المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الثامن في صفة ضحكه صلى الله عليه وسلم وبكائه] - منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول - جـ ١

[عبد الله عبادى اللحجى]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌كلمة الناشر

- ‌ترجمة الشّيخ عبد الله اللحجي

- ‌فأخذ عن مشايخها وهم:

- ‌السيد عبد الرحمن بن محمد الأهدل

- ‌ومن شيوخ الشيخ اللحجي في المراوعة: الشيخ العلامة السيد: عبد الرحمن بن حسن

- ‌ومن شيوخ الشيخ عبد الله اللحجي في اليمن: الشيخ العلّامة الحبر البحر الفهّامة أبو الفضائل عزّ الدين السيد: محمد حسن هند بن عبد الباري

- ‌رحلته إلى مكة المكرمة:

- ‌اتّصاله بالوالد السيد علوي المالكي:

- ‌ومن شيوخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرمة: الإمام العلّامة المحدّث شيخنا الشيخ: حسن بن محمد المشّاط المكّي المالكي

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكة المكرمة العلّامة الإمام المؤرّخ المحقق شيخ المشايخ السيد الشيخ محمد العربي

- ‌ومن مشايخ عبد الله اللحجي بمكة المكرمة العلّامة المسند الشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني المكّي

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي من أهل مكة المكرمة العلامة السيد: محمد أمين الكتبي المكيّ الحنفي

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلّامة الشيخ: محمد يحيى أمان المكّيّ الحنفي

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللّحجي من أهل المدينة المنوّرة العلّامة الشيخ: أمين بن أحمد الطرابلسي- طرابلس الغرب- المالكيّ

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلّامة الشيخ: إسحاق بن إبد بن محمد نور الصامولي

- ‌روايته وأسانيده:

- ‌[مناقبه]

- ‌صلتي بالشيخ اللّحجي

- ‌صلة خاصة:

- ‌مؤلفاته:

- ‌وفاته:

- ‌تعريف بكتاب منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌[فهرست مطالب الكتاب]

- ‌[المقدّمة: وهي تشتمل على تنبيهين]

- ‌[التّنبيه الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل]

- ‌[التّنبيه الثّاني: في الفوائد المقصودة: من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب الأوّل في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسمائه الشّريفة]

- ‌[الفصل الأوّل في نسبه الشّريف صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّاني في أسمائه الشّريفة صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب الثّاني في صفة خلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الأوّل في جمال صورته صلى الله عليه وسلم، وما شاكلها]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة بصره صلى الله عليه وسلم واكتحاله]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة شعره صلى الله عليه وسلم، وشيبه، وخضابه، وما يتعلق بذلك]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة عرقه صلى الله عليه وسلم ورائحته الطّبيعيّة]

- ‌[الفصل الخامس في صفة طيبه صلى الله عليه وسلم وتطيّبه]

- ‌[الفصل السّادس في صفة صوته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل السّابع في صفة غضبه صلى الله عليه وسلم وسروره]

- ‌[الفصل الثّامن في صفة ضحكه صلى الله عليه وسلم وبكائه]

- ‌[الفصل التّاسع في صفة كلامه صلى الله عليه وسلم وسكوته]

- ‌[الفصل العاشر في صفة قوّته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب الثّالث في صفة لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفراشه وسلاحه]

- ‌[الفصل الأوّل في صفة لباسه صلى الله عليه وسلم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة فراشه صلى الله عليه وسلم، وما يناسبه]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة خاتمه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة نعله صلى الله عليه وسلم وخفّه]

- ‌[الفصل الخامس في صفة سلاحه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل السّادس كان من خلقه صلى الله عليه وسلم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه]

- ‌فهرسة الجزء الأول من كتاب منتهى السول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌[الفصل الثامن في صفة ضحكه صلى الله عليه وسلم وبكائه]

[الفصل الثّامن في صفة ضحكه صلى الله عليه وسلم وبكائه]

الفصل الثّامن في صفة ضحكه صلى الله عليه وسلم وبكائه وعطاسه (الفصل الثّامن) من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة ضحكه صلى الله عليه وسلم .

قال أهل اللغة: التبسّم مبادىء الضحك، أي: مقدّماته، والضحك: انبساط الوجه؛ أي: تهلّله وتلألؤه حتّى تظهر الأسنان من السرور، فإذا تهلّل الوجه لسرور قام به؛ انفتح الفم على الهيئة المعروفة، فإن كان بصوت؛ وكان بحيث يسمع من بعيد، فهو القهقهة، وإلّا يسمع من بعد؛ وهو بصوت فالضحك.

فالفارق بين الثلاثة: أنّ التبسّم: انفتاح الفم بلا صوت. والضحك: انفتاحه مع صوت قليل. والقهقهة: انفتاحه بصوت قوي.

والضحك خاصّة للإنسان، والغالب أنّه ينشأ من سرور يعرض للقلب، وقد يضحك غير المسرور.

ويجوز فيه أربع لغات، وهي فتح أوله وكسره مع سكون ثانيه، وكسر أوله وثانيه، وفتح أوله وكسر ثانيه؛ كما يؤخذ من «القاموس» ، وهكذا كلّ ما كان ثلاثيا عينه حرف حلق نحو فخذ. انتهى.

(و) في بيان ما ورد في صفة (بكائه) ؛ بالمدّ والقصر، وقيل: القصر مع خروج الدموع، والمدّ على إرادة الصوت، وقد جمع الشاعر اللغتين؛ فقال:

بكت عيني وحقّ لها بكاها

وما يغني البكاء ولا العويل

والبكاء أنواع: 1- بكاء رحمة ورأفة، و 2- بكاء خوف وخشية، و 3- بكاء

ص: 381

وعطاسه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افترّ ضاحكا.. افترّ عن مثل سنا البرق إذا تلألأ،

محبّة وشوق، و 4- بكاء فرح وسرور، و 5- بكاء جزع من ورود مؤلم على الشخص لا يحتمله، و 6- بكاء حزن، و 7- بكاء مستعار؛ كبكاء المرأة لغيرها من غير مقابل، و 8- بكاء مستأجر عليه؛ كبكاء النائحة، و 9- بكاء موافقة؛ وهو بكاء من يرى من يبكي فيبكي؛ ولا يدري لأي شيء يبكي، و 10- بكاء كذب؛ وهو بكاء المصرّ على الذنب.

وبكاؤه صلى الله عليه وسلم تارة يكون رحمة وشفقة على الميت، وتارة يكون خوفا على أمته، وتارة يكون خشية من الله تعالى، وتارة يكون اشتياقا ومحبّة مصاحبا للإجلال والخشية، وذلك عند استماع القرآن- كما سيأتي-.

(و) في بيان ما ورد في (عطاسه) صلى الله عليه وسلم، وهو مصدر من عطس يعطس- بالكسر- عطاسا- بضمّ العين على وزن غراب-.

قال في «الاقتراح» : هو خاصّ بالإنسان، فلا يقال لغيره؛ ولو للهرة؛ نقله شيخنا. وفي الحديث: كان يحبّ العطاس ويكره التثاؤب.

قال ابن الأثير: لأنّ العطاس إنما يكون مع خفّة البدن وانفتاح المسام وتيسير الحركات، والتثاؤب بخلافه، وسبب هذه الأوصاف تخفيف الغذاء والإقلال من الطعام والشراب. انتهى شرح «القاموس» .

أما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقد ذكر القاضي عياض في «الشفاء» ، والغزاليّ في «الإحياء» أنّه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افترّ) - بتشديد الرّاء؛ أي: إذا أبدى أسنانه حال كونه- (ضاحكا) ؛ أي: متبسّما (افترّ) - أي: كشف- (عن مثل سنا) بقصر «سنا» ، وقد يمدّ، وقيل: بالقصر: النّور، وبالمد: الشرف والعلو، أي:

يشبه ضوء- (البرق إذا تلألأ) في ظلمة الليل، أي: إذا كشف صلى الله عليه وسلم عن أسنانه في حال ضحكه ظهر من فمه وبياض أسنانه لمعان كلمعان البرق، وهو تشبيه لنور ثغره.

ص: 382

وعن مثل حبّ الغمام.

وكان صلى الله عليه وسلم جلّ ضحكه التّبسّم.

وإنما خصّ التشبيه بحال التبسم والسرور، وشبه ذلك بالبرق دون ما هو أضوأ منه؛ كالشمس والبدر!! إشارة إلى أنه لا يدوم ضحكه وانفتاح فمه، لأنّ كثرة الضحك غير محمودة، ولم يكن ذلك من دأبه صلى الله عليه وسلم، ولأنّ تبسّمه لمخاطبه يعقبه نفع، وخير من عطائه وكلامه ورضاه، كما يعقب البرق المطر والرحمة العامّة.

وهذا رواه البيهقي مسندا؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

(و) يفترّ (عن مثل حبّ الغمام) في بياضه ونقائه وصفائه.

والغمام: هو السحاب، وحبّه: البرد- بفتحتين- الذي يشبه اللؤلؤ، والمعنى أنّه يضحك ضحكا حسنا كاشفا عن مثل حبّ الغمام في البياض والصفا والبريق واللمعان.

وورد في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه المارّ: أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحك يتلألأ في الجدر، أي: يشرق عليها إشراقا كإشراق الشمس.

قال ملّا علي قاري في «شرح الشفاء» : والتشبيه الثاني أولى من الأوّل. انتهى.

وهذا رواه الترمذي في «الشمائل» والدارميّ، والبيهقي؛ من حديث هند بن أبي هالة وعائشة رضي الله تعالى عنهما.

(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ، والقاضي عياض في «الشفاء» ؛ من طريق الترمذي؛ عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان. وساق الحديث إلى أن قال:

(جلّ) - بضم الجيم وتشديد اللام؛ أي: معظم- (ضحكه) وأكثره (التّبسّم) . وهو: بشاشة الوجه من غير تأثر تامّ في هيئة الفم، وقال:«جلّ» !! لأنّه ربما ضحك حتّى بدت نواجذه. كما سيأتي الكلام على ذلك، وهذا لا ينافي ما رواه البخاري في «الأدب» ، وابن ماجه في «سننه» :«لا تكثر الضّحك فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب» .

ص: 383

وعن عبد الله بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عائشة رضي الله [تعالى] عنها أنّها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قطّ مستجمعا ضاحكا حتّى أرى منه لهواته.

(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عبد الله بن الحارث) بن جزء بجيم مفتوحة فزاي ساكنة فهمزة آخره- الزّبيدي مصغّرا، صحابي سكن مصر، خرّج له أبو داود وابن ماجه، ومات بعد الثمانين. قيل: سنة ست، وقيل:

خمس، وقيل: سبع، وقيل: ثمان بعد أن عمي، وعمّر عمرا طويلا، وهو آخر من مات بمصر من الصحابة (رضي الله تعالى عنه؛ قال:

ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنّ شأن الكمّل إظهار الانبساط والبشر لمن يريدون تألّفه واستعطافه، مع تلبّسهم بالحزن المتواصل باطنا، فكثرة تبسّمه صلى الله عليه وسلم لا تنافي كونه متواصل الأحزان. فاندفع ما أورد من أنه إذا كان كثير التبسّم كيف يكون متواصل الأحزان؟! فهو صلى الله عليه وسلم دائم البشر؛ ومع ذلك هو دائم الحزن الباطن، حتّى أنّه قد تبدو آثاره على صفحات وجهه.

(و) أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» ؛ (عن عائشة رضي الله) تعالى (عنها أنّها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قطّ مستجمعا ضاحكا) ضحكا تامّا بحيث ينفتح فمه (حتّى أرى منه لهواته) - بفتحات؛ جمع لهاة، وتجمع على لهيات ولهى؛ مثل حصاة وحصى وحصيات؛ كما في «المصباح» - وهي:

اللحمة التي بأعلى الحنجرة؛ أي: الحلق من أقصى الفم، وتمام الحديث: إنما كان يتبسم. والمعنى ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك؛ أي مطمئنا قاصدا للضحك الذي يغلب وقوعه للناس، بحيث يضحك ضحكا تامّا؛ مقبلا بكليته على الضحك، إنما كان يتبسّم، والتبسم أقلّ الضحك وأحسنه.

ص: 384

وعن عبد الله بن الحارث أيضا قال: ما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا تبسّما.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدّث حديثا إلّا تبسّم.

وكان ضحك أصحابه صلى الله عليه وسلم عنده التّبسّم من غير صوت، اقتداء به، وتوقيرا له، وكانوا إذا جلسوا عنده.. كأنّما على رؤوسهم الطّير.

قال في «الكشاف» : وكذلك ضحك الأنبياء لم يكن إلّا تبسّما. انتهى، وعليه فهو من خواصّه على الأمم؛ دون الأنبياء، انتهى «زرقاني» .

(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» - وقال: غريب من حديث الليث بن سعد- (عن عبد الله بن الحارث) بن جزء (أيضا) رضي الله تعالى عنه (قال:

ما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا تبسّما) . هذا الحصر إضافيّ؛ أي: بالنسبة للغالب، لما تقرّر أنّه صلى الله عليه وسلم ضحك أحيانا حتّى بدت نواجذه، إلّا أن يحمل على المبالغة.

(و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» ؛ عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدّث حديثا) - يناسبه التبسّم، وفي رواية:

«بحديث» - (إلّا تبسّم) ؛ أي: ضحك قليلا بلا صوت.

(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان ضحك أصحابه صلى الله عليه وسلم عنده) ؛ أي: في حضرته (التّبسّم) لا غير. أي: (من غير صوت؛ اقتداءا به) في كيفية ضحكه وهيئته، (وتوقيرا له) ؛ أي: تعظيما لحرمته.

(وكانوا إذا جلسوا عنده)، رواية الترمذي في «الشمائل» : إذا تكلّم أطرق جلساؤه (كأنّما) بزيادة «ما» الكافّة (على رؤوسهم الطّير) في السكوت والسكون؛ مهابة له وإجلالا، لشهودهم عليّ شأنه وكمال مرتبته، وتخلّقهم بأخلاقه، لا لسوء خلق فيه، حاشاه الله من ذلك.

وفي التشبيه تنبيه على المبالغة في وصفهم بالسكوت والسكينة وعدم الخفّة،

ص: 385

وكان صلى الله عليه وسلم إذا جرى به الضّحك.. وضع يده على فيه. كان صلى الله عليه وسلم من أضحك النّاس، وأطيبهم نفسا.

وورد في أحاديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحك حتّى بدت نواجذه- أي: أضراسه- وإن كان

لأنّ الطير لا يكاد يقع إلّا على شيء ساكن من الحركة. و «أل» في «الطير» للجنس، فالمراد جنس الطير مطلقا، وقيل: للعهد، والمعهود الباز.

وهذا الحديث؛ قال في «شرح الإحياء» : رواه الترمذي في «شمائله» من حديث هند بن أبي هالة في أثناء حديثه الطويل. انتهى. وفيه تغيير في اللفظ.

(و) أخرج البغوي في «معجمه» ؛ عن والد مرّة الثقفي رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جرى به الضّحك) ؛ أي: إذا وجد سببه وقوي عليه وغلبه؛ ولم يقدر على ردّه (وضع يده على فيه) حتّى لا يبدو شيء من باطن فمه، ولئلا يقهقه، وهذا كان نادرا.

وأما في أغلب أحواله!! فكان لا يضحك إلّا تبسّما.

(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» و «الأوسط» ؛ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم من أضحك النّاس، و) من (أطيبهم نفسا) ، بل كان أجود الناس على الإطلاق وأحسنهم خلقا، ومع ذلك لا يركن إلى الدنيا، ولا يشغله شاغل عن ربّه، بل كان استغراقه في حبّ الله إلى حدّ بحيث يخاف في بعض الأحيان أن يسري إلى قلبه فيحرقه، وإلى قالبه فيهدمه؛ فلذلك كان يضرب يده على فخذ عائشة رضي الله تعالى عنها أحيانا؛ ويقول:«كلّميني» ، ليشتغل بكلامها عن عظيم ما هو فيه، لقصور طاقة قالبه عنه، وكان طبعه الأنس بالله، وكان أنسه بالخلق عارضا رفقا ببدنه؛ ذكر ذلك كلّه الغزالي. انتهى «مناوي» .

(وورد في أحاديث) صحيحة (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحك حتّى بدت) ؛ أي:

ظهرت (نواجذه) - بكسر الجيم وبالذال المعجمة- (أي: أضراسه، وإن كان

ص: 386

الغالب من أحواله صلى الله عليه وسلم التّبسّم.

الغالب من أحواله صلى الله عليه وسلم التّبسّم) ؛ كما جاء في صفة ضحكه «جلّ ضحكه التبسم» وقد تقدّم، والاقتداء به إنّما يكون فيما هو أغلب أحواله.

قال العلقمي: قال العلامة محمد بن يوسف الدمشقي: قال أبو الحسن بن الضّحّاك: صحّت الأخبار وتظاهرت بضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير موطن حتّى تبدو نواجذه. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان لا يضحك إلّا تبسّما.

ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: إن التبسّم كان الأغلب عليه، ويمكن أن يكون الناقل عنه «أنّه كان لا يضحك إلّا تبسّما» ، لم يشاهد من النبي صلى الله عليه وسلم غير ما أخبر به، ويكون من روى عنه «أنه ضحك حتى بدت نواجذه» قد شاهد ذلك في وقت ما؛ فنقل ما شاهده، فلا اختلاف بينهما لاختلاف المواطن والأوقات، ويمكن أن يكون في ابتداء أمره كان يضحك حتّى تبدو نواجذه في الأوقات النادرة، وكان آخر أمره لا يضحك إلّا تبسّما، وقد وردت عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث تدلّ على ذلك، ويمكن أن يكون من روى عنه أنّه كان لا يضحك إلّا تبسّما شاهد ضحكه حتّى بدت نواجذه نادرا؛ فأخبر عن الأكثر وغلّبه على القليل النادر.

على أن أهل اللغة قد اختلفوا في النواجذ ما هي؟

فقال جماعة: إنّ النواجذ أقصى الأضراس من الفم موضعا، فعلى هذا تتحقّق المعارضة، ويمكن الجمع بين الأحاديث بما قلنا.

ومنهم من قال: إنّ النواجذ هي الأنياب. وقال آخرون: هي الضواحك، فعلى هذين لا يكون في ظاهر الأخبار معارضة، لأنّ المتبسّم يلزمه ذلك.

قال في «النهاية» : النواجذ- بكسر الجيم وبالذال المعجمة- وهي من الأسنان الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك؛ والأكثر الأشهر أنّها أقصى الأسنان، والمراد الأول، لأنّه ما كان يبلغ به الضحك حتّى تبدو أضراسه، كيف وقد تقدّم أنّ جلّ ضحكه التبسّم!؟ وإن أريد بها الأضراس! فالوجه فيه أن يراد به مبالغة مثله في

ص: 387

فعن أبي ذرّ رضي الله [تعالى] عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأعلم أوّل رجل يدخل الجنّة،

ضحكه، من غير أن يراد ظهور نواجذه في الضحك، وهو أقيس القولين لاشتهار النواجذ بأواخر الأسنان.. انتهى؛ نقله العزيزي على «الجامع الصغير» .

ثم شرع المصنف في ذكر الأحاديث التي صرّح فيها بالنواجذ قائلا:

(فعن أبي ذرّ) جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن الرفيقة بن حرام بن غفار بن مليك بن ضمرة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الغفاري الحجازي.

من السابقين إلى الإسلام. صحب النبي صلى الله عليه وسلم حتّى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا حديث وواحد وثمانون حديثا، اتفقا منها على اثني عشر حديثا، وانفرد البخاري بحديثين، وانفرد مسلم بسبعة عشر حديثا.

روى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن غنم، وجبير بن نفير، وخلق سواهم.

وتوفي بالربذة سنة: اثنتين وثلاثين، وصلّى عليه ابن مسعود، ثم قدم ابن مسعود المدينة فأقام عشرة أيام؛ ثم توفي.

وكان أبو ذر طويلا عظيما، وكان زاهدا متقللا من الدنيا، وكان مذهبه أنّه يحرم على الإنسان ادخار ما زاد على حاجته، وكان قوّالا بالحقّ رضي الله تعالى عنه.

وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي في «جامعه» وفي «الشمائل» بألفاظ مختلفة، ولفظ الترمذي في «الشمائل» :

حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث؛ قال: حدّثنا وكيع؛ قال: حدّثنا الأعمش؛ عن المعرور بن سويد؛ عن أبي ذر رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأعلم) بالوحي (أوّل رجل يدخل الجنّة) - في

ص: 388

وآخر رجل يخرج من النّار، يؤتى بالرّجل يوم القيامة فيقال:

اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال له: عملت يوم كذا.. كذا وكذا، وهو مقرّ لا ينكر، وهو مشفق من كبارها، نسخة من «الشمائل» : إني لأعلم آخر رجل يدخل الجنة- (وآخر رجل يخرج من النّار) - ولم يذكر أوّل رجل يدخل النار، لأنّ كلامه فيمن يدخل الجنة.

وإنما ذكر آخر رجل يخرج من النار!! لأنه آخر رجل يدخل الجنة، ولذا اقتصر عليه في أصحّ النسخ، وزاد علمه ليزيد وثوقا فيما أخبر به. فليس قوله (يؤتى بالرّجل يوم القيامة) تفصيلا لأول رجل يدخل الجنة كما وهم، بل هو استئناف لبيان حال رجل آخر، فلا تعلّق له بما قبله، إذ أوّل داخل هو المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ولا ذنب له، وفي بعض النسخ:«ويؤتى بالرّجل يوم القيامة» ، بالواو التي للاستئناف.

(فيقال) ؛ أي: يقول الله للملائكة: (اعرضوا) - بهمزة وصل وكسر راء؛ أمر من العرض- (عليه) ؛ أي: على الرجل (صغار ذنوبه) - بكسر الصاد؛ أي:

صغائر ذنوبه، أي: أظهروها له في صحيفته، أو بصورها، وفيه دليل على أنّ الصغيرة ذنب، وأنّ من الذنوب صغائر وكبائر- (ويخبأ) - بصيغة المجهول؛ من الخبء بالهمز. أي: يخفى- (عنه) - أي: الرجل- (كبارها) أي: كبائر ذنوبه للحكمة الآتية، أي: والحال أنّه يخبأ عنه كبارها، فالجملة حالية، ويحتمل أن تكون معطوفة على «اعرضوا» ؛ فتكون أمرا في المعنى، فكأنّه قيل: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، واخبئوا عنه كبارها، أي: كبائر ذنوبه.

(فيقال له: عملت) ؛ أي: من القول والفعل (يوم كذا) ؛ أي: الوقت الفلاني من السّنة والشهر والأسبوع واليوم والساعة (كذا وكذا) ؛ أي: عددا من الذنوب، ف «كذا وكذا» كناية عن العدد المشتمل على عطف، (وهو مقرّ لا ينكر) ؛ أي: فيتذكّر ذلك ويصدّقه هنالك، (وهو مشفق) ؛ من الإشفاق؛ وهو الخوف، والجملة حال؛ أي: والحال أنّه خائف (من كبارها) ؛ أي: من كبار ذنوبه، أي: من المؤاخذة بها، فإنّ من يؤاخذ بالصغيرة فبالأولى أن يعاقب بالكبيرة.

ص: 389

فيقال: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة، فيقول: إنّ لي ذنوبا لا أراها ههنا» . قال أبو ذرّ: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتّى بدت نواجذه.

(فيقال) ؛ أي: فيقول الله للملائكة (أعطوه) - بقطع الهمزة- (مكان) ؛ أي: بدل (كلّ سيّئة عملها حسنة) لتوبته النصوح، قال الله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ)[70/ الفرقان] ، أو لغلبة طاعاته، أو لإقراره بالذنب والخوف منه، أو لغير ذلك مما يعلمه الله.

(فيقول) ؛ أي: طمعا في الحسنات: (إنّ لي ذنوبا لا أراها ها هنا» ) !! أي: في موضع العرض، أو في صحيفة الأعمال، وفي رواية:«ما أراها ها هنا!!» وإنما يقول ذلك مع كونه مشفقا منها!!، لأنّه لما قوبلت صغائرها بالحسنات طمع أن تقابل كبائرها بها أيضا، وزال خوفه منها، فسأل عنها لتقابل بالحسنات أيضا.

(قال أبو ذرّ: فلقد رأيت) ؛ أي: فوالله لقد رأيت، - وإنما أقسم!! لئلا يرتاب في خبره، لما اشتهر من أنّه صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلّا تبسّما- (رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك) تعجّبا من الرجل حيث كان مشفقا من كبار ذنوبه، ثم صار طالبا لرؤيتها، وبالغ في الضحك (حتّى بدت) : ظهرت (نواجذه) - بمعجمة-: أقصى أضراسه، أي: أضراسه كلّها، وكانت مبالغته في الضحك نادرة، والمكروه الإكثار منه؛ كما في رواية البخاري:«لا تكثروا الضّحك فإنّه يميت القلب» .

والغالب من أحواله صلى الله عليه وسلم التبسّم، ولذلك جاء في صفة ضحكه «جلّ ضحكه التبسم» ، وينبغي الاقتداء به فيما هو أغلب أحواله.

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والإمام أحمد، والترمذي في «جامعه» وفي «الشمائل» ، وابن ماجه في «سننه» ، ولفظ «الشمائل» : حدّثنا هنّاد بن السريّ؛ قال: حدّثنا أبو معاوية؛ عن الأعمش؛ عن إبراهيم؛ عن عبيدة السلماني؛

ص: 390

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأعرف آخر أهل النّار خروجا،

(عن) أبي عبد الرحمن (عبد الله بن مسعود) بن غافل- بالغين المعجمة والفاء- ابن حبيب بن سمح بن فار- بالفاء وتخفيف الراء- ابن مخزوم بن صاهلة بالصاد المهملة والهاء- ابن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار الهذلي، حليف بني زهرة الكوفي.

وأمّه أمّ عبد بنت عبد ودّ بن سواء؛ هذيل أيضا.

أسلمت وهاجرت فهو صحابيّ ابن صحابية.

أسلم عبد الله قديما حين أسلم سعيد بن زيد؛ قبل عمر بن الخطاب بزمان، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد، وشهد اليرموك، وهو الذي أجهز على أبي جهل يوم بدر، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، وانفرد مسلم بخمسة وثلاثين.

روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وأنس وجابر، وأبو سعيد، وعمران بن حصين، وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة وخلائق لا يحصون من كبار التابعين.

نزل الكوفة في آخر أمره، وتوفي بها سنة: اثنتين وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وقيل: عاد إلى المدينة، وتوفي وهو ابن بضع وستين سنة، وكان من كبار الصحابة وساداتهم وفقهائهم ومقدّميهم في القرآن والفقه والفتوى وأصحاب الحلق وأصحاب الأتباع في العلم (رضي الله تعالى عنه؛ قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأعرف) - بالوحي كما مر- (آخر أهل النّار) من عصاة المؤمنين (خروجا) - منصوب على التمييز، وفي بعض النسخ المصححة

ص: 391

رجل يخرج منها زحفا، فيقال له: انطلق فادخل الجنّة.

قال: فيذهب ليدخل فيجد النّاس قد أخذوا المنازل، فيرجع فيقول: ربّ؛ قد أخذ النّاس المنازل، فيقال له: أتذكر الزّمان الّذي كنت فيه؟ فيقول: نعم،

«خروجا من النّار» - (رجل) قيل: اسمه جهينة- مصغرا-، وقيل: هنّاد الجهني (يخرج منها زحفا) - مفعول مطلق من غير لفظ الفعل، أو حال بمعنى زاحفا، والزحف: المشي على الاست مع إشراف الصدر، وفي رواية «حبوا» ؛ وهو:

المشي على اليدين والرجلين والركبتين، ولا تنافي بين الروايتين لاحتمال أنّه يزحف تارة ويحبو أخرى- (فيقال له) - أي: من قبل الله؛ كما تقدّم-: (انطلق) أي:

اذهب مخلى سبيلك محلولا أسارك، (فادخل الجنّة.

قال: فيذهب) إليها (ليدخل) - يعني: لكي يدخلها فيشرع ليدخلها- (فيجد النّاس) - أي: أهلها- (قد أخذوا) - أي: كلّ منهم- (المنازل) ؛ أي: منازل الجنة، أي درجاتها؛ وهي جمع منزل؛ وهي موضع النزول، ويخيّل له أنّه لم يبق موضع لنزول غيرهم (فيرجع) عن الشروع في دخولها،

(فيقول) ؛ أي: قبل أن يسأل عن سبب رجوعه؛ أو بعده: (ربّ) ؛ أي:

يا رب (قد أخذ النّاس) ؛ أي: كلّ منهم (المنازل) كأنّه ظنّ أنّ الجنّة إذا امتلأت بساكنيها لم يكن للقادم فيها منزل، فيحتاج أن يأخذ منزلا منهم.

(فيقال له) ؛ أي: من قبل الله- كما تقدم-: (أتذكر) - بحذف إحدى التاءين، - أي أتتذكر (الزّمان الّذي كنت فيه؟) أي: في الدنيا الضيّقة بحيث إذا امتلأت بساكنيها لم يكن للقادر فيها منزل، فيحتاج إلى أن يأخذ منزلا من أصحاب المنازل، فتقيس عليه الزمن الذي أنت فيه الآن في الجنّة، وتظنّ أنّها ضيّقة كالدنيا.

(فيقول: نعم) أتذكّر الزمن الذي كنت فيه في الدنيا الضيقة.

ص: 392

فيقال له: تمنّ. قال: فيتمنّى، فيقال له: فإنّ لك الّذي تمنّيته وعشرة أضعاف الدّنيا. قال: فيقول: أتسخر بي

(فيقال له) ؛ أي: من قبل الله- كما مرّ-: (تمنّ) ؛ أي: اطلب ما تقدّره في نفسك وتصوّره فيها، من كلّ جنس ونوع تشتهي، من وسع الدار وكثرة الأشجار والثمار، فإنّ لك مع امتلائها مساكن كثيرة وأماكن كبيرة، وجنات تجري من تحتها الأنهار، كلّها على طريق خرق العادة بقدرة الملك الغفار، وكل ما تمنيته متيسر في هذه الدار الواسعة، ولا تقس حال الآخرة بحال الدنيا، فإن تلك دار ضيّقة ومحنة، وهذه دار متسعة ومنحة.

(قال) ؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم (فيتمنّى) ؛ أي: يطلب ما يقدره في نفسه ويصوره فيها، (فيقال له) من قبل الله:(فإنّ لك الّذي تمنّيته وعشرة أضعاف الدّنيا) ؛ أي: أمثالها زيادة على الذي تمنّيت، فضعف الشيء مثله، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله، لكن المضاعفة ليست بالمساحة والمقدار؛ بل بالقيمة، فما يعطاه في الآخرة، يكون مقدار عشرة أضعاف الدنيا، بحسب القيمة؛ لا بالوزن والمقدار؛ كذا قال الباجوري.

وأصل هذا الكلام للغزالي؛ كما نقله عنه المناوي في «شرح الشمائل» ساكتا عليه، لكن الباجوري عقّبه بقوله: ولا مانع من المضاعفة بالمساحة والمقدار.

كما وجد بخط الشبراوي، فإنّه روي أنّ أدنى أهل الجنة منزلة من يسير في ملكه ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، وينظر إلى جنانه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأرفعهم الذي ينظر إلى ربّه بالغداة والعشي. انتهى.

(قال) - أي- النبي صلى الله عليه وسلم: (فيقول) - دهشا لما ناله من السرور، ببلوغ ما لم يخطر بباله من كثرة الحور والقصور-:(أتسخر) ؛ أي: أتستهزىء (بي) - بالباء الموحدة؛ كما في نسخ «الشمائل» المصحّحة، ولم يكن ضابطا لما قاله، ولا عالما بما يترتّب عليه، بل جرى على عادته في مخاطبة المخلوق، فهو كمن قال صلى الله عليه وسلم في حقّه- إنّه لم يضبط نفسه من الفرح في الدعاء-؛ فقال: أنت عبدي وأنا

ص: 393

وأنت الملك» . قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتّى بدت نواجذه.

وعن عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: قال سعد

ربّك، وفي نسخة: أتسخرني- بالنون- (وأنت) ؛ أي: والحال أنّك أنت (الملك» ) !! - بكسر اللام- وليست السخرية من دأب الملوك، وأنا أحقر من أن يسخر بي ملك الملوك، وهذا نهاية الخضوع، وهو سبب لكمال جود الملك تقدّس، ولذلك نال ما نال من الإكرام.

(قال) - أي- عبد الله بن مسعود: (فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي: فوالله لقد رأيت

إلخ، وإنّما أقسم لئلا يرتاب في خبره، لما اشتهر أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم كان لا يضحك إلّا تبسّما- (ضحك حتّى بدت) ؛ أي: ظهرت (نواجذه) جمع:

ناجذ، وهو آخر الأسنان على المشهور، تعجّبا من دهش الرجل، ومن غلبة رحمته تعالى على غضبه.

(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده (عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص) القرشي الزّهري المدني التابعي، سمع أباه، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وأسامة، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وعائشة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.

روى عنه ابنه داود، وسعيد بن المسيب، وخلق من التابعين، واتفقوا على توثيقه. وتوفي بالمدينة المنورة سنة: ثلاث- وقيل: سنة أربع- ومائة، وقيل غير ذلك رحمه الله تعالى.

(قال) ؛ أي: عامر: (قال سعد) بن أبي وقّاص- يعني أباه-، وهو أبو إسحاق سعد بن مالك بن وهب- ويقال: أهيب- ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزّهري المكيّ المدني.

أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وتوفي وهو عنهم راض، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أمر

ص: 394

رضي الله تعالى عنه: لقد رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحك يوم الخندق حتّى بدت نواجذه.

الخلافة إليهم، وأسلم قديما بعد أربعة- وقيل: بعد ستة- وهو ابن سبع عشرة سنة، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله تعالى، وأوّل من أراق دما في سبيل الله تعالى.

وهو من المهاجرين الأوّلين، هاجر إلى المدينة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها.

شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد، وكان يقال له «فارس الإسلام» ، وأبلى يوم أحد بلاء شديدا.

وكان مجاب الدعوة، وحديثه في دعائه على الرجل الكاذب عليه من أهل الكوفة وهو أبو سعدة، وأجيبت دعوته فيه في ثلاثة أشياء «1» مشهور في «الصحيحين» .

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتان وسبعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، وانفرد مسلم بثمانية عشر.

روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وجابر بن سمرة، والسائب بن يزيد، وعائشة رضي الله عنهم.

واعتزل الفتنة فلم يقاتل في شيء من الحروب التي وقعت بين الصحابة.

وتوفي سنة: - 55- خمس وخمسين، وقيل غير ذلك (رضي الله تعالى عنه:

لقد رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحك يوم الخندق) - كجعفر: حفير حول أسوار المدينة، معرّب كندة؛ على ما في «القاموس» ، لأنّ الخاء والدال والقاف لا تجتمع في كلمة عربية- (حتّى بدت نواجذه.

(1) وهي: أنه كان لا يسير بالسرية، لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعونّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة؛ فأطل عمره وأطل فقره وعرّضه بالفتن. وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.

ص: 395

قال: قلت: كيف كان ضحكه؟

قال: كان رجل معه ترس، وكان سعد راميا، وكان الرّجل يقول كذا وكذا بالتّرس يغطّي جبهته،

قال) ؛ أي: عامر (قلت) لسعد: (كيف كان) ؛ أي: على أي حال كان (ضحكه؟ قال) - أي- سعد: (كان رجل) من الكفّار (معه ترس) ، الجملة خبر «كان» ، والترس: ما يستتر به في حال الحرب، وفي رواية:«قوس» بدل: ترس. (وكان سعد راميا) ؛ أي: يحسن الرمي، ثم إن كان هذا من كلام سعد؛ كما هو الظاهر، كان فيه التفات، إذ كان الظاهر أن يقول: وكنت راميا، وإن كان من كلام عامر!! فلا التفات، غير أنّه عبّر عنه باسمه؛ ولم يقل أبي؛ ومثله كثير في أسانيد الصحابة رضي الله عنهم.

(وكان) - هذا من كلام سعد بكل تقدير- (الرّجل يقول كذا وكذا بالتّرس) ؛ أي: يفعل كذا وكذا بالترس، أي: يشير به يمينا وشمالا، فالمراد بالقول هنا الفعل، قال صاحب «النهاية» : والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام، تقول: قال بيده؛ أي: أخذ، و: قال برجله؛ أي مشى، و: قالت به العينان سمعا وطاعة؛ أي: أومأت به، و: قال بالماء على يده؛ أي: صبّه، و: قال بثوبه؛ أي: رفعه، و: قال بالترس؛ أي: أشار به وقلبه، وقس على هذه الأفعال

وعلى هذا فالجارّ والمجرور- أعني قوله «بالترس» - متعلّق ب «يقول» بمعنى يفعل.

وقوله (يغطّي جبهته) مستأنف مبيّن للإشارة في قوله «كذا وكذا» ؛ أي:

يغطي جبهته حذرا من السهم، ويحتمل أن القول باق على حقيقته، والمعنى يقول: كذا وكذا من القول القبيح في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يصرّح سعد بما بعده وهو قوله: بغطّي جبهته؛ أي: حذرا من السهم- كما مر- وهي جملة حاليّة من فاعل «يقول» ، والأول هو الأظهر.

ص: 396

فنزع له سعد بسهم، فلمّا رفع رأسه.. رماه فلم يخطىء هذه منه يعني: جبهته- وانقلب الرّجل وشال برجله، فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت نواجذه. قال: قلت: من أيّ شيء ضحك؟

(فنزع له سعد بسهم) ؛ أي: نزع لأجله سهما من كنانته ووضعه في الوتر، فالباء زائدة، لأن «نزع» يتعدّى بدونها.

(فلمّا رفع) الرجل (رأسه) من تحت الترس فظهرت جبهته (رماه) سعد بالسهم الذي نزعه له (فلم يخطىء) - بضم الياء وسكون الخاء وبالهمز- وفي نسخة: فلم يخط- بفتح الياء وضم الطاء- غير مهموز، من الخطوة، أي: فلم يخط (هذه منه) ؛ أي: الجبهة من الرّجل، ولم يتعدّها؛ ولم يتجاوزها (يعني:

جبهته) من كلام عامر؛ أي: يقصد سعد باسم الإشارة جبهة الرجل، والجبهة:

ما بين الحاجبين إلى الناصية؛ وهي موضع السجود.

(وانقلب الرّجل) ؛ أي: صار أعلاه أسفله، وسقط على استه (وشال برجله) ؛ أي: رفعها، والباء للتعدية، أو زائدة.

قال في «المصباح» : شال شولا من باب «قال قولا» : رفع، يتعدّى بالحرف على الأفصح، ويقال «شالت الناقة بذنبها عند اللّقاح» : رفعته، وأشالته بالألف لغة، وفي نسخة من «الشمائل» : فشال، وفي أخرى منها: وأشال، وفي أخرى أيضا: وأشاد، والكلّ بمعنى واحد.

(فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت نواجذه) فرحا وسرورا برمي سعد للرجل وإصابته له، وما يترتّب على ذلك من إخماد نار الكفر، وإذلال أهل الضلال؛ لا من رفعه لرجله وكشف عورته.

(قال: قلت) وفي نسخة صحيحة: «فقلت» ، والقائل هو عامر كما هو ظاهر، وقيل: هو محمد الراوي؛ عن عامر: (من أيّ شيء ضحك) ؟ أي: من أجل أيّ سبب ضحك النبي صلى الله عليه وسلم: هل من رمي سعد للرجل وإصابته؟ أو من رفعه

ص: 397

قال: من فعله بالرّجل.

وعن عليّ بن ربيعة قال: شهدت عليّا رضي الله تعالى عنه أتي بدابّة ليركبها، فلمّا وضع رجله في الرّكاب.. قال: باسم الله.

لرجله وافتضاحه بكشف عورته؟ فلأجل هذا الاحتمال استفسر الراوي- وهو عامر- سعدا عن سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم.

(قال) ؛ أي سعد، أو عامر:(من فعله بالرّجل) ؛ أي: ضحك من أجل رميه الرجل وإصابته؛ لا من رفعه لرجله وافتضاحه بكشف عورته، لأنّه لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يضحك لهذا؛ بل لذاك.

(و) أخرج أبو داود في «سننه» ، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» واللفظ له:(عن عليّ بن ربيعة) بن نضلة الوالبيّ البجلي، أبو المغيرة الكوفي، يروي عن علي بن أبي طالب وسلمان، وعنه الحكم وأبو إسحاق، وثّقه ابن معين والنسائي، له في البخاريّ ومسلم فرد حديث، وخرج له الستة.

(قال: شهدت عليّا) ؛ أي: ابن أبي طالب- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه) ؛ أي: شاهدته وحضرته (أتي) - بالبناء للمفعول-، والجملة حال؛ أي: والحال أنّه أتاه بعض خدمه (بدابّة ليركبها)، والدابّة في العرف الطارئ:

فرس، أو بغل، أو حمار، وأصلها: كلّ ما دبّ على الأرض من الحيوان؛ ذكرا كان، أو أنثى، ثم خصّ بما ذكر.

(فلمّا وضع رجله في الرّكاب) - بكسر الراء- (قال: باسم الله) ؛ أي:

أركب، فالجارّ والمجرور متعلّق بمحذوف.

وأتى بذلك!! اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما يدلّ عليه قوله الآتي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، وكأنّه صلى الله عليه وسلم أخذه من قوله تعالى- حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام لما ركب السفينة- (بِسْمِ اللَّهِ)[41/ هود] ، لأن الدابة في البرّ كالسفينة في البحر؛ كما أفاده العصام، غير أنّه لم يفصح عن ذلك حيث قال: كأنّه

ص: 398

فلمّا استوى على ظهرها.. قال: الحمد لله، ثمّ قال:

(سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف: 13- 14] .

ثمّ قال: الحمد لله (ثلاثا) ، والله أكبر (ثلاثا) ،

مأخوذ من قول نوح لما ركب السفينة

الخ.

واعترض عليه بعض الشرّاح بأن عليّا نقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتأسّى به، فكيف يقال «إنّه مأخوذ من قول نوح» !! وهو مبنيّ على ما فهمه المعترض؛ من أن مراد العصام أن عليّا هو الآخذ لذلك من قول نوح، وليس كذلك، بل النبي صلى الله عليه وسلم هو الآخذ له كما علمت.

(فلمّا استوى) ؛ أي: استقرّ (على ظهرها؛ قال: الحمد لله) - أي: شكرا لله على هذه النعمة العظيمة، وهي تذليل هذه الدابة، وإطاقته لنا على ركوبها مع الحفظ عن شرّها.

(ثمّ قال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ) أي: ذلل (لَنا) أي: لأجلنا، أي تنزيها له عن الاستواء على مكان كالاستواء على الدابة؛ أو تنزيها له عن الشريك، أو عن العجز عن تسخير هذه الدابّة وتذليلها لنا، وقوله (هذا) - أي: المركوب (وَما كُنَّا لَهُ) - أي: لتسخيره- (مُقْرِنِينَ) - أي: مطيقين لولا تسخيره لنا- (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)(14)[الزخرف] . أي: وإنّا إلى حكمه وجزائه لراجعون في الدار الآخرة.

وإنما قال ذلك!! لأن ركوب الدابّة قد يكون سببا للتلف، فقد ينقلب عنها فيهلك، فتذكر الانقلاب إلى ربّ الأرباب، فينبغي لمن اتصل به سبب من أسباب الموت أن يكون حاملا له على التوبة والإقبال على الله تعالى في ركوبه ومسيره، فقد يحمل من فوره على سريره.

(ثمّ قال: الحمد لله ثلاثا) ؛ أي ثلاث مرات، كرّره لعظمة تلك النعمة، التي ليست مقدورة لغيره تعالى، (والله أكبر ثلاثا) ؛ تعجبا للتسخير، أو دفعا لكبر

ص: 399

سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي؛ فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت.

ثمّ ضحك. فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟

قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ثمّ ضحك. فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا رسول الله؟

قال: «إنّ ربّك ليعجب من عبده إذا قال: ربّ اغفر لي ذنوبي، يعلم أنّه لا يغفر الذّنوب أحد غيره» .

النفس من استيلائها على المركوب. (سبحانك؛) - أي: تنزيها لك عن الحاجة إلى ما يحتاج إليه عبادك، وإنما أعاد التسبيح!! توطئة لما بعده، ليكون مع اعترافه بالظّلم أنجح لإجابة سؤاله- (إنّي ظلمت نفسي) بعدم القيام بشكر هذه النعمة العظمى وغيرها من النعم (فاغفر لي) أي: استر ذنوبي؛ فلا تؤاخذني بالعقاب عليها، (فإنّه) ؛ أي لأنّه (لا يغفر الذّنوب) أحد (إلّا أنت) ، ففيه إشعار للاعتراف بتقصيره، مع إنعام الله عليه.

(ثمّ ضحك) ؛ أي: علي. (فقلت) - أي: له؛ كما في نسخة من «الشمائل» ، وفي أخرى: فقال؛ أي عليّ بن ربيعة، وفيه التفات:(من أيّ شيء ضحكت) ؟! وفي نسخة من «الشمائل» : من أيّ شيء تضحك (يا أمير المؤمنين) هذا يدلّ على أنّ هذه القضية كانت في أيام خلافته.

(قال) ؛ أي عليّ مجيبا له: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت) قولا وفعلا، (ثمّ ضحك) كما ضحكت.

(فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا رسول الله؟ قال: «إنّ ربّك ليعجب) أي: ليرضى، فالمراد بالعجب في حقّه تعالى لازمه؛ وهو الرضا، لاستحالة حقيقته عليه تعالى، ولهذا الرضى المقتضي لفرح النبي صلى الله عليه وسلم ومزيد النعمة عليه ضحك، ولمّا تذكّر عليّ كرم الله وجهه ذلك أوجب مزيد شكره وبشره فضحك.

وقوله (من عبده) - الإضافة للتشريف- (إذا قال: ربّ اغفر لي ذنوبي، يعلم) - حال: أي قال ذلك حال كونه يعلم- (أنّه) - أي: الشأن- (لا يغفر الذّنوب أحد غيره» ) !! كذا في بعض نسخ «الشمائل» ، وهو ظاهر، لأنه من

ص: 400

وأمّا بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتّى تهملان، ويسمع لصدره أزيز، يبكي:

رحمة لميّت، و: خوفا على أمّته وشفقة، و: من خشية الله تعالى، كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض نسخ «الشمائل» : غيري. وتوجيهه أن يجعل «يعلم» مقولا لقول محذوف؛ أي: قائلا يعلم، ويجعل ذلك حالا من فاعل «يعجب» ، والمعنى أنه تعالى يعجب من عبده إذا قال «ربّ اغفر لي» حالة كونه تعالى قائلا يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري؛ كما يؤخذ من المناوي. انتهى «باجوري» .

(وأمّا بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتّى تهملان) - بضم الميم-: يسيل دمعهما، وإثبات النون مع «حتى» قليل، نحو:

أن تقرآن على أسماء ويحكما

منّي السّلام وأن لّا تشعرا أحدا

أو على حذف المبتدأ، أي: أنّهما تهملان، أو هما تهملان، ف «حتّى» ابتدائية. نحو:

حتّى ماء دجلة أشكل

(ويسمع لصدره أزيز) - بزايين منقوطتين-: أي صوت، وأصل الأزيز:

غليان القدر.

(يبكي رحمة لميّت) استئناف بيانيّ، وهو الواقع في جواب سؤال مقدّر نشأ مما قبله، كأن قائلا قال له: لم كان يبكي؟ فقال: يبكي رحمة لميت.

(وخوفا على أمّته وشفقة) عليهم، (ومن خشية الله تعالى) ؛ وهي خوف مقرون بتعظيم ناشىء عن معرفة كاملة، وهي للعلماء بالله تعالى، قال الله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [28/ فاطر] ؛ أي: لا الجهال، وقال صلى الله عليه وسلم:«أنا أتقاكم لله وأشدّكم لله خشية» . فالخشية أخصّ من الخوف، وخشية الله تعالى هي خوف عقابه، مع تعظيمه بأنه غير ظالم في فعله، بخلاف مطلق الخوف، فإنه يتحقّق عند تهديد الظالم له.

ص: 401

و: عند سماع القرآن، و: أحيانا في صلاة اللّيل.

فعن عبد الله بن الشّخّير رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء.

(وعند سماع القرآن، وأحيانا في صلاة اللّيل) ؛ قاله في «الهدي النبوي» ، نقله عنه في «المواهب» .

أما بكاؤه في صلاة الليل، ففيما رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي في «الشمائل» وهذا لفظها، ورواه ابن خزيمة وابن حبّان في «صحيحيهما» ؛

(فعن عبد الله بن الشّخّير) - بمعجمتين مشددتين مسكورتين فمثناة تحتية فراء- ابن عوف بن كعب بن وقدان بن الجريش «وهو معاوية» بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكعبي الجرشي البصري، نزيل البصرة.

صحابيّ من مسلمة الفتح، خرّج له الجماعة إلا البخاريّ، وأدرك الجاهلية والإسلام، وروى له مسلم في «صحيحه» حديثين، روى عنه ابناه زيد ومطرّف (رضي الله تعالى عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي) ؛ أي: والحال أنّه يصلي. فالجملة حاليّة، وكذا جملة قوله (ولجوفه) : صدره (أزيز) - بزايين منقوطتين بينهما تحتية على وزن فعيل- أي: غليان. وقيل: صوت (كأزيز المرجل) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم وآخره لام- هو: القدر من النحاس، وقيل: كلّ قدر يطبخ فيه، سمّي بذلك!! لأنّه إذا نصب فكأنّه أقيم على رجلين.

ويؤخذ من ذلك أنّه إذا لم يكن الصوت مشتملا على حرفين؛ أو حرف مفهم لم يضرّ في الصلاة.

وفي رواية ابن خزيمة وابن حبّان بلفظ «كأنين الرّحى» (من البكاء) ؛ أي:

من أجله بسبب عظيم الخوف والإجلال لله سبحانه وتعالى، وذلك مما ورثه من أبيه إبراهيم، فإنه كان يسمع من صدره صوت كغليان القدر على النار من مسيرة ميل.

وفيه دلالة على كمال خوفه وخضوعه لربّه، قال:«إنّي لأعلمكم بالله وأشدّكم له خشية» وقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا» رواهما البخاريّ.

ص: 402

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ» ، فقلت: يا رسول الله؛ أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: «إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري» . فقرأت سورة النّساء

ومن هذا الحديث الذي في المتن ونحوه استنّ أهل الطريق الخوف والوجل والتواجد في أحوالهم، وهذا الحال إنّما كان يعرض له صلى الله عليه وسلم عند تجلّي الله عليه بصفات الجلال والجمال معا، فيمتزج الجلال مع الجمال، وإلّا! فالجلال غير الممزوج لا يطيقه أحد من الخلائق، وإذا تجلّى الله عليه بصفات الجمال المحض تلألأ سرورا ونورا وملاطفة وإيناسا وبسطا.

(و) أما بكاؤه عند سماع القرآن! ففيما أخرجه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» واللفظ لها؛

(عن عبد الله بن مسعود) الصحابيّ الجليل صاحب النعلين والوساد- وقد مرّت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال:

قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهو على المنبر- كما في «الصحيحين» -: ( «اقرأ عليّ» ) بتشديد الياء. (فقلت يا رسول الله؛ أقرأ عليك) ؛ أي: أأقرأ عليك؟

فهو استفهام محذوف الهمزة. (و) الحال أنّه (عليك) ؛ لا على غيرك (أنزل) !!

فهم ابن مسعود أنّه أمره بالقراءة ليتلذّذ بقراءته؛ لا ليختبر ضبطه وإتقانه، فلذا سأل متعجبا، وإلّا! فلا مقام للتعجب.

(قال: «إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري) ، وإنما أحبّ ذلك!! لكون السامع خالصا لتعقّل المعاني، بخلاف القارىء، فإنّه مشغول بضبط الألفاظ وإعطاء الحروف حقّها، ولأنّه اعتاد سماعه من جبريل، والعادة محبوبة بالطبع.

ومن فوائد هذا الحديث التنبيه على أن الفاضل لا ينبغي أن يأنف من الأخذ عن المفضول، فقد كان كثير من السلف يستفيدون من طلبتهم.

(فقرأت سورة النّساء) ؛ أي: شرعت في قراءتها، وفي ذلك ردّ على من

ص: 403

حتّى بلغت: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)[النساء: 41] . قال:

فرأيت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تهملان.

وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة له صغيرة

قال: «لا يقال سورة النساء» مثلا، وإنما يقال «سورة تذكر فيها النساء» .

(حتّى بلغت) ؛ أي: وصلت إلى قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)(41)[النساء] .

وفي «الصحيحين» زيادة أنه قال له: «حسبك الآن» ، ومعنى الآية- والله أعلم-: فكيف حال من تقدّم ذكرهم، إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد يشهد عليها بعملها؛ فيشهد بقبيح عملها وفساد عقائدها وهو نبيّها، وجئنا بك يا محمد على هؤلاء الأنبياء شهيدا، أي: مزكّيا لهم ومثبتا لشهادتهم، وقيل: الذين يشهدون للأنبياء هذه الأمة والنبي صلى الله عليه وسلم يزكّيها.

(قال) ؛ أي: ابن مسعود: فالتفتّ إليه (فرأيت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تهملان) بفتح التاء وسكون الهاء وضم الميم أو كسرها- أي: تسيل دموعهما لفرط رأفته ومزيد شفقته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استحضر أهوال القيامة وشدّة الحال التي يحقّ لها البكاء.

وفيه ندب الاستماع للقراءة، والإصغاء إليها والبكاء عندها، والتدبّر والتواضع لأهل العلم ورفع منزلتهم، وجواز استماع القرآن من محلّ عال والقارىء أسفل منه، وجواز طلبها ممّن هو دونه رتبة وعلما، وحلّ أمر الغير بقطع قراءته للمصلحة. والله أعلم.

(و) أما بكاؤه رحمة لميت!! ففيما أخرجه النسائي، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ له-:(عن ابن عبّاس) الهاشمي- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنهما؛ قال:

أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة له) - زاد النسائي في روايته- (صغيرة) ؛ وهي بنت بنته زينب من أبي العاصي بن الربيع، فنسبتها إليه مجازية، وليس المراد بنته لصلبه، لأنّه صلى الله عليه وسلم كان له أربع بنات، وكلّهنّ كبرن وتزوّجن، وإن كان ثلاث منهن

ص: 404

تقضي، فاحتضنها فوضعها بين يديه، فماتت وهي بين يديه وصاحت أمّ أيمن، فقال: - يعني: النّبيّ صلى الله عليه وسلم:

«أتبكين عند رسول الله؟!» . أي: بكاء محظورا مقترنا بالصّياح دالّا على الجزع

متن في حياته، لكن لا يصلح وصف واحدة منهن بالصغر، وقد وصفها في رواية النسائي بالصغر، فتعيّن أن يكون المراد إحدى بنات بناته؛ وهي أمامة بنت بنته زينب المتقدّمة.

(تقضي) - بفتح التاء وكسر الضاد-؛ أي: تشرف على الموت، وإن كان أصل القضاء الموت؛ لا الإشراف عليه، ومع ذلك لم تمت حينئذ، بل عاشت بعده صلى الله عليه وسلم حتّى تزوّجها عليّ بن أبي طالب. ومات عنها، كما اتفق عليه أهل العلم بالأخبار.

(فاحتضنها) ؛ أي: حملها في حضنه- بكسر الحاء- وهو: ما دون الإبط؛ أي: الكشح.

(فوضعها بين يديه) ؛ أي: بين جهتيه المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه، فسمّيت الجهتان «يدين» لكونهما مسامتتين لليدين، كما يسمّى الشيء باسم مجاوره.

(فماتت) ؛ أي: أشرفت على الموت- كما علمت- (وهي بين يديه) الجملة حالية؛ أي: والحال أنها بين يديه، (وصاحت) ؛ أي: صرخت (أمّ أيمن) بفتح الهمزة والميم- واسمها بركة- بفتح الباء الموحدة والراء- وكنّيت بابنها أيمن رضي الله عنه، وهي حاضنته صلى الله عليه وسلم ومولاته، ورثها من أبيه وأعتقها حين تزوّج بخديجة، وزوّجها لزيد مولاه، وأتت له بأسامة، وماتت بعد وفاة عمر بعشرين يوما.

(فقال- يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم) وهذا تفسير من التابعي، والضمير في «يعني» راجع إلى ابن عباس:( «أتبكين) - بهمزة الاستفهام الإنكاري- (عند رسول الله؟!» ) صلى الله عليه وسلم!! (أي) أتبكين (بكاء محظورا مقترنا بالصّياح؛ دالّا على الجزع) وعدم الرضا بالقضاء، والقصد من ذلك الإنكار والزجر، وإنما قال: عند رسول الله. ولم يقل عندي!! لأنّ ذلك أبلغ في الزجر وأمنع عن الخروج عما جوّزته

ص: 405

فقالت: ألست أراك تبكي؟ قال: «إنّي لست أبكي، إنّما هي رحمة، إنّ المؤمن بكلّ خير على كلّ حال، إنّ نفسه تنزع من بين جنبيه؛ وهو يحمد الله عز وجل» .

الشريعة. والصياح؛ وهو: رفع الصوت بالبكاء حرام، لكنّها لما رأت دمع عينيه ظنت حلّه؛ (فقالت: ألست أراك تبكي) ؟ فأنا تابعتك واقتديت بك، وظنّي جواز البكاء؛ وإن اقترن بنحو صياح!!

(قال: «إنّي لست أبكي) بكاء على سبيل الجزع وعدم الصبر كبكائك، ولا يصدر عني ما نهى الله عنه من الويل والثبور والصياح وغير ذلك، بل بكائي دمع العين فقط (إنّما هي) ؛ أي: الدمعة التي رأيتها (رحمة» ) ؛ أي أثر رحمة جعلها الله تعالى في قلبي.

ولا ينافي هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها (ما بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميت قطّ وإنّما غاية حزنه أن يمسك لحيته) لأنّ مرادها ما بكى على ميت أسفا عليه بل رحمة له.

ويؤيّده ما ورد: «إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضي الرّبّ، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» ؛ قاله ملا علي قاري في «جمع الوسائل» رحمه الله.

ثمّ إنّه صلى الله عليه وسلم بيّن وجه كونها رحمة؛ فقال: (إنّ المؤمن) - الكامل ملتبس- (بكلّ خير على كلّ حال) - من نعمة أو بلية، لأنه يحمد ربّه على كلّ منهما، أما النعمة! فظاهر، وأما البلية! فلأنه يرى أنّ المحنة عين المنحة لما يترتّب عليها من الثواب، كما قال: - (إنّ نفسه) - أي: روحه- (تنزع) - بصيغة المفعول؛ أي: تقبض- (من بين جنبيه؛ وهو) - أي والحال أنه- (يحمد الله عز وجل ، فلا تشغله تلك الحالة من الحمد.

قال في «جمع الوسائل» : والمعنى ينبغي أن يكون المؤمن الكامل ملابسا بكلّ خير على كلّ حال من أحواله، حتّى أنه في نزع روحه يحمد الله تعالى، ويراه من الله سبحانه رحمة له وكرامة، وخيرا له من حياته، فإن الموت تحفة المؤمن وهدية الموقن. انتهى.

ص: 406

وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: شهدنا ابنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان.

وعن عائشة رضي الله عنها:

(و) فيما أخرجه البخاريّ في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» واللفظ له:(عن أنس بن مالك) خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال:

شهدنا) - أي: حضرنا- (ابنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي: أمّ كلثوم، ووهم من قال (رقية) ، فإنّها ماتت ودفنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر.

ولما عزّي صلى الله عليه وسلم برقيّة قال: «الحمد لله، دفن البنات من المكرمات» . ثم زوّج عثمان «أمّ كلثوم» هذه، وقال:«والّذي نفسي بيده؛ لو أنّ عندي مائة بنت لزوّجتكهنّ واحدة بعد واحدة» .

(ورسول الله) - أي: والحال أن رسول الله- (جالس على القبر) أي: على طرفه (فرأيت عينيه تدمعان) - بفتح الميم- أي: تسيل دموعهما، وتمام الحديث؛ فقال:«أفيكم رجل لم يقارف اللّيلة» ؟! قال أبو طلحة: أنا، قال:

«انزل» فنزل في قبرها. انتهى

الحديث.

ومعنى «لم يقارف» ؛ أي: لم يجامع تلك الليلة، فالمقارفة كناية عن الجماع، وأصلها الدنوّ واللّصوق، وفي رواية:«لا يدخل القبر أحد قارف البارحة» ، فتنحّى عثمان لكونه كان باشر تلك الليلة أمة له، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من نزول قبرها؛ معاتبة له لاشتغاله عن زوجته المحتضرة، وأيضا فحديث العهد بالجماع قد يتذكّر ذلك فيذهل عما يطلب من أحكام الإلحاد وإحسانه.

(و) فيما أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي في «الجامع» وفي «الشمائل» باختلاف في الألفاظ- وهذا لفظ «الشمائل» -:(عن عائشة) بنت أبي بكر الصّديقة بنت الصّديق- تقدّمت ترجمتها- (رضي الله) تعالى (عنها) وعن والدها، وعن أصحاب رسول الله أجمعين، وجمعنا بهم في مستقرّ رحمته. آمين.

ص: 407

أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون، وهو ميّت، وهو يبكي.

(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل) - بتشديد الباء- (عثمان) في وجهه، أو بين عينيه (بن مظعون) - بالظاء المعجمة-، وكان أخاه من الرضاع،

وهو قرشيّ أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا، وكان حرّم الخمر في الجاهلية، وهو أوّل من مات من المهاجرين بالمدينة؛ في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة، وكان عالما عابدا مجتهدا من فضلاء الصحابة، ودفن بالبقيع، ولما دفن قال صلى الله عليه وسلم:«نعم السّلف هو لنا» .

وقوله (وهو ميّت) جملة حالية؛ أي: والحال أن عثمان ميّت، وفيه ندب تقبيل الميت الصالح.

قال ابن حجر الهيتمي في «فتح الإله شرح المشكاة» : حكم المسألة إن كان الميت صالحا سنّ لكلّ أحد تقبيل وجهه التماسا لبركته، واتباعا لفعله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن مظعون- كما سيأتي-

وإن كان غير صالح؟ جاز ذلك بلا كراهة لنحو أهله وأصدقائه، لأنّه ربّما كان مخففا لما وجده من ألم فقده، ومع الكراهة لغير أهل الميت، إذ قد لا يرضى به؛ لو كان حيا من غير قريبه وصديقه، ومحلّ ذلك كلّه ما لم يحمل التقبيل فاعله على جزع؛ أو سخط كما هو الغالب من أحوال النساء، وإلّا حرم؛ أو كره. ذكره في «شرح الأذكار» . انتهى.

(وهو) - أي: والحال أن النبي صلى الله عليه وسلم (يبكي) ؛ أي: حتى سالت دموع النبي صلى الله عليه وسلم على وجه عثمان؛ كما في «المشكاة» .

قال في «جمع الوسائل» : وأخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن سفيان الثوري؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون وهو ميت، قال: فرأيت دموع النبي صلى الله عليه وسلم تسيل على خدّ عثمان.

ص: 408

هو أخوه من الرّضاعة.

وكانت عيناه صلى الله عليه وسلم كثيرة الدّموع والهملان.

وكسفت الشّمس مرّة،

وأخرج أيضا عن أبي النضر؛ قال: مرّ بجنازة عثمان بن مظعون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ذهبت ولم تلبّس منها بشيء» ، يعني: من الدنيا.

وهذا مرسل، لكن له شاهد عند ابن الجوزي في «كتاب الوفاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لمّا مات عثمان بن مظعون كشف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه، وقبّل بين عينيه، ثم بكى طويلا، فلما رفع السرير؛ قال:«طوبى لك يا عثمان؛ لم تلبّسك الدّنيا، ولم تلبّسها» ، انتهى.

قال المصنّف: (هو) - أي: عثمان- (أخوه) ؛ أي أخو النبي صلى الله عليه وسلم (من الرّضاعة) - وقد تقدم ذلك-.

(و) أمّا بكاؤه خوفا على أمته! ففيما ذكره الشعراني في «كشف الغمة» بقوله: (كانت عيناه صلى الله عليه وسلم كثيرة الدّموع والهملان) - محركة-، يقال: هملت عينه تهمل- بالكسر- وتهمل- بالضم-، هملا وهملانا وهمولا: فاضت كانهملت، انتهى «قاموس» .

(وكسفت الشّمس) أي: استتر نورها كلّه؛ أو بعضه، يقال كسفت- بفتح الكاف- وانكسفت بمعنى، وأنكر الفرّاء «انكسفت» ، وكذا الجوهريّ ونسبه إلى العامّة.

(مرّة) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم موت ولده إبراهيم، ففي البخاري:

كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم.

ص: 409

فجعل صلى الله عليه وسلم يبكي في الصّلاة وينفخ، ويقول:«يا ربّ؛ ألم تعدني أن لا تعذّبهم وأنا فيهم، وهم يستغفرونك؟ ونحن نستغفرك يا ربّ» .

وجمهور أهل السير على أنّه مات في العاشرة. وقيل: في التاسعة، وذكر النووي أنّه لم يصلّ لكسوف الشمس إلّا هذه المرّة.

وأما خسوف القمر! فكان في الخامسة، وصلّى له صلاة الخسوف؛ انتهى.

والمشهور في استعمال الفقهاء: أنّ الكسوف للشمس والخسوف للقمر؛ قاله الحافظ.

(فجعل صلى الله عليه وسلم يبكي في الصّلاة وينفخ) ؛ من غير أن يظهر النفخ. ولا من البكاء حرفان أو حرف مفهم، أو أنّه كان يغلبه ذلك بحيث لا يمكنه دفعه.

(ويقول: «يا ربّ؛ ألم تعدني أن لّا تعذّبهم، وأنا فيهم) بقولك (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)[33/ الأنفال]

الآية، ربّ ألم تعدني أن لا تعذبهم (وهم يستغفرونك) ، أي بقولك (وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(33)[33/ الأنفال](ونحن نستغفرك يا ربّ» ) .

وإنما قال ذلك!! لأن الكسوف مظنّة العذاب، وإن كان وعد الله لا يتخلّف، لكن يجوز أن يكون مشروطا بشرط اختلّ.

وهذا الحديث رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في «الشمائل» باختلاف في الألفاظ، وفي بعضها بدون ذكر البكاء والنفخ؛ كلهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

قال في «جمع الوسائل» : ووقع في رواية أحمد وابن خزيمة وابن حبان والطبراني بلفظ: وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد، وذلك في الركعة الثانية. انتهى.

ص: 410

وأمّا عطاس رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا عطس.. وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته. وكان صلى الله عليه وسلم إذا عطس.. حمد الله، فيقال له: يرحمك الله، فيقول:«يهديكم الله ويصلح بالكم» .

وكان صلى الله عليه وسلم يكره العطسة الشّديدة في المسجد.

(وأمّا عطاس رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقد) ثبت فيما رواه أبو داود، والترمذي؛ وقال حسن صحيح، والحاكم؛ وقال: صحيح، وأقرّه الذهبي، كلّهم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس) - بفتح الطاء؛ من باب «ضرب» ، وقيل: من باب «قتل» - (وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض)، وفي رواية:

غضّ (بها صوته) ؛ أي: لم يرفعه بصيحة كما يفعله العامّة، وفي رواية لأبي نعيم: خمّر وجهه وفاه، وفي أخرى: كان إذا عطس غطّى وجهه بيده؛ أو ثوبه

الخ، قال التوربشي: هذا نوع من الأدب بين يدي الجلساء، فإنّ العطاس يكره الناس سماعه، ويراه الراءون من فضلات الدّماغ.

(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» بإسناد حسن؛ عن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين:(كان صلى الله عليه وسلم إذا عطس حمد الله) - بكسر الميم- أي: أتى ب «الحمد» عقبه، والوارد عنه: الحمد لله رب العالمين، وروي:

الحمد لله على كلّ حال؛ (فيقال له: يرحمك الله) ظاهره الاقتصار على ذلك، لكن ورد عن ابن عباس بإسناد صحيح يقال: عافانا الله وإيّاكم من النار، يرحمكم الله، ولا يسنّ تشميت العاطس إلّا بعد أن يحمد الله تعالى، ويسنّ تذكيره الحمد؛ (فيقول:«يهديكم الله ويصلح بالكم» ) ؛ أي: حالكم.

(و) أخرج البيهقي في «سننه» ، وكذا في «الشعب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره العطسة الشّديدة في المسجد)

ص: 411

وكان صلى الله عليه وسلم يكره رفع الصّوت بالعطاس.

أمّا التّثاؤب: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهه من غيره، وقد حفظه الله تعالى منه، وما تثاءب نبيّ قطّ.

- زاد في رواية: أنّها من الشيطان-، والعطسة الشديدة مكروهة في المسجد وغيره، لأنّه كان يكره رفع الصوت بالعطاس، لكنها في المسجد أشدّ كراهة.

انتهى. «مناوي وعزيزي» .

(وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره رفع الصوت بالعطاس.

أمّا التّثاؤب) !! قال القاضي: تفاعل؛ من الثوباء- بالمد- وهو: فتح الحيوان فمه، لما عراه من تمطّي وتمدّد لكسل وامتلاء، وهي جالبة النوم الذي هو من حبائل الشيطان، فإنّه به يدخل على المصلي ويخرجه عن صلاته، فلذا كرهه صلى الله عليه وسلم؛ كما قال المصنف:

(فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهه من غيره) ؛ أي: يكره سببه؛ وهو كثرة الأكل، لأنّه المفضي إلى التكاسل عن العبادة، لأن من أكل كثيرا شرب كثيرا؛ فنام كثيرا؛ ففاته خير كثير.

ويطلب ممّن غلبه التثاؤب أن يضع يده اليسرى على فيه لدفع الشيطان.

(وقد حفظه الله تعالى منه) ، لأنّه من الشيطان، والأنبياء معصومون من الشيطان، وذكر المصنف التثاؤب لأنّ كلامه في شمائله صلى الله عليه وسلم، ومنها عدم التثاؤب بخلاف غيره، فليس ذكره استطرادا لمضادّته للضحك.

(و) قد ورد في «تاريخ البخاري» و «مصنف ابن أبي شيبة» ؛ عن يزيد بن الأصمّ ابن أخت ميمونة؛ «أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها» مرسلا:

(ما تثاءب نبيّ قطّ) . قال مسلم بن عبد الملك: ما تثاءب نبيّ قط، وإنّها من علامة النبوة، وفي «البخاري» مرفوعا:«إنّ الله يحبّ العطاس ويكره التّثاؤب» .

ص: 412