الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على سبيل المجاز فاعلم ذلك.
[التّنبيه الثّاني: في الفوائد المقصودة: من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم]
التّنبيه الثّاني: في الفوائد
…
على سبيل المجاز) ، ولكلّ من الصورتين أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع. كقوله:
«أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» . وقوله: «إنّ العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصّائم القائم» ، وقوله:«بعثت، لأتمّم مكارم الأخلاق» . وكذلك جاءت في ذمّ سوء الخلق أيضا أحاديث كثيرة، (فاعلم ذلك) والله يتولّى هداك.
فائدة: قال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: الأحاديث التي فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم داخلة في قسم المرفوع بالاتفاق، مع أنّها ليست قولا له صلى الله عليه وسلم، ولا فعلا، ولا تقريرا. انتهى.
(التّنبيه الثّاني: في) بيان (الفوائد) جمع فائدة؛ وهي- لغة-: ما استفدته من علم، أو مال، أو غيرهما؛ كجاه، واصطلاحا-: المصلحة المترتّبة على الفعل من حيث إنّها ثمرته ونتيجته. وأما من حيث إنّها في طرف الفعل: فتسمّى «غاية» . فالفائدة والغاية متّحدان ذاتا؛ مختلفان اعتبارا، كما أن العلّة والغرض كذلك. فالعلّة: هي المصلحة المترتبة على الفعل من حيث إنّها باعثة للفاعل على الفعل، وأما من حيث إنّها مقصودة للفاعل من الفعل؛ فتسمى «غرضا» .
والفائدة والغاية أعمّ من العلّة والغرض عموما مطلقا، فتجتمع الأربعة فيما لو حفر بقصد الماء وبعد تمام الحفر ظهر الماء، فإنّ هذا الماء يسمّى «فائدة» من حيث إنّه نتيجة الحفر، ويسمّى «غاية» من حيث إنه في طرف الحفر، ويسمّى «علّة» من حيث إنّه باعث على الحفر، ويسمّى «غرضا» من حيث إنّه مقصود من الحفر.
فاختلفت العبارات باختلاف الاعتبارات، وقد يوجد الأوّلان- أي: الفائدة
المقصودة: من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم ليس المقصود من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم مجرّد معرفة علم تاريخيّ تميل إليه النّفوس، وتجنح إليه القلوب، ويتحدّث به في المجالس، ويستشهد به على المقاصد، ونحو ذلك من الفوائد.
وإنّما المقصود من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم فوائد أخرى مهمّة في الدّين.
منها: التّلذّذ بصفاته العليّة وشمائله الرّضيّة صلى الله عليه وسلم.
والغاية- ولا يوجد الأخيران- أي: العلة والغرض- كما لو حفر بقصد الماء فبعد تمام الحفر ظهر كنز؛ فيقال له «فائدة» ؛ لأنه نتيجة الحفر، ويقال له «غاية» ؛ لأنه في آخر الحفر، ولا يقال له علة؛ ولا غرض!! لأنه لم يكن باعثا على الحفر، ولا مقصودا للحافر من الحفر. والله أعلم.
(المقصودة) للمؤلفين (من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم في الكتب.
اعلم أنّه (ليس المقصود من جمع شمائله) : أوصافه صلى الله عليه وسلم مجرّد معرفة علم تاريخيّ تميل إليه) الأفئدة، وترتاح إليه (النّفوس) ، وتسرّ به الأرواح، وتنشرح له الصدور، (وتجنح إليه القلوب) ، وتلتذّ به الأسماع، وتتنزّه فيه الأبصار، (ويتحدّث) - بضمّ أوّله- (به) أي: يذكر ويروى (في المجالس) للاطلاع على سيرة من تقدّم، وللإحاطة بأخبار من سبق، (ويستشهد) - مبنيا للمجهول- أي:
يؤتى (به) شاهدا (على المقاصد) والأغراض التي تراد، (ونحو ذلك من الفوائد) التاريخية. لا؛ ليس المقصود ذلك.
(وإنّما المقصود من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم في الكتب (فوائد) - أي: حصول فوائد (أخرى) - زائدة على ما تقدّم (مهمّة) - أي: يهتم بها- (في الدّين) ويتقرّب بها إلى ربّ العالمين. (منها) أي: هذه الفوائد الأخرى: (التّلذّذ) أي: حصول اللذّة- (بصفاته العليّة) الكاملة، (وشمائله الرّضيّة) ، لأنّ في ذكرها وسماعها تنعّما وتلذّذا بحبيب القلوب وقرّة العيون صلى الله عليه وسلم ،
- ومنها: التّقرّب إليه صلى الله عليه وسلم، واستجلاب محبّته ورضاه بذكر أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة، كما يتقرّب الشّاعر إلى الكريم بذكر أوصافه الجميلة، وخصاله النّبيلة.
ولا شكّ أنّ جمع
…
وهو ضرب من الوصال به صلى الله عليه وسلم، ووجه من وجوه القرب منه صلى الله عليه وسلم والاجتماع به؛ لما فيه من إمتاع حاسّة السمع واللسان بأوصاف المحبوب الذي هو وسيلة إلى حضوره بالقلب، فإذا فات النظر إليه بالبصر؛ لم يفت التمتّع به بالسمع والنظر إليه بالبصيرة. كما قال بعضهم:
يا واردا من أهيل الحيّ يخبرني
…
عن جيرتي شنّف الأسماع بالخبر
ناشدتك الله يا راوي حديثهم
…
حدّث فقد ناب سمعي اليوم عن بصري
وقال بعضهم في مدح الشمائل مشيرا إلى المعنى:
أخلّاي إن شطّ الحبيب وربعه
…
وعزّ تلاقيه وناءت منازله
وفاتكم أن تنظروه بعينكم
…
فما فاتكم بالسّمع هذي شمائله
وقال بعضهم في المعنى:
يا عين إن بعد الحبيب وداره
…
ونأت مرابعه وشطّ مزاره
فلقد ظفرت من الحبيب بطائل
…
إن لّم تريه فهذه آثاره
(ومنها التّقرّب إليه) ؛ أي: طلب القرب منه صلى الله عليه وسلم، واستجلاب) أي:
طلب جلب (محبّته ورضاه) ؛ بأن يكون جامع الشمائل محبوبا عنده صلى الله عليه وسلم، وراضيا عنه؛ بسبب خدمة جنابه صلى الله عليه وسلم، وتعظيم قدره والثناء عليه (بذكر أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة) ، وفي ذلك تعلّق به وتودّد، واستعطاف وانتساب، وتعرّض لنفحات فضل الممدوح، واستمطار لسحائب إحسانه، واستنزال لغزير برّه وامتنانه، وتقرّب إليه بفتح أبواب خزائن ما يأتي من قبله، (كما يتقرّب الشّاعر إلى) الممدوح (الكريم بذكر أوصافه الجميلة) الحسنة، (وخصاله النّبيلة) العظيمة، لأنّ الكرام إذا مدحوا أجزلوا المواهب والعطايا، (ولا شكّ أنّ جمع
شمائله صلى الله عليه وسلم ونشرها.. هو أفضل وأكمل من مدحه بالقصائد، وقد رضي عمّن مدحه بها ك: حسّان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير رضي الله تعالى عنهم، وكافأهم على ذلك.
شمائله صلى الله عليه وسلم ونشرها) بين الناس لتتعطّر بها المجالس والمدارس (هو أفضل وأكمل من مدحه) صلى الله عليه وسلم (بالقصائد، وقد رضي عمّن مدحه بها؛ ك «حسّان) بن ثابت بن المنذر الأنصاري الخزرجي، أبي الوليد، الصحابي شاعر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وأحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وعاش ستين سنة في الجاهلية وستّين سنة في الإسلام، وكان من سكّان المدينة المنورة، وتوفي بها سنة: - 54- أربع وخمسين. وعمي قبيل موته. رضي الله تعالى عنه.
(وعبد الله بن رواحة) بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي؛ أبي محمد، صحابي، يعدّ من الأمراء والشعراء الراجزين، كان يكتب في الجاهلية، وشهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان أحد النقباء الاثني عشر، وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في إحدى غزواته، وصحبه في عمرة القضاء، وله فيه رجز، وكان أحد الأمراء في وقعة مؤتة- بأدنى البلقاء، من أرض الشام- فاستشهد فيها سنة: - 8- ثمان من الهجرة النبوية. رضي الله تعالى عنه.
آمين.
(وكعب بن زهير) بن أبي سلمى المازنيّ؛ أبي المضرّب، شاعر عالي الطبقة؛ من أهل نجد، له ديوان شعر، وكان ممن اشتهر في الجاهلية، ولما ظهر الإسلام هجا النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام يشبّب بنساء المسلمين؛ فهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه؛ فجاء كعب مستأمنا وقد أسلم، وأنشده لاميّته المشهورة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وخلع عليه بردته، وكانت وفاته سنة: ست وعشرين هجرية. رحمهم الله تعالى و (رضي الله تعالى عنهم) أجمعين.
(و) قد (كافأهم) النبي صلى الله عليه وسلم (على ذلك) المديح.
فلا شكّ أنّه يرضى عمّن يعتني بجمع شمائله ونشرها صلى الله عليه وسلم. - ومنها: تعرّضنا لمكافأته صلى الله عليه وسلم على إحسانه إلينا، وإنقاذه إيّانا من ظلمات الضّلال إلى أنوار الهدى، ومن الشّقاوة الأبديّة إلى السّعادة السّرمديّة، وهذه نعمة كبرى لا تمكن مقابلتها بشيء، ولا يقدر على مكافأته عليها إلّا الله تعالى.
فجزاه الله تعالى عنّا أفضل ما جزى به مرسلا عمّن أرسل إليه، فإنّه (فلا شكّ أنّه يرضى عمّن يعتني بجمع شمائله ونشرها) للناس تعلّما وتعليما؛ على أنّ في ذلك تعرّضا لنفحات الرحمة الإلهية، لأنه إذا كانت رحمته تعالى تتنزّل عند ذكر الصالحين؛ فما بالك بسيّد الصالحين وسندهم وممدّهم صلى الله عليه وسلم !!! فأدنى انتساب إليه يحصّل غاية النفع والشرف، إذ لم يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما.
(ومنها) - أي: الفوائد-. (تعرّضنا لمكافأته صلى الله عليه وسلم على إحسانه إلينا) ؛ أداء لبعض ما يجب له صلى الله عليه وسلم، إذ هو الواسطة بين الله وبين عباده، فكل خير ونعمة وبركة؛ قلّت أو جلّت، منه حصلت، وبطلعته ظهرت، (و) أعظمها إحسانه إلينا ب (إنقاذه) أي: تخليصه (إيّانا من ظلمات الضّلال) : الكفر (إلى أنوار الهدى) : الإسلام، (و) إخراجه إيّانا (من الشّقاوة الأبديّة) أي: التي لا نهاية لها، (إلى السّعادة السّرمديّة) المستمرّة، (وهذه نعمة كبرى) ، بل هي أكبر النعم على الإطلاق، إذ (لا تمكن مقابلتها) ؛ أي: موازنتها (بشيء) من النّعم الباقية الواصلة إلينا منه صلى الله عليه وسلم، (ولا يقدر على مكافأته) : جزائه (عليها إلّا الله تعالى) ، وإذا كان الإنسان يحبّ من منحه من دنياه- مرّة؛ أو مرتين- معروفا فانيا منقطعا، أو استنقذه من هلكة، فما بالك بمن منحه منحا لا تبيد ولا تزول، ووقاه من العذاب الأليم ما لا يفنى ولا يحول؟!!
(فجزاه الله تعالى عنّا أفضل ما جزى به مرسلا عمّن أرسل إليه، فإنّه) - أي:
أنقذنا به من الهلكة، وجعلنا من خير أمّة أخرجت للنّاس، دائنين بدينه الّذي ارتضى واصطفى به ملائكته، ومن أنعم عليه من خلقه، فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت
…
الله- تعالى (أنقذنا) : خلّصنا (به) ببعثته صلى الله عليه وسلم (من الهلكة) ؛ أي: الهلاك، وهو ظلمة الكفر، إلى نور الإيمان، وأخرجنا به من نار الجهل إلى جنان المعارف والإيقان، (وجعلنا من خير أمّة أخرجت للنّاس)، وخيريّة الأمّة بخيرية نبيّها (دائنين) ؛ أي: متعبّدين (بدينه الّذي ارتضى) ؛ وهو الإسلام، (واصطفى به ملائكته، ومن أنعم عليه) به (من خلقه) من النبيين والصّديقين، والشهداء والصالحين، وسائر عباده المؤمنين، (فلم تمس) - بضمّ أوله- ولم تصبح (بنا نعمة) من الله علينا (ظهرت ولا بطنت) ؛ مأخوذ من قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً)[20/ لقمان] .
وقد أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن عطاء قال: سألت ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً)[20/ لقمان] قال: هذا من كنوز علمي؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أمّا الظّاهرة؛ فما سوّى من خلقك، وأمّا الباطنة؛ فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم» .
وأخرج البيهقيّ، والديلميّ، وابن النّجار؛ عنه أيضا: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال:«أمّا الظّاهرة؛ فالإسلام، وما سوّى من خلقك، وما أسبغ عليك من رزقه، وأمّا الباطنة؛ فما ستر من عملك» .
وفي رواية عنه موقوفة: «النّعمة الظاهرة: الإسلام، والباطنة: ما ستر عليك من الذنوب والعيوب والحدود» ؛ أخرجه ابن مردويه عنه.
وفي رواية عنه موقوفة أيضا: «النّعمة الظاهرة والباطنة هي: لا إله إلّا الله» ؛ أخرجها عنه ابن جرير وغيره. وتفسيرهما ما قاله مجاهد: نعمة ظاهرة؛ هي لا إله إلّا الله على اللسان، وباطنة؛ قال: في القلب. أخرجها سعيد بن منصور، وابن جرير.
نلنا بها حظّا في دين ودنيا، أو رفع بها عنّا مكروه فيهما، أو في أحد منهما.. إلّا ومحمّد صلى الله عليه وسلم سببها القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها.
(نلنا بها) ؛ أي: بسببها (حظّا) : نصيبا (في دين) ، كالعلم والعمل والمعرفة، (ودنيا) ، كالجاه والقبول، (أو رفع بها) : بسببها (عنّا مكروه) :
شيء نكرهه (فيهما)، أي: في الدين والدنيا؛ (أو في أحد منهما) في الدين أو الدنيا (إلّا و) حبيبنا (محمّد صلى الله عليه وسلم سببها) ؛ أي: سبب في حصولها، وواسطة في وصولها، وهو (القائد) : اسم فاعل، من:«قاده يقوده» ؛ أي: جذبه من أمامه بسبب حسّي؛ أو معنوي ليتبعه (إلى خيرها، والهادي) : الدّالّ (إلى رشدها) . فله صلى الله عليه وسلم علينا من الأيادي العظيمة، والمنن الجسيمة؛ دين ودنيا وآخرة ما لا يحصى بحيث أنّا نسبح فيها؛ ونتقلب ظهرا لبطن. ولا منعم من الخلق مثله، لأنه الواسطة لنا في كلّ خير، وجميع النعم التي وصلت إلينا من الله تعالى السابقة واللاحقة من نعمة الإيجاد والإمداد في الدنيا والآخرة، فنعمه علينا تابعة لنعم الله تعالى، ونعم الله تعالى لا يحصيها عدد (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها)[34/ إبراهيم] ، فهو صلى الله عليه وسلم الواسطة بين الله وبين خلقه في كلّ نعمة؛ يفيضها الباري أوّلا عليه، ومنه تتفرّع إلى المخلوق.
قال سيدي عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس: كلّ من حصلت له الرحمة في الوجود، أو خرج له قسم من رزق الدنيا والآخرة، والظاهر والباطن، والعلوم والمعارف والطاعات؛ إنما خرج له ذلك على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبواسطته صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقسم الجنّة بين أهلها، ولذلك عدّوا من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنّه أعطي مفاتيح خزائن أجناس العالم، فيخرج لهم بقدر ما يطلبون بحسب القسمة الإلهية، فكلّ ما ظهر في هذا العالم؛ فإنما يعطيه سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بيده المفاتيح، فلا يخرج شيء من الخزائن الإلهية إلّا على يديه صلى الله عليه وسلم، وهو معنى اسم «الخليفة» ، فلا طاقة لأحد بالنّفي والشهود بدون واسطته صلى الله عليه وسلم، فهو المرآة الكبرى والمجلى الأعظم،
.........
وأقواله وأفعاله كلّها دائرة على الدلالة على الله تعالى والتعريف به، ولا نهاية للمعرفة، فما دام الإنسان يترقّى فيها؛ فهو مغترف من بحره ومستمدّ منه، حتى الأنبياء والمرسلون، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكلّهم من رسول الله ملتمس
…
غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم
انتهى. ملخّصا من «تقريب الوصول» للسيد أحمد دحلان رحمه الله تعالى.
وقال سيّدي عبد العزيز الدبّاغ- رضي الله تعالى عنه، ونفعنا ببركاته- في كتاب «الإبريز» : إنّ أرباب الكشف والعيان يشاهدون سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم، ويشاهدون ما أعطاه الله عز وجل وما أكرمه الله به مما لا يطيقه غيره، ويشاهدون غيره من المخلوقات؛ الأنبياء والملائكة وغيرهم، ويشاهدون ما أعطاهم الله من الكرامات، ويشاهدون المادّة سارية من سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم إلى كلّ مخلوق في خيوط من نور فائضة من نوره صلى الله عليه وسلم؛ ممتدّة إلى ذوات الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام وذوات غيرهم من المخلوقات، ويشاهدون عجائب ذلك الاستمداد وغرائبه. قال رضي الله تعالى عنه: ولقد أخذ بعض الصالحين طرف خبزة ليأكله، فنظر فيه وفي النعمة التي رزقها بنو آدم؛ قال: فرأى في ذلك الخبز خيطا من نور، فتبعه بنظره فرآه متصلا بخيط نوره الذي اتصل بنوره صلى الله عليه وسلم، فرأى الخيط المتصل بالنور الكريم واحدا، ثم بعد أن امتدّ قليلا جعل يتفرّع إلى خيوط؛ كلّ خيط متّصل بنعمة من نعم تلك الذوات.
قال تلميذه سيّدي أحمد بن المبارك: وصاحب هذه الحكاية هو الشيخ نفسه.
قال: وقال رضي الله تعالى عنه: ولقد وقع لبعض أهل الخذلان- نسأل الله تعالى السلامة- أنّه قال: «ليس لي من سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلّا الهداية إلى الإيمان، وأما نور إيماني؛ فهو من الله عز وجل، لا من النبي صلى الله عليه وسلم» . فقال له الصالحون:
أرأيت إن قطعنا ما بين نور إيمانك وبين نوره صلى الله عليه وسلم، وأبقينا لك الهداية التي ذكرت؛ أترضى بذلك!؟ فقال: نعم، رضيت. قال رضي الله عنه: فما تمّ كلامه حتّى
وهذه العبارة من قوله: (.. فجزاه الله
…
إلى آخرها) عبارة إمامنا الشّافعيّ
…
سجد للصليب وكفر بالله ورسوله؛ ومات على كفره!! نسأل الله تعالى السلامة والحماية، والتوفيق والهداية. انتهى ملخّصا، نقله المصنف في كتابه «حجّة الله على العالمين» وأطال في هذا الموضوع، فليراجع ثمة.
وقد ضمّن المصنف هذا المعنى الذي قاله سيّدي عبد العزيز في همزيته: «طيبة الغراء» ؛ فقال:
مصدر المكرمات موردها العذ
…
ب كرام الورى به كرماء
أفرغ الله فيه كلّ العطايا
…
والبرايا منه لها استعطاء
إنّما ما حوى الزّمان من الفض
…
ل وما حازه به الفضلاء
كلّه عنه فاض من غير نقص
…
مثل ما فاض عن ذكاء الضّياء
قال المصنف: (وهذه العبارة من قوله: (فجزاه الله
…
إلى آخرها) عبارة إمامنا) وإمام الأئمة المجتهد المطلق:
أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع (الشّافعيّ) ؛ نسبة إلى جدّه شافع، القرشي المطّلبي المكي،
أحد الأئمة الأربعة؛ أصحاب المذاهب المتبوعة المشتهرة، عالم قريش ومجدد الدين على رأس المائتين.
ولد ب «غزّة» ؛ من أرض فلسطين، سنة: - 150- مائة وخمسين هجرية، وحمل منها إلى مكة؛ وهو ابن سنتين، وحفظ القرآن؛ وهو ابن سبع سنين، وحفظ «الموطأ» ؛ وهو ابن عشر، وأفتى؛ وهو ابن خمس عشرة سنة.
وكان يحيي الليل إلى أن مات.
وزار بغداد مرتين، وبها ألّف مذهبه القديم.
وقصد مصر ونزلها سنة: - 199- تسع وتسعين ومائة، وبها ألّف مذهبه
رضي الله تعالى عنه نقلتها من «رسالته» الّتي رواها عنه صاحبه الرّبيع بن سليمان رحمه الله تعالى.
ومنها: أنّ معرفة شمائله الشّريفة تستدعي محبّته صلى الله عليه وسلم؛
…
الجديد، وتوفي بها (رضي الله تعالى عنه) سنة: - 204- أربع ومائتين هجرية؛ وعمره أربع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة، وقبره معروف يزار.
قال المبرّد: كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم، وأعرفهم بالفقه والقراءات.
وقال الإمام أحمد ابن حنبل: ما أحد ممّن بيده محبرة، أو ورق؛ إلّا وللشافعي في رقبته منّة.
وكان من أحذق قريش بالرمي؛ يصيب من العشرة عشرة. برع في ذلك أوّلا كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب، ثم أقبل على الفقه والحديث.
وكان ذكيا مفرط الذكاء، آية في الحفظ، له تصانيف كثيرة تدلّ على سعة علمه وتحقيقه ومتانة دينه. رحمه الله تعالى. آمين. ومناقبه جمّة أفردها العلماء بالتصنيف.
(نقلتها من رسالته) المعروفة باسم «الرسالة» : في أصول الفقه، وهي (الّتي رواها عنه صاحبه) وتلميذه أبو محمد (الرّبيع بن سليمان) بن عبد الجبّار بن كامل (المرادي بالولاء) ، المصري (راوي كتب الإمام الشافعي) وراوي مذهبه الجديد. وهو المراد عند إطلاق «الربيع» . وهو أوّل من أملى الحديث بجامع ابن طولون، وكان مؤذّنا، وفيه سلامة وغفلة. ومولده سنة: - 174- أربع وسبعين ومائة بمصر، ووفاته بها سنة: - 270- سبعين ومائتين هجرية. (رحمه الله تعالى) ونفعنا بعلومه. آمين.
(ومنها) ؛ أي: الفوائد (أنّ معرفة شمائله الشّريفة تستدعي)، أي: تقتضي (محبّته صلى الله عليه وسلم التي هي روح الإيمان؛ الذي هو أصل كلّ سعادة وسيادة.
والمحبة: ميل روحاني يستجلب الودّ ويسلب البعد، وللناس في حدّها
لأنّ الإنسان مجبول على حبّ الصّفات الجميلة ومن اتّصف بها، ولا أجمل ولا أكمل من صفاته صلى الله عليه وسلم.
فلا شكّ أنّ من يطّلع عليها ولم يكن مطبوعا على قلبه بطابع الضّلال.. يحبّ صاحبها صلى الله عليه وسلم بيقين،
…
اختلاف كثير، وعباراتهم فيها؛ كما قيل: وإن كثرت! إنما هي في الحقيقة اختلاف أحوال، وليست باختلاف أقوال. وأكثرها يرجع إلى ثمراتها؛ دون حقيقتها.
وقيل: إنها من المعلومات التي لا تحدّ، وإنّما يعرفها من قامت به؛ وجدانا.
ولا يمكن التعبير عنها، ولا تحدّ بحدّ أوضح منها. (لأنّ الإنسان مجبول) ؛ أي:
مطبوع (على حبّ الصّفات الجميلة، و) على حبّ (من اتّصف بها) من أفراد المؤمنين؛ فكيف بعباده الصالحين!! فكيف بسيّد الأوّلين والآخرين!!
(و) لا ريب أنّه (لا أجمل؛ ولا أكمل من صفاته صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان المرء يحبّ غيره على ما فيه من صورة جميلة وسيرة حميدة؛ فكيف بهذا النبي الكريم، والرسول الواسع الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم!! (فلا شكّ أنّ من يطّلع عليها) - أي: على شمائله، (و) الحال أنّه (لم يكن مطبوعا) ؛ أي: مختوما (على قلبه بطابع الضّلال) وعمى البصيرة- (يحبّ صاحبها صلى الله عليه وسلم بيقين) ، وفي محبّتنا له صلى الله عليه وسلم منن عظيمة علينا، لأنّها موجبة لمعيّته ومجاورته وصحبته، لحديث:
«المرء مع من أحبّ» . رواه الشيخان؛ عن أنس، وابن مسعود. ولحديث:
«أنت مع من أحببت» . رواه مسلم.
ومحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر أثرها في اتباع سنّته، وسلوك طريقته، ولها مع ذلك علامات أخرى؛ منها: أن تحبّ بحبّه، وتبغض ببغضه، فلا تحبّ إلّا ما أحبّ، ولا تبغض إلّا ما أبغض، فيكون هواك تبعا له ولما جاء به.
ومنها: أن توالي بولايته، وتعادي بعداوته، لأنّ محبّ المحبوب ومحبوبه محبوبان، ومبغضه وبغيضه مبغوضان.
وبمقدار زيادة محبّته ونقصها تكون زيادة الإيمان ونقصه،
…
ومن علامات محبّته أيضا: إيثار محبّته على كلّ محبوب، واشتغال الباطن بذكره بعد ذكر الله عز وجل، والإكثار من الصلاة عليه، وأن يودّ رؤيته بجميع ما يملك؛ أو بملء الأرض ذهبا؛ لو كان له.
ومنها: التخلّق بأخلاقه، والتأدّب بشمائله وآدابه؛ من الجود، والإيثار، والحلم، والصبر، والتواضع، والزهد في الدنيا؛ والإعراض عن أبنائها، ومجانبة أهل الغفلة واللهو، والإقبال على أعمال الآخرة؛ والتقرّب من أهلها، والحبّ للفقراء والتحبّب إليهم والتقرّب منهم، وكثرة مجالستهم، واعتقاد تفضيلهم على أبناء الدنيا، ثم الحبّ في الله لأهل العلم والدين والصلاح والزهد، والبغض في الله للظّلمة والمبتدعة والفسقة المعلنين، واتّباعه في مقامات اليقين؛ مثل الخوف والرجاء، والشكر والحياء، والتسليم والتوكّل، والشوق والمحبة، وإفراغ القلب لله عز وجل، وإفراد الهمّ به تعالى، ووجود الطمأنينة بذكره سبحانه، والرّضا بما شرعه؛ حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضى، ونصرته ونصرة دينه باتّباع سنّته واعتقادها، وإيثارها على الرأي والهوى، واجتناب البدع كلّها، والذّبّ عن شريعته، والتسلّي عن المصائب شغلا بحاله، وجمعا في محبّة محبوبه؛ واغتباطا به، وتسلية بما أصاب محبوبه؛ وتعظيمه عند ذكره، وكثرة الشوق إلى لقائه؛ إذ كل حبيب يحبّ لقاء حبيبه، ومحبّة القرآن الذي أتى به، والتلذّذ بذكره، والطرب عند سماع اسمه، فمن تخلّق بهذا كلّه؛ فله من الآية نصيب موفور، وهي قوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[31/ آل عمران] ، فجعل الله تعالى جزاء العبد على حسن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم محبّة الله تعالى إياه، ولا يكون متّبعا له إلّا عن محبّة الله تعالى إيّاه، وأثرته إيّاه عمّن سواه.
(و) يتفاوت الناس في المحبة، ف (بمقدار زيادة محبّته) صلى الله عليه وسلم (و) بمقدار (نقصها؛ تكون زيادة الإيمان ونقصه) ، فمن كان في محبّته أقوى؛ كان في الإيمان أبلغ وأثبت، ومن لا محبّة له؛ لا إيمان له، إذ الإيمان مشروط
بل رضا الله تعالى والسّعادة الأبديّة، ونعيم أهل الجنّة ودرجاتهم فيها، جميع ذلك يكون بمقدار محبّة العبد له صلى الله عليه وسلم زيادة ونقصا، كما أنّ سخط الله تعالى، والشّقاوة الأبديّة وعذاب أهل النّار ودركاتهم
…
بمحبّته صلى الله عليه وسلم، أصله بأصلها، وكماله بكمالها، فمحبّته صلى الله عليه وسلم ركن للإيمان؛ لا يثبت إيمان عبد ولا يقبل إلّا بمحبّته صلى الله عليه وسلم، (بل رضا الله) الذي هو الإنعام؛ أو إرادة الإنعام منه (تعالى) ؛ أي: ترفّع، جملة معترضة، أو حاليّة للتعظيم والتمييز، ولا يقال ذلك في غير الله سبحانه، مثل «تبارك» و «عز وجل» ، لأنّه صار شعارا لله عز وجل. (والسّعادة الأبديّة) الحاصلة بالموت على الإيمان، (ونعيم أهل الجنّة ودرجاتهم) ؛ أي: مراتبهم العليّة (فيها) ؛ أي: الجنة. (جميع ذلك) مبتدأ ثان، وخبره الجملة بعده، وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو «رضا الله» وما عطف عليه.
(يكون) متفاوتا (بمقدار محبّة العبد له صلى الله عليه وسلم زيادة ونقصا) ، وهذا في الحقيقة حثّ للمؤمن على تقوية رابطته وزيادة محبّته لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنّ العاقل لا يترك الخير الكثير ما أمكنه، فمن أراد رضا الله سبحانه وسعة النعيم في الآخرة؛ فليكثر من الأسباب التي تزيد في محبّته له صلى الله عليه وسلم، لأنّ المحبّة أساس الخيرات، وبها تزكو الأعمال وتحسن الأحوال.
وللمحبّة درجات، وللناس فيها مقامات، وأصلها حاصل لكلّ مسلم، لأنّها أصل الدين، ومن ليس فيه محبّة- كما قيل- لا يساوي حبّة. ولا حدّ للمحبة، وما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم منها؛ لا يقدر أحد على القيام به، إذ لا منّة لأحد بعد الله كما له علينا، فاستحقّ أن يكون حظّه من محبّتنا له أوفى وأزكى من محبّتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين، بل لو كان في كلّ منبت شعرة منا محبّة تامّة له صلى الله عليه وسلم؛ لكان ذلك بعض ما يستحقّه.
(كما أنّ سخط الله تعالى، والشّقاوة الأبديّة) الحاصلة بالموت على الكفر والعياذ بالله من ذلك-، (وعذاب أهل النّار ودركاتهم) ؛ أي: منازلهم
فيها.. يكون بمقدار بغضه صلى الله عليه وسلم، زيادة ونقصا.
ومنها: اتّباعه والاقتداء به لمن وفّقه الله تعالى فيما يمكن به الاقتداء؛ كسخائه وحلمه، وتواضعه، وزهده، وعبادته، وغيرها من مكارم أخلاقه، وشرائف أحواله صلى الله عليه وسلم،
…
(فيها) ؛ أي: النار (يكون) ذلك (بمقدار بغضه صلى الله عليه وسلم؛ زيادة ونقصا) ، فمن كان شديد البغض له صلى الله عليه وسلم؛ كان السّخط عليه أكثر، وعذابه أوفر، نعوذ بالله من بغضه؛ ومن بغض عباد الله الصالحين. ونسأل الله أن يميتنا على محبّته، ويحيينا على سنّته، ويحشرنا في زمرته. آمين.
(ومنها) ؛ أي: من الفوائد المقصودة بجمع شمائله صلى الله عليه وسلم: (اتّباعه) فيما كان عليه هو وأصحابه، ويشمل ذلك الاعتقادات، والأقوال والأفعال، والأخلاق والأحوال، (والاقتداء به) فيها (لمن وفّقه الله تعالى) . التوفيق: هو خلق قدرة الطاعة في العبد. ولا يكون الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في كلّ شيء، بل (فيما يمكن به الاقتداء)، لأن أفعاله صلى الله عليه وسلم على قسمين:
قسم لا يجوز الاقتداء به فيه، وذلك كإباحة المكث في المسجد؛ وهو جنب، وكالوصال في الصوم، وكإباحة النظر إلى الأجنبيات، ونكاح أكثر من أربع نسوة، والنكاح بلفظ الهبة، وبلا وليّ ولا شهود. فهذه الأشياء من خصائصه صلى الله عليه وسلم، لا يقتدى به فيها.
وقسم يجوز الاقتداء به فيها، بل يندب التأسّي به فيها، وذلك (كسخائه) صلى الله عليه وسلم؛ وهو: سهولة الانفاق، وتجنّب اكتساب ما لا يحمد؛ وهو الجود، (وحلمه) ؛ وهو: حالة توقر وثبات عند الأسباب المحركات، (وتواضعه) ؛ أي: هضم النفس في غير منقصة ولا مذلّة، (وزهده)، وهو:
عدم الميل إلى الدنيا، وقلّة المبالاة بوجودها وفقدها؛ اعتمادا على خالقها، (وعبادته) المتعارفة في الشرع؛ من نحو طهارة وصلاة وصيام، (وغيرها من مكارم أخلاقه) : أوصافه، (وشرائف أحواله صلى الله عليه وسلم ؛ كحيائه، وصدقه،
وذلك مستوجب لمحبّة الله تعالى الّتي فيها سعادة الدّارين.
قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آل عمران: 31] .
وأمانته، وكرمه، وشجاعته، إذ من علامة محبّته التخلّق بأخلاقه في الجود، والإيثار، والحلم، والصبر، والتواضع، وغيرها من أخلاقه العظيمة.
وأعظم العلامات لمحبّته صلى الله عليه وسلم: الاقتداء به، واستعمال سنّته، وسلوك طريقته، والاهتداء بهديه، والتأدّب بآدابه، والوقوف مع ما حدّ لنا من شريعته صلى الله عليه وسلم، (وذلك) كلّه (مستوجب لمحبّة الله تعالى الّتي فيها سعادة الدّارين) :
دار الدنيا ودار الأخرى.
ولمحبّة الله تعالى علامات، منها: تقديم أمره على هوى النفس، ورعاية حدود الشرع، والتزام التقوى والورع، والتشوّق إلى لقائه تعالى، والخلوّ عن كراهية الموت، والرضا بقضائه، ومحبّة كلامه والتلذّذ بتلاوته وسماعه، والطّرب عند ذكره أو سماع اسمه، وعدم الصبر على ذلك، ومحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتّباعه، كما (قال تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) - في جميع ما جئت به- (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [31/ آل عمران] والمراد بمحبّة الله تعالى للعبد: قبوله والإثابة على أعماله، إذ معنى المحبّة الأصلي محال في حقّه تعالى، والمعنى أنّ اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به دليل على محبّة الإنسان لربّه، فمن يدّعي حبّ الله ولا يحبّ رسوله لا ينفعه ذلك. كما قيل:
ألا يا محبّ المصطفى زد صبابة
…
وضمّخ لسان الذّكر منك بطيبه
ولا تعبأن بالمبطلين فإنّما
…
علامة حبّ الله حبّ حبيبه
وحبّ الله تعالى يوجد بصدق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلزم من محبّة الله تعالى إيثار طاعته على هوى نفسه، فمن ادّعى المحبّة من غير طاعة؛ فدعواه باطلة لا تقبل.
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه!!
…
هذا لعمري في القياس بديع
جعلنا الله تعالى من المتّبعين له صلى الله عليه وسلم في شرعه القويم، وصراطه المستقيم، وحشرنا تحت لوائه، في زمرة أهل محبّته، عليه وعليهم الصّلاة والتّسليم.
لو كان حبّك صادقا لأطعته
…
إنّ المحبّ لمن يحبّ يطيع
وإذا تحقّق العبد بمحبّة الله ورسوله، وصدق في متابعة أمره ونهيه؛ خشع وتأدّب ظاهرا وباطنا، لأنّ ما في الباطن يلوح على الظاهر ويعود عليه؛ لما بينهما من الارتباط، ولما أن الإنسان عمدته والمعتبر فيه هو باطنه؛ به يصلح وبه يفسد، والمحبّة تنتج الخوف، لأن مقامات اليقين مرتبط بعضها ببعض، فمن حصلت له المحبّة؛ نال من مقام الخوف والرجاء والحياء وغيرها من المقامات والأحوال قسطا وافرا، حسبما نصّ على هذا أئمة الطريق.
وإذا صحّت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نتج عنها بفضل الله تعالى تطهير السريرة وتنوير البصيرة، وكان عن ذلك خالص الحبّ وصفاء الودّ، والله ذو الفضل العظيم. (جعلنا الله تعالى من المتّبعين) المقتفين (له صلى الله عليه وسلم في شرعه القويم) ، لأن التابع له واصل لسعادة الدارين، (و) في (صراطه) الصراط- بالصاد وبالسين-:
الطريق المستوي؛ أو الواضح (المستقيم) الذي لا عوج فيه، (وحشرنا) الحشر: الجمع والاجتماع من الأماكن إلى المحشر الذي هو مكان الجمع.
والاجتماع أبدا لا يكون إلّا على عظيم القوم؛ فهو سلطان ذلك اليوم العظيم (تحت لوائه) لواء الحمد، (في زمرة) ؛ أي: جماعة (أهل محبّته) ووداده (عليه وعليهم الصّلاة والتّسليم) . آمين.