وفي كتاب الأموال أحاديث صحابية تحتوي صورا تطبيقية فيها التزام لوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيمة.
ولقد أوردنا ما ورد من أحاديث نبوية في صدد وجوب أداء الزكاة وفي إنذار الذين لا يؤدونها في سياق تفسير الآية [34] من السورة. فنكتفي بهذه الإشارة لنربط بين تلك الأحاديث وبين بحث الزكاة.
وختاما نقول إن فحوى الآية متسق في هدفه التشريعي مع المبادئ القرآنية العامة في إيجابها على القادرين مساعدة المحتاجين والإنفاق في سبيل الله ووجوه البرّ والصالح العام من جهة، وفي عدم هذه الجهات هنا بالتطوع والتبرع من جهة ثانية، وفي جعل هذا الواجب مما يدخل في واجبات السلطان الإسلامي وجزءا من سياسة الدولة المالية والاجتماعية من جهة ثالثة. وفي هذا من المدى والروعة
(1) كتاب الأموال ص 401 والتاج ج 2 ص 26.
(2)
كتاب الأموال والتاج ج 2 ص 3 و 4.
(3)
كتاب الأموال 402- 406. [.....]