الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله سَبَب الانهماك فِي الْمعاصِي والمخالفات وَكَذَلِكَ مَتى مَا رأى كَثْرَة غرتها بِاللَّه تَعَالَى فليجتهد فِي تخويفها من غضب الله تَعَالَى وعقابه وأليم عَذَابه فَيكون بذلك وَاضِعا للخوف فِي موَاضعه وللرجاء فِي مظانه
89 -
فصل فِي الْغرَّة بأنواع دينه
وَهِي أَنْوَاع أَحدهَا كَثْرَة الرِّوَايَات والتبحر فِي علم الحَدِيث يغتر بِهِ من قَامَ بِهِ مُعْتَقدًا أَنه ينجيه نَاسِيا الِاعْتِمَاد على ربه مقصرا فِي طَاعَته محتقرا لعباد الله عز وجل عَاملا بِمَعْصِيَة الله تَعَالَى لَا يرى أَن أحدا يكافيه وَرُبمَا ارْتكب بَعضهم الْكَبَائِر مُعْتَقدًا ان مثله لَا يُؤَاخذ بذلك وتنفى الْغرَّة بذلك بِأَن يعلم أَن علمه حجَّة لله عز وجل عَلَيْهِ وَأَنه إِذا لم يعْمل بِالْعلمِ كَانَ وبالا عَلَيْهِ
وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث (إِن أول من يدْخل النَّار الْعلمَاء الَّذين لَا يعْملُونَ بعلمهم فَيَقُولُونَ أَي رَبنَا بُدِئَ بِنَا قبل عَبدة الْأَوْثَان فَيُقَال لَهُم لَيْسَ من علم كمن لم يعلم)
وَيَنْبَغِي أَن يواظب على هَذِه الملاحظة إِلَى أَن تَزُول غرته ويعتمد على
رَحْمَة ربه نَاظرا إِلَى قَوْله صلى الله عليه وسلم (لن يُنجي أحدكُم عمله) فَإِذا كَانَ الْعَمَل الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود لَا يُنجي فَمَا الظَّن بالوسيلة الَّتِي هِيَ الْعلم
النَّوْع الثَّانِي فِي الاغترار بالفقه والتبحر فِي معرفَة الْحَلَال وَالْحرَام وَسَائِر الْأَحْكَام والتأهل للْقَضَاء والفتيا فغرة هَذَا أَشد من غرَّة من تفرد بالرواية لِأَن هَذَا يعْتَقد أَن بِهِ قوام الدّين لمعرفته بِالشَّرْعِ ويعتقد أَنه هُوَ الطَّبِيب وَأَن الرَّاوِي هُوَ الصيدلاني فيعميه ذَلِك حَتَّى يخفى عَلَيْهِ أَكثر ذنُوبه وعيوبه وَإِن عرف ذنُوبه وعيوبه اعْتمد على علمه وَقَالَ مثلي لَا يُؤَاخذ بذلك وينفي الْغرَّة بذلك بِأَن يعلم أَن الْمعرفَة بِجلَال الله تَعَالَى وكماله وسعة رَحمته وَشدَّة نقمته وبمعرفة أَحْكَام الْقُلُوب وأعمالها أفضل من علمه الَّذِي وصل إِلَيْهِ وَاعْتمد عَلَيْهِ وَقد قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء}
قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما إِنَّمَا يخشاني من عبَادي من علم عزتي وملكوتي وسلطاني
وَكَذَلِكَ يكثر ذكر الْمعَاد وَمَا أعد الله تَعَالَى فِيهِ من الْحساب والمناقشة على الْأَعْمَال وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب
النَّوْع الثَّالِث الاغترار بِمَعْرِِفَة الْأَحْوَال والآداب وأخلاق النُّفُوس الذميمة والحميدة وَكَيْفِيَّة السَّعْي فِي إِبْطَالهَا وَتَقَلُّبهَا وَكَذَلِكَ معرفَة التَّعْظِيم والإجلال وَالتّرْك والإهمال وَالْخَوْف وأسبابه والرجاء وموجباته والمحبة والمهابة وَالتَّوْبَة وأركانها وشرائطها والزهد وَالرَّغْبَة ورتب المجهود فِيهِ والمرغوب فِيهِ والتوكل على الله تَعَالَى والرياء وَالْإِخْلَاص ويبالغ فِي حسن التَّعْبِير عَن ذَلِك كُله ويظن بجهله أَنه متصف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف توهما مِنْهُ أَن حسن الْعبارَة عَنْهَا تدل على تحقيقها فيعتقد أَنه راج وَهُوَ مغرور ويعتقد أَنه خَائِف وَهُوَ متوهم ويعتقد أَنه متوكل على الله تَعَالَى وَهُوَ متوكل على الْأَسْبَاب ويعتقد أَنه مقبل على الله وَهُوَ معرض عَنهُ ويعتقد أَنه محب مَعَ خلوه من آثَار الْحبّ ويعتقد أَنه مشمر وَهُوَ متهاون إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يُوهِمهُ الشَّيْطَان أَنه من أَهله وَلَيْسَ من أَهله
وَإِنَّمَا يعرف هَذَا غلطه بِأَن يجرب نَفسه فِيمَا يَدعِيهِ من الْأَوْصَاف فَإِن ادَّعَت عَلَيْهِ الْخَوْف جربها عِنْد همه بمعصيته لله تَعَالَى فَإِن أقدم على مَا هم بِهِ فَلَيْسَ بخائف ثمَّ ينظر فِي قطع الْإِصْرَار عَن ذَنبه وَالتَّوْبَة مِنْهُ فَإِن لم تسمح نَفسه بِالتَّوْبَةِ علم أَنه غير خَائِف لِأَن أول رتب الْخَوْف الْخَوْف من الذُّنُوب فَكيف يَدعِي الْخَوْف من لَيْسَ فِي رتب أدنى الْخَائِفِينَ
وَكَذَلِكَ توهمه نَفسه الزّهْد فِي الدُّنْيَا مَا دَامَ فاقدا لَهَا فَإِذا سنحت لَهُ الدُّنْيَا أخلد إِلَيْهَا وَأَقْبل عَلَيْهَا فَيعلم بذلك أَن زهده كَانَ من أماني نَفسه وَكَذَلِكَ يعْتَبر الْمحبَّة لله تَعَالَى بآثارها من الْأنس والمبادرة إِلَى الطَّاعَة وتجنب أَسبَاب السخط والالتذاذ بِذكرِهِ وحلاوة مناجاته وَكَثْرَة اللهج بِذكرِهِ فَإِذا لم يكن عِنْده ذَلِك علم أَن نَفسه قد كَذبته
وَكَذَلِكَ يعرف أَنه متوكل على الْأَسْبَاب دون رب الأرباب بِأَن يزِيل الْأَسْبَاب فَإِذا جزعت نَفسه لذَلِك علم أَنه كَانَ مُعْتَمدًا على الْأَسْبَاب دون رب الأرباب وَمِثَال ذَلِك بِأَن يكون لرزقه أَسبَاب يعْتَمد عَلَيْهَا كضيعة أَو صَنْعَة أَو راتبا أَو من يقوم بأَمْره من ولد ووالد فتسكن نَفسه إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَاب فيتوهم أَن سكونه إِلَى الله عز وجل فَإِذا أزيلت تِلْكَ الْأَسْبَاب جزعت نَفسه واضطربت وَتبين أَنَّهَا كَانَت مُعْتَمدَة على الْأَسْبَاب دون رَبهَا عز وجل
وَكَذَلِكَ يعْتَقد أَنه من المخلصين فِي أَعماله وأقواله وأحواله فَإِذا سنحت لَهُ أَسبَاب الرِّيَاء لم يملك نَفسه حَتَّى يرائي بأقواله وأعماله وأحواله
وَكَذَلِكَ يعْتَقد الْبَرَاءَة من الْكَذِب والإعجاب والإدلال بِالْأَعْمَالِ فَإِذا وَقعت أَسبَاب ذَلِك مَالَتْ نَفسه إِلَيْهِ وغلبته عَلَيْهِ وَإِنَّمَا غلط هَذَا فِيمَا اعتقده من الْأَحْوَال الْمَذْكُورَة من جِهَة أَن الْمُسلم الْمُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر لَا يَخْلُو عَن أصُول هَذِه الْأَحْوَال فَلَا يَنْفَكّ أحد من الْمُؤمنِينَ عَن الْإِخْلَاص لله تَعَالَى وَلَو فِي التَّوْحِيد وَلَا عَن التَّوَكُّل ولوفي حَال الشدائد وَلَا عَن محبَّة الله تَعَالَى إِمَّا لملاحظته جماله وكماله أَو بملاحظته إنعامه وإحسانه وإفضاله
وَقد جبلت النُّفُوس على حب من أنعم عَلَيْهَا وَأحسن إِلَيْهَا
وَكَذَلِكَ لَا تَخْلُو عَن الرَّجَاء عِنْد مُلَاحظَة سَعَة الرَّحْمَة وَلَا عَن الْخَوْف عِنْد مُلَاحظَة شدَّة النقمَة وَلَا عَن التَّوَكُّل عِنْد مُلَاحظَة توَحد الله تَعَالَى بالنفع والضر
فَلَمَّا كَانَت أصُول الْأَحْوَال مَوْجُودَة فِيهِ توهم أَن تِلْكَ الْأَحْوَال فِي رتب الْكَمَال فَإِذا دعى النَّاس إِلَى شَيْء من ذَلِك فَإِن أوهمهم أَنه متصف بِأَعْلَى رتب هَذِه الْأَحْوَال فقد تصنع بِمَا لَيْسَ فِيهِ بِلِسَان الْحَال إِلَّا أَن يَقع فِي أثْنَاء ذَلِك قَول يدل على ذَلِك فَيكون متصنعا بِلِسَان الْمقَال و (المتشبع بِمَا لَيْسَ فِيهِ كلابس ثوبي زور)
النَّوْع الرَّابِع الاغترار بِمَا يحفظ من كَلَام الْقصاص والوعاظ والمذكرين وَلَا يفهم مَعَانِيه وَلَا يعرف صَحِيحه من فاسده فَتَارَة يحدث بِهِ الْعَامَّة وَتارَة يخص بِهِ أَصْحَابه وَهُوَ مغتبط بِهِ يظنّ أَنه سَبَب نجاته ويقتصر فِي ذَلِك فِي طَاعَة ربه وينتفي الاغترار بذلك بِأَن يعرض أَعماله على أَقْوَاله فَإِذا وجد نَفسه واصفة للزهد وَهُوَ من الراغبين وللخوف وَهُوَ من الْآمنينَ وللإخلاص وَهُوَ من المرائين وللعفاف وَهُوَ من الْفَاسِقين وللاجتهاد وَهُوَ من الْمُقَصِّرِينَ وللإقبال على الله وَهُوَ من المعرضين علم حِينَئِذٍ أَنه من المغترين
النَّوْع الْخَامِس الاغترار بِعلم الْكَلَام والجدل وَالرَّدّ على أهل الْأَدْيَان وَإِبْطَال مذاهبهم وَالرَّدّ على أهل الْبدع وَإِبْطَال بدعهم ودحض حججهم يعْتَقد أحدهم أَنه لَا يعرف الله تَعَالَى سواهُ وَأَنه لَا يَصح الْعَمَل إِلَّا بِأَحْكَام مَا عرفه وهم مَعَ ذَلِك حُفَاة عصاة يظنون علمهمْ ينجيهم من سخط رَبهم فَمنهمْ من يضيع الصَّلَوَات وَيتبع الشَّهَوَات وَلَا يقدرُونَ لأحد قدرا وَلَا يُقِيمُونَ لَهُ وزنا وتنتفي غرَّة هَؤُلَاءِ بِأَن يعلمُوا بَان الْكتاب وَالسّنة مشتملان على الْمُحكم والمتشابه وَأَن النّظر بِالْعقلِ قد يُخطئ ويصيب وَلَا يغره جزمه بمذهبه فَإِن خَصمه كَذَلِك جازم بمذهبه مضلل غَيره {وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء أَلا إِنَّهُم هم الْكَاذِبُونَ}
وَالطَّرِيق فِي استقامة الِاقْتِدَاء بِمَا اتّفق عَلَيْهِ السّلف الصَّالح فِي أصُول الدّين وفروعه فيتابعه فَلَا يلْزمه سوى ذَلِك وَمِمَّا ينجع فِيهِ أَن الِاعْتِقَاد قد يلتبس بِالْعلمِ فيظن المعتقد الْجَازِم بانه عَارِف عَالم وبمثل هَذَا ضل أَكثر الْمُخْتَلِفين وَيدل على ذَلِك أَن الْإِنْسَان يقطع بالشَّيْء ويجزم بِهِ ثمَّ يظْهر لَهُ بطلَان جزمه لاعتقاد يَعْتَقِدهُ أَو علم يُعلمهُ فالجزم أَن يتَمَسَّك بِالسنةِ الَّتِي درج النَّاس عَلَيْهَا وَأَن لَا يتعداها إِلَى غَيرهَا لما فِي ذَلِك من المخاطرة بِالدّينِ وَمُخَالفَة سيد الْمُرْسلين صلى الله عليه وسلم وَالسَّلَف الصَّالِحين رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ
النَّوْع السَّادِس الاغترار بِالْعبَادَة والزهادة والتقشف وَالصِّيَام وَالْقِيَام وَدَعوى محبَّة الله عز وجل حَتَّى يصعق أحدهم عِنْد ذكره ويتغاشى فِي السماع إيهاما لغَلَبَة الْحبّ عَلَيْهِ
وَمن هَؤُلَاءِ من يتْرك الأهم بِمَا لَيْسَ كَذَلِك ككسب الْحَلَال وتضييع الْعِيَال وَالْخُرُوج لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة بِغَيْر زَاد وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا وكل من هَؤُلَاءِ مُعْتَقد أَنه قد أَقَامَ التَّقْوَى على حُدُودهَا وحقوقها وَأَنه قد صَار إِلَى منَازِل الْمُتَّقِينَ الورعين
وَطَرِيقه فِي نفي ذَلِك أَن يعْتَبر اكتسابه وأقواله وأعماله وَجَمِيع أَحْوَاله فَإِذا بحث عَن كَسبه وجده حَرَامًا أَو شُبْهَة فقد تبين لَهُ مجانبة التَّقْوَى فِي مكسبه وَإِذا حج بِغَيْر زَاد زاعما أَنه متوكل على ربه تَعَالَى فليعتبر توكله بِمَا ذَكرْنَاهُ عِنْد ارْتِفَاع الْأَسْبَاب وليعلم أَنه مُخَالف لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فِي تزودهم فِي أسفارهم لِلْحَجِّ وَغَيره
وَإِن ظهر أَن أَقْوَاله وأعماله مُوَافقَة فِي ظَاهرهَا للْكتاب وَالسّنة فَلْينْظر فِي إخلاصها لله عز وجل وليعرضها فِي نَفسه عملا عملا فَإِذا اطلع على تَصنعهُ وريائه زَالَت
غرته بأعمال كَانَ يعْتَقد صِحَّتهَا وَهِي بَاطِلَة عِنْد الله تَعَالَى بالرياء وَكَذَلِكَ يعْتَبر جَمِيع أَعماله الظَّاهِرَة والباطنة فَإِذا اطلع من ذَلِك على نَفسه زَالَت غرته وَأَقْبل على إصْلَاح أَعماله وأقواله
النَّوْع السَّابِع الاغترار بالتورع فِي المآكل والمشارب والملابس مَعَ ظن فَاعل ذَلِك أَنه قد قَامَ بالتقوى فِي جَمِيع مَا أَمر بِهِ وَهُوَ مضيع لكثير من التَّقْوَى فِي ظَاهره وباطنه ظنا مِنْهُ أَن تقشفه فِي الْمطعم والملبس ينجيه وينفي اغتراره بذلك بَان يعلم أَن التَّقْوَى لَيست بمحصورة فِيمَا تورع فِيهِ وَأَنَّهَا مُتَعَلقَة بالقلوب والأسماع وَسَائِر الْأَعْضَاء وَأَن الله سبحانه وتعالى توعد من أضاع تقواه بِالْعَذَابِ الشَّديد مَعَ طيب مشربه ومطعمه وملبسه
النَّوْع الثَّامِن الاغترار بالخلوة وَالْعُزْلَة والانقطاع عَن النَّاس مَعَ الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا وَالسُّرُور بِمَا ينْسبهُ النَّاس إِلَيْهِ من الِانْقِطَاع إِلَى الله عز وجل وينفي الاغترار بذلك بِأَن ينظر فِيمَا حرمه الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ظَاهره وباطنه من
حِين كلف وَإِلَى وقته فَلَا يكَاد أَن يسلم فِي ذَلِك كُله بل لَا يسلم فِي بعضه فَكيف يغتر بانقطاعه وعزلته مَعَ وُقُوعه فِي مَعْصِيّة ربه الَّتِي قد تحبط أَعماله وَتسقط آماله
ثمَّ ينظر بعد ذَلِك فِي جَمِيع مَا أوجبه الله تَعَالَى عَلَيْهِ فَلَا يكَاد يسلم من تفريطه فِي وَاجِب أَو وَاجِبَات فَإِن ظهر تفريطه فِيهَا لم يَأْمَن من أَن يكون تفريطه سَببا لإحباط عمله وحسناته وَفِي التَّنْزِيل {لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون}
وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث (إِن من ضيع صَلَاة الْعَصْر حَبط عمله) وَإِن أَتَى بهَا على وَجههَا لم يَأْمَن الرِّيَاء المحبط لَهَا وَإِن أخلصها لم يَأْمَن التصنع بهَا فَإِن لم يتصنع بهَا لم يَأْمَن الْإِعْجَاب بهَا والإدلال بهَا على ربه والتكبر بهَا على عباد الله تَعَالَى فَإِن سلم لَهُ ذَلِك لم يَأْمَن من إحباطه بِبَعْض ذنُوبه وَفِي إحباط الْعَمَل بالعجب نظر
النَّوْع التَّاسِع الاغترار بالغزو وَالْحج وَقيام اللَّيْل وَصَوْم النَّهَار مَعَ تَضْييع أَكثر التَّقْوَى الظَّاهِرَة والباطنة وَترك التفقد لأقواله وأعماله وأحواله ظنا مِنْهُ أَن مثله لَا يحْتَاج إِلَى التفقد ونسيانا لتضييع الْوَاجِبَات وارتكاب المنهيات وتنتفي الْغرَّة بذلك بِمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْفَصْل قبله
واغترار الَّذِي قبله
بالعزلة والانقطاع أقبح من اغترار هَذَا لِأَن ذَلِك اغترار بمندوب لَيْسَ بمفروض وَلَيْسَت رتبته فِي المندوبات كرتبة الْقيام وَالصِّيَام وَالْحج والغزو وَلَا يَقع إِلَّا وَاجِبا لِأَن الصُّفُوف إِذا الْتَقت تعين الْقِتَال
النَّوْع الْعَاشِر الاغترار برعاية التَّقْوَى الظَّاهِرَة والباطنة والاهتمام بتقديمها على غَيرهَا من الطَّاعَات المسنونات والمندوبات مَعَ اعْتِقَاد أحدهم التوحد فِي عصره وَأَنه النَّاجِي دون غَيره وَهُوَ لَو سلمت تقواه لَهُ لم يَأْمَن أَن يحبط الله تقواه بِمَا يَقع مِنْهُ فِي الِاسْتِقْبَال أَو أَن يعذبه بِمَا تقدم من ذنُوبه قبل تقواه
وينتفي الاغترار بذلك بِأَن يعرض تقواه على تقوى سلف هَذِه الْأمة وخوفه على خوفهم ووجله على وجلهم واستشعار نَفسه على استشعار أنفسهم فقد كَانُوا كَمَا وَصفهم رَبهم بقوله {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا} من التَّقْوَى وَالطَّاعَة {وَقُلُوبهمْ وَجلة أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون} أَي خائفة من رجوعهم إِلَى جَزَاء رَبهم وَلَقَد انْتهى بهم الوجل وَالْخَوْف إِلَى أَن تمنى أحدهم أَن يكون شَجَرَة تعضد وَتمنى بَعضهم أَن يكون كَبْشًا سمنه أَهله فذبحوه وأكلوه وَقد كَانَ سيد الْأَوَّلين والآخرين صلى الله عليه وسلم أخوفهم لله تَعَالَى مَعَ أَن هَذَا المغتر بتقواه لَا يَأْمَن أَن يكون ضيع من التَّقْوَى مَا يحبط تقواه
النَّوْع الْحَادِي عشر الاغترار بالعزم على التَّقْوَى وبالعزم على الْأَفْعَال الرضية وَالْأَحْوَال السّنيَّة كالبصر والتوكل وَالرِّضَا وَالْإِخْلَاص وَغير ذَلِك من الْأَحْوَال الْعلية وبالعزم على ترك الْأَخْلَاق الدنية كالغضب والحسد والرياء
ويظن كل من هَؤُلَاءِ أَنه من أهل مَا عزم عَلَيْهِ بِمُجَرَّد عزمه فَإِذا سنحت لَهُ الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للمعزوم جَاشَتْ عَلَيْهِ نَفسه فَخرج عَمَّا عزم عَلَيْهِ إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِ فَيَزْدَاد غروره لاعْتِقَاده أَنه من أهل مَا عزم عَلَيْهِ
مِثَال ذَلِك أَن يعزم على الصَّبْر على مَا يُصِيبهُ فَإِذا حضر مَا يصبر عَلَيْهِ كَذبته نَفسه وَجَزِعت
وَكَذَلِكَ يعزم على الْإِخْلَاص فَإِذا وجد من يرائيه جَاشَتْ نَفسه إِلَى الرِّيَاء وَحَمَلته عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ يعزم على الرِّضَا بِالْقضَاءِ فَإِذا نزل الْقَضَاء كَانَ من أَسخط النَّاس بِهِ وتنتفي الْغرَّة بذلك بِأَن يتامل التَّفْرِقَة بَين الْعَزْم وَبَين المعزوم عَلَيْهِ فَيعلم أَن الْعَزْم على الْإِخْلَاص لَيْسَ بإخلاص وعَلى التَّوَكُّل لَيْسَ بتوكل وعَلى الْحلم لَيْسَ بحلم وعَلى الصَّبْر لَيْسَ بصبر وعَلى الرِّضَا لَيْسَ بِرِضا وَأَنه مغرور بِعَمَل لم يصدر مِنْهُ بِخِلَاف من تقدم ذكره من المغرورين فَإِنَّهُم صدرت مِنْهُم أَعمال وأحوال اغتروا بهَا واعتمدوا عَلَيْهَا
النَّوْع الثَّانِي عشر الاغترار بستر الله تَعَالَى على الذُّنُوب والعيوب وبإمهاله عَن الْمُؤَاخَذَة مَعَ تَضْييع كثير من حُقُوق الله تَعَالَى ظنا مِنْهُ أَن الله