المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الأول في صفة لباسه صلى الله عليه وسلم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها] - منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول - جـ ١

[عبد الله عبادى اللحجى]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌كلمة الناشر

- ‌ترجمة الشّيخ عبد الله اللحجي

- ‌فأخذ عن مشايخها وهم:

- ‌السيد عبد الرحمن بن محمد الأهدل

- ‌ومن شيوخ الشيخ اللحجي في المراوعة: الشيخ العلامة السيد: عبد الرحمن بن حسن

- ‌ومن شيوخ الشيخ عبد الله اللحجي في اليمن: الشيخ العلّامة الحبر البحر الفهّامة أبو الفضائل عزّ الدين السيد: محمد حسن هند بن عبد الباري

- ‌رحلته إلى مكة المكرمة:

- ‌اتّصاله بالوالد السيد علوي المالكي:

- ‌ومن شيوخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرمة: الإمام العلّامة المحدّث شيخنا الشيخ: حسن بن محمد المشّاط المكّي المالكي

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكة المكرمة العلّامة الإمام المؤرّخ المحقق شيخ المشايخ السيد الشيخ محمد العربي

- ‌ومن مشايخ عبد الله اللحجي بمكة المكرمة العلّامة المسند الشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني المكّي

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي من أهل مكة المكرمة العلامة السيد: محمد أمين الكتبي المكيّ الحنفي

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلّامة الشيخ: محمد يحيى أمان المكّيّ الحنفي

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللّحجي من أهل المدينة المنوّرة العلّامة الشيخ: أمين بن أحمد الطرابلسي- طرابلس الغرب- المالكيّ

- ‌ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلّامة الشيخ: إسحاق بن إبد بن محمد نور الصامولي

- ‌روايته وأسانيده:

- ‌[مناقبه]

- ‌صلتي بالشيخ اللّحجي

- ‌صلة خاصة:

- ‌مؤلفاته:

- ‌وفاته:

- ‌تعريف بكتاب منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌[فهرست مطالب الكتاب]

- ‌[المقدّمة: وهي تشتمل على تنبيهين]

- ‌[التّنبيه الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل]

- ‌[التّنبيه الثّاني: في الفوائد المقصودة: من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب الأوّل في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسمائه الشّريفة]

- ‌[الفصل الأوّل في نسبه الشّريف صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّاني في أسمائه الشّريفة صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب الثّاني في صفة خلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الأوّل في جمال صورته صلى الله عليه وسلم، وما شاكلها]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة بصره صلى الله عليه وسلم واكتحاله]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة شعره صلى الله عليه وسلم، وشيبه، وخضابه، وما يتعلق بذلك]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة عرقه صلى الله عليه وسلم ورائحته الطّبيعيّة]

- ‌[الفصل الخامس في صفة طيبه صلى الله عليه وسلم وتطيّبه]

- ‌[الفصل السّادس في صفة صوته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل السّابع في صفة غضبه صلى الله عليه وسلم وسروره]

- ‌[الفصل الثّامن في صفة ضحكه صلى الله عليه وسلم وبكائه]

- ‌[الفصل التّاسع في صفة كلامه صلى الله عليه وسلم وسكوته]

- ‌[الفصل العاشر في صفة قوّته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب الثّالث في صفة لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفراشه وسلاحه]

- ‌[الفصل الأوّل في صفة لباسه صلى الله عليه وسلم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة فراشه صلى الله عليه وسلم، وما يناسبه]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة خاتمه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة نعله صلى الله عليه وسلم وخفّه]

- ‌[الفصل الخامس في صفة سلاحه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل السّادس كان من خلقه صلى الله عليه وسلم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه]

- ‌فهرسة الجزء الأول من كتاب منتهى السول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌[الفصل الأول في صفة لباسه صلى الله عليه وسلم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها]

[الفصل الأوّل في صفة لباسه صلى الله عليه وسلم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها]

الفصل الأوّل في صفة لباسه صلى الله عليه وسلم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها (الفصل الأوّل) من الباب الثّالث (في) بيان ما ورد في (صفة لباسه صلى الله عليه وسلم .

في «الصحاح» وغيره: إنّ اللّباس بوزن كتاب: ما يلبس، وكذا الملبس بوزن المذهب، واللّبس بوزن حمل، واللّبوس بوزن صبور.

واللّباس تعتريه الأحكام الخمسة: فيكون واجبا؛ كاللّباس الذي يستر العورة عن العيون. ومندوبا؛ كالثّوب الحسن للعيدين، والثّوب الأبيض للجمعة ومحرما؛ كالحرير للرجال. ومكروها؛ كلبس الخلق دائما للغنيّ. ومباحا؛ وهو ما عدا ذلك.

وقوله (من قميص) : هو اسم لما يلبس من المخيط الذي له كمّان وجيب، يلبس تحت الثّياب ولا يكون من صوف؛ كذا في «القاموس» ، مأخوذ من التّقمّص، بمعنى: التّقلّب، لتقلّب الإنسان فيه، وقيل: سمي باسم الجلدة الّتي هي غلاف القلب، فإنّ اسمها القميص، (وإزار) : وهو ما يستر أسفل البدن، (ورداء) : وهو ما يستر أعلاه،

(وقلنسوة) - بفتح القاف واللّام وسكون النّون وضمّ المهملة وفتح الواو-:

غشاء مبطّن يستر الرأس، فهي من ملابس الرّأس، كالبرنس الذي تغطى به العمامة من نحو شمس ومطر.

قال ابن العربي: القلنسوة من لباس الأنبياء والصّالحين السّالكين، تصون الرّأس وتمكّن العمامة وهي من السّنة، وحكمها أن تكون لاطية لا مقبية، إلّا أن

ص: 432

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في «الشّفا» :

يفتقر الرّجل إلى أن يحفظ رأسه عمّا يخرج منه من الأبخرة؛ فيقبّها ويثقب فيها، فيكون ذلك تطبّبا. انتهى (مناوي) .

(وعمامة) : كلّ ما يلفّ على الرّأس. والعمامة سّنة، لا سيّما للصّلاة وبقصد التجمّل، لأخبار كثيرة فيها؛ جمعها بعضهم في مؤلف سماه «الدّعامة» ، وتحصل السّنة بكونها على الرّأس؛ أو على قلنسوة، ففي الخبر:«فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» .

وأما لبس القلنسوة وحدها فهو زيّ المشركين، وما ورد مما يفيد: أنّه صلى الله عليه وسلم كان يلبس القلنسوة وحدها!! فلعلّه حين يكون في البيت. (ونحوها)، أي:

المذكورات كجبّة وبرد.

(قال) الفقيه الإمام (القاضي) أبو الفضل (عياض) - بكسر العين المهملة وفتح المثنّاة، وبعدها ألف وضاد معجمة- ابن موسى بن عياض اليحصبيّ السّبتيّ الغرناطيّ المالكيّ، صاحب التّصانيف الجليلة، المتبحّر في العلوم النّقليّة والعقليّة، المتوفّى سنة: - 544- أربع وأربعين وخمسمائة؛ في جمادى الآخرة بمرّاكش- وقد تقدمت ترجمته- (رحمه الله تعالى في) كتاب ( «الشّفا» ) الّذي كلّه حسنات، وقد شوهدت بركته حتى لا يقع ضرر لمكان كان فيه، ولا تغرق سفينة كان فيها، وإذا قرأه مريض أو قرىء عليه شفاه الله تعالى، وقد جرّبه بعضهم وكان ابتلي بمرض فقرأه فعافاه الله تعالى منه، وقال في ذلك:

ما بالكتاب هواي لكنّ الهوى

أمسى بمن أمسى به مكتوبا

كالدّار يهوى العاشقون بذكرها

شغفا بها لشمولها المحبوبا

أرجو الشّفاء تفاؤلا باسم الشّفا

فحوى الشّفاء وأدرك المطلوبا

وبقدر حسن الظّنّ ينتفع الفتى

لا سيّما ظنّ يصيح مجيبا

وقد ذكر القاضي عياض الكلام الآتي في «الشفاء» أثناء الضّرب الثّالث مما

ص: 433

(انظر سيرة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم وخلقه في المال.. تجده قد أوتي خزائن الأرض ومفاتيح البلاد، وأحلّت له الغنائم؛ ولم تحلّ تدعو إليه ضرورة الحياة قائلا: (انظر سيرة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ؛ أي: طريقته وهديه (وخلقه) - بضمّتين أو ضمّ فسكون- أي: سجيّته الشريفة، (في المال) ؛ أي:

في حقّ أخذه وعطائه، وامتناعه عن التلبّس بوجوده وبقائه، (تجده) - بالجزم؛ أي: تعلمه- (قد أوتي خزائن الأرض) ؛ أي: عرضت عليه (ومفاتيح البلاد) ؛ أي: أعطيت له، كما ورد في الحديث الصحيح في «مسلم» :«بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض؛ فوضعت في يدي» .

وفي كتاب «الوفا» ؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه مسندا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتيت بمقاليد الدّنيا على فرس أبلق، عليه قطيفة من سندس» وإليه أشار الصّرصريّ رحمه الله تعالى بقوله:

بعثت مقاليد الكنوز جميعها

تهدى إليه على سراة حصان

جعلت عليه قطيفة من سندس

فله استقام الزّهد عن إمكان

ومثله ثابت من طرق عديدة، وهذا يدل على أنّ الله تعالى أعطاه ذلك حقيقة.

وخزائن الأرض: دفائنها ومعادنها، بأن يطلعه الله تعالى عليها، ويجعل الملائكة الموكّلين بها طوع يده. فإنّ السّلطان خزينته بيد خازنها حاضر مطيع لديه، فهذا معنى كونها في يده عرفا.

وأمّا المفاتيح!! فإن كانت بمعنى الخزائن؛ فكذلك، وإن كانت جمع مفتاح بمعنى آلة الفتح!! فإعطاؤها إرسالها؛ كما هو ظاهر الحديث السّابق.

وقيل: إنّه كناية عن فتح البلاد عليه وعلى أمّته بعده، وجباية أموالها إليهم، واستخراج كنوزها لديهم، وتلويح بالتوصّل إليها كما يتوصّل بالمفاتيح إلى ما أغلق عليه من أبوابها. انتهى شرح «الشّفا» للخفاجيّ والقاري.

(وأحلّت له الغنائم) ؛ لزيادة الفضيلة، (ولم تحلّ) بصيغة المجهول

ص: 434

لنبيّ قبله، وفتح عليه في حياته صلى الله عليه وسلم بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب

المناسب ل «أحلت» ، أو بفتح أوّله وكسر ثانيه؛ أي: والحال أنّها لم تبح (لنبيّ قبله) ، إذ جاء في الآثار أنّهم كانوا يجمعون الغنائم فتأتي نار من السّماء فتأكلها، وفي حديث مسلم:«لم تحلّ الغنائم لأحد من قبلنا، وذلك لأنّ الله تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا» .

والغنيمة: ما يؤخذ من الكفّار، وكذا الفيء. وفرّق الفقهاء بينهما؛ بأنّ الفيء: ما يحصل بلا قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، والغنيمة: ما حصل بقتال. وقد يستعمل كلّ منهما لما يعمّ الآخر كما فيما نحن فيه (وفتح عليه في حياته صلى الله عليه وسلم بلاد الحجاز) ، وهي مكة، والمدينة، والطائف، واليمامة، وخيبر وقراها، وطرقها الممتدّة بينها. وقيل: غير ذلك، وقيل: المدينة نصفها حجازيّ ونصفها تهاميّ، والحجاز بمعنى الحاجز.

وسمّيت هذه البلاد بالحجاز!! لأنّها تحجز بين نجد وتهامة، أو بين اليمن والشّام. وقيل غير ذلك.

(واليمن) - بالرفع والجر- وسمّي به!! لكونه عن يمين الكعبة لمن وقف بالباب ووجهه لخارج، وهو المعتبر لكونه بمنزلة المنبر.

(وجميع جزيرة) - فعيلة- من جزر الماء؛ وهو انكشافه ورجوعه، ضدّ المدّ. وجزيرة (العرب) : ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق طولا، ومن جدّة وما والاها ومن ساحل البحر إلى أطراف الشّام عرضا؛ عند الأصمعي. وقال أبو عبيدة من حفر أبي موسى الأشعريّ إلى أقصى اليمن طولا، ومن رمل قبرس إلى منقطع السّماوة عرضا.

وسميت جزيرة!! لأنّ بحر فارس وبحر الحبشة ودجلة والفرات أحاطت بها، وقال مالك: جزيرة العرب الحجاز واليمن واليمامة، وما لم يبلغه ملك فارس والروم.

وقيل: جزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة واليمن، ولعل هذا معنى قول مالك.

ص: 435

وما دانى ذلك من الشّام والعراق، وجلب إليه من أخماسها وجزيتها وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلّا بعضه، وهادنه

(وما دانى ذلك) ؛ أي: ما قارب بلاد الحجاز وجزيرة العرب (من الشّام) بالهمز السّاكن وإبداله ألفا، ويقال بفتح الشّين والمدّ؛ على وزن فعال، وهو يذكّر ويؤنّث.

والمشهور أنّ حد الشّام من العريش إلى الفرات طولا، وقيل: إلى نابلس.

وعرضا من جبل طيّ من نحو القبلة إلى بحر الرّوم وما سامت ذلك من البلاد، وقد دخله النّبي صلى الله عليه وسلم، إلّا أنّه لم يدخل دمشق، بل بلغ إلى بصرى (مدينة حوران) .

قال ابن عساكر في «تاريخه» : دخل الشّام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(والعراق) ؛ أي: عراق العرب، وهو إقليم معروف، وفيه مدن عظيمة وقرى، وطوله من تكريت إلى عبّادان وهي قرية، ولذا قيل في المثل «ما وراء عبّادان قرية» ؛ وعرضه من القادسيّة إلى حلوان، ودجلة حدّه: جانبها الأيمن للعراق؛ واليسار لفارس.

ويدخل في حدود العراق البصرة والكوفة.

أمّا عراق العجم! فهو إقليم خراسان.

ولفظ «العراق» عربي، وقيل: فارسي معرب، وقيل: سمّي عراقا لكثرة عروق أشجاره، (وجلب)، أي: جيء، وفي بعض نسخ «الشّفاء» : وجبيت (إليه من أخماسها) في الغنيمة، (وجزيتها) من أهل الذّمّة، (وصدقاتها) من أغنياء الأمّة (ما لا يجبى)، أي: ما لا يؤتى به (للملوك إلّا بعضه)، أي: لكثرته مع زيادة بركته، روي: أن أعظم مال أتي به إلى النّبي صلى الله عليه وسلم من مال الجزية ما قدم عليه من البحرين، وقدره مائة ألف درهم وثمانون ألف درهم.

(وهادنه)، أي: صالحه، - وفي نسخة صحيحة من «الشفاء» : وهادته

ص: 436

جماعة من ملوك الأقاليم

- بالتاء الفوقيّة- بمعنى: أهدت إليه صلى الله عليه وسلم (جماعة من ملوك الأقاليم) هدايا فقبلها منهم، والأقاليم جمع إقليم كقنديل، وذلك لأن المتقدمين قسموا الأرض سبعة أقسام، سمّوا كل قسم منها إقليما، كما يعلم من فن مساحة الأرض المسمّى جغرافيا، وحد كل إقليم وما فيه من البلدان مفصّل في كتب الهيئة والمساحة.

وقيل: أراد بالأقاليم النّواحي والبلدان، وإن كانت من إقليم واحد أو إقليمين من السّبعة بطريق المجاز، وهو بهذا المعنى مستعمل أيضا، كما يقال: أقاليم مصر فسمّوا كلّ ناحية إقليما.

والهديّة: ما يبعث بلا عوض إلى المهدى إليه إكراما.

وممن هاداه- صلى الله عليه وسلم المقوقس ملك القبط، أهدى له جاريتين وكسوة وبغلة بيضاء وهي دلدل.

وهاداه فروة بن عمرو الجذاميّ «عامل قيصر» ، بعد ما تبرع بالإسلام، وأهدى له بغلة بيضاء تسمّى فضة، وفرسا وأثوابا وقباء من سندس، ولما بلغ ذلك قيصر حبسه مدّة طويلة، ثم أرسل يقول له: ارجع لدينك أطلقك وأعيد لك ملكك.

فأبى؛ وقال: لا أفارق دينه، وإنّك لتعلم أنّه حقّ، ولكن ضننت بملكك، فقال:

صدق والإنجيل.

ومنهم أكيدر دومة؛ كما في «البخاري» .

وأما هدايا غير الملوك التي كانت تصل مع الوفود! فكثيرة لا تحصى كما يعلم من السّير، وأهدى له الرّهبان أيضا كراهب نجران.

ولا منافاة بين قبوله هديّة من لم يسلم منهم كالمقوقس، وردّه بعض هدايا المشركين؛ وقوله:«إنا لا نقبل زيد المشركين» - أي عطيّتهم!! لأنه كان يقبل الهديّة ممّن يرجو إسلامه استئلافا له؛ لما فيه من المصلحة للمسلمين، ويردّ هديّة غيره.

ص: 437

فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما، بل صرفه في مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال:«ما يسرّني أنّ لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار، إلّا دينارا أرصده لدين» .

ثمّ إنّ قبول النّبي صلى الله عليه وسلم الهديّة من خصائصه، لانتفاء التّهمة في حقّه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لغيره من الحكّام.

(فما استأثر) ؛ أي: ما انفرد وما استبدّ وما اختصّ (بشيء منه) دون أصحابه، لرؤيته أنّه أحقّ به كما يفعله الملوك فيما يليق بها.

(ولا أمسك منه درهما) ؛ أي: لم يبق لنفسه منه شيئا، ولم يجعله عنده أو في يده. (بل صرفه في مصارفه) ؛ أي: أنفقه في مواضعه من أنواع الخير وأصناف البرّ (وأغنى به غيره) من الجند والمؤلّفة قلوبهم، لغناه بربّه واستغنائه بقلبه، (وقوّى به المسلمين) بصرفه في مهمّاتهم وقضاء حاجاتهم، وفيما ينصرهم على أعدائهم، ودفع بلائهم، وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر.

(وقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه البخاري، ومسلم، مسندا؛ عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه-:( «ما يسرّني) - أي: لم يجعلني في سرور وفرح- (أنّ لي أحدا ذهبا)، أي: مثل أحد أو نفس أحد يكون ملكا لي وهو ذهب حقيقة. وقوله «ذهبا» ! تمييز، أي: من ذهب، و «أحد» :

بضمّتين وقد تسكّن حاؤه-: اسم جبل معروف قريب من المدينة المنوّرة. سمّي به!! لتوحّده وانقطاعه عمّا هناك من الجبال، وقال صلى الله عليه وسلم فيه:«أحد جبل يحبّنا ونحبّه» .

(يبيت عندي منه) ؛ أي: من مقدار أحد ذهبا، (دينار إلّا دينارا) - بالنّصب على الاستثناء، وبالرّفع على البدل: روايتان- (أرصده) - بفتح الهمزة وضمّ الصّاد، من الرصد، ويجوز ضمّ الهمزة وكسر الصّاد المهملة؛ من الإرصاد- أي:

أحفظه منتظرا (ل) قضاء (ديني) - بفتح الدّال المهملة وسكون المثنّاة التحيّة

ص: 438

وأتته دنانير مرّة، فقسمها، وبقيت منها بقيّة، فدفعها لبعض نسائه، فلم يأخذه نوم حتّى قام وقسمها، وقال:«الآن استرحت» .

ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله،

والنّون، وإرصاده للدّين!! إمّا لأنّ صاحبه غائب، أو لأنّه لم يحلّ أجله. وفيه دليل على جواز الاستقراض، وأنّه لا ينبغي أن يكون المرء مستغرقا في الدين حتى لا يجد له وفاء.

(وأتته دنانير مرّة) وهي كثيرة (فقسمها)، أي: على من استحقّها، (وبقيت منها بقيّة) ؛ أي: قليلة يسيرة، - وفي نسخة من «الشّفا» :«ستّة» - (فدفعها لبعض نسائه) نظرا إلى حدوث حاجة لهنّ إليها- وفي رواية: «فرفعها بعض نسائه» بالراء- وهو إمّا بأمره، وإما على عادة النّساء في حفظ المال لأمر المعاش وغيره.

(فلم يأخذه نوم حتّى قام وقسمها) ؛ اتكالا على كرم ربّه عند الاحتياج إليها، (وقال:«الآن استرحت» ) أي: حصل الرّاحة لقلبي المعتمد على رزق ربّي.

وفيه دلالة واضحة على ما كان عليه من التقلّل من الدّنيا، وملازمة الفاقة في أيّام حياته إلى أوان مماته، كما يدل عليه ما بعده، وإنّما لم يأخذه النّوم حتى قسمها!! لخوفه أن يفجأه الأجل قبل تفريقها، فانظر هذا مع أنه غفر له صلى الله عليه وسلم ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر بعد ما عصمه الله تعالى، انظره مع أشقياء هذا الزّمان، وصرفهم بيت المال في هوى أنفسهم، قاتلهم الله أنّى يؤفكون. انتهى «شرح الشهاب الخفاجي» .

(ومات ودرعه) - مؤنّثة- وهي الزردته (مرهونة)، أي: عند يهوديّ وهو أبو الشّحم. قال ابن الجوزي: إنّ الّتي رهنها صلى الله عليه وسلم هي «ذات الفضول» (في نفقة عياله) ، جمع عيل، وهو: من تلزمه نفقته، وكانت مرهونة إلى سنة في ثلاثين صاعا من شعير على ما في «البخاريّ» و «الترمذي» و «النّسائي» ، وفي «البزّار» : أربعين. وفي «مصنف عبد الرزاق» : وسق شعير وهو ستّون صاعا.

ويمكن الجمع بتعدّد الواقعة.

ص: 439

واقتصر من نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعوه إليه ضرورته، وزهد فيما سواه.

فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشّملة،

ومنه علم جواز معاملة الكفّار؛ مع أن كسبهم لا يخلو من خبث، وجواز الرّهن على الثمن المؤجّل، وقيل: إنّه افتكها قبل وفاته، لكن الأصحّ خلافه، لصريح حديث ابن عباس: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديّ.

ولا ينافي ذلك خبر: «نفس المؤمن معلّقة بدينه حتّى يقضى عنه» !! لأنه محمول على غير الأنبياء.

وكان له صلى الله عليه وسلم عدّة أدراع: «ذات الفضول» . سميت بها! لطولها، أهداها له سعد بن عبادة رضي الله عنه لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر، وذات الحواشي، ودرعان أصابهما من بني قينقاع «السّعديّة» و «فضّة» ، ويقال: إنّ السّعدية كانت درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها لقتال جالوت، و «البتر» ، و «الحريق» . فهذه سبع.

(واقتصر من نفقته وملبسه ومسكنه) - بفتح الكاف وكسرها- أي: من أجلها أو في حقّها (على ما تدعوه إليه ضرورته)، أي: على مقدار قليل لا بدّ له منه، ممّا تقتضيه الحاجة الضّرورية إليه.

(وزهد) - بكسر الهاء بصيغة الماضي، معطوف على «اقتصر» أي: لم يرغب (فيما سواه)، أي: ما سوى مقدار الضّرورة.

(فكان يلبس) - بفتح الياء المثنّاة وفتح الباء الموحّدة- (ما وجده) حاضرا عنده بلا تكلّف، (فيلبس في الغالب الشّملة) - بفتح المعجمة وسكون الميم- وما يشتمل به من الأكسية الّتي يلتحف بها كما في «الفتح» . وقيل: يختصّ بما له هدب. وقال ابن دريد: كساء يؤتزر به وهي البردة، وتسمية العوامّ ما يلفّ على الرّأس «شملة» اصطلاح حادث.

ص: 440

والكساء الخشن، والبرد الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية الدّيباج المخوّصة بالذّهب، ويرفع لمن لم يحضر؛ إذ المباهاة في الملابس

(والكساء) : قريب من البرد؛ (الخشن) - بفتح فكسر- أي: الغليظ، ضدّ الدّقيق الليّن. (والبرد) - بضمّ أوّله وسكون الرّاء- أي: اليمانيّ؛ وهو الثّوب الّذي فيه خطوط. (الغليظ)، أي: الخشن، واختار هذا كله زهدا وقناعة وتنزّها عمّا يلبسه من لا خلاق له تفاخرا، وليس ذلك من عجزه صلى الله عليه وسلم عن فاخر الألبسة، بل لعدم ميله إليها كما قال.

(ويقسم) - بالتّخفيف، ويجوز تشديده بقصد التكثير- (على من حضره) ؛ أي: حضر عنده (أقبية)، جمع قباء: وهو المخيط من اللباس. (الدّيباج) بكسر الدّال وقد تفتح- وهو نوع من الحرير معروف. (المخوّصة) - بضمّ الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو المفتوحة يليها صاد مهملة وهاء-: المزيّنة (بالذّهب) ؛ أي: المنسوجة بأعلام من ذهب كالخوص.

(ويرفع) ؛ أي: يدّخر منها (لمن لم يحضر) القسمة إلى أن يحضر فيعيطها له، إشارة لقصّة مخرمة الّتي رواها البخاري ومسلم؛ عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال: قال لي أبي: بلغني أنّه صلى الله عليه وسلم جاءته أقبية، فاذهب بنا إليه.

فذهبنا؛ فوجدناه في منزله، فقال: ادعه لي، فأعظمت ذلك. فقال: يا بنيّ؛ إنّه ليس بجبّار. فدعوته صلى الله عليه وسلم فخرج ومعه قباء من ديباج مزرّر بالذّهب، فقال:

«يا مخرمة، خبّأت لك هذا» ، وجعل صلى الله عليه وسلم يريه محاسنه، ثمّ أعطاه له، فنظر إليه فقال:«رضي مخرمة» فأعطاه إيّاه. زاد البخاري: وكان في خلق مخرمة شدّة محبّة.

وجزم الدّاوودي أنّ قوله «رضي مخرمة» من كلام النّبي صلى الله عليه وسلم، ورجّح الحافظ أنّه من كلام مخرمة. (إذ المباهاة) تعليل لاقتصاره على ما تدعو ضرورته إليه؛ أي: لأنّ إظهار الفخر (في الملابس) ؛ جمع ملبس- بفتح الميم والباء- وهو

ص: 441

والتّزيّن بها.. ليست من خصال الشّرف والجلالة، وهي من سمات النّساء. والمحمود منها نقاوة الثّوب،

واللّباس بمعنى، وأصل المباهاة المفاخرة، فنزّل إظهارها والعجب بها (والتّزيّن بها) ؛ أي: إظهار الزينة في الملابس منزلة ذلك.

(ليست من خصال الشّرف) ؛ أي: شمائل أصحاب الشّرافة (و) أصحاب (الجلالة)، أي: العظمة المعنويّة، أي: إنّ المغالاة في ذلك وإظهاره ليس مما يعدّ شرفا، ولا ممّا يقصده الأشراف.

قال الخفاجي: قال الفقهاء: لبس الثّوب الجميل للتّزيّن مباح في الجمع والأعياد ومجامع النّاس، وما يستر العورة ويدفع الحرّ والبرد واجب، وما فيه جمال لصاحبه مسنون، بشرط أن لا ينوي به العظمة والزّينة، بل إظهار نعمة الله وتعظيم من يجتمع لملاقاته، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفعله، وقلت في ذلك:

نصيحة لطيفة

قالت بها الأكياس

كل ما اشتهيت والبس

ما تشتهيه النّاس

وقد تقدّم في الفصل الخامس في صفة طيبه، الكلام على التجمّل واللّباس بأبسط ممّا هنا، فاعتمد ما هناك.

(وهي)، أي: المباهاة (من سمات) - بكسر السّين- أي: من خصال (النّساء) ومن في حكمهنّ كالأطفال، وأكثر من يتباهى بذلك محدث النعمة ومن لا قدر له.

(والمحمود) ؛ أي: الممدوح (منها) عند الله وعند النّاس (نقاوة) - بفتح النون وضمّها- أي: نظافة (الثّوب) ؛ أي: كونه نقيّا من الوسخ والنّجاسة.

قال الخفاجي: وفي «البستان» : يستحبّ للرّجل الذي له مروءة وعلم أن تكون ثيابه نقيّة من غير كبر، ورأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا وسخت ثيابه، فقال:«أما وجد هذا شيئا ينقّي ثيابه» . وقال أيضا: «ما على الرّجل حرج أن يتّخذ ثوبين سوى

ص: 442

والتّوسّط في جنسه، وكونه لبس مثله.. غير مسقط لمروءة جنسه.

وفي «المواهب» : إنّ الجمال في الصّورة واللّباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذمّ، ومنه ما لا يتعلّق به مدح ولا ذمّ:

فالمحمود منه: ما كان لله، وأعان على طاعة الله تعالى، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يتجمّل للوفود،

ثوبي مهنته» . وفي المثل: «المروءة الظّاهرة في الثّياب الطّاهرة» . انتهى كلام الخفاجي.

(والتّوسّط في جنسه)، أي: المحمود في اللّباس استعمال الوسط منه، فلا يكون نفيسا جدّا ولا خسيسا، لورود الذّمّ عن لبس الشّهرتين. قال النووي: كانوا يكرهون الشّهرتين: الثّياب الجياد والثّياب الرّذلة، إذ الأبصار تمتدّ إليهما جميعا، وبهذا ورد الحديث. انتهى؛ نقله الزرقاني على «المواهب» .

(وكونه لبس) - بضم فسكون- (مثله)، أي: ممّا تلبسه أمثاله حال كونه (غير مسقط لمروءة جنسه)، أي: لا يعدّ مسقطا لمروءة أمثاله، فينبغي أن يوافق أمثاله في لباسهم ولا يخالفهم؛ فيوقع النّاس في الفتنة.

(و) قال القسطلّاني (في «المواهب) اللدنيّة» : (إنّ الجمال في الصّورة) لتحسينها بإزالة الشّعث، (و) في (اللّباس) بكونه ليس جنس لابسه. (والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذمّ، ومنه ما لا يتعلّق به مدح ولا ذمّ) فهو جائز.

(فالمحمود منه: ما كان لله وأعان على طاعة الله تعالى وتنفيذ أوامره والاستجابة) ؛ أي: الإجابة (له، كما كان صلى الله عليه وسلم يتجمّل للوفود) لملاقاتهم، استعانة على تنفيذ أوامر الله تعالى، لما جرت به عادة البشر من انقيادهم لصاحب الهيئة وقبول كلامه.

ص: 443

وهذا نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير في الحرب، والخيلاء فيه؛ فإنّ ذلك محمود إذا تضمّن إعلاء كلمة الله تعالى، ونصر دينه، وغيظ عدوّه.

والمذموم منه: ما كان للدّنيا، والرّئاسة، والفخر والخيلاء، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه.

وأمّا ما لا يحمد ولا يذمّ: فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرّد عن الوصفين، وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يضيّق بالاقتصار بالاقتصار على صنف من اللّباس بعينه، ولا يطلب النّفيس الغالي، بل يستعمل ما تيسّر.

(وهذا نظير لباس آلة الحرب للقتال) لإعلاء كلمة الله تعالى، وتخويف أعدائه، (ولباس الحرير في الحرب) على قول من أجازه، (والخيلاء) : التبختر (فيه) وإظهار العجب، (فإنّ ذلك محمود إذا تضمّن إعلاء كلمة الله تعالى) :

الشّهادة له بالوحدانيّة ولنبيّه بالرّسالة، (ونصر دينه وغيظ عدوّه.

والمذموم منه) ؛ وهو النّوع الثّاني: (ما كان للدّنيا والرّئاسة والفخر والخيلاء، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه) ، فإنّ كثيرا من النّاس ليس له همّة في سوى ذلك، بئست الهمّة. كما قال الشّاعر يهجو:

إنّي رأيت من المكارم حسبكم

أن تلبسوا خزّ الثّياب وتشبعوا

(وأمّا ما لا يحمد ولا يذمّ) ؛ وهو النّوع الثّالث (فهو: ما خلا عن هذين القصدين، وتجرّد عن) هذين (الوصفين) لا يحمد ولا يذمّ فهو جائز، (وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتجوّز من اللباس؛ أي: يتوسّع و (لا يضيّق بالاقتصار على صنف من اللّباس بعينه، ولا يطلب النّفيس) أي: (الغالي) - بالغين المعجمة- (بل يستعمل ما تيسّر) بلا كلفة.

ص: 444

ثمّ قال: روى أبو نعيم في «الحلية»

ولذا أورد البخاري في الباب حديث عمر في جلوس النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المشربة، لمّا حلف «لا يدخل على نسائه شهرا» ، وفيه: فدخلت فإذا النّبيّ صلى الله عليه وسلم على حصير قد أثّر في جنبه، وتحت رأسه مرفقة من أدم حشوها ليف، وإذا أهب معلقة وقرظ.

وحديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: استيقظ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «لا إله إلّا الله؛ ماذا أنزل اللّيلة من الفتن؟! ماذ أنزل من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجر؟! كم من كاسية في الدّنيا عارية يوم القيامة» . ففيه التحذير من لبس رقيق الثّياب الواصفة للجسد، وهو وجه إدخاله في هذه التّرجمة.

وروى أبو نعيم، وابن عدي؛ عن عبادة بن الصّامت- رضي الله تعالى عنه- قال: صلّى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم في شملة أراد أن يتوشّح بها فضاقت، فعقدها في عنقه هكذا- وأشار سفيان إلى قفاه- ليس له غيرها.

(ثم قال) في «المواهب اللدنيّة» بعد نقل كلام «الشّفاء» السابق:

وقد (روى أبو نعيم) الحافظ المؤرّخ أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، ولد سنة: - 336- ستّ وثلاثين وثلثمائة هجرية، وكان من الثّقات المعروفين بالحفظ والإتقان.

ومن مؤلّفاته «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» ، و «معرفة الصّحابة» و «طبقات المحدّثين والرواة» و «دلائل النّبوّة» و «ذكر أخبار أصبهان» .

وكانت وفاته سنة: - 430- ثلاثين وأربعمائة؛

(في) كتاب ( «الحلية» ) الذي قيل فيه: إنّه لم يصنّف مثله، ولما صنّفه حمل الكتاب في حياة مؤلّفه إلى نيسابور فاشتروه بأربعمائة دينار.

وهو كتاب حسن معتبر يتضمن أسامي جماعة من الصّحابة والتّابعين، ومن بعدهم من الأئمّة الأعلام المحقّقين والمتصوّفة والنّسّاك، وبعض أحاديثهم وكلامهم، رحمه الله تعالى.

ص: 445

عن ابن عمر مرفوعا: «إنّ من كرامة المؤمن على الله عز وجل..

نقاء ثوبه، ورضاه باليسير» .

وله من حديث جابر: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وسخة ثيابه فقال: «أما وجد هذا شيئا ينقّي به ثيابه؟» .

قال: وكانت سيرته صلى الله عليه وسلم في ملبسه أتمّ وأنفع للبدن وأخفّ عليه؛ فإنّه لم تكن عمامته بالكبيرة الّتي يؤذي حملها ويضعفه ويجعله عرضة للآفات،

(عن ابن عمر) بن الخطاب (مرفوعا) قال: ( «إنّ من كرامة المؤمن على الله عز وجل - أي: نفاسته وعزّته، أي: من حسن حاله الّذي يثيبه عليه، ويصير به مقرّبا عنده- (نقاء ثوبه) - أي: نظافته ونزاهته عن الأدناس- (ورضاه) - بالقصر- (باليسير) ؛ من ملبس ومأكل ومشرب أو من الدّنيا، قيل: دخل زائر على أبي الحسن العروضيّ؛ فوجده عريانا!! فقال: نحن إذا غسلنا ثيابنا نكون كما قال القاضي أبو الطيّب:

قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم

لبسوا البيوت وزرّروا الأبوابا

(وله) أيضا؛ (من حديث جابر) - رضي الله تعالى عنه- (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وسخة ثيابه؛ فقال: «أما وجد) - وفي نسخة: «أما رأى» - (هذا شيئا ينقّي به ثيابه» .) استفهام توبيخي على وسخ ثوبه، ولم يخاطبه لئلّا ينكسر خاطره، وإشارة إلى أنّ الحكم لا يختصّ به.

(قال) في «المواهب» أيضا: (و) قد (كانت سيرته صلى الله عليه وسلم في ملبسه أتمّ) :

اسم تفضيل، وكذا قوله (وأنفع للبدن، وأخفّ عليه)، والمفضّل عليه محذوف؛ أي: ممّا جرت العادة بلبسه.

(فإنّه لم تكن عمامته بالكبيرة الّتي يؤذي حملها) حاملها (ويضعفه، ويجعله عرضة للآفات) كصداع ومرض عين وزكام؛ كما يشاهد من حال أصحابها.

ص: 446

ولا بالصّغيرة الّتي تقصر عن وقاية الرّأس من الحرّ والبرد، وكذلك الأردية والأزر أخفّ على البدن من غيرها، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يطوّل أكمامه ويوسّعها) انتهى.

(ولا بالصّغيرة الّتي تقصر عن وقاية) - بكسر الواو، وفتحها لغة-: حفظ (الرّأس من الحرّ والبرد) ، بل كانت وسطا بين ذلك، (وكذلك الأردية) : جمع رداء، (والأزر) : جمع إزار، (أخفّ على البدن من غيرها) كالجوخ والفراء، (ولم يكن صلى الله عليه وسلم يطوّل أكمامه ويوسّعها) ، بل كان كمّ قميصه إلى الرّسغ كما سيأتي.

قال ابن القيّم: وأمّا هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج، وعمائم كالأبراج!! فلم يلبسها عليه الصلاة والسلام هو ولا أحد من أصحابه، وهي مخالفة لسنّته؛ وفي جوازها، فإنّها من جنس الخيلاء. انتهى.

قال صاحب «المدخل» : ولا يخفى على ذي بصيرة أن كمّ بعض من ينسب إلى العلم اليوم فيه إضاعة المال المنهيّ عنه، لأنّه قد يفصّل من ذلك الكم ثوب لغيره. انتهى. وهو حسن.

لكن حدث للنّاس اصطلاح بتطويلها، وصار لكلّ نوع من النّاس شعار يعرفون به، فيجوز لمن صارت شعاره، بل قد يطلب، لأن مخالفته تخلّ بمروءة صاحبه، وما كان من ذلك على سبيل الخيلاء؛ فلا شكّ في تحريمه؛ ولو كان شعارا، وما كان على طريق العادة! فلا تحريم فيه، بل يجوز ما لم يصل إلى جرّ الذّيل الممنوع منه.

ونقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كلّ ما زاد على العادة للنّاس وزاد على المعتاد في اللّباس لمثل لابسه في الطّول والسّعة، فينبغي تجنّب ذلك. (انتهى) ؛ أي: كلام «المواهب» مع شيء من شرح الزّرقاني رحمهم الله تعالى.

(و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، كلهم؛ عن أمّ سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت:

ص: 447

وكان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه..

القميص. و (القميص) : اسم لما يلبس من المخيط الّذي له كمّان وجيب، يلبس تحت الثّياب، ولا يكون من صوف. كذا في «القاموس» .

(كان أحبّ الثّياب) جمع ثوب، وهو: اسم لما يستر به الشّخص نفسه؛ مخيطا كان أو غيرها- (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه) ؛ جملة حالية عن «أحب الثياب» وتذكير الضمير!! باعتبار الثوب، (القميص) وفيه إشعار بما لأجله كان أحبّ إليه، إنّه كان يحبّه للبسه؛ لا لنحو إهدائه، فهو أحبّ إليه لبسا، وقوله «أحبّ» اسم «كان» ؛ فيكون مرفوعا، والقميص خبرها؛ فيكون منصوبا، وهو المشهور في الرّواية، وقيل عكسه، أي: بنصب «أحبّ» على أنّه الخبر، ورفع «القميص» على أنّه اسم «كان» ، قال الزرقاني: ورجّح بأنّه وصف، فهو أولى بكونه حكما.

ولا يرد عليه أن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين منع تقديم الخبر!! لأنّ محله حيث لا ناسخ؛ كما في قوله (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ)[15/ الأنبياء] ، (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)[147/ آل عمران] . انتهى.

ومعنى كون القميص أحبّ- كما قال المناوي وغيره-: أنّه كان يميل إلى لبسه أكثر من غيره، لأنّه أستر للبدن من الإزار والرّداء، لاحتياجهما إلى حلّ وعقد، بخلاف الثّوب، ولخفّة مؤنته وخفّته على البدن، ولابسه أقلّ كبرا من لابس غيره.

فالقميص أحبّها إليه لبسا، والحبرة أحبّها إليه رداء، فلا يعارض حديث أنس الآتي: كان أحبّ الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه الحبرة. أو أن القميص أحبّ المخيط، والحبرة أحبّ غيره، انتهى.

(والقميص) - جمعه قمصان وقمص بضمّتين- وهو: (اسم لما يلبس من المخيط الّذي له كمّان وجيب) غير مفرّج؛ (يلبس تحت الثياب، ولا يكون) إلّا من قطن، أمّا (من صوف!) فلا؛ (كذا في «القاموس» ) ، مأخوذ من التقمّص

ص: 448

ولم يكن له صلى الله عليه وسلم سوى قميص واحد؛ فقد ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء، ولا اتّخذ من شيء زوجين، ولا قميصين ولا رداءين ولا إزارين، ولا زوجين من النّعال.

وكان كمّ قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرّسغ.

بمعنى التقلّب؛ لتقلّب الإنسان فيه. وقيل: سمّي باسم الجلدة الّتي هي غلاف القلب، فإن اسمها القميص، وهو مذكّر، وقد يؤنّث، والظّاهر أنّ المراد في الحديث القطن والكتّان؛ دون الصوف، لأنّه يؤذي البدن ويدرّ العرق، ويتأذّى بريح عرقه المصاحب.

(و) قال الباجوري كالمناوي: (لم يكن له صلى الله عليه وسلم سوى قميص واحد؛ فقد ورد) في «الوفا» بسنده؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم غداء لعشاء؛ ولا عشاء لغداء، ولا اتّخذ من شيء زوجين؛ ولا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا زوجين من النّعال) . انتهى كلامهما.

قال المصنف في «جواهر البحار» بعد ذكره ذلك: وقد صرح بعض الأئمّة بضعف هذا الحديث. (و) أخرج أبو داود، والتّرمذي في «الجامع» - وقال:

حسن غريب، وفي «الشّمائل» واللّفظ لها- ورواه أيضا البيهقي في «الشّعب» ؛ كلهم عن أسماء بنت يزيد الأنصارية- رضي الله تعالى عنها- قالت:

(كان كمّ) - بالضم وتشديد الميم- (قميص) - وفي رواية: «كان كمّ يد» - (رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الزّين العراقي: رواية التّرمذي في «الشمائل» مقيّدة بالقميص، وروايته في «الجامع» مطلقة، فيحتمل حملها عليه، ويحتمل العموم- (إلى الرّسغ) - بضم الرّاء وسكون السّين أو الصّاد لغتين، ثم غين معجمة بزنة قفل. قال الزّرقاني: وبالضّاد رواه الترمذي، وأبو داود، وبالسّين غيرهما-.

ص: 449

و (الرّسغ) : مفصل ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كمّه مع الأصابع.

وحكمة كونه إلى الرّسغ: أنّه إن جاوز اليد منع لابسه سرعة الحركة والبطش، وإن قصر عن الرّسغ! تأذّى السّاعد ببروزه للحرّ والبرد، فكان جعله إلى الرّسغ وسطا، وخير الأمور أوساطها، فينبغي لنا التأسّي به.

ولا يعارض هذه الرّواية رواية «أسفل من الرسغ» ! لاحتمال تعدّد القميص، أو المراد: التقريب، أو الاختلاف بحسب أحوال الكمّ، فحال جدّته وعقب غسله يكون أطول لعدم تثنّيه وتجعّده، وإذا بعد عن ذلك تثنّى وقصر.

ولا يعارضه أيضا ما رواه الحاكم وصحّحه، وأبو الشّيخ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما-: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس قميصا وكان فوق الكعبين، وكان كمّه إلى الأصابع.! لأنّ الرّسغ مخصوص بقميص السّفر، أما في الحضر فكان يلبس قميصا من قطن فوق الكعبين؛ وكمّاه مع الأصابع، كما جمع بينهما بذلك بعضهم؛ نقله الجلال السيوطي قائلا:

ويؤيده ما أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي؛ عن علي: أنه كان يلبس القميص ثم يمدّ الكمّ حتّى إذا بلغ الأصابع قطع ما فضل؛ ويقول: «لا فضل للكمّين على الأصابع» . انتهى. ويجري ذلك في أكمامنا.

قال الحافظ زين الدّين العراقي: ولو أطال أكمام قميصه حتّى خرجت عن المعتاد؛ كما يفعله كثير من المتكبّرين!! فلا شكّ في حرمة ما مسّ الأرض منها بقصد الخيلاء، وقد حدث للناس بتطويلها، فإن كان من غير قصد الخيلاء بوجه من الوجوه! فالظاهر عدم التحريم. انتهى.

(والرّاسغ) - بالسّين والصّاد لغتان صحيحتان-: (مفصل) - بزنة مسجد- (ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان) ، وهو مختصّ في الآدميّ باليد؛ دون الرّجل.

(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كمّه مع الأصابع) ؛

ص: 450

وكان قميصه صلى الله عليه وسلم فوق الكعبين، وكان كمّه مع الأصابع. وكان صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصا.. بدأ بميامنه.

وعن قرّة

ورمز له برمز الحاكم، وهذا قطعة من الحديث الآتي بعده.

(و) أخرج الحاكم؛ عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال:

(كان قميصه صلى الله عليه وسلم فوق الكعبين) ؛ أي: إلى أنصاف ساقيه؛ كما في رواية:

(وكان كمّه مع الأصابع) ؛ أي: مساويا لا يزيد ولا ينقص عنها، وقد علمت أنّ هذا محمول على حالة الحضر، فلا يعارض ما تقدّم أنّ كمّه إلى الرسغ.

وقد أخرج البيهقي في «الشّعب» ؛ من طريق مسلم الأعور؛ عن أنس:

أنّه صلى الله عليه وسلم كان له فميص من قطن قصير الطّول قصير الكمّ.

وأخرج أيضا؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان يلبس قميصا قصير الكمّين والطّول. انتهى «مناوي» .

(و) أخرج التّرمذي في «جامعه» بسند- قال العراقي: رجاله رجال الصّحيح- وأخرجه النّسائي أيضا كلاهما؛ عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصا بدأ بميامنه) ؛ جمع ميمنة: كمرحمة ومراحم، والمراد بها هنا: جهة اليمين.

فيندب التيامن في اللّبس كما يندب التياسر في النّزع، لخبر أبي داود؛ عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما-: كان إذا لبس شيئا من الثّياب بدأ بالأيمن، فإذا نزع بدأ بالأيسر. وله من حديث أنس: كان إذا ارتدى أو ترجّل بدأ بيمينه، وإذا خلع بدأ بيساره. قال الزّين العراقي: وسندهما ضعيف.

(و) أخرج أبو داود، وابن ماجه، والتّرمذي في «الجامع» وصحّحه؛ وفي «الشّمائل» ، وابن حبّان وصحّحه أيضا؛ (عن قرّة) - بضم القاف وفتح الراء

ص: 451

ابن إياس رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة لنبايعه، وإنّ زرّ قميصه مطلق، قال:

فأدخلت يدي في جيب قميصه، فمسست الخاتم.

المشددة- (ابن إياس) - بالكسر- ابن هلال المزني.

صحابيّ نزل البصرة، ومات سنة: أربع وستين هجرية، خرّج له الأربعة (رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط) ، أي: مع رهط، فتكون «في» بمعنى «مع» ، كقوله تعالى (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) [38/ الأعراف] ؛ أي: مع أمم، والرّهط- بفتح الرّاء وسكون الهاء- اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ وهو من ثلاثة إلى عشرة أو إلى أربعين، ويطلق على مطلق القوم؛ كما في «القاموس» ، ولا ينافي التعبير ب «الرّهط» رواية أنّهم كانوا أربعمائة!! لاحتمال تفرّقهم رهطا رهطا؛ وقرّة كان مع أحدهم، أو أنّه مبنيّ على القول الأخير.

(من مزينة) - بالتصغير- قبيلة من مضر، وأصله اسم امرأة.

(لنبايعه) - أي: على الإسلام، وهو متعلّق بقوله «أتيت» - (وإنّ زرّ قميصه) بالإضافة (مطلق) - بلام- أي: غير مربوط، والجملة حال.

(قال) : قرّة (فأدخلت يدي) - بصيغة الإفراد- (في جيب قميصه) ؛ أي:

فتحته الّتي عند النّحر؛ إذ جيب القميص: ما ينفتح على النّحر، وجمعه:

أجياب، وجيوب، ويطلق الجيب أيضا على ما يجعل في صدر الثّوب أو جنبه ليوضع فيه الشّيء، لكنّ المراد من الجيب في هذا الحديث طوقه المحيط بالعنق، وهذا يدلّ على أنّ جيب قميصه صلى الله عليه وسلم على الصّدر كما هو المعتاد الآن؛ قال الجلال السّيوطي: وظنّ من لا علم عنده أنّه بدعة؛ وليس كما ظن. انتهى.

(فمسست) - بكسر السّين الأولى في اللّغة الفصحى، وحكي فتحها- (الخاتم) ؛ أي: خاتم النّبوّة، والمسّ: الجسّ باليد، يقال: مسسته؛ إذا أفضيت إليه بيدك من غير حائل. هكذا قيّدوه، والظّاهر أنّ قرّة كان يعلم الخاتم،

ص: 452

وكان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة بوزن عنبة- برد يمانيّ محبّر؛ أي: مزيّن محسّن.

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بردان أخضران، فيهما خطوط خضر

وإنّما قصد التبرّك، ومن ثمّ اغتفر له صلى الله عليه وسلم هذا الفعل الذي ينافيه جلالة منصبه الكبير، ورعاية الأدب معه، لا سيّما بحضرة النّاس.

وفي هذا الحديث حلّ لبس القميص، وحلّ الزّرّ فيه، وحلّ إطلاقه، وسعة الجيب بحيث تدخل اليد فيه، وإدخال يد الغير في الطّوق لمسّ ما تحته تبرّكا، وكمال تواضعه صلى الله عليه وسلم.

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنّسائي، والتّرمذي، في «الشمائل» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:

(كان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبسها- هذا لفظ رواية الشّيخين- (الحبرة) - بالنصب، خبر «كان» ، و «أحبّ» : بالرفع، اسمها، ويجوز عكسه- والحبرة؛ (- بوزن عنبة-: برد يمانيّ) من قطن (محبّر) - بالتّشديد- (أي: مزيّن محسّن) بخطوط حمر، والتّحبير: التّزيين والتّحسين، والظّاهر أنّه إنّما أحبّها للينها وحسن انسجام صنعتها وموافقتها لجسده الشّريف، فإنّه كان على غاية من النّعومة واللّين، فيوافقه اللّيّن النّاعم، وأمّا شديد الخشونة فيؤذيه، ولا يعارض ذلك ما تقدّم من أنّه كان الأحبّ إليه القميص، لأنّ ذلك بالنسبة لما خيط وهذا بالنّسبة لما يرتدي به، أو أنّ محبّته للقميص كانت حين يكون عند نسائه، والحبرة كانت حين يكون بين صحبه، على أنّ هذا الحديث أصحّ من حديث أمّ سلمة السّابق لاتّفاق الشّيخين عليه، فلا يعارضه الحديث السّابق، والله أعلم.

(و) في «كشف الغمّة» للإمام الشّعرانيّ رحمه الله تعالى: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بردان) - تثنية برد، وهو؛ كما في «القاموس» : ثوب مخطّط- (أخضران)، أي:(فيهما خطوط خضر)، أي: مخطّطان بخطوط خضر،

ص: 453

لا بحتا. وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الثّياب الخضر.

وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه حلّة حمراء

(لا بحتا) - بفتح الموحّدة وسكون المهملة وفوقية، أي: خالصا، لما علمت أن البرد ثوب مخطّط، فتعقيبه بالخضرة يدلّ على أنّه مخطّط بها، ولو كان أخضر بحتا لم يكن بردا.

روى التّرمذي في «جامعه» وفي «الشمائل» ؛ عن أبي رمثة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وعليه بردان أخضران.

(و) في «إحياء علوم الدين» للغزالي رحمه الله تعالى: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الثّياب الخضر) ، أغفله العراقيّ في تخريجه.

وقد روى أبو الشّيخ وأبو نعيم في «الطب» من حديث أنس: كان أحبّ الألوان إليه الخضرة. أي: من الثّياب وغيرها، لأنّ الخضرة من ثياب الجنّة. قال ابن بطّال: وكفى به شرفا موجبا للمحبّة. ورواه كذلك البزار.

وأخرج ابن عديّ والبيهقيّ؛ عن قتادة قال: خرجت مع أنس رضي الله تعالى عنه إلى أرض فقيل: ما أحسن هذه الخضرة! فقال أنس: كنا نتحدّث أنّ أحبّ الألوان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الخضرة. انتهى «شرح الإحياء» .

(و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» بسنده؛ (عن أبي جحيفة) بتقديم الجيم على الحاء المهملة-: وهب بن عبد الله السّوائي- بضمّ المهملة والمدّ- مشهور بكنيته.

ويقال له «وهب الخير» ، صحابيّ مشهور معروف، وصحب عليا ومات سنة: - 74- أربع وسبعين هجرية. (رضي الله تعالى عنه قال:

رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، أي: في بطحاء مكّة في حجّة الوداع، كما صرّح به في رواية البخاريّ. (وعليه حلّة حمراء) ؛ أي: والحال أنّ عليه حلّة حمراء،

ص: 454

كأنّي أنظر إلى بريق ساقيه. و (الحلّة) بالضّمّ: إزار ورداء، ولا تكون حلّة إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة.

فالجملة حالية، (كأنّي أنظر إلى بريق) لمعان (ساقيه) .

والظّاهر أنّ «كأنّ» للتّحقيق، لأنّها قد تأتي لذلك، وإنّما نظر إلى بريق ساقيه! لكون الحلّة كانت إلى أنصاف ساقيه الشّريفتين.

وهذا يدلّ على جواز النظر إلى ساق الرّجل، وهو إجماع حيث لا فتنة؛ ويؤخذ منه ندب تقصير الثّياب إلى أنصاف السّاقين، فيسنّ للرّجل أن تكون ثيابه إلى نصف ساقيه، ويجوز إلى كعبيه، وما زاد حرام إن قصد به الخيلاء. وإلّا كره، ويسنّ للأنثى ما يسترها، ولها تطويله ذراعا على الأرض، فإن قصدت الخيلاء! فكالرّجل.

وهذا التفصيل يجري في إسبال الأكمام وتطويل عذبة العمائم، وعلى قصد الخيلاء يحمل ما رواه الطّبراني:«كلّ شيء مسّ الأرض من الثّياب فهو في النّار» . وما رواه البخاريّ: «ما أسفل من الكعبين من الإزار في النّار» . أي:

محلّه فيها فتجوّز به عن محله.

(و) في «القاموس» (الحلّة- بالضّمّ-: إزار ورداء) مثلا، برد أو غيره، وإلا فمتى وجد ثوبان على البدن كانا حلّة، على ما يفيده قوله:

(ولا تكون)، أي: توجد (حلّة إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة) . وفي «المصباح» : الحلة لا تكون إلّا من ثوبين من جنس واحد، والجمع حلل كغرفة وغرف. وفي «الفتح» : قال أبو عبيد: الحلل: برود اليمن، والحلّة: إزار ورداء. ونقله ابن الأثير وزاد: إذا كان من جنس واحد، وقال ابن سيده في «المحكم» : الحلّة برد أو غيره.

وحكى عياض: أنّ أصل تسمية الثّوبين «حلّة» أنّهما يكونان جديدين كما حل خيطهما، وقيل: لا يكون الثّوبان حلّة حتّى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حلّ عليه، والأوّل أشهر. انتهى.

ص: 455

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكسو بناته خمر القزّ والإبريسم. و (الخمر) - ك «كتب» ، جمع خمار- وهو: ما تغطّي به المرأة رأسها.

قال سفيان أحد رواة هذا الحديث: أظنّ هذه الحلّة الحمراء المذكورة في الحديث مخطّطة؛ لا حمراء قانية. انتهى. وهذا بناء على مذهبه من حرمة الأحمر البحت، أي: الخالص.

وقال ابن القيّم: غلط من ظنّ أنّها حمراء بحت لا يخالطها غيرها، وإنّما الحلّة الحمراء بردان يمانيّان مخطّطان بخطوط حمر مع سود، وإلّا؛ فالأحمر البحت منهيّ عنه أشدّ النّهي، فكيف يظنّ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه لبسه؟!

وردّ هذا بأنّ حمل الحلّة على ما ذكر مجرّد دعوى، والنهي عن الأحمر البحت للتّنزيه؛ لا للتّحريم، ولبسه صلى الله عليه وسلم للأحمر القاني مع نهيه عنه!! لتبيين الجواز، فقد ردّه الطبراني؛ من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنّه كان يلبس يوم العيد بردة حمراء، قال الهيثمي: ورجاله ثقات، فالصّحيح جواز لبس الأحمر؛ ولو قانيا، انتهى «باجوري» مع زيادة.

(و) أخرج ابن النجار في «تاريخه» ؛ عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكسو بناته خمر) - بخاء معجمة مضمومة- (القزّ) - بفتح القاف وشدّ الزّاي؛ معرّب- (والإبريسم) .

قال الليث: القزّ هو ما يعمل منه الإبريسم. ولهذا قال بعضهم: القزّ والإبريسم مثل الحنطة والدّقيق، فالإبريسم ما يؤخذ من القزّ كأخذ الدّقيق من الحنطة.

وفيه أن استعمال القزّ والحرير جائز للنّساء.

(والخمر) - بضمتين- (ك: «كتب» ؛ جمع خمار) ككتاب، (وهو:

ما تغطّي به المرأة رأسها) ، واختمرت وتخمّرت: لبست الخمار. انتهى «مناوي» .

ص: 456

وكان يتّبع الحرير من الثّياب.. فينزعه. وكان قيمة ثوبه صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه أسمال مليّتين.

وقوله (مليّتين) - تصغير ملاءة- وهي: كلّ ثوب لم يضمّ بعضه إلى بعض بخيط، بل كلّه نسج واحد.

(و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» بإسناد حسن؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم (يتّبع) - بفتح أوّله وتشديد ثانيه، وقيل:

بفتح أوّله وسكون ثانيه- (الحرير من الثّياب)، أي: الحرير الخالص أو ما أكثره حرير، (فينزعه)، أي: يأمر بنزعه عن الرّجال، ويمنعهم من لبسه، لما في الحرير من الخنوثة التي لا تليق بشهامة الرّجال، فيحرم لبسه على الرّجال.

(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان قيمة ثوبه صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم، و) أخرج التّرمذي في «الشمائل» بسنده؛ (عن قيلة) - بقاف مفتوحة ومثنّاة تحتية ساكنة- (ابنت مخرمة) - بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الرّاء والميم- السرية، وقيل: العنبريّة، وقيل: القنويّة، صحابيّة لها حديث طويل في الصّحاح، خرّج لها البخاريّ في «الأدب» ، وأبو داود؛ (رضي الله تعالى عنها قالت:

رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه أسمال مليّتين) ، أي: والحال أنّ عليه أسمال مليّتين، والأسمال: جمع سمل- بسين مهملة وميم مفتوحة- كسبب وأسباب، وهو:

الثّوب الخلق، والمراد بالجمع ما فوق الواحد، فيصدق بالاثنين وهو المتعيّن هنا، لأنّ إضافته إلى المليّتين للبيان.

(وقوله «مليّتين» ) تثنية مليّة بضمّ الميم وفتح اللّام وتشديد الياء المفتوحة- وهي (تصغير ملاءة) بضم الميم والمدّ؛ لكن بعد حذف الألف، (وهي)، أي:

الملاءة؛ كما في «القاموس» .

(كلّ ثوب لم يضمّ بعضه إلى بعض بخيط، بل كلّه نسج واحد) . وفي

ص: 457

وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج وهو يتوكّأ على أسامة رضي الله تعالى عنه، وعليه ثوب «النّهاية» : هي الإزار، وفي «الصحاح» : الملحفة، ولا تدافع، لصدقها على التعريف الأوّل «بكل» ، وتمام الحديث بعد قوله «مليّتين» : كانتا بزعفران وقد نفضته، وفي الحديث قصّة طويلة. انتهى كلام «الشمائل» .

ومعنى قوله «كانتا بزعفران» ؛ أي: كانت المليّتان مصبوغتين بزعفران، وقوله «وقد نفضته» ؛ أي: وقد نفضت الأسمال الزعفران، ولم يبق منه إلّا الأثر القليل؛ فلبسه صلى الله عليه وسلم لهاتين المليتّين، لا ينافي نهيه عن لبس المزعفر، لأنّ النهي محمول على ما إذا بقي لون الزّعفران براقا، بخلاف ما إذا نفض وزال عن الثّوب ولم يبق منه إلا الأثر اليسير، فليس هذا منهيّا عنه.

(و) أخرج التّرمذي في «الشمائل» بسنده؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج) ؛ أي: من بيته (وهو يتوكّأ) هكذا هو في «الشّمائل» في باب الاتكاء: من التوكّؤ، ومنه قوله تعالى (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) [18/ طه] . وفي نسخة من «الشمائل» : يتّكىء من الاتّكاء، ومنه قوله تعالى (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) [13/ الإنسان] وفي نسخة: وهو متوكّىء بصيغة اسم الفاعل؛ وكلها بمعنى واحد، وهو الاعتماد، أي: يعتمد لضعفه من المرض (على أسامة) بن زيد بن حارثة بن شراحيل القضاعيّ الكلبي، صحابيّ مشهور، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولاه وابن مولاته أم أيمن، وحبّه وابن حبّه، أمّره صلى الله عليه وسلم على جيش فيه عمر رضي الله عنه؛ وعمره دون عشرين سنة، مات سنة: - 54- أربع وخمسين، عن خمس وسبعين سنة بالمدينة المنورة، (رضي الله تعالى عنه) وعن والده آمين.

وخروجه صلى الله عليه وسلم ذلك في مرض موته، بدليل ما رواه الدارقطني: أنّه خرج بين أسامة والفضل وزيد إلى الصّلاة في المرض الّذي مات فيه، ويحتمل أنّه في مرض غيره؛ (وعليه)، أي: على النّبيّ صلى الله عليه وسلم (ثوب) - بالتّنوين، والجملة حاليّة من

ص: 458

قطريّ قد توشّح به.. فصلّى بهم. و (قطريّ) : نسبة إلى القطر؛ وهو: نوع من البرود اليمانيّة تتّخذ من قطن، وفيه حمرة وأعلام مع خشونة. و (توشّح به) أي:

ضمير «خرج» أو «يتوكّأ» - (قطريّ) - بقاف مكسورة وطاء مهملة ساكنة بعدها راء- (قد توشّح)، أي: تغشى (به) - والجملة صفة- (فصلّى بهم)، أي:

بالنّاس.

وقد أخرج ابن سعد؛ من طريق أبي ضمرة اللّيثي؛ عن حميد؛ عن أنس أنّه قال: آخر صلاة صلّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في مرضه الّذي قبض فيه، في ثوب واحد متوشّحا به قاعدا.

(و) قوله (قطريّ) - بكسر القاف وإسكان الطّاء بعدها راء، ثم ياء النّسبة-:

(نسبة إلى القطر) - بكسر القاف وسكون الطّاء بعدها راء- (وهو: نوع من البرود اليمانيّة) - نسبة لليمن على غير قياس- (تتّخذ من قطن، وفيه حمرة وأعلام مع خشونة) ، ونوع من حلل جياد يحمل من بلد بالبحرين اسمها قطر- بفتحتين-، فكسرت القاف للنّسبة وسكّن الطّاء على خلاف القياس، كذا قاله شراح «الشمائل» كالمناوي، وعلي القاري، والباجوري، وغيرهم، وتبعتهم وهو غير جيد.

والمعتمد عندي هو القول الثّاني وهو أن الثوب القطريّ منسوب إلى قطر بفتحتين- إقليم بجهة البحرين من الخليج العربيّ، ويقرأ هكذا: ثوب قطريّ؛ بفتح القاف وبفتح الطّاء المهملة وكسر الرّاء، وآخر ياء، نسبة إلى قطر بفتحتين-، البلد المعروف في الخليج العربيّ، وهو مشهور بصنع البرود والثّياب من قديم الزّمان إلى عصرنا الحاضر، لكن لمّا كثرت الثّياب المستوردة من الخارج؛ وهي أنضر وأقلّ ثمنا؛ آثروها على صنع بلادهم، فقلّت صنعة الثّياب عندهم، وكل ذلك مكيدة من الكفّار لأهل الإسلام، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

(و) قوله (توشّح به) - بتشديد الشّين المعجمة- قال الباجوري: (أي:

ص: 459

وضعه فوق عاتقيه، أو خالف بين طرفيه وربطهما بعنقه.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط من شعر أسود.

و (المرط) : كساء طويل واسع.

وعن المغيرة بن شعبة

وضعه فوق عاتقيه) - تثنية عاتق- وهو: ما بين المنكب والعنق، يذكّر ويؤنّث، (أو خالف بين طرفيه وربطهما بعنقه) . انتهى.

(و) أخرج مسلم، وأبو داود، والتّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» (عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها قالت:

«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي: من بيته (ذات غداة) ؛ العرب تستعمل ذات يوم وذات ليلة ويريدون حقيقة المضاف إليه نفسه، وما هنا كذلك، فلفظ «ذات» مقحم للتأكيد، والمعنى: خرج بكرة (وعليه مرط) كمسك (من شعر) - بفتح العين المهملة وتسكن- (أسود) - بالرفع على أنه صفة «مرط» ، أو بالجر بالفتحة على أنه صفة شعر، والجملة حال من فاعل «خرج» ، وفي «الصحيحين» : كان له كساء يلبسه، ويقول:«إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» .

وكان يلبس الكساء الخشن، ويقسم أقبية الخزّ المخوّصة بالذّهب في أصحابه، ولم تطلب نفسه التغالي في اللّباس والمباهاة فيه، لأنّ المحمود للرجال نقاوة الثّوب والتوسّط في جنسه، وعدم إسقاطه لمروءة لابسه كما مرّ.

(والمرط) - بكسر فسكون- هو: (كساء طويل واسع) ؛ من خزّ أو صوف أو شعر أو كتّان، يؤتزر به.

(و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» مختصرا باللّفظ الّذي أورده المصنّف، وهو في «الصّحيحين» وغيرهما مطول؛ (عن المغيرة بن شعبة) الثقفي الكوفي.

ص: 460

رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبس جبّة روميّة ضيّقة الكمّين.

صحابيّ مشهور، وكان من خدم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأسلم عام الخندق، وأخرج له الستّة، وروي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وستّة وثلاثون حديثا، اتفق البخاريّ ومسلم منها على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، وانفرد مسلم بحديثين. قيل:

إنه أحصن ألف امرأة في الإسلام، وولاه عمر بن الخطاب البصرة مدّة، ثم نقله عنها فولّاه الكوفة، فلم يزل عليها حتى قتل عمر، فأقرّه عليها عثمان ثم عزله، وشهد اليمامة وفتح الشّام، وذهبت عينه يوم اليرموك، وشهد القادسيّة، وشهد فتح نهاوند، واعتزل الفتنة، وشهد الحكمين، ثم استعمله معاوية على الكوفة، فلم يزل عليها حتى توفّي بها سنة خمسين، قالوا: هو أوّل من وضع ديوان البصرة، وهو أحد دهاة العرب (رضي الله تعالى عنه) . وهم أربعة كما قيل:

من العرب العرباء قد عدّ أربع

دهاة فما يؤتى لهم بشبيه

معاوية عمرو بن عاص مغيرة

زياد هو المعروف بابن أبيه

(أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبس) ؛ أي: في السّفر، قالوا: وكان ذلك في غزوة تبوك.

(جبّة) - بضمّ الجيم وتشديد الموحدة- (روميّة) ؛ نسبة للروم.

قال الحافظ ابن حجر: وفي أكثر روايات «الصحيحين» وغيرهما جبّة شاميّة؛ نسبة للشّام!! ولا تناقض؛ لأن الشّام كانت يومئذ مساكن الرّوم، وإنّما نسبت إلى الرّوم أو إلى الشّام لكونها من عمل الرّوم الّذين كانوا في الشّام يومئذ، وهذا يدلّ على أنّ الأصل في الثّياب الطّهارة؛ وإن كانت من نسيج الكفّار، لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يمتنع من لبسها مع علمه بمن جلبت من عندهم؛ استصحابا للأصل.

(ضيّقة الكمّين) بيان لقوله «روميّة» ؛ أي: بحيث إذا أراد إخراج ذراعيه لغسلهما تعسّر، فيعدل إلى إخراجهما من ذيلها، ويؤخذ منه- كما قاله العلماء-:

أنّ ضيق الكمّين مستحب في السّفر؛ لا في الحضر، وإلّا! فكانت أكمام الصّحب بطاحا؛ أي: واسعة.

ص: 461

و (الجبّة) : ثوبان بينهما حشو، وقد تقال لما لا حشو له إذا كانت ظهارته من صوف.

وكان كمّه صلى الله عليه وسلم إلى الرّسغ، ولبس القباء والفرجيّة، ولبس جبّة ضيّقة الكمّين في سفره.

وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما:

(والجبّة) من الملابس معروفة، والجمع جبب، ك:«غرفة وغرف» ؛ قاله في «المصباح» . وقيل: هي (ثوبان بينهما حشو، وقد تقال لما لا حشو له إذا كانت ظهارته) - بالكسر-: ما يظهر للعين، وهو خلاف البطانة (من صوف.

و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان كمّه صلى الله عليه وسلم إلى الرّسغ) - بضمّ الرّاء وسكون السّين المهملة، آخره غين معجمة- بوزن قفل، وهو: مفصل ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان، وقد تقدّم الكلام على ذلك.

(ولبس) صلى الله عليه وسلم (القباء) - بفتح القاف والموحدة، ممدودا-: هو الثّوب المشقوق من أمام كالجبّة المعهودة، (و) لبس (الفرجيّة، ولبس جبّة) شاميّة (ضيّقة الكمّين في سفره) ؛ كما في «الصّحيحين» وغيرهما، وقد تقدّم آنفا.

(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ (عن أسماء بنت أبي بكر) الصديق (رضي الله تعالى عنهما) امرأة الزّبير بن العوّام.

أسلمت قديما بعد سبعة عشر إنسانا، وهي أسنّ من عائشة، وهي أختها لأبيها، وكان عبد الرّحمن بن أبي بكر أخو أسماء شقيقها. سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذات النّطاقين» ، لأنّها صنعت للنّبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها سفرة لمّا هاجرا؛ فلم تجد ما تشدّها به؛ فشقّت نطاقها وشدّت به السّفرة، فسمّاها النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذات النطاقين.

هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزّبير، فولدته بعد الهجرة، فكان أوّل مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة من المهاجرين، وبلغت أسماء مائة سنة لم يسقط لها سنّ، ولم ينكر من عقلها شيء.

ص: 462

أنّها أخرجت جبّة طيالسة كسروانيّة، لها لبنة ديباج، وفرجاها مكفوفان بالدّيباج،

روي لأسماء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وخمسون حديثا.

وتوفّيت بمكّة في جمادى الأولى سنة: - 73- ثلاث وسبعين، بعد قتل ابنها عبد الله بيسير رضي الله تعالى عنها. وذلك فيما رواه عنها عبد الله مولاها قال:

(إنّها أخرجت) إلينا (جبّة) بإضافة جبة إلى (طيالسة) - لا بالتنوين-، وهي نوع من الثّياب لها علم.

والطيالسة: جمع طيلسان- بفتح اللام على المشهور-. (كسروانيّة) - بكسر الكاف وفتحها والسّين ساكنة والرّاء مفتوحة- نسبة إلى كسرى ملك الفرس- بكسر الكاف وفتحها-؛ فهما في كسروانية على اللغتين في المنسوب إليه، (لها لبنة) بكسر اللام وإسكان الباء الموحدة- أي: رقعة (ديباج) في جيب القميص «1» ، والدّيباج- بفتح الدال وكسرها-: جمعه ديابيج، وهو عجمي معرّب، وهو نوع من ثياب الإبريسم، (وفرجاها مكفوفان) - وفي رواية: وفرجيها مكفوفين؛ بالنّصب: مفعول لفعل محذوف، أي: ورأيت فرجيها مكفوفين. وفي رواية:

وفروجها مكفوفة- (بالدّيباج) ؛ أي: عمل على جيبها وكمّيها وذيلها وفرجيها كفاف من حرير، وكفّة كل شيء- بالضمّ-: طرفه وحاشيته. قاله الزرقاني على «المواهب» .

وقال الأبّي؛ نقلا عن القاضي عياض: الفرج في الثوب: الشقّ في أسفله من خلف وأمام، وإنّما يكون في الأقبية من ملابس العجم. ومعنى مكفوفين: جعل منهما كفّة- بالضمّ-: وهو ما يكفّ به جوانبها، وكل شيء مستطيل كفّة بالضمّ-. قال الخطابي: والمكفّف بالحرير: ما اتّخذ جيبه منه؛ وكان لذيله وأكمامه كفاف منه. قال السّيّد العلّامة محمّد بن أحمد عبد الباري الأهدل في «نشر

(1) هي المعروفة في زماننا ب (القبّة) .

ص: 463

قالت: هذه جبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها، فلمّا قبضت.. قبضتها، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يلبسها،

الأعلام» . يحلّ تطريف، - أي: تسجيف- للكمّين والطّوق، والجيب، والذّيل؛ بالحرير قدر العادة الغالبة لأمثاله في تلك النّاحية؛ وإن جاوز أربع أصابع، فإن جاوز العادة! حرم.

ويحلّ تطريز وترقيع قدر أربع أصابع مضمومة معتدلة، ولو تعدّد؛ فالأصح الجواز بشرط أن لا يزيد المجموع على ثمان أصابع؛ وإن زاد على طرازين، فلو كان في طرفي العمامة علم كل واحد منهما أربع أصابع؛ جاز، وإلّا! فلا.

والتطريز: جعل الطراز الذي هو حرير خالص مركبا على الثّوب. أما التّطريز بالإبرة! فكالنسج، فيعتبر الأكثر و؟؟ زنا منه ومما طرز فيه، وكذا يعتبر الوزن أيضا في الأردية الثّمينة المنسوج فيها حاشية من حرير؛ وإن زادت على أربع أصابع، أخذا مما ذكروه في تعريف الطراز.

والظّاهر أنّ الحظاية المعروفة التي تركّب في طرف العمامة يجري فيها تفصيل الطراز، فإن كان عرضها أربع أصابع فأقلّ؛ حلّت، وإلّا! فلا. هذا إذا كانت الحظاية حريرا خالصا، أما إذا نسج معها كتّان أو قطن؛ فيعتبر فيها مع الثّوب الوزن. انتهى كلام السيد في «نشر الأعلام» .

(قالت) أي؛ أسماء: (هذه جبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها، فلمّا قبضت) عائشة، أي؛ ماتت رضي الله تعالى عنها (قبضتها) بضمّ المثنّاة الفوقيّة- أي: أخذت الجبّة المذكورة.

(وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يلبسها) - بفتح الموحدة- مضارع لبس- بكسر الموحّدة- من اللّباس، فإن كان من اللّبس- بفتح اللّام- بمعنى الخلط؛ فيقال فيه: لبس- بفتح الباء- في الماضي، يلبس- بكسر الموحدة- في المضارع، قال تعالى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (9) [الأنعام] . وقد نظم حاصل هذا بعضهم فقال:

لعين مضارع في لبس ثوب

أتى فتح وفي الماضي بكسر

ص: 464

فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها.

ومعنى (اللّبنة) : رقعة في جيب القميص.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس ما وجد؛ فمرّة شملة، ومرّة برد حبرة يمانيّة، ومرّة جبّة صوف، ما وجد من المباح لبس.

وفي خلط الأمور أتى بعكس

لعينهما فخذه بغير عسر

(فنحن نغسلها للمرضى) - وفي رواية: للمريض منّا إذا اشتكى- (نستشفي) نطلب الشفاء- (بها) لمخالطتها لعرقه وملابستها لبدنه، (ومعنى اللّبنة) - بكسر اللّام وإسكان الموحدة- (رقعة) ؛ أي: قطعة من حرير (في جيب القميص) ولو جديدا، وليس المراد أنّها جعلت فيه لإصلاح خلله. وفيه من الفقه: جواز لبس ما له فرجان، وأنّه لا كراهة فيه، وأنّ المراد بالنّهي عن الحرير المتمحّض منه، وأنّه ليس المراد تحريم كلّ جزء منه، بخلاف الخمر والذّهب، فإنّه يحرم كلّ جزء منهما، وعلى الرّجال في الذّهب؛ قاله النّووي في «شرح مسلم» .

(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني، و «إحياء علوم الدّين» للإمام الغزاليّ رحمهما الله تعالى:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس ما وجد) ؛ من غير قيد، (فمرّة) يلبس (شملة، ومرّة) يلبس (برد) - بضم أوّله وسكون الرّاء- مضافا إلى (حبرة) - بوزن عنبة- (يمانيّة) ؛ وهو الثّوب الّذي فيه خطوط، (ومرّة) يلبس (جبّة صوف) بالإضافة.

(ما وجد من المباح لبس) قال العراقيّ: روى البخاريّ؛ من حديث سهل بن سعد: جاءت امرأة ببردة، قال سهل: هل تدرون ما البردة؟ هي الشّملة؛ منسوج في حاشيتها، وفيه: فخرج إلينا وإنّها لإزاره

الحديث.

ولابن ماجه؛ من حديث عبادة بن الصامت: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في شملة قد عقد عليها. وفيه الأحوص بن حكيم مختلف فيه.

وللشّيخين؛ من حديث أنس: «كان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبسها

ص: 465

و (الشّملة) : كساء صغير يؤتزر به.

وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها كساء

الحبرة» ، ولهما؛ من حديث المغيرة:«وعليه جبّة من صوف ضيّقة الكمّين» .

انتهى «شرح الإحياء» .

وقد تقدّم ذلك بزيادة: (والشّملة) - بفتح المعجمة وسكون الميم-:

ما يشتمل به من الأكسية التي يلتحف بها؛ كما في «الفتح» ، وقيل: يختصّ بماله هدب. وقال ابن دريد: (كساء صغير يؤتزر به) ؛ وهي البردة، وتسمية العوامّ:

ما يلفّ على الرأس شملة؛ اصطلاح حادث.

(و) أخرج البخاريّ في فرض الخمس وفي اللّباس، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن أبي موسى الأشعريّ) : عبد الله بن قيس، الصحابي المشهور، الكوفي.

قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة قبل هجرته إلى المدينة، فأسلم ثمّ هاجر إلى الحبشة، ثمّ هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحاب السّفينتين بعد فتح خيبر، فأسهم لهم منها.

ولأبي موسى مع حسن صوته فضيلة ليست لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

هاجر ثلاث هجرات؛ هجرة من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة، وهجرة من مكّة إلى الحبشة، وهجرة من الحبشة إلى المدينة المنوّرة، واستعمله النّبيّ صلى الله عليه وسلم على «زبيد» و «عدن» وساحل اليمن، واستعمله عمر على «الكوفة» و «البصرة» .

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مئة وستون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على خمسين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، وانفرد مسلم بخمسة عشر.

وتوفّي بمكّة، وقيل: بالكوفة سنة: خمسين، أو إحدى وخمسين (رضي الله تعالى عنه قال: أخرجت إلينا) أم المؤمنين (عائشة) - الصّدّيقة بنت الصديق، وقد تقدمت ترجمتها- (رضي الله تعالى عنها كساء) - بكسر أوله- من صوف

ص: 466

ملبّدا وإزارا غليظا؛ فقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين. و (الكساء) : ما يستر أعلى البدن. و (الملبّد) :

المرقّع. و (الإزار) : ما يستر أسفل البدن. و (غلظه) :

(ملبّدا) - بتشديد الموحدة بصيغة اسم المفعول- أي: مرقّعا، كما قاله النووي في «شرح مسلم» .

(وإزارا) - بكسر الهمزة-: الملحفة، يذكّر ويؤنّث؛ فيقال: هو الإزار، وهي الإزار، وربما أنّث بالهاء، والمراد هنا: ما يستر أسفل البدن، ويقابله الرّداء: وهو ما يستر أعلى البدن، (غليظا)، أي: خشنا، صفة للإزار، وفي رواية عند مسلم موصولة، وعند البخاريّ تعليقا: أخرجت إلينا عائشة إزارا غليظا ممّا يصنع باليمن، وكساء من هذه الّتي تدعونها الملبّدة.

(فقالت: قبض) - بصيغة المجهول- ونائب الفاعل قوله (رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: أماته الله تعالى وهو (في هذين) ؛ أي: الكساء والإزار المذكورين، وأرادت أنّهما كانا لباسه وقت مفارقته للدّنيا صلى الله عليه وسلم، مع ما فيهما من الرّثاثة والخشونة، فلم يكترث صلى الله عليه وسلم بزخرفة الدنيا، ولا بمتاعها الفاني، مع أنّ ذلك كان بعد فتح الفتوح وفي قوّة الإسلام وكمال سلطانه.

ويؤخذ من ذلك: أنّه ينبغي للإنسان أن يجعل آخر عمره محلا لترك الزّينة.

(والكساء) - بكسر الكاف: - (ما يستر أعلى البدن) ؛ وهو الرداء، ضدّ الإزار، وجمعه: أكسية؛ بلا همز.

(والملبّد) - بضمّ الميم وفتح اللّام وتشديد الموحدة المفتوحة- قال ابن الأثير في «النهاية» : هو (المرقّع) - بضمّ الميم وفتح الرّاء وشدّ القاف- يقال: لبّدت القميص ألبده، ولبدته بالتّخفيف، ويقال للخرقة التي يرقع بها صدر القميص: اللّبدة بالكسر-. وقيل: الملبّد الذي ثخن وسطه وصفق، حتى صار يشبه اللّبدة- بالكسر-.

(والإزار) - بكسر أوّله-: (ما يستر أسفل البدن) ؛ ضد الرّداء، (وغلظه)

ص: 467

خشونته.

وكان له صلى الله عليه وسلم كساء ملبّد يلبسه ويقول: «إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» .

- بكسر الغين المعجمة وفتح اللّام-: (خشونته) .

وفي الحديث ندب حفظ آثار الصّالحين والتّبرك بها؛ من ثيابهم، ومتاعهم، فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها حفظت هذا الكساء والإزار اللّذين قبض فيهما للتبرّك بهما.

فائدة: ذكر ابن الجوزي في «الوفا» بإسناده؛ عن عروة بن الزّبير قال: كان طول رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعين ونصفا.

ونقل ابن القيّم عن الواقديّ: أن رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم برد طوله ستّة أذرع في ثلاثة أذرع وشبر، وإزاره من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر في ذراعين. انتهى «جمع الوسائل» .

(و) في «المواهب» و «الإحياء» : (كان له صلى الله عليه وسلم كساء ملبّد) ؛ أي:

مرقّع، أو ما ثخن وسطه حتى صار كاللّبد، (يلبسه ويقول:«إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» ) . قال في «المواهب» : رواه الشّيخان. قال الزرقاني: لم أره فيهما ولا في أحدهما بهذا اللّفظ في مظانّه! فليراجع.

وقال في «شرح الإحياء» : قال العراقي: روى الشّيخان؛ من رواية أبي بردة عن أبيه أبي موسى قال: أخرجت إلينا عائشة كساء ملبدا وإزارا غليظا؛ فقالت:

في هذين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم.

وروى البخاريّ من حديث عمر: «إنّما أنا عبد» . ولعبد الرزاق في «المصنف» من رواية أيوب السختياني مرفوعا معضلا: «إنّما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» .

قلت: وروى تمام وابن عساكر من حديث ابن عمر: «من لبس الصّوف وانتعل

ص: 468

وكان له صلى الله عليه وسلم كساء أسود، فوهبه، فقالت له أمّ سلمة: بأبي أنت وأمّي ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال:

«كسوته» ، فقالت: ما رأيت شيئا قطّ أحسن من بياضك على سواده.

وكان صلى الله عليه وسلم يتقنّع بردائه تارة ويتركه

بمخصوف

» الحديث. وفيه: «أنا عبد بن عبد، آكل أكلة العبد، وأجلس جلسة العبد

» الحديث. انتهى كلام «شرح الإحياء» ملخصا. وهو يؤيد كلام الزرقاني رحمه الله تعالى.

(و) في «الإحياء» : (كان له صلى الله عليه وسلم كساء أسود فوهبه) لآخر، (فقالت له أمّ سلمة) - رضي الله تعالى عنها-:(بأبي أنت وأمّي) يا رسول الله؛ (ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال: «كسوته» ، فقالت: ما رأيت شيئا قطّ) كان (أحسن من بياضك على سواده) .

قال في «شرح الإحياء» : قال العراقي: لم أقف عليه من حديث أمّ سلمة.

ولمسلم من حديث عائشة- رضي الله تعالى عنها-: خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه مرط مرحّل أسود. ولأبي داود، والنّسائي: صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم بردة سوداء من صوف فلبسها.. الحديث، وزاد فيه ابن سعد في «الطّبقات» : فذكرت بياض النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسوادها. ورواه الحاكم بلفظ: جبة، وقال: صحيح على شرط الشّيخين.

(و) في «كشف الغمة» للعارف الشّعراني- رحمه الله تعالى-:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقنّع بردائه) . قال الوليّ العراقيّ في «شرح تقريب الأسانيد» : التقنّع معروف؛ وهو تغطية الرّأس بطرف العمامة، أو برداء، أو نحو ذلك.

وقال ابن الحاجّ في «المدخل» : وأما قناع الرجل!! فهو أن يغطّي رأسه بردائه ويردّ طرفه على أحد كتفيه. انتهى. واحترز به عن قناع المرأة؛ فإنّها خرقة لطيفة تجعلها على رأسها. (تارة) - التارة: المرّة، وجمعها تارات- (ويتركه) - أي:

ص: 469

أخرى، وهو الّذي يسمّى في العرف: الطّيلسان.

التقنّع- تارة (أخرى، و) التقنّع قال السيوطي: (هو) التّطيلس. وقال الشّعراني: الرّداء: هو (الّذي يسمّى في العرف: «الطّيلسان» ) - بفتح الطّاء واللّام على الأشهر الأفصح- بزنة «فيعلان» ، وحكى القاضي عياض والنّووي والمجد «1» : كسر اللّام وضمّها، وفيه لغة: الطّالسان بالألف، حكاها ابن الأعرابي.

اعتراض ابن القيم والتعقّب عليه قال ابن القيم: ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنّه لبسه، ولا أحد من أصحابه، بل ثبت في «صحيح مسلم» من حديث النّواس بن سمعان عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّه ذكر الدّجّال فقال: «يخرج معه سبعون ألفا من يهود أصبهان عليهم الطّيالسة» .

ورأى أنس جماعة عليهم الطّيالسة فقال: ما أشبههم بيهود خيبر!.

قال: ومن ها هنا كرهه جماعة من السّلف والخلف؛ لما روى أبو داود، والحاكم؛ أنّه قال:«من تشبّه بقوم فهو منهم» . وفي «التّرمذيّ» : «ليس منّا من تشبّه بغيرنا» .

وأمّا ما جاء في حديث الهجرة أنّه صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه متقنّعا بالهاجرة! فإنّما فعله صلى الله عليه وسلم تلك السّاعة ليختفي بذلك؛ للحاجة. ولم يكن عادته التقنّع، وقد ذكر أنس عنه صلى الله عليه وسلم: أنّه كان يكثر القناع، وهذا إنّما كان يفعله للحاجة؛ من الحرّ ونحوه. انتهى كلام ابن القيّم؛ نقله في «المواهب» .

وتعقّبه بقوله: أمّا قوله: إنّه صلى الله عليه وسلم إنّما فعل ذلك للحاجة؛ فيردّ عليه حديث سهل بن سعد: أنّه صلى الله عليه وسلم كان يكثر القناع. رواه البيهقي في «الشعب» ، والتّرمذيّ.

وللبيهقيّ في «الشعب» أيضا، وابن سعد في «طبقاته» ؛ من حديث أنس

(1) الفيروز أبادي.

ص: 470

.........

بلفظ: يكثر التقنع. فهذا وما أشبهه يرد قول ابن القيم أنّه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنّه لبسه.

الطيلسان ثوب لا يؤدّى شكره وفي «طبقات» ابن سعد مرسلا: ذكر الطّيلسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا ثوب لا يؤدّى شكره» . وفيه أحاديث كثيرة.

وأما قوله: ولا أحد من أصحابه! فيردّه ما أخرجه التّرمذيّ وصحّحه، والحاكم في «المستدرك» بسند على شرط الشّيخين؛ عن مرّة بن كعب- أو كعب بن مرة- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة فقرّبها، فمرّ رجل مقنّع في ثوب- وفي لفظ:«بردائه» - فقال: «هذا يومئذ على الهدى» . فقمت فإذا هو عثمان بن عفّان- رضي الله تعالى عنه-؛ فهذا صحابي من أجلّاء الصّحابة تقنّع، ورآه المصطفى كذلك وأقرّه!

وروى أبو يعلى وابن عساكر: صعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم المنبر؛ وأصحابه تحت المنبر، وأبو بكر مقنّع في القوم. فهذا خير الصحابة تقنّع بحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأقرّه! وروى ابن عساكر: أنّ عمر تقنّع في خلافته يوم عيد.

وأخرج سعيد بن منصور في «سننه» ؛ عن أبي العلاء قال: رأيت الحسن بن علي يصلّي وهو مقنّع رأسه.

وأخرج ابن سعد؛ عن سليمان بن المغيرة قال: رأيت الحسن بن عليّ يلبس الطّيالسة.

وأخرج ابن سعد أيضا؛ عن عمارة بن زاذان قال: رأيت على الحسن بن علي طيلسانا أندقيّا. فهؤلاء أربعة من الصّحابة تطيلسوا.

وأما التّابعون! فثبت عن طاوس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري أخرجه عنهم ابن سعد-، ومسروق، وإبراهيم النّخعي، وسعيد بن المسيب عند ابن أبي شيبة-، ومحمّد بن واسع- عند ابن عساكر-، وميمون بن مهران

ص: 471

.........

- عند ابن الإمام أحمد في «زوائد الزهد» - وروى البيهقي؛ عن خالد بن حراش قال: جئت مالك بن أنس؛ إمام دار الهجرة، فرأيت عليه طيلسانا، فقلت:

يا أبا عبد الله؛ هذا شيء أحدثته أم رأيت النّاس عليه؟ قال: لا؛ بل رأيت النّاس عليه. والآثار عن السّلف في ذلك كثيرة.

وأما ما ذكره ابن القيّم من قصّة اليهود الخارجين مع الدّجال ويهود خيبر؛ فقال الحافظ ابن حجر: إنّما يصلح الاستدلال به في الوقت الّذي تكون فيه الطّيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة، فصار ذلك داخلا في عموم المباح، وقد ذكره العزّ بن عبد السّلام في أمثلة البدعة المباحة. وقد يصير من شعار قوم؛ فيصير تركه من الإخلال بالمروءة؛ فيرتقي عن الإباحة إلى الطّلب.

وقيل: إنّما أنكر أنس ألوان الطّيالسة؛ لأنّها كانت صفراء، وقد صحّ النّهي عن الصفرة.

انتهى كلام «المواهب» مع شيء من الشرح.

قال المناوي في شرح «الشمائل» : وقد كثر كلام النّاس في الطّيلسان، والحاصل أنّه قسمان:

1-

محنّك: وهو ثوب طويل عريض قريب من الرّداء، مربّع، يجعل فوق العمامة، يغطّي أكثر الوجه، ثم يدار طرفه- والأولى اليمين من تحت الحنك- إلى أن يحيط بالرّقبة جميعها، ثمّ يلقى طرفاه على المنكبين.

و2- مقوّر: وهو ما عدا ذلك، فيشمل: المدوّر، والمثلّث، والمربّع، والمسدول؛ وهو ما يرخى طرفاه من غير ضمّهما أو أحدهما؛ ومنه: الطّرحة المعتادة لقاضي القضاة الشّافعي المختصّة به.

والأوّل- يعني: المحنّك- مندوب اتفاقا، ويتأكّد لصلاة وحضور جمعة وعيد ومجمع. والثّاني- يعني: المقوّر بأنواعه- مكروه، لأنه من شعار أهل الذّمّة.

انتهى.

ص: 472

.........

وقال السّيوطي: كلّ من وقع في كلامه من العلماء كراهة للطيلسان وكونه شعارا لليهود؛ إنّما أراد المقوّر الّذي على شكل الطرحة؛ يرسل من وراء الظّهر والجانبين من غير إدارة تحت الحنك، ولا إلقاء لطرفيه على الكتفين.

وأما المربّع الذي يدار من تحت الحنك ويغطي الرّأس وأكثر الوجه ويجعل طرفاه على الكتفين! فلا خلاف أنه سنة. انتهى. نقله الزرقاني على «المواهب» .

قال المناوي في شرح «الشّمائل» : ووقع في أكثر الأحاديث التعبير عن التّطيلس بالتقنّع، وعن الطّيلسان بالقناع.

ومن ثمّ قال الحافظ ابن حجر في مجيء المصطفى صلى الله عليه وسلم لبيت الصّدّيق متقنّعا أي: مطيلسا رأسه-: هذا أصل لبس الطّيلسان. قال: والتقنّع: تغطية الرّأس وأكثر الوجه برداء أو غيره، وصرّحوا بأنّ القناع الّذي يحصل به التقنّع الحقيقيّ: هو الرداء، وهو يسمّى «طيلسانا» ، كما أن الطّيلسان قد يسمّى «رداء» .

ومن ثمّ قال ابن الأثير: الرّداء يسمّى الآن «طيلسانا» . فما على الرّأس مع التّحنيك: الطّيلسان الحقيقي، ويسمّى «رداء» مجازا. وما على الأكتاف: هو الرّداء الحقيقي، ويسمّى «طيلسانا» مجازا. وصحّ عن ابن مسعود- وله حكم المرفوع-:«التّقنّع من أخلاق الأنبياء» . وفي خبر أنّ: «التّقنّع باللّيل ريبة» .

وفي خبر: «لا يتقنّع إلّا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» . وأخذ من ذلك:

أنّه ينبغي أن يكون للعلماء شعار مختصّ بهم؛ ليعرفوا فيسألوا ويمتثل ما أمروا به ونهوا عنه.

وللطّيلسان فوائد جليلة: فيها صلاح الظّاهر والباطن؛ كالاستحياء من الله والخوف منه، إذ تغطية الرّأس شأن الخائف الآبق الّذي لا ناصر له ولا معين، ولجمعه للفكر لكونه يغطّي أكثر الوجه، فتندفع عن صاحبه مفاسد كثيرة، وتجتمع همّته؛ فيحضر قلبه مع ربّه ويمتلىء بشهوده وذكره، وتصان جوارحه عن المخالفات، ونفسه عن الشّهوات، وهذه أسباب لإفاضة أنواع الجلالة والمهابة، ولذلك قال بعض الصّوفية: الطّيلسان الخلوة الصّغرى. انتهى.

ص: 473

وكان صلى الله عليه وسلم غالب ما يلبس هو وأصحابه ما نسج من القطن، وربّما لبسوا ما نسج من الصّوف والكتّان.

ولبس صلى الله عليه وسلم الشّعر الأسود. ولبس مرّة بردة من الصّوف.. فوجد ريح الضّأن فطرحها.

(و) في «زاد المعاد» لشمس الدّين ابن القيّم: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب ما يلبس هو وأصحابه) معطوف على الضمير المستتر في يلبس، والشّرط موجود، على حدّ قول صاحب «الألفيّة» :

وإن على ضمير رفع متّصل

عطفت فافصل بالضّمير المنفصل

(ما نسج) - أي: الثّياب المنسوجة- (من القطن) ؛ قميصا أو رداء أو غيرهما.

والقطن- بضمّ فسكون، وبضمّتين- شجر معروف، قد يعظم ويبقى عشرين سنة.

(وربّما لبسوا ما نسج من الصّوف) لمزيد تواضعه، ولأنّ لبسه من سنن الأنبياء.

قال ابن مسعود: كان الأنبياء يركبون الحمير، ويلبسون الصّوف، ويحتلبون الشّاة. رواه أبو داود الطّيالسيّ. وعنه صلى الله عليه وسلم قال:«كان على موسى يوم كلّمه ربّه كساء صوف، وكمّة صوف، وجبّة صوف، وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت» . رواه التّرمذيّ وقال: غريب. والحاكم وصححّه على شرط البخاريّ كلاهما؛ عن حميد الأعرج؛ عن عبد الله بن الحارث؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. والكمّة- بضمّ الكاف وتشديد الميم-: القلنسوة الصغيرة. انتهى.

(و) ما نسج من (الكتّان) - بفتح الكاف وتشديد المثنّاة الفوقيّة آخره نون- عربي معروف، وسمّي بذلك!! لأنّه يكتنّ، أي: يسودّ إذا ألقي بعضه على بعض. والثّياب المنسوجة من الكتّان معتدلة الحرّ والبرد واليبوسة، ولا تلزق بالبدن، ويقل قملها.

(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني: (لبس) رسول الله صلى الله عليه وسلم الشّعر الأسود) ، وقد تقدّم بيانه، (ولبس مرّة بردة من الصّوف؛ فوجد ريح الضّأن فطرحها) . فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم بردة سوداء،

ص: 474

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سراويل،

فلبسها، فلما عرق فيها؛ وجد ريح الصّوف فقذفها. وكانت تعجبه الرّيح الطيّبة.

أخرجه أبو داود، والنّسائي في «سننه» ، وذكره البغوي في «المصابيح» .

(و) في «كشف الغمّة» أيضا: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سراويل) ؛ قال ابن سيده: فارسي معرّب؛ يذكّر ويؤنّث. ولم يعرف أبو حاتم السجستاني التذكير، والأشهر عدم صرفه. قال الحافظ ابن حجر: والتأنيث أكثر؛ ففي «القاموس» :

فارسية معرّبة، وقد تذكّر، جمعها سراويلات، أو جمع «سروال، وسراولة، وسرويل» - بكسرهنّ- وليس في الكلام فعويل غيره، والسّراوين- بالنّون-: لغة في السّراويل، والشّروال- بالشين-: لغة. وفي «المصباح» : الجمهور على أن السّراويل أعجميّة، وقيل: عربيّة؛ جمع سروالة تقديرا، والجمع سراويلات.

واختلف؛ هل لبسها النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟! فجزم بعض العلماء بأنّه عليه الصلاة والسلام لم يلبسه، ويستأنس له بما جزم به النّوويّ في ترجمة عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه من كتاب «تهذيب الأسماء واللغات» أنّه رضي الله عنه لم يلبس السّراويل في جاهليّة ولا إسلام إلّا يوم قتله. فإنّهم كانوا أحرص شيء على اتّباعه صلى الله عليه وسلم.

لكن قد ورد في حديث عند أبي يعلى الموصلي بسند ضعيف جدا؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت السوق يوما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى البزّازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السّوق وزّان يزن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اتّزن وأرجح» .

فقال الوزّان: إنّ هذه الكلمة ما سمعتها من أحد!!. قال أبو هريرة: فقلت له: كفى بك من الوهن والجفاء في دينك أن لا تعرف نبيّك! فطرح الميزان.

ووثب إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقبّلها، فجذب يده صلى الله عليه وسلم منه، وقال:

«يا هذا؛ إنّما تفعل هذا الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنّما أنا رجل منكم» ، فوزن وأرجح، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السّراويل. قال أبو هريرة: فذهبت لأحمله

ص: 475

عنه، فقال:«صاحب الشّيء أحقّ بشيئه أن يحمله، إلّا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم» .

قال: قلت: يا رسول الله؛ وإنك لتلبس السّراويل؟ قال: «أجل! في السّفر والحضر، وباللّيل والنّهار، فإنّي أمرت بالسّتر فلم أجد شيئا أستر منه» .

وكذا أخرجه ابن حبّان في «الضّعفاء» ؛ عن أبي يعلى، ورواه الطّبراني في «الأوسط» ، والدّارقطني في «الأفراد» ، والعقيلي في «الضّعفاء» ؛ ومداره على يوسف بن زياد الواسطيّ وهو واه لا يحتمل تفرّده، بل بالغ ابن الجوزيّ فذكر الحديث هذا في «الموضوعات» ، وتعقّبه السّيوطي، واقتصر الحافظ ابن حجر وغيره على أنّه ضعيف.

لكن صحّ شراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم للسّراويل من غير هذا الطّريق؛ فقد روى أحمد، وأصحاب «السّنن الأربعة» ، وصحّحه ابن حبّان؛ عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرفة العبد بزّا من هجر، فأتينا مكّة، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى، فساومنا سراويل، فبعناه منه، فوزن ثمنه؛ وقال للوزّان:«زن وأرجح» .

وروى النّسائي وأحمد؛ عن أبي صفوان مالك بن عميرة الأسديّ: أنّه باع من النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر رجل سراويل، فلمّا وزن له أرجح له. وهذه القصّة غير الّتي في حديث أبي يعلى؛ لأنّها بعد الهجرة، إذ أبو هريرة إنّما جاء في خيبر.

قال في «الإصابة» : مالك بن عميرة- بفتح العين- وقيل عمير- مصغّرا بلا هاء- حديثه يشبه حديث سويد بن قيس، فقيل إنّهما واحد اختلف في اسمه.

انتهى.

وفي «الهدي النبوي» لابن القيّم: والظّاهر أنّه صلى الله عليه وسلم إنّما اشتراه ليلبسه، وقد روي أنّه لبس السّراويل، وكانوا يلبسونه في زمانه، وبإذنه، قال أبو عبد الله الحجازيّ في حاشيته على «الشفاء» : وما قاله في «الهدي» من أنّه صلى الله عليه وسلم لبس السّراويل!! قالوا سبق قلم. انتهى. من «المواهب» مع زيادة من شرح الزرقاني.

ص: 476

ولبس النّعل الّتي تسمّى: التّاسومة.

وكان له صلى الله عليه وسلم ملاءة مصبوغة بالزّعفران، تنقل معه إلى بيوت أزواجه، فترسلها من كان نائما عندها إلى صاحبة النّوبة، فترشّها بالماء، فتظهر رائحة الزّعفران، فينام معها فيها.

(ولبس) صلى الله عليه وسلم (النّعل الّتي تسمّى) في العرف (التّاسومة) : هي ما له سير يستر بعض الأصابع ممّا يلي أصولها، وبعض ظهر القدم من تلك الجهة.

(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني رحمه الله تعالى:

(كان له صلى الله عليه وسلم ملاءة) - بالضمّ والمدّ-: الإزار، يقال: تملأت: لبست الملاءة، وتصغير الملاءة: مليئة. ورد في الحديث: «وعليه أسمال مليّتين» ؛ تصغير «ملاية» ؛ مثنّاة مخفّفة الهمز. والملاءة: قيل إنّها مرادفة للرّيطة بالفتح-. وقيل: الملاءة الملحفة ذات اللّفقين، فإن كانت ليست ذات لفقين؛ فهي ريطة. انتهى «شرح القاموس» . (مصبوغة بالزّعفران) معروف، يقال:

زعفرت الثّوب: صبغته بزعفران، فهو مزعفر- بالفتح اسم مفعول- (تنقل معه إلى بيوت أزواجه) بالنّوبة، (فترسلها من كان نائما عندها إلى صاحبة النّوبة؛ فترشّها بالماء) ، الظّاهر أنّ القصد برشّها التّبريد، لأنّ قطر الحجاز في غاية الحرّ، ويحتمل أنّها ترشّها بماء ممزوج بنحو طيب كما يفعله النّساء الآن، أو لأجل أن تظهر رائحة الزّعفران منها؛ كما قال:(فتظهر رائحة الزّعفران) منها إذا رشّت بالماء، (فينام معها) - أي: مع صاحبة النّوبة- (فيها) ؛ أي: الملاءة.

روى الخطيب في «تاريخه» بسند ضعيف؛ عن أنس بن مالك: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان له ملحفة مصبوغة بالورس والزّعفران، يدور بها على نسائه، فإذا كانت ليلة هذه رشّتها بالماء، وإذ كانت ليلة هذه رشّتها بالماء. انتهى.

وفيه حلّ لبس المزعفر والمورّس، ويعارضه بالنسبة للمزعفر حديث الشّيخين: نهى أن يتزعفر الرّجل. وبه أخذ الشّافعيّ، ولا فرق بين ما صبغ قبل

ص: 477

وكانت له صلى الله عليه وسلم ملحفة مصبوغة بالزّعفران، وربّما صلّى بالنّاس فيها وحدها، وربّما لبس الكساء وحده وما عليه غيره.

وكان صلى الله عليه وسلم ربّما صلّى باللّيل في الإزار، وارتدى ببعضه ممّا يلي هدبه، وألقى البقيّة على بعض نسائه، فيصلّي كذلك.

النّسج وبعده. وأما المورّس! فذهب جمع من أصحابه لحلّه؛ تمسّكا بهذا الخبر، المؤيّد بما صحّ: أنّه كان يصبغ ثيابه بالورس؛ حتّى عمامته. لكن ألحقه جمع بالمزعفر في الحرمة. انتهى «مناوي» .

(و) في «كشف الغمة» و «الإحياء» : (كانت له صلى الله عليه وسلم ملحفة) - بكسر الميم-: الملاءة الّتي تلتحف بها المرأة (مصبوغة بالزّعفران، وربّما صلّى بالنّاس فيها وحدها) . قال العراقيّ: روى أبو داود، والتّرمذيّ؛ من حديث قيلة بنت مخرمة قالت: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه أسمال ملاءتين كانتا بزعفران. قال الترمذيّ:

لا نعرفه إلّا من حديث عبد الله بن حسّان. قلت: ورواته موثّقون.

ولأبي داود؛ من حديث قيس بن سعد: «فاغتسل، ثمّ ناوله أبي سعد ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس، فاشتمل بها

» . الحديث. ورجاله ثقات.

(وربّما لبس) صلى الله عليه وسلم (الكساء وحده وما عليه غيره) . قال العراقي: رواه ابن ماجه، وابن خزيمة؛ من حديث ثابت بن الصّامت: أن النّبي صلى الله عليه وسلم صلّى في بني عبد الأشهل وعليه كساء متلفّف به

الحديث. وفي رواية البزّار: في كساء. انتهى شرح «الإحياء» .

(و) في «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم ربّما صلّى باللّيل في الإزار وارتدى ببعضه ممّا يلي هدبه) - بضم الهاء وإسكان الدال-: طرف الثوب، (وألقى البقيّة على بعض نسائه، فيصلّي كذلك) .

قال العراقيّ: روى أبو داود؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في ثوب بعضه عليّ. ولمسلم: كان يصلّي من اللّيل وأنا إلى جنبه،

ص: 478

وكانت ثيابه صلى الله عليه وسلم كلّها مشمّرة فوق الكعبين، وكان إزاره فوق ذلك إلى نصف السّاق،

وأنا حائض، وعليّ مرط وعليه بعضه إلى جنبه.

وللطّبراني في «الأوسط» ؛ من حديث أبي عبد الرّحمن حاضن عائشة رضي الله عنها: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعائشة يصلّيان في ثوب واحد، نصفه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونصفه على عائشة. وسنده ضعيف.

(و) في «كشف الغمة» و «إحياء علوم الدين» : (كانت ثيابه صلى الله عليه وسلم كلّها مشمّرة فوق الكعبين) - مثنى كعب-، واختلف فيه أئمة اللّغة؛ فقال أبو عمرو بن العلاء، والأصمعي، وجماعة: هو العظم الناشز في جانب القدم عند ملتقى السّاق والقدم، فيكون لكل قدم كعبان؛ عن يمنتها ويسرتها، وقد صرّح بهذا الأزهري وغيره. وقال ابن الأعرابي وجماعة: هو المفصل بين السّاق والقدم. وقيل غير ذلك.

(وكان إزاره فوق ذلك إلى نصف السّاق)، قال العراقي: روى أبو الفضل محمّد بن طاهر في كتاب «صفوة التصوّف» ؛ من حديث عبد الله بن بسر: «كانت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاره فوق الكعبين، وقميصه فوق ذلك، ورداؤه فوق ذلك» وإسناده ضعيف.

وللحاكم وصححه؛ من حديث ابن عبّاس: كان يلبس قميصا فوق الكعبين

الحديث، وهو عند ابن ماجه بلفظ: قميصا قصير اليدين والطّول.

وسندهما ضعيف.

وللتّرمذيّ في «الشمائل» ؛ من رواية الأشعث قال: سمعت عمّتي تحدّث عن عمّها؛ فذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه: فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.

ورواه النّسائي وسمّى الصّحابي: عبيد بن خالد، واسم عمة الأشعث: رهم بنت الأسود. ولا تعرف!! انتهى.

ص: 479

وكان قميصه مشدود الأزرار، وربّما حلّ الأزرار في الصّلاة وغيرها.

وعن عبيد بن خالد رضي الله تعالى عنه قال: بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي

(وكان قميصه مشدود الأزرار) - واحدها: زرّ بالكسر- (وربّما حلّ الأزرار في الصّلاة وغيرها) . قال العراقي: رواه أبو داود، وابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ من رواية معاوية بن قرّة بن إياس قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة، فبايعناه، وإن قميصه لمطلق الأزرار. وقد تقدّم.

وللبيهقيّ من رواية زيد بن أسلم قال: رأيت ابن عمر يصلّي محلول أزراره، فسألته عن ذلك؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.

وللطّبراني؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بإسناد ضعيف:

دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي محتبيا محلّل الأزرار.

(و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائي في «السنن» ؛ (عن عبيد بن خالد) - ويقال ابن خلف المحاربيّ، ويقال: عبيد؛ بفتح أوله، ويقال عبيدة؛ بفتح العين وزيادة هاء. وذكره ابن عبد البرّ: بضمّ أوله وبالهاء؛ صحابيّ يعدّ في الكوفيّين- (رضي الله تعالى عنه) له حديث في إسبال الإزار، ذكره في «الإصابة» .

(قال: بينا أنا أمشي بالمدينة؛ إذا إنسان خلفي)، أي: فاجأني كون إنسان خلفي بين أزمنة كوني أمشي في المدينة. ف «بين» «1» : ظرف للفعل الذي دلّت عليه «إذا» الّتي للمفاجأة، وأصلها:«بين» ، فأشبعت فتحتها فتولّدت الألف، وقد تزاد فيها «ما» ، فيقال: بينما. ولا تضاف «بينا» و «بينما» إلا إلى اثنين فصاعدا،

(1) هكذا في الأصل!! والصواب: بينا؛ بالألف.

ص: 480

يقول: «ارفع إزارك فإنّه أتقى وأبقى» ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله؛ إنّما هي بردة ملحاء،

أو ما قام مقامهما؛ كقوله تعالى (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ)[68: البقرة] . وقدّم المسند إليه للتّخصيص أو للتّقوّي. وعبّر بصيغة المضارع استحضارا للصّورة الماضية، والباء في قوله ب «المدينة» بمعنى «في» . وقوله (يقول) خبر المبتدأ الّذي هو (إنسان) ؛ المخصوص بالوصف، أي: يقول ذلك الإنسان: ( «ارفع إزارك) عن الأرض، وهذا على عادته في نصح أصحابه، (فإنّه) - أي: الرفع- (أتقى) بمثنّاة فوقيّة- أي: أقرب إلى التّقوى، للبعد عن الكبر والخيلاء، وفي رواية:

«أنقى» بالنّون، أي: أنظف، فإنّ الإزار إذا جرّ على الأرض ربّما تعلق به نجاسة فتلوّثه، (وأبقى) - بالباء الموحّدة-؛ أي: أكثر بقاء ودواما.

وفيه إرشاد إلى أنّه ينبغي للّابس الرّفق بما يستعمله، واعتناؤه بحفظه، لأنّ إهماله تضييع وإسراف، فقد علّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالمصلحة الدّينيّة؛ وهي طهارة القلب أو القالب أوّلا، لأنّها المقصودة بالذّات، وثانيا بالمنفعة الدّنيويّة، فإنّها التّابعة للأخرى.

وفيه إيماء إلى أنّ المصالح الأخرويّة لا تخلو عن المنافع الدّنيويّة.

(فإذا هو) - أي: الإنسان- (رسول الله) ، هكذا في أكثر نسخ «الشمائل» ، وفي بعضها: فالتفتّ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله؛ إنّما هي) ؛ أي: الإزار- تؤنّث وتذكّر- (بردة) - بضمّ فسكون- كساء صغير مربّع، ويقال كساء أسود صغير، (ملحاء) - بفتح الميم والحاء المهملة وسكون اللّام والمدّ- هي في الأصل: البياض يخالطه سواد، والمراد: بردة سوداء فيها خطوط بيض تلبسها الأعراب.

والظّاهر أنّ هذا جواب لقوله «أبقى» بموحدة، أي: إنّها بردة مبتذلة لا يؤبه لها ليراعي ما يقيها؛ إذ ليست من الثّياب الفّاخرة، وكأنّه يريد أنّ هذا ثوب لا اعتبار

ص: 481

قال: «أما لك فيّ أسوة؟!» ، فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.

ومعنى (ملحاء) : سوداء فيها خطوط بيض يلبسها الأعراب، ليست من الثّياب الفاخرة. و (الأسوة) : القدوة.

وعن سلمة بن الأكوع

به، ولا يلبسه في المجالس والمحافل، وإنّما هو ثوب مهنة؛ لا ثوب زينة، فأجابه صلى الله عليه وسلم بطلب الاقتداء به حيث:

(قال: «أما) - كلمة «ما» للنفي، والهمزة للاستفهام الإنكاري؛ أي: ليس (لك فيّ) - بتشديد الياء- أي: في أقوالي وأفعالي (أسوة) - بضمّ الهمزة أفصح من كسرها- أي: اقتداء واتباع. ومراده صلى الله عليه وسلم طلب الاقتداء به، وإن لم يكن في تلك البردة خيلاء؛ سدّا للذّريعة، وكأنّه صلى الله عليه وسلم علم أنّه لم يفهم مراده فغيّر الأسلوب.

(فنظرت)، أي: تأمّلت لبسته صلى الله عليه وسلم؛ (فإذا إزاره) ينتهي (إلى نصف ساقيه) صلى الله عليه وسلم. قال النّوويّ: القدر المستحبّ فيما ينزل إليه طرف الإزار: نصف السّاقين، والجائز بلا كراهة: ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عنهما؛ إن كان للخيلاء حرم، وإلّا كره، وفي معنى الإزار: القميص وكلّ ملبوس، وهذا في حقّ الرّجل، أما المرأة! فيسنّ لها جرّه على الأرض قدر شبر، وأكثره ذراع؛ ذكره الباجوريّ وغيره.

(ومعنى ملحاء) - بفتح الميم والمهملة بينهما لام ساكنة؛ ممدود-: تأنيث أملح وهي في الأصل: بياض يخالطه سواد، والمراد هنا: بردة (سوداء؛ فيها خطوط بيض يلبسها الأعراب؛ ليست من الثّياب الفاخرة) ؛ قاله الباجوري.

(و) معنى (الأسوة) - بضم الهمزة وكسرها-: (القدوة)، أي: الحالة التي يكون عليها الإنسان في اتباع غيره.

(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن) أبي إياس (سلمة) بن عمرو (ابن الأكوع)، واسم الأكوع: سنان بن عبد الله بن قشير بن خزيمة بن مالك بن

ص: 482

رضي الله تعالى عنه قال: كان عثمان بن عفّان

سلامان بن أسلم الأسلمي؛ شهد بيعة الرضوان بالحديبية، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاث مرّات: في أول الناس، ووسطهم، وآخرهم.

وكان شجاعا راميا محسنا خيّرا فاضلا، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات؛ ويقال شهد غزوة مؤتة، روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة وسبعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على ستة عشر حديثا، وانفرد البخاريّ بخمسة، وانفرد مسلم بتسعة.

وتوفّي بالمدينة المنورة سنة: أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة (رضي الله تعالى عنه، قال:

كان) أبو عمرو ذو النورين (عثمان بن عفّان) بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي المكيّ؛ ثم المدني، أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين.

أسلم قديما؛ دعاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأسلم، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة. ويقال له «ذو النورين» !! لأنّه تزوّج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما بعد الأخرى، قالوا: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبيّ غيره، تزوّج رقية أوّلا فماتت في أيام غزوة بدر، ثم تزوّج أختها أمّ كلثوم وتوفيت عنده سنة:

تسع من الهجرة.

وكان حسن الوجه، رقيق البشرة، كثّ اللحية، وقد قيل فيهما:

أحسن شيء قد يرى إنسان

رقيّة وزوجها عثمان

وكان محبّبا في قريش، واشترى بئر رومة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستّة أصحاب الشورى الذين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو عنهم راض، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد السابقين إلى الإسلام، وأحد المنفقين في سبيل الله الإنفاق العظيم، وأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روي له من الحديث مائة حديث وستة وأربعون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم

ص: 483

رضي الله تعالى عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت إزرة صاحبي؛ يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله [تعالى] عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي فقال: «هذا موضع الإزار،

منها على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بثمانية، وانفرد مسلم بخمسة.

وقتل شهيدا يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة: خمس وثلاثين؛ وهو ابن تسعين سنة (رضي الله تعالى عنه يأتزر) - بهمزة ساكنة، ويجوز إبدالها ألفا؛ كما في «جمع الوسائل» - أي: يلبس الإزار ويرخيه (إلى أنصاف ساقيه)، والمراد بالجمع في الأنصاف: ما فوق الواحد بقرينة ما أضيف إليه.

والساق: ما بين الركبة والقدم.

(وقال) ؛ أي: عثمان- على الأظهر- (هكذا) - أي: مثل هذا الاتّزار المذكور- (كانت إزرة) - بكسر أوله-: اسم لهيئة الاتّزار؛ أي كانت إزرة (صاحبي) أي: هيئة ائتزاره هكذا؛ أي: كهذه الهيئة التي رأيتها مني (يعني) ؛ أي: يريد ويقصد عثمان بقوله «صاحبي» : (النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وقائل ذلك سلمة رضي الله تعالى عنه.

(و) أخرج النسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه، وابن حبّان كلّهم؛ (عن حذيفة بن اليمان) - بكسر النون بلا ياء- لقب والده حسل بن جابر اليماني. أسلم هو وأبوه قبل بدر. وتقدّمت ترجمته رضي الله عنهما قال) - أي حذيفة-:

(أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي) العضلة- بفتح العين وسكون الضاد؛ كطلحة، أو [عضلة] بتحريكها-: كلّ عصب له لحم بكثرة. قال الحافظ العراقي:

وهي هنا اللحمة المجتمعة أسفل من الركبة من مؤخّر الساق.

(فقال: «هذا موضع الإزار) - أي: هذا المحلّ موضع طرف الإزار، أو

ص: 484

فإن أبيت.. فأسفل، فإن أبيت.. فلا حقّ للإزار في الكعبين» .

وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رآني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أسبلت إزاري فقال: «يا ابن عمر؛ كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«ما أسفل من الكعبين من الإزار.. في النّار» ، نهاية موضع الإزار؛ فهو على حذف مضاف- (فإن أبيت) ! - أي: امتنعت من الاقتصار على ذلك وأردت التجاوز- (فأسفل) - أي: فموضعه أسفل من العضلة بقليل بحيث لا يصل إلى الكعبين-.

(فإن أبيت! فلا حقّ) - أي: فإن امتنعت من الاقتصار على ما دون الكعبين؛ فاعلم أنّه لا حقّ- (للإزار في) وصوله إلى (الكعبين) .

وظاهره أنّ إسباله إلى الكعبين ممنوع، لكن ظاهر رواية البخاريّ:«ما أسفل من الكعبين فهو في النّار» يدلّ على جواز إسباله إلى الكعبين، ويحمل ما هنا على المبالغة في منع الإسبال إلى الكعبين؛ لئلا يجرّ إلى ما تحتهما على وزان خبر «كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» .

(و) أخرج الطبرانيّ؛ من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب؛ (عن) أبي عبد الرحمن عبد الله (ابن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما، قال: رآني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أسبلت إزاري) - أي: أرخيته- (فقال: «يا ابن عمر؛ كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» ) . عقابا للابسه.

(و) في البخاري والنسائي؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين) من الرجل (من الإزار في النّار» ) . «ما» موصولة وبعض صلته محذوف؛ وهو «كان» . و «أسفل» خبره فهو منصوب، ويجوز الرفع، أي: ما هو أسفل: أفعل تفضيل، ويحتمل أنّه فعل ماض، ويجوز أنّ «ما» نكره موصوفة ب «أسفل» ؛ ذكره الحافظ ابن حجر.

ص: 485

وهو محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الّذي ورد فيه الوعيد.

وقال القسطلّاني: «ما» موصولة في محلّ رفع مبتدأ، و «في النار» الخبر، و «أسفل» خبر مبتدأ محذوف؛ وهو العائد على الموصول، أي:«ما هو أسفل» ، وحذف العائد لطول الصّلة، أو المحذوف «كان» و «أسفل» نصب خبرها، و «من» الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الجنس.

قال الخطّابي: يريد أنّ الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكنّى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه: أنّ الذي دون الكعبين من القدم يعذّب بالنار؛ عقوبة له، وحاصله: أنّه من باب تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حلّ فيه.

انتهى؛ ملخّصا.

وهذا استبعاد لوقوع الإزار في النار. وأصله ما أخرجه عبد الرزاق؛ عن عبد العزيز بن أبي رواد: أنّ نافعا سئل عن ذلك، فقال: وما ذنب الثّياب!! بل هو من القدمين، لكن في حديث ابن عمر المارّ:«كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» .

وأخرج الطبراني بسند حسن؛ عن ابن مسعود: أنّه رأى أعرابيّا يصلي قد أسبل؛ فقال: «المسبل في الصلاة ليس من الله في حلّ ولا حرام» .

ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فعلى هذا لا مانع من حمل الحديث على ظاهره، فيكون من وادي (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)[98/ الأنبياء] ، أو يكون من الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أنّ الذي يتعاطى المعصية أحقّ بذلك؛ ذكره الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» .

(وهو) - أي: هذا الإطلاق في الأحاديث المارّة- (محمول على ما ورد من قيد) - بالدال؛ أي: التقييد بحالة- (الخيلاء) - بضمّ الخاء المعجمة وفتح المثناة التحتية؛ ممدود- (فهو الّذي ورد فيه الوعيد) بالاتفاق، ونصّ الشافعيّ على أنّ التحريم مخصوص بالخيلاء، فإن لم يكن لها! كره.

ص: 486

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخي إزاره من بين يديه، ويرفعه من ورائه.

وقد أخرج أصحاب «السنن» إلّا الترمذيّ واستغربه، وابن أبي شيبة؛ من طريق عبد العزيز بن أبي رواد؛ عن سالم بن عبد الله بن عمر؛ عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرّ منها شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» فبيّن في هذه الرواية أنّ الحكم ليس خاصّا بالإزار؛ وإن جاء في أكثر طرق الأحاديث بلفظ «الإزار» . قال ابن جرير الطبري:

إنّما ورد الخبر بلفظ «الإزار» !! لأنّ أكثر الناس في عهده صلى الله عليه وسلم كانوا يلبسون الأزر والأردية، فلما لبس الناس القميص والدرائع؛ كان حكمها حكم الإزار في النهي.

قال ابن بطّال؛ تعقّبا على ابن جرير: هذا قياس صحيح لو لم يأت النصّ بالثوب، فإنّه يشمل جميع ذلك، فلا داعية للقياس مع وجود النصّ.

وفي تصوير جرّ العمامة نظر، إذ لا يتأتّى جرّها على الأرض كالثوب والإزار، إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات!! لأنّ جرّ كلّ شيء بحسبه، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال.

وهل يدخل في الزجر من جرّ الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه، أم لا يدخل!؟ محلّ نظر لعدم النصّ عليه. والذي يظهر أنّ من أطالها حتّى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين وغيرهم؛ كفلّاحي مصر دخل في ذلك.

وقال الزين العراقي: ما مسّ الأرض منها لا شكّ في تحريمه، بل لو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يبعد. انتهى؛ من «المواهب» وشرحها.

(و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن يزيد بن أبي حبيب البصري «1» مرسلا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخي) - من أرخى- (إزاره من بين يديه، ويرفعه من ورائه) حال المشي؛ لئلا يصيبه نحو قذر؛ أو شوك.

(1) هكذا في الأصل، ولعله:(المصري) .

ص: 487

وكان صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا.. سمّاه باسمه؛ قميصا، أو عمامة، أو رداء، ثمّ يقول:«اللهمّ؛ لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له» .

(و) أخرج أحمد، والترمذي، وأبو داود، والحاكم، والنسائي في «اليوم والليلة» وابن السّنّي بسند صحيح كلهم؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا) ؛ أي: لبس ثوبا جديدا (سمّاه) أي الثوب (باسمه؛ قميصا) ؛ أي: سواء كان قميصا، (أو عمامة، أو رداء) .

كان يقول «رزقني الله هذه العمامة» . (ثمّ يقول: «اللهمّ؛ لك الحمد أنت كسوتنيه) - الضمير راجع إلى المسمى؛ كما قاله الطيبي.

وهذه الجملة تعليل للجملة السابقة أعني «لك الحمد» (أسألك من خيره) أي: الخير الذي يصاحب لبسه كشكر الله تعالى على تيسيره- (وخير ما صنع له) أي: استعماله في طاعة الله وعبادته؛ بأن توفّقني للطاعة فيه كالصلاة، فقوله «وخير ما صنع له» كالتفسير لقوله «من خيره» -.

(وأعوذ بك من شرّه) - أي: الشرّ المصاحب للبسه؛ كالعجب به- (وشرّ ما صنع له) ؛- أي: استعماله في المعاصي، أي: لا يقع مني عصيان فيه؛ كزنا وشرب خمر، وليس المراد أنّه صنع بقصد المعصية كما هو ظاهر الحديث؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» .

وقال ابن علّان في «شرح الأذكار» : والمراد ما صنع لأجله من خير كحلّه وصلاح نيّة فاعله، أو شرّ كضدّ ذلك. والخير في المقدّمات يستدعي الخير في المقاصد، وكذا الشرّ، وشاهده:«وإنّما يلبّس علينا صلاتنا قوم لا يحسنون الطّهور» .

وقال ميرك: خير الثوب نقاؤه، وكونه ملبوسا للضرورة، والحاجة؛

ص: 488

وكان صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوبا جديدا.. حمد الله تعالى، وصلّى ركعتين، وكسا الخلق.

لا للفخر والخيلاء، وخير ما صنع له هو الضرورات التي من أجلها يصنع اللّباس؛ من الحرّ والبرد، وستر العورة، والمراد من سؤال الخير في هذه الأمور أن يكون مبلّغا إلى المطلوب الذي لأجله صنع الثوب من العون على العبادة والطاعة لمولاه، وفي الشرّ عكس المذكورات؛ وهو كونه حراما؛ أو نجسا، أو لم يبق زمانا طويلا، أو يكون سببا للمعاصي والشرور. انتهى.

قال المناوي: وفيه ندب الذّكر المذكور لكلّ من لبس ثوبا جديدا، والظاهر أنّ ذلك يستحبّ لمن ابتدأ لبس غير الثوب الجديد، بأن كان ملبوسا.

ثم رأيت الزين العراقيّ قال: يستحبّ عند لبس الجديد وغيره، بدليل رواية ابن السني في «اليوم والليلة» : إذا لبس ثوبا. انتهى. وفيه دليل على استحباب افتتاح الدعاء بالحمد لله والثناء عليه؛ ذكره العزيزي.

(وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوبا جديدا حمد الله تعالى) - كما تقدّم التصريح به آنفا في الحديث- قال العراقي: روى الحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي في «الشّعب» ؛ من حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بثيابه فلبسها، فلما بلغ تراقيه؛ قال:«الحمد لله الّذي كساني ما أتجمّل به في حياتي وأواري به عورتي» . قال البيهقي: إسناده غير قويّ.

وروى ابن السّنّي؛ من حديث معاذ بن أنس رفعه: «من لبس ثوبا؛ فقال (الحمد لله الّذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة) غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» . انتهى شرح «الإحياء» .

(وصلّى ركعتين) شكرا لله تعالى على هذه النعمة، (وكسا الخلق) بفتحتين-: الثوب البالي للمذكّر والمؤنث، جمعه: خلقان كعثمان.

روى الترمذيّ؛ وقال: غريب، وابن ماجه، والحاكم وصحّحه؛ من حديث

ص: 489

وكان صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا.. لبسه يوم الجمعة.

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«من لبس ثوبا جديدا؛ فقال: الحمد لله الّذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمّل به في حياتي ثمّ عمد إلى الثّوب الّذي أخلق فتصدّق به؛ كان في حفظ الله، وفي كنف الله عز وجل، وفي ستر الله حيّا وميتا» .

ورواه كذلك ابن أبي شبية، وابن السنّي في «عمل اليوم والليلة» ، والطبراني في «الدعاء» كلّهم؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

وروى الترمذيّ؛ وقال: حسن غريب؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: «ما من مسلم كسا مسلما ثوبا إلّا كان في حفظ الله ما دام عليه منه خرقة» ، وهو عند ابن النجار:«من كسا مسلما ثوبا كان في حفظ من الله عز وجل ما بقي عليه منه خرقة» . ورواه الحاكم؛ وتعقّب.

وروى أبو الشيخ؛ بلفظ: «من كسا مسلما ثوبا لم يزل في ستر الله ما دام عليه منه خيط؛ أو سلك» .

(و) أخرج الخطيب في «تاريخه» بسند ضعيف؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا) ؛ أي: استحدث ثوبا جديدا (لبسه) ؛ أي: ابتدأ لبسه (يوم الجمعة) ، لكونه أفضل أيّام الأسبوع، فتعود بركة يوم الجمعة على الثوب؛ وعلى لابسه، فيطلب لبس الجديد فيه حيث كان أبيض؛ أو غير أبيض، وليس عنده أبيض، وإلّا لبسه لحظة وعمل فيه عملا صالحا، ثم خلعه ولبس الأبيض؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» .

(و) أخرج البيهقيّ في «سننه» ، وابن خزيمة في «صحيحه» ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:

ص: 490

وكان له صلى الله عليه وسلم برد يلبسه في العيدين والجمعة.

وكان صلى الله عليه وسلم يلبس بردة حمراء في كلّ عيد.

(كان له صلى الله عليه وسلم برد) - بضم فسكون-: قال الحفني: أي رداء يرتدي به؛ طوله أربعة أذرع وعرضه ثلاثة أذرع، ولونه الخضرة؛ أي: كما في رواية أخضر.

(يلبسه) - بفتح الموحدة- (في العيدين والجمعة) وكان يتجمّل به للوفود أيضا، وهذا كان منه عبادة، لأنّه مأمور بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم، ولو سقط عن أعينهم لم يرغبوا في اتباعه؛ فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم، فإن أعين العوامّ تمتدّ إلى الظاهر؛ دون السرائر. ولله درّ من قال وأحسن في المقال:

قيمة المرء فضله عند ذي الفض

ل وما في يديه عند الرّعاع

فإذا ما حويت علما ومالا

صرت عين الزّمان بالإجماع

وإذا منهما غدوت خليّا

كنت في النّاس من أخس المتاع

وأخذ من ذلك الإمام الرافعي أنّه يسنّ للإمام يوم الجمعة أن يزيد في حسن الهيئة واللباس ويتعمّم ويرتدي، وأيّده ابن حجر بخبر الطبراني؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان له ثوبان يلبسهما في الجمعة، فإذا انصرف طوينا هما إلى مثله.

فائدة: ذكر الواقدي أنّ طول ردائه صلى الله عليه وسلم كان ستّة أذرع في عرض ثلاثة، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين؛ لا ذراعين وشبر، وأنّه كان يلبسهما في الجمعة والعيدين. انتهى؛ نقله المناوي في «شرح الكبير؛ على «الجامع الصغير» .

وسيأتي الكلام على مقدار ذرعهما.

(وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس بردة حمراء في كلّ عيد) ليبيّن حلّ لبس ذلك.

روى البيهقي في «سننه» ؛ من حديث حفص بن غياث بن الحجاج؛ عن أبي جعفر؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه أنّه صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة.

ص: 491

وكان صلى الله عليه وسلم برد حبرة يلبسه في كلّ عيد.

ومرّ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه

ورواه الطبراني؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: كان يلبس يوم العيد بردة حمراء. قال الهيثمي: رجاله ثقات.

وفي ذلك ردّ على من كره لبس الأحمر القاني؛ وزعم أنّ المراد بالأحمر هنا ما هو ذو خطوط حمر: تحكّم لا دليل عليه.

قال في «المطامح» : ومن أنكر لباس الأحمر؛ فهو متعمّق جاهل، وإسناده لمالك باطل؛ قاله المناوي في «الكبير» .

(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان له صلى الله عليه وسلم برد حبرة) - بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة؛ بوزن عنبة-: ثوب يمانيّ من قطن، أو كتّان مخطّط؛ يقال (برد حبرة) على الوصف، و (برد حبرة) على الإضافة، وهو أكثر في استعمالهم، والجمع: حبر وحبرات، مثل عنب وعنبات.

قال الأزهري: ليس حبرة موضعا، أو شيئا معلوما، إنّما هو وشي معلوم أضيف الثوب إليه، كما قيل «ثوب قرمز» بالإضافة، والقرمز: صبغة. فأضيف الثوب إلى الوشي والصبغ للتوضيح. انتهى «مصباح» . ونحوه في «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي.

(يلبسه في كلّ عيد) يتجمل به كعادته في التجمّل للعيد والوفود.

(ومرّ) أمير المؤمنين سيدنا أبو حفص (عمر بن الخطّاب) بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي المدني (رضي الله تعالى عنه) .

أسلم قديما؛ بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة؛ بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم؛ فظهر الإسلام بمكّة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد كبار علماء الصحابة وزهّادهم.

ص: 492

مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالسّوق فرأى حلّة من سندس

وهو أوّل من سمّي أمير المؤمنين، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا، والخندق وبيعة الرّضوان، وخيبر والفتح وحنينا والطائف وتبوك وسائر المشاهد.

وكان شديدا على الكفّار والمنافقين، وأجمع السّلف على كثرة علمه ووفور فهمه، وزهده وتواضعه، ورفقه بالمسلمين وإنصافه، ووقوفه مع الحقّ وتعظيمه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّة متابعته له، واهتمامه بمصالح المسلمين وإكرامه أهل الفضل والخير.

وفضائله أكثر من أن تحصى، ومحاسنه أوفر من أن تستقصى؛ رضي الله تعالى عنه.

روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ستة وعشرين حديثا، وانفرد البخاريّ بأربعة وثلاثين، وانفرد مسلم بأحد وعشرين.

وطعن رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، ودفن يوم الأحد هلال المحرّم سنة: أربع وعشرين، فكانت خلافته عشر سنين وخمسة أشهر وأحدا وعشرين يوما.

وقيل غير ذلك في مدّة الخلافة، وتاريخ الطعن والوفاة، وعمره ثلاث وستّون سنة على الصحيح المشهور، كما أنّ سنّ النبي صلى الله عليه وسلم وسنّ أبي بكر وعليّ وعائشة ثلاث وستّون سنة- على الصحيح- رضي الله تعالى عنهم. أجمعين.

(مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالسّوق) - بضمّ المهملة؛ مؤنّث سماعي وقد يذكّر، كما أشار إليه الكرماني-، سمّيت بذلك لسوق البضائع إليها، وقيل: لقيام الناس فيها على سوقهم؛ جمع ساق. وقيل: لتصاكك السّوق فيها من الازدحام؛ ذكره في «شرح الأذكار» . وفي كثير من الروايات: أنّ ذلك عند باب المسجد.

(فرأى) ؛ أي: عمر رجلا يسمّى عطاردا التميمي يقيم (حلّة من سندس)

ص: 493

فقال: يا رسول الله؛ لو اتّخذت هذه للعيد، فقال:«إنّما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» .

يعرضها للبيع، وكان عطارد رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم. وفي رواية: حلّة من إستبرق. وفي أخرى: من ديباج، أو حرير. وفي رواية: حلّة سيراء:

والحلّة: ثوبان من جنس. قال في «القاموس» : الحلّة- بالضم- إزار ورداء مثل برد أو غيره، ولا تكون إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة.

وفي «المصباح» : الحلّة لا تكون إلا من ثوبين من جنس واحد، والجمع حلل، كغرفة وغرف- وقد مرّ الكلام على الحلّة-.

والديباج: ثوب متّخذ من إبريسم، والسيراء- بسين مهملة مكسورة ثم مثناة تحتية مفتوحة ثم راء ثم ألف ممدودة-: برود يخالطها حرير متضلّعة بالحرير. قالوا كأنها شبهت خطوطها بالسّيور. والإستبرق: غليظ الديباج.

(فقال) ؛ أي: عمر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله؛ لو اتّخذت هذه للعيد!) . لفظ الحديث: عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلّة سيراء عند باب المسجد؛ فقال: يا رسول الله؛ لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك!! وفي رواية: فقال: يا رسول الله، ابتع هذه فتجمّل بها للعيد وللوفد.

(فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «إنّما يلبس هذه) - الثياب الحرير- (من لّا خلاق له في الآخرة» ) يعني: من لا حظّ له ولا نصيب له من لبس الحرير في الآخرة، فعدم نصيبه كناية عن عدم دخوله الجنة؛ ولباسهم فيها حرير. وهذا إن استحلّ، وإلّا! فهو تهويل وزجر. وقيل: معناه من لا حرمة له. وقيل: من لا دين له.

وتمام الحديث:

ثمّ جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل، فأعطى عمر منها حلّة، فقال عمر:

يا رسول الله؛ كسوتنيها؛ وقد قلت في حلّة عطارد ما قلت!؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم

ص: 494

وكانت الصّحابة

«إنّي لم أكسكها لتلبسها» . فكساها عمر أخا له مشركا بمكّة. رواه البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه- واللفظ لمسلم-.

وفيه دليل لتحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء، وإباحة هديّته، وإباحة ثمنه، وجواز إهداء المسلم إلى المشرك ثوبا وغيره، واستحباب لبس أنفس ثيابه يوم الجمعة والعيد؛ وعند لقاء الوفود ونحوهم، وعرض المفضول على الفاضل؛ والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحه التي قد لا يذكرها، وفيه صلة الأقارب والمعارف؛ وإن كانوا كفّارا.

وقد يتوهّم متوهّم أنّ فيه دليلا على أن رجال الكفّار يجوز لهم لبس الحرير!! وهذا وهم باطل، لأن الحديث إنّما فيه الهدية إلى كافر، وليس فيه الإذن له في لبسها. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى عمر وعليّ وأسامة رضي الله عنهم، ولا يلزم منه إباحة لبسها لهم، بل صرّح صلى الله عليه وسلم كما في بعض الروايات بأنّه إنّما أعطاه لينتفع بها بغير اللبس.

والمذهب الصحيح الّذي عليه المحقّقون والأكثرون: أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ فيحرم عليهم الحرير كما يحرم على المسلمين. والله أعلم؛ قاله النووي في «شرح مسلم» .

(وكانت الصّحابة) - قال في «شرح الأذكار» : بفتح الصاد في الأصل مصدر، قال الجوهري: ويقال: صحبه وصحب به.

والصحابة: بمعنى الأصحاب واحده «صاحب» بمعنى الصحابي:

وهو من اجتمع بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنا به بعد نبوّته في حال حياة كلّ؛ اجتماعا متعارفا بأن يكون في الأرض على العادة، بخلاف ما يكون في السماء، أو بين السماء والأرض؛ وإن لم يره؛ أو لم يرو عنه شيئا، أو لم يميّز- على الصحيح-.

وأمّا قولهم «ومات على الإسلام» !! فهو شرط لدوام الصحبة؛ لا لأصلها.

وقيل في تعريفه غير ذلك.

ص: 495

.........

وتعرف الصحبة: 1- بالتّواتر، أو 2- الاستفاضة، أو 3- قول صحابيّ، أو 4- قوله (أنا صحابي) إذا كان عدلا؛ وأمكن ذلك، فإن ادّعاه بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فإنّه لا يقبل. وزاد ابن حجر 5- أن يخبر آحاد التابعين بأنّه صحابيّ؛ بناء على قبول التزكية من واحد- وهو الراجح-.

والصحابة كلهم عدول؛ من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتدّ به.

وأكثرهم حديثا أبو هريرة، ثم ابن عمر، ثم أنس بن مالك، ثم عائشة أم المؤمنين، ثم ابن عبّاس، ثم جابر بن عبد الله، ثم أبو سعيد الخدري. وقد نظمهم من قال:

سبع من الصّحب فوق الألف قد نقلوا

من الحديث عن المختار خير مضر

أبو هريرة سعد جابر أنس

صدّيقة وابن عبّاس كذا ابن عمر

وأكثرهم فتيا ابن عبّاس؛ قاله أحمد ابن حنبل.

وقال ابن حزم: أكثر الصحابة فتوى مطلقا سبعة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وزيد بن ثابت، وعائشة. قال: ويمكن أن يجمع من فتيا كلّ واحد من هؤلاء مجلّد ضخم.

قال: ويليهم عشرون: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعيد، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأمّ سلمة.

قال: ويمكن أن يجمع من فتيا كلّ واحد منهم جزء صغير.

قال: وفي الصحابة نحو مائة وعشرين نفسا يقلّون في الفتيا جدّا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والثلاث؛ كأبي بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي طلحة، والمقداد. ثمّ سرد الباقين. انتهى نقله عن السيوطي رحمه الله تعالى.

ومن الصحابة العبادلة؛ وهم ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن

ص: 496

.........

عمرو بن العاص. وليس ابن مسعود منهم، لأنّه تقدّم موته قبل حدوث الاصطلاح، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم فإذا اجتمعوا على شيء قيل «هذا قول العبادلة» ، وكذا ليس منهم من يسمّى عبد الله من الصحابة، فلا يطلق عليهم العبادلة؛ وهم جماعة يبلغون نحو ثلثمائة رجل.

قال أبو زرعة الرازي: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه، وأفضلهم على الإطلاق أبو بكر الصدّيق، ثم عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله تعالى عنهما بإجماع أهل السنة، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب، هذا قول جمهور أهل السنة.

قال أبو منصور البغداديّ: أصحابنا مجمعون على أنّ أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم تمام العشرة المشهود لهم بالجنة: سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة: عامر بن الجراح، ثم أهل بدر وهم ثلثمائة وبضعة عشر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.

وممّن له مزيّة أهل العقبتين من الأنصار، والسابقون الأوّلون؛ وهم من صلّى إلى القبلتين.

ووردت أحاديث في تفضيل أعيان من الصحابة مذكورة في كتب السنة؛ فلتراجع من هناك.

وأوّل الصحابة إسلاما! قيل: أبو بكر الصديق، وقيل: علي، وقيل: زيد، وقيل: خديجة؛ وهو الصواب عند جماعة من المحققين. والأورع أن يقال أوّل من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال.

وآخرهم موتا على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي وفضائلهم كثيرة شهيرة نكتفي منها بهذا القدر.

ص: 497

رضي الله تعالى عنهم يلبسون ذكورهم الصّغار يوم العيد أحسن ما يقدرون عليه من الحليّ، والمصبّغات من الثّياب.

وكان له صلى الله عليه وسلم ثوبان لجمعته خاصّة سوى ثيابه في غير الجمعة،

(رضي الله تعالى عنهم) أجمعين آمين، ورزقنا محبّتهم والأدب معهم، وحشرنا في زمرتهم تحت لواء صاحب الحوض المورود والمقام المحمود صلى الله عليه وسلم.

(يلبسون ذكورهم الصّغار يوم العيد) مأخوذ من العود؛ وهو التكرار لتكرّره كلّ عام، أو لعود السرور بعوده، أو لكثرة عوائد الله تعالى؛ أي: إفضاله على عباده فيه، أو لعود كلّ فيه لقدره ومنزلته، هذا يضيف وذاك يضاف، وذا يرحم وذاك يرحم. وأصله: عود؛ قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وجمع على أعياد، مع أنّ كون أصله الواو يقتضي جمعه على أعواد؛ فرقا بذلك بينه وبين أعواد الخشب. انتهى شرح الأذكار» .

(أحسن ما يقدرون عليه من الحليّ) - بضمّ أوّله مع كسر اللام وتشديد الياء- واحده حلي- بفتح الحاء وإسكان اللام-: اسم لكلّ ما يتزيّن به من مصاغ الذهب والفضّة، (والمصبّغات) - بتشديد الموحدة- (من الثّياب) - مما يجوز لبسه؛ كالمصبوغ بالورس والعصفر- على الخلاف-، وهي من أحسن الثياب الموجودة في ذلك العصر، لأنّه يسنّ التزيّن بأحسن الثياب وأرفعها قيمة في العيدين، والجديد أولى؛ ولو كان غير أبيض في العيدين- بخلاف الجمعة- فإنّ الأبيض فيها أفضل من غيره؛ ولو كان الغير جديدا وذا قيمة. والفرق: أن القصد في العيد: إظهار النعم وإشهار الزينة؛ وهما بالأرفع قيمة أنسب، والقصد في الجمعة: إظهار التواضع.

(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني، و «إحياء علوم الدين» للإمام حجّة الإسلام الغزالي:(كان له صلى الله عليه وسلم ثوبان لجمعته خاصّة سوى ثيابه في غير الجمعة) .

ص: 498

وربّما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره؛ يعقد طرفيه بين كتفيه، وربّما أمّ به النّاس على الجنائز، وربّما صلّى في بيته في الإزار الواحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه، ويكون ذلك الإزار هو الّذي جامع فيه يومئذ.

قال العراقيّ: رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط» ؛ من حديث عائشة بسند ضعيف- زاد: فإذا انصرف طويناهما إلى مثله. وقد تقدّم قريبا في الشرح، ويعارضه حديث عائشة عند ابن ماجه: ما رأيته يسبّ أحدا، ولا يطوى له ثوب.

قلت: ويمكن الجمع بينهما بأن يستثنى؛ أي: غير ثوبي الجمعة. وقد تقدّم أنّه كان له برد أخضر يلبسه للجمعة والعيد.

(وربّما لبس) صلى الله عليه وسلم (الإزار الواحد ليس عليه غيره، يعقد طرفيه بين كتفيه) .

قال العراقي: روى الشيخان؛ من حديث عمر في حديث اعتزاله أهله: فإذا عليه إزاره، وليس عليه غيره.

وللبخاريّ؛ من رواية محمد بن المنكدر صلى بنا جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المشجب. وفي رواية له: وهو يصلّي في ثوب ملتحفا به ورداؤه موضوع. وفيه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هكذا.

(وربّما أمّ به النّاس على الجنائز) . قال العراقي: لم أقف عليه.

(وربّما صلّى في بيته في الإزار الواحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه) ؛ يدلّ له حديث جابر السابق آنفا. (ويكون ذلك الإزار هو الّذي جامع فيه يومئذ) .

قال العراقيّ: روى أبو يعلى بإسناد حسن؛ من حديث معاوية قال: دخلت على أمّ حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد، فقلت: يا أمّ حبيبة؛ أيصلّي النبي صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد!؟ قالت: نعم، وهو الذي كان فيه ما كان- يعني: الجماع-. ورواه الطبراني في «الأوسط» .

ص: 499

وكان إذا قدم عليه الوفد.. لبس أحسن ثيابه، وأمر علية أصحابه بذلك. وكان رداؤه صلى الله عليه وسلم طوله ستّة أذرع، في ثلاثة وشبر. وكان إزاره أربعة وشبرا، في عرض ذراعين وشبر.

(و) أخرج البغويّ في «معجمه» ؛ عن جندب بن مكيث- بوزن عظيم؛ آخره مثلثة؛ ابن عمر بن جراد، مديني له صحبة- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه (كان صلى الله عليه وسلم إذا قدم عليه الوفد) - جمع وافد؛ كصحب جمع صاحب، يقال: وفد الوافد يفد وفدا ووفادة؛ إذا خرج إلى نحو ملك لأمر- (لبس أحسن ثيابه) لأنّه أهيب وأدعى لامتثال أمره والعمل بوعظه، وسيأتي قريبا في الشرح أنّ ثوبه الذي كان يخرج فيه إلى الوفد القادمين عليه أخضر. (وأمر علية) - بكسر العين وسكون اللام- (أصحابه) ؛ أي: معظمهم؛ وهم: من كان عنده ثياب حسنة أمره (بذلك) ؛ أي: بلبسها، لأنّ ذلك يرجّح في عين العدو ويكبته، فهو يتضمّن إعلاء كلمة الله تعالى ونصر دينه وغيظ عدوّه، فلا يناقض ذلك خبر «البذاذة من الإيمان» ، لأنّ التجمّل المنهيّ عنه ثمّ: ما كان على وجه الفخر والتعاظم، وليس ما هنا من ذلك القبيل. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .

وقال في «شرح الشمائل» : ويسنّ لكلّ أحد مؤكّدا حسن الهيئة ومزيد التجمّل، والنظافة في الملبوس، لكن المتوسّط نوعا بقصد التواضع أفضل من الأرفع، فإن قصد به إظهار النعمة والشكر عليها! احتمل التساوي للتعارض، وأفضلية الأول!! لكونه لا حظ فيه للنفس بوجه وأفضلية الثاني للخبر الحسن:

«إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده» .

(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان رداؤه صلى الله عليه وسلم طوله ستّة أذرع في ثلاثة وشبر، وكان إزاره أربعة وشبرا في عرض ذراعين وشبر) .

قال ابن حجر الهيتمي: وكان إزاره صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع وشبرا؛ في عرض ذراعين وشبر، وكان طول ردائه ستّة أذرع؛ وعرضه ثلاثة أذرع وشبرا، أو شبرين.

ص: 500

ولبس صلى الله عليه وسلم الأبراد الّتي فيها خطوط حمر.

وكان ينهى أصحابه عن لبس الأحمر الخالص.

وقيل: أربعة أذرع ونصف؛ في عرض ذراعين وشبر. وقيل: أربعة أذرع؛ في عرض ذراعين ونصف. انتهى؛ نقله المناويّ في «شرح الشمائل» .

وتعقّبه بقوله: «وفي بعض ما ذكره نظر!! فقد روى أبو الشيخ في كتاب «أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم» من رواية عروة بن الزبير مرسلا: كان طول رداء النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع وعرضه ذراعين ونصف

الحديث. قال الحافظ العراقيّ: وفيه ابن لهيعة.

وفي «طبقات ابن سعد» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان له إزار من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر في ذراعين وشبر.

وفي «الوفا» لابن الجوزي: كان طول إزاره أربعة أذرع وعرضه ذراعين ونصفا. وروى الدّمياطي: أنّ رداءه الذي كان يخرج فيه للوفود أخضر في طول أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر. انتهى كلام المناوي.

(ولبس صلى الله عليه وسلم الأبراد) - جمع برد؛ وهو عند أهل اللسان: ثوب مخطّط، والمراد هنا الأبراد (الّتي فيها خطوط حمر) ، لا بحتا، إذ لو كانت كذلك لا تكون برودا.

روى الطبراني؛ من حديث ابن عبّاس أنّه كان يلبس يوم العيد بردة حمراء. قال الحافظ الهيثمي: ورجاله ثقات. وروى البيهقيّ في «السنن» : أنّه كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. انتهى مناوي؛ على «الشمائل» .

قال في «جمع الوسائل» : وأمّا ما روي «أنّه صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» !! فمحمول على المخطّط بخطوط حمر؛ كما يدلّ عليه البرد. انتهى.

(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني: (كان ينهى أصحابه عن لبس الأحمر الخالص) ، ففي «صحيح مسلم» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما

ص: 501

.........

قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين؛ فقال: «إنّ هذا لباس الكفّار، فلا تلبسهما» .

وفي «صحيح البخاري» من حديث طويل؛ عن البراء أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المياثر الحمر. قال ابن القيّم: فالأحمر البحت منهيّ عنه أشدّ النهي، وفي جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرهما نظر، وأمّا كراهته! فشديدة. وأورد الحديثين السابقين.

والجواب عن الحديث الأوّل: أنّه إنّما نهى ابن عمر عن ذلك!! لأنّه لباس الكفار؛ وكانوا كثيرا، لا لكونه أحمر فمحطّ النهي التشبّه بهم. وقد ارتفع ذلك فصار داخلا في عموم المباح.

والجواب عن حديث البراء: أنّه يحتمل أن المياثر من حرير، فنهى عنها لأجله، ويحتمل أن يكون النهي لحمرتها، فلا حجّة فيه.

قال النووي: اختلف العلماء في الثياب المعصفرة؛ وهي المصبوغة بعصفر!! فأباحها جميع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الإمام الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك؛ لكنه قال: غيرها أفضل منها، فهي خلاف الأولى.

وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، ومن هؤلاء مالك والشافعي في المعتمد من مذهبيهما، وحملوا النهي الوارد في «الصحيحين» عن أنس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل!! حملوه على هذا المذكور من كراهة التنزيه، لأنّه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام لبس حلّة حمراء؛ فلبسه لبيان الجواز لا ينافي نهيه، لأنّ النهي للكراهة، والفعل لبيان الجواز.

وفي «الصحيحين» ؛ من حديث ابن عمر أنّه صلى الله عليه وسلم صبغ بالصّفرة؛ أي:

الورس، كما في رواية أبي داود. وأمّا حديث عمران عند الطبراني:«إيّاكم والحمرة، فإنّها أحبّ الزّينة إلى الشّيطان» !! ففي إسناده ضعف، وحديث رافع بن خديج:«أنّه صلى الله عليه وسلم رأى الحمرة قد ظهرت فكرهها» رواه أحمد!! لا يدلّ

ص: 502

وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالبياض من الثّياب؛ ليلبسها أحياؤكم، وكفّنوا فيها موتاكم؛ فإنّها من خير ثيابكم» .

على التحريم لحمل الكراهة على التنزيه؛ جمعا بين الأدلّة. انتهى ملخصا من «المواهب» للقسطلاني؛ مع شيء من الشرح.

قلت: قال في «بشرى الكريم» : نصّ أصحابنا- معاشر الشافعية- على حرمة لباس الثوب المزعفر، وكذا نصّوا على حرمة المعصفر؛ سواء صبغ قبل نسجه أم بعده؛ أخذا بإطلاقهم كما صحّت به الأحاديث، واختاره البيهقي وغيره.

ولم يبالوا بنصّ الشافعي على حلّه، ولا بكون جمهور العلماء على حلّه.

وجرى محمد الرملي والخطيب الشربيني على حلّ المعصفر مطلقا. والمعتمد في المورّس حلّه، لما صحّ أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصبغ ثيابه بالورس حتّى عمامته، ويحلّ استعمال الورس والزّعفران في البدن على خلاف كبير. انتهى كلام «بشرى الكريم» .

(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالبياض) - أي: الزموا لبس الأبيض، ف «عليكم» اسم فعل بمعنى «الزموا» . والمراد من البياض الأبيض، بولغ فيه حتّى كأنّه عين البياض على حدّ «زيد عدل» كما يرشد لذلك بيانه بقوله- (من الثّياب، ليلبسها) - بلام الأمر وفتح الموحدة- (أحياؤكم) - أي: البسوها وأنتم أحياء، فيسنّ لبسها، ويحسن إيثارها في المحافل كشهود الجمعة وحضور المسجد والمجالس التي فيها مظنّة لقاء الملائكة؛ كمجالس القراءة والذّكر- (وكفّنوا) أي: لتكفنوا أو هو التفات- (فيها موتاكم) - أي: لمواجهة الميت للملائكة، وقد تقدّم أنّها تطلب لمظنّة لقاء الملائكة- (فإنّها) - أي: البيض- (من خير ثيابكم» ) . وهذا بيان لفضل البياض من الثياب، ويليها الأخضر، ثم الأصفر.

ص: 503

وفي «المواهب» : عن عروة:

واعلم أنّ وجه إدخال هذا الحديث في باب لباسه صلى الله عليه وسلم لا يخلو عن خفاء، إذ ليس فيه تصريح بأنّه كان يلبس البياض، لكن يفهم من حثّه على لبس البياض أنّه كان يلبسه، وقد ورد التصريح بأنّه كان يلبسه فيما رواه الشيخان؛ عن أبي ذر حيث قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض

الحديث.

وقد وردت أحاديث كثيرة في الحثّ على لبس الأبيض من الثياب؛

منها: ما أخرجه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البسوا البياض، فإنّها أطهر وأطيب، وكفّنوا فيها موتاكم» .

ومنها ما أخرجه أصحاب «السنن» ؛ عن سمرة بن جندب: «عليكم بهذه الثّياب البيض، ليلبسها أحياؤكم، وكفّنوا فيها موتاكم» وقال الترمذي: حسن صحيح.

وأخرجه أيضا الإمام أحمد، وابن سعد، والروياني، والطبراني، والبيهقي، والضياء بزيادة:«فإنّها من خير ثيابكم» .

ومنها ما أخرجه ابن ماجه، والحاكم وغيرهما؛ من حديث ابن عبّاس:«خير ثيابكم البيض، فالبسوها أحياء، وكفّنوا فيها موتاكم» . قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. انتهى شرح «الإحياء» ؛ مع زيادة.

(وفي «المواهب) اللّدنّيّة» للعلّامة القسطلّاني؛ (عن) أبي عبد الله (عروة) بن الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشي الأسدي المدني، التابعي الجليل، فقيه المدينة المنورة، أحد الفقهاء السبعة.

سمع أباه، وأخاه: عبد الله، وأمّه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة، وسعيد بن زيد، وحكيم بن حزام، وابنه هشام بن حكيم، والعبادلة الأربعة.

وغيرهم من الصحابة والتابعين.

روى عنه عطاء، وابن أبي مليكة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والزهري،

ص: 504

أنّ طول رداء النّبيّ صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر. وفيها: لطيفة: قيل: لمّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبدو منه إلّا طيب.. كان آية ذلك في بدنه الشّريف أنّه لا يتّسخ له ثوب. قيل: ولم يقمل ثوبه.

وقال ابن سبع في «الشّفا» ، والسّبتيّ

وعمر بن عبد العزيز، وبنوه: هشام ومحمد ويحيى وعبد الله وعثمان؛ بنو عروة، وخلائق من التابعين وغيرهم.

وكان بحرا لا يكدّر، وكان ثقة كثير الحديث، فقيها عالما، مأمونا ثبتا، وهو مجمع على جلالته وعلوّ مرتبته ووفور علمه. ومناقبه كثيرة مشهورة.

ووفاته سنة: - 94- أربع وتسعين من الهجرة في قول الجمهور. وقال البخاري: سنة: - 99- تسع وتسعين، رحمه الله تعالى:

(أنّ طول رداء النّبيّ صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر) وعزاه لتخريج الدمياطي وهو مرسل، ورواه أبو الشيخ في «الأخلاق النبوية» ؛ عن عروة بلفظ:

وعرضه ذراعان ونصف. قال الحافظ العراقي: وفيه ابن لهيعة.

(وفيها) ؛ أي «المواهب» : (لطيفة)(قيل: لمّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبدو) : يظهر (منه إلّا طيب كان آية) : علامة (ذلك في بدنه) : جسده (الشّريف أنّه لا يتّسخ له ثوب)، فما اتّسخ له ثوب قطّ. (قيل: ولم يقمل) بفتح الميم- (ثوبه) قطّ، أي: لم يوجد فيه شيء من قمل؛ وإن كانت المادة للتكثير.

(وقال) أبو الربيع سليمان (بن سبع) - بإسكان الموحدة وقد تضم- (في) كتاب ( «الشّفا» ، و) قال (السّبتيّ) - بفتح السين وسكون الموحدة ففوقية نسبة إلى «سبتة» : مدينة بالمغرب. وجزم الرشاطي بأن «سبتة» بالفتح، والتي ينسب إليه السّبتي- بالكسر-؛ قاله ابن حجر في «التبصير» .

ص: 505

في «أعذب الموارد وأطيب الموالد» : لم يكن القمل يؤذيه تعظيما له وتكريما صلى الله عليه وسلم. ثمّ قال: ونقل الفخر الرّازيّ:

(في) كتاب ( «أعذب الموارد وأطيب الموالد» )«1» ؛ قالا:

(لم يكن القمّل يؤذيه) لعدم وجوده في ثيابه؛ (تعظيما له، وتكريما صلى الله عليه وسلم ، ولفظ ابن سبع: لم يكن فيه قمل لأنّه نور، ولأنّ أصل الذباب من العفونة؛ ولا عفونة فيه، وأكثره من العرق؛ وعرقه طيب!!

لكن يشكل عليه ما رواه أحمد والترمذي في «الشمائل» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ومن لازم التفلّي وجود شيء يؤذيه في الجملة: إمّا قملا؛ أو برغوثا، أو نحو ذلك.

ويمكن أن يجاب بأن التفلّي لاستقذار ما علق بثوبه الشريف من غيره، ولو لم يحصل منه أذى في حقّه صلى الله عليه وسلم. وهذا فيه بحث، لأنّ أذى القمل هو غذاؤه من البدن على ما أجرى الله العادة، وإذا امتنع الغذاء لا يعيش الحيوان عادة.

(ثمّ قال) ؛ أي: القسطلّاني في «المواهب» : (ونقل الفخر الرّازيّ) بالراء والزاي بينهما ألف آخره ياء- نسبة إلى الري؛ وهي: مدينة كبيرة مشهورة من بلاد الدّيلم بين قومس والجبال، وألحقوا الزاي في النسب على خلاف القياس.

وهو الإمام المفسّر المتكلّم الأصولي: محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي التيمي البكري الشافعي، أبو المعالي وأبو عبد الله؛ المعروف ب «الفخر الرازي» ، ويقال له «ابن الخطيب» ؛ أي: خطيب الري.

وأصله من طبرستان، ومولده في الري سنة: - 543- ثلاث- أو أربع- وأربعين وخمسمائة، ورحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان؛ حتّى صار أحد الفقهاء الشافعية الفحول، وأوحد زمانه في المعقول والمنقول، وإمام الدنيا في عصره بلا مدافع، رئيس المتكلّمين والمحققين في وقته بلا منازع.

(1) هكذا في الأصل. والصواب عكسه، إذ «الشفاء» للسبتي؛ و «أعذب الموارد» لابن سبع.

ص: 506

إنّ الذّباب لا يقع على ثيابه قطّ، وإنّه لا يمتصّ دمه البعوض.

وألّف المؤلفات النافعة المشهورة نحو مائتي مصنّف؛ منها التفسير الحافل المسمّى «مفاتيح الغيب» في ثمانية مجلدات، وكتاب «المحصول في علم الأصول» ، و «المطالب العالية في علم الكلام» .

وأقبل الناس على كتبه في حياته يتدارسونها، وكان يحسن الفارسية، وكان معظّما عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلاد شتّى، وكان يعظ ويحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء، والعلماء والأمراء، والفقراء والعامة.

وكان له عبادات وأوراد، ولا كلام في فضله، وكان مع غزارة علمه في فنّ الكلام يقول:«من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز» .

وكانت وفاته في ذي الحجة، قيل: بسبب السّمّ، لأن الكرّامية كانوا يبغضونه لتزييفه مذهبهم وإقامة الحجج والبراهين عليهم، فدسوا عليه من سقاه سمّا، فمات ففرحوا بموته، وذلك سنة: - 606- ست وستمائة هجرية رحمه الله تعالى.

(إنّ الذّباب) . اسم جنس؛ واحده ذبابة يقع على المذكّر والمؤنّث، ويجمع الذباب على «ذبّان» - بالكسر- كغربان، و «ذبّان» - بالضم- كقضبان، وعلى أذبّة كأغربة، وهو أجهل الحيوانات لأنّه يرمي نفسه في المهلكات، ومدّة حياته أربعون يوما، وأصل خلقته من العفونات، ثم يتوالد بعضه من بعض؛ يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود يرى أبيض، والذباب مأخوذ من ذبّ:

إذا طرد، وآب: إذا رجع، لأنّك تذبّه فيرجع عليك. انتهى «حواشي الجلالين» .

(لا يقع على ثيابه قطّ، وإنّه لا يمتصّ دمه البعوض) . وتعقّب ذلك كلّه بعضهم بعدم ثبوته؛ قاله الزرقاني.

والبعوض!! قال في «الخازن» : صغار البقّ، وهو من عجيب خلق الله

ص: 507

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس قلنسوة بيضاء.

و (القلنسوة) : غشاء مبطّن يستر الرّأس.

تعالى، فإنّه في غاية الصّغر؛ وله ستة أرجل وأربعة أجنحة، وذنب، وخرطوم مجوّف، وهو مع صغره يغوّص خرطومه في جلد الفيل، والجاموس، والجمل؛ فيبلغ منه الغاية حتّى إنّ الجمل يموت من قرصته. انتهت عبارته.

(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ، وأبو الشيخ، والبيهقيّ في «الشعب» ، عن ابن عمر بن الخطاب قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس قلنسوة) - بفتح القاف واللام وسكون النون وضم السين المهملة وفتح الواو- من ملابس الرأس كالبرنس الذي تغطى به العمامة من نحو شمس ومطر؛ قاله المناوي.

(بيضاء)، وفي رواية لابن عساكر في «التاريخ» ؛ عن عائشة: كان يلبس قلنسوة بيضاء لاطئة. أي: لاصقة برأسه غير مقبية. أشار به إلى قصرها وخفّتها.

وأخرج أبو الشيخ؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما:

كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث قلانس: قلنسوة بيضاء مضرّبة، وقلنسوة برد حبرة، وقلنسوة ذات آذان يلبسها في السفر، وربّما وضعها بين يديه إذا صلّى. وإسناده ضعيف.

قال الحافظ العراقي في «شرح الترمذي» : وأجود إسناد في القلانس ما رواه أبو الشيخ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يلبس القلانس في السّفر ذوات الآذان، وفي الحضر المضمرة- يعني الشامية-.

(والقلنسوة) بوزن: فعنلوة، قال الفرّاء في «شرح الفصيح» : هي (غشاء) أسود؛ أو أبيض أو غيرهما (مبطّن) - بتشديد الطاء المهملة وآخره نون- أي: له بطان، أي: يشتمل على بطانة وظهارة، وقد لا يكون له بطان.

(يستر الرّأس)، أي: يلبس في الرأس وتلفّ عليه العمامة كالطربوش ونحوه.

ص: 508

وكان صلى الله عليه وسلم يلبس القلانس تحت العمائم وبغير العمائم، ويلبس العمائم بغير القلانس، وكان يلبس القلانس اليمانيّة؛ وهنّ البيض المضرّبة، ويلبس القلانس ذوات الآذان في الحرب.

وكان ربّما نزع قلنسوته، فجعلها سترة بين يديه وهو يصلّي، وربّما لم تكن العمامة، فيشدّ العصابة على رأسه وعلى جبهته.

(و) أخرج الرّوياني في «مسنده» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس القلانس) - جمع قلنسوة- (تحت العمائم) جمع عمامة- (و) تارة يلبسها (بغير العمائم) .

الظاهر أنّه كان يفعل ذلك في بيته، وأمّا إذا خرج للناس؛ فيظهر أنّه كان لا يخرج إلّا بالعمامة يلفّها عليها للهيبة الباعثة على امتثال أمره.

(ويلبس العمائم بغير القلانس، وكان يلبس القلانس اليمانيّة؛ وهنّ البيض المضرّبة) ؛ أي: المحشوّة، (ويلبس القلانس ذوات الآذان في الحرب) ، حال كونه في الحرب.

(وكان ربّما نزع قلنسوته) من فوق رأسه؛ (فجعلها سترة بين يديه؛ وهو يصلّي) ، الظاهر أنّه كان يفعل ذلك عند عدم تيسّر ما يستتر به، أو بيانا للجواز.

قال بعض الشافعية فيه وفيما قبله: لبس القلنسوة اللاطئة بالرأس والمرتفعة، والمضربة وغيرها؛ تحت العمامة وبلا عمامة: كلّ ذلك ورد؛ قاله المناوي.

(وربّما لم يكن) ؛ أي: لم توجد (العمامة، فيشدّ العصابة) - بكسر العين المهملة-: كلّ ما عصب به الرأس من منديل؛ أو خرقة ونحوهما (على رأسه؛ وعلى جبهته) . ذكره في «الإحياء» .

قال العراقي: رواه البخاريّ؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما:

ص: 509

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتمّ.. سدل عمامته بين كتفيه.

صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر قد عصب رأسه بعصابة دسماء

الحديث.

(و) أخرج الترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وقال حسن غريب-: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتمّ) ؛ أي: لفّ العمامة على رأسه (سدل عمامته) - أي: أرخاها- (بين كتفيه) من خلفه نحو ذراع؛ وفيه مشروعية العذبة، فهي سنّة.

قال نافع: وكان ابن عمر يفعل ذلك. قال عبيد الله: ورأيت القاسم بن محمد وسالما يفعلان ذلك؛ هذا تمام رواية الترمذي.

قال الحافظ ابن حجر: وأمّا مالك! فقال: إنّه لم ير أحدا يفعله إلّا عامر بن عبد الله بن الزبير. انتهى. وفي بعض طرق الحديث أنّ الّذي كان يرسله بين كتفيه هو الطرف الأعلى؛ وهو يسمّى «عذبة» لغة.

ويحتمل أنّه الطرف الأسفل حتى يكون عذبة في الاصطلاح العرفي الآن.

ويحتمل أنّ المراد الطّرفان معا، لأنّه ورد أنّه قد أرخى طرفيها بين كتفيه؛ بلفظ التثنية، وفي بعض الروايات «طرفها» بلفظ الإفراد، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يسدل عمامته دائما، بدليل رواية مسلم: أنّه صلى الله عليه وسلم دخل مكّة بعمامة سوداء. من غير ذكر السّدل.

وصرّح ابن القيّم بنفيه؛ قال: لأنّه صلى الله عليه وسلم كان على أهبة من القتال والمغفر على رأسه فلبس في كلّ موطن ما يناسبه؛ كذا في «الهدي النبوي» . وبه عرف ما في قول صاحب «القاموس» : لم يفارقها قط!!

وقد استفيد من الحديث أنّ العذبة سنّة، وكأنّ حكمة سنّها: ما فيها من تحسين الهيئة، وإرسالها بين الكتفين أفضل. وإذا وقع إرسالها بين اليدين- كما يفعله الصوفية وبعض أهل العلم- فهل الأفضل إرسالها من الجانب الأيمن؛ لشرفه، أو من الجانب الأيسر؛ كما هو المعتاد!! وفي حديث أبي أمامة؛ عند الطبراني ما يدلّ على تعيين الأيمن، لكنّه ضعيف.

ص: 510

وكان صلى الله عليه وسلم يدير العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه، ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه.

واستحسن الصوفية إرسالها من الجانب الأيسر، لكونه جانب القلب، فيتذكّر تفريغه مما سوى ربّه. قال بعض الشافعية: ولو خاف من إرسالها نحو خيلاء!! لم يؤمر بتركها؛ بل يفعلها ويجاهد نفسه، وأقلّ ما ورد في طولها أربع أصابع، وأكثر ما ورد فيه ذراع وبينهما شبر، ويحرم إفحاشها بقصد الخيلاء.

وقد جاء في العذبة أحاديث كثيرة- ما بين صحيح وحسن- ناصّة على فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم لها لنفسه، ولجماعة من صحبه، وعلى أمره به، فهي سنّة مؤكّدة محفوظة لم يتركها الصلحاء. انتهى. باجوري على «الشمائل» .

(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» - بسند قال فيه الحافظ الهيثمي؛ عقب عزوه للطبراني: رجاله رجال الصحيح إلّا عبد السلام، وهو ثقة- عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير العمامة على رأسه ويغرزها) أي: يغرز طرفها (من ورائه) لتكون العذبة من خلف؛ لا من أمام (ويرسل لها ذؤابة) - بذال معجمة مضمومة، فواو، فألف، فموحّدة؛ مهموز-: ضفيرة الشعر المرسلة، فإن لويت!! فعقيصة.

وتطلق أيضا على طرف العمامة؛ وهي العذبة المرادة هنا.

والأفضل جعلها (بين كتفيه) ، فإنّه أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أصحّ، وتارة يجعلها عن يمينه قريبة من الأذن اليمنى.

وقد استدلّ جمع بكون المصطفى صلى الله عليه وسلم أرسلها بين الكتفين تارة، وإلى الجانب الأيمن أخرى، على أنّ كلا سنّة. وهذا الحديث مصرّح بأنّ أصل العذبة سنّة؛ وهو مفاد الأحاديث فإلى سنية أصلها سنية إرسالها إذا أخذت من فعله صلى الله عليه وسلم.

قال السيوطي: من علم أنّ العذبة سنّة وتركها استنكافا أثم؛ أو غير مستنكف؛ فلا.

ص: 511

وكان صلى الله عليه وسلم إذا اعتمّ.. سدل عمامته بين كتفيه، وفي أوقات كان يضمّها ويرشقها، وأوقات لا يرخيها جملة.

وروى أبو الشيخ ابن حيّان في كتاب «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم» من حديث ابن عمر؛ قال أبو عبد السلام بن أبي حازم: قلت لابن عمر: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمّ؟! قال: يدير كور العمامة على رأسه، ويغرسها من ورائه، ويرخي لها ذؤابة بين كتفيه.

قال الحافظ العراقي: هذا الحديث يقتضي أنّ الذي كان يرسله بين كتفيه من الطرف الأعلى. انتهى «زرقاني» .

(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتمّ) - بتشديد الميم؛ أي: لفّ عمامته على رأسه- (سدل عمامته) - أي:

أرخى طرفها الذي يسمى: العذبة- (بين كتفيه) .

قال الزين العراقي: وهل المراد سدل الطرف الأسفل حتى يكون عذبة؛ أو الأعلى بحيث يغرزها ويرسل منها شيئا خلفه!! كلّ محتمل؛ ولم أر التصريح يكون المرخيّ من العمامة عذبة إلا في حديث واحد مرسل؛ مع أنّ العذبة لغة: الطرف، فالطرف الأعلى يسمى «عذبة» لغة؛ وإن تخالفا للاصطلاح العرفي الآن.

وفي بعض طرق الحديث أنّ الذي كان يرسله بين كتفيه من الطرف الأعلى، ويحتمل أنّ المراد الطرفان معا. إلى هنا كلامه؛ نقله المناوي في «شرح الشمائل» .

(وفي أوقات كان يضمّها ويرشقها، وأوقات لا يرخيها جملة) .

وقد تحصّل ممّا تقدّم أن للابس العمامة أن لا يتّخذ عذبة، وله أن يتخذها من خلفه، أو من بين يديه، أو من بين يديه ومن خلفه معا، وأنّ الأفضل اتّخاذها، وأن تكون بين الكتفين؛ ثمّ المنكب الأيمن.

وفي «المدخل» : نقل مالك رحمه الله تعالى أنّهم كانوا يعتمّون حتى تطلع

ص: 512

وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يلتحي بالعمامة من تحت الحنك كطريق المغاربة.

الثريّا، ومعنى ذلك أنّ طلوعها إنّما يكون في زمن الحر فيزيلونها. انتهى. قاله جسوس على «الشمائل» .

(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يلتحي بالعمامة من تحت الحنك) - محركة: ما تحت الذّقن من الإنسان، قال السيوطيّ في «مختصر النهاية» : والتحنّك: التلحّي؛ وهو أن يدير العمامة من تحت الحنك- (كطريق المغاربة)، أي: لما فيه من الفوائد التي منها أنّها تقي العنق الحرّ والبرد، وتثبتها عند ركوب الخيل وغيرها، وتغني عما اتّخذه كثيرون من كلاليب عوضا عن الحنك، وهذه اللّبسة أنفع اللّبسات، وأبعدها من التكلّف والمشقّة؛ قاله المناوي.

قال الحافظ عبد الحقّ الإشبيليّ: وسنّة العمامة بعد فعلها: أن يرخي طرفها ويتحنّك به، فإن كانت بغير طرف ولا تحنيك! فذلك يكره عند العلماء.

وفي «المدخل» : لا بدّ في العمامة من فعل سنن تتعلّق بها؛ من تناولها باليمين؛ وقول باسم الله، والذكر الوارد إن كان ما لبس جديدا، وامتثال السنّة في صفة التعمّم من التحنيك، والعذبة، وتصغير العمامة. انتهى.

ومنه أيضا؛ عن الغزالي: أنّ تعتمّ قائما، وتتسرول قاعدا.

ومنه أيضا: كان سيّدي أبو محمّد رحمه الله تعالى يقول: إنّما المكروه العمامة التي ليس فيها تحنيك ولا عذبة، فإن كانا معا فهو الكمال في امتثال السنّة، وإن كان أحدهما! فقد خرج به عن المكروه. ذكره جسوس؛ وهو مالكيّ المذهب- وقال المناوي: شافعيّ المذهب- في «شرح الشمائل» : ولا يسنّ تحنيك العمامة عند الشافعيّة، واختار بعض الحفّاظ ما عليه كثيرون؛ أنه يسنّ وهو تحديق الرقبة وما تحت الحنك واللّحية ببعض العمامة، وأطالوا في الاستدلال له بما ردّ عليهم،

ص: 513

وكانت له صلى الله عليه وسلم عمامة تسمّى (السّحاب) ، فوهبها لعليّ رضي الله تعالى عنه، فربّما طلع عليّ فيها فيقول صلى الله عليه وسلم:«أتاكم عليّ في السّحاب» .

وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: عمّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامة سدل طرفها على منكبي،

وممّن جرى على ندبه ابن القيّم، وقد جاء أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عمامة تحت حنكه. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.

(و) في «الإحياء» ، و «كشف الغمّة» :(كانت له صلى الله عليه وسلم عمامة) - بكسر العين- كما في «القاموس» وغيره، وحكى بعضهم ضمّها (تسمّى «السّحاب» ) وله عمائم أخرى غيرها؛ كما بيّنه الشامي (فوهبها لعليّ) بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه) وقد تقدّمت ترجمته.

(فربّما طلع عليّ فيها؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: «أتاكم عليّ في السّحاب» ) .

قال العراقيّ: رواه ابن عديّ، وأبو الشيخ؛ من حديث جعفر بن محمّد عن أبيه عن جده، وهو مرسل ضعيف جدا. ولأبي نعيم في «دلائل النبوّة» من حديث عمر، في أثناء حديث عمامته السحاب الحديث. انتهى.

ومن هنا اشتبه على الرافضة، فزعموا أنّ المراد بالسحاب التي في السماء؛ فقالوا: هو حيّ ورفع في السحاب، وهذا من ضلالهم وجهلهم بالسنّة. انتهى «شرح الإحياء» .

(و) روى ابن أبي شيبة، وأبو داود الطّيالسيّ، والبيهقي؛ (عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: عمّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامة سدل طرفها على منكبي.) لم يبيّن أهو الأيمن أو الأيسر، لكن سيأتي في الحديث بعده، ما يؤخذ منه أنّ المنكب هنا الأيمن.

ص: 514

وقال: «إنّ الله أمدّني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معمّمين هذه العمّة» .

وقال: «إنّ العمامة حاجز بين المسلمين والمشركين» .

وكان صلى الله عليه وسلم لا يولّي واليا حتّى يعمّمه، ويرخي لها عذبة من جانب الأيمن نحو الأذن.

(وقال: «إنّ الله أمدّني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معمّمين هذه العمّة» ) بالكسر- فأحبّ فعل ما أمدّني به بمن أولّيه أو أعمّمه،

(وقال: «إنّ العمامة حاجز) - أي: مميّز- (بين المسلمين) - لأنّهم يتعمّمون- (والمشركين» ) لأنّهم لا عمائم لهم.

(و) روى الطبراني في «الكبير» بسند ضعيف؛ عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يولّي واليا) ، أي: حاكما على جهة من جهات الإسلام (حتّى يعمّمه) بيده الشريفة، أي: يدير العمامة على رأسه (ويرخي لها عذبة) - بالذال المعجمة- من خلفه (من جانب الأيمن نحو الأذن) إشارة إلى أنّ من ولي من أمر الناس شيئا ينبغي أن يراعي من تجمل الظاهر ما يوجب تحسين صورته في أعينهم، حتى لا ينفروا عنه وتزدريه نفوسهم.

وفيه ندب العذبة، وعدّها السيوطيّ من خصائص هذه الأمة؛ قاله «المناوي على الجامع» .

ويؤخذ من هذا الحديث تعيين الجانب الذي تجعل فيه العذبة، لكن قال الحافظ الزين العراقيّ: وإذا وقع إرخاء العذبة من بين اليدين؛ كما يفعله الصوفية وبعض أهل العلم!! فهل المشروع فيه إرخاؤها من الجانب الأيسر كما هو المعتاد، أو الأيمن لشرفه؟ قال: ولم أر ما يدلّ على تعيين الأيمن إلّا في حديث ضعيف عند الطبرانيّ!! وبتقدير ثبوته؛ فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن، ثم يردّها إلى الجانب الأيسر؛ كما يفعله بعضهم، إلّا أنّه صار شعار الإماميّة، فينبغي تجنّبه لترك

ص: 515

وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء.

التشبّه بهم. انتهى. نقله الزرقاني وغيره.

(و) أخرج مسلم، والترمذيّ في «الجامع» ، و «الشمائل» ، وأصحاب «السنن» (عن جابر) بن عبد الله الأنصاريّ- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة) زادها الله شرفا.

سمّيت مكة لقلّة مائها، من قولهم:«امتكّ الفصيل ضرع أمّه» إذا امتصّه، وقيل: لأنّها تمكّ الذنوب، أي: تذهب بها.

ولها أسماء كثيرة: بكة بالباء، والبلدة، والبلد الأمين، وأمّ القرى، وأم رحم، وصلاح؛ كقطام، والباسّة، وغيرها. وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى، كما في أسماء الله وأسماء رسوله.

ولا نعلم بلدا أكثر أسماء من مكة والمدينة، لكونها أفضل الأرض.

واختلف أيّهما أفضل!! فعند الشافعيّ والجمهور أنّ مكّة أفضل الأرض وبعدها المدينة، وعند مالك المدينة أفضل ثم مكّة، ولكلّ من الفريقين دليل ومسلك وتعليل؛ رضي الله عن الجميع، ورزقنا الأدب مع الجميع، وأماتنا بالمدينة بجوار الحبيب الشفيع، وأحلّنا المحلّ الرفيع، بفضله ورحمته. آمين.

(يوم الفتح) أي: فتح مكّة الذي أعزّ الله به الإسلام وأهله، وأظهره على الدين كلّه (وعليه) أي: على رأسه (عمامة سوداء) زاد مسلم: بغير إحرام.

قال الحافظ العراقيّ: اختلفت ألفاظ حديث جابر هذا في المكان والزمان الذي لبس فيه العمامة السوداء، فالمشهور أنّه يوم الفتح، وفي رواية البيهقي: يوم ثنيّة الحنظل، وذلك يوم الحديبية! قال: ويجاب بأن هذا ليس اضطرابا، بل لبسها في الحديبية وفي الفتح معا، إذا لا مانع من ذلك، إلّا أنّ الإسناد واحد؛ فليتأمل!! انتهى.

ص: 516

.........

وفي رواية البخاريّ، ومسلم، و «أصحاب السنن» ؛ من طريق مالك عن الزهري عن أنس رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر.

ويجمع بينهما بأنّ العمامة السوداء كانت فوق المغفر، أو تحته وقاية من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للقتال، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم.

وجمع بينهما القاضي عياض بأنّ أوّل دخوله كان على رأسه المغفر، ثمّ بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر، بدليل قوله في حديث عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه- كما في مسلم، و «السنن» ، و «الشمائل» -: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء. زاد مسلم: قد أرخى طرفها بين كتفيه؛ لأنّ الخطبة إنّما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة،

قال الوليّ العراقيّ: وهو أولى وأظهر في الجمع من الأوّل، وتعقّبه بعضهم:

بأنّ الصواب الجمع الأول.

قال النووي: وفي الحديث جواز لبس الأسود في الخطبة، وإن كان الأبيض أفضل منه. انتهى. وصحة لبس المصطفى للسواد، ونزول الملائكة يوم بدر بعمائم صفر لا يعارض عموم الخبر الصحيح الآمر بالبياض؛ لأنّه لمقاصد اقتضاها خصوص المقام؛ فقد قال العلماء: إنّ الحكمة في إيثار الأسود يوم الفتح على البياض الممدوح: الإشارة إلى ما منحه الله تعالى به ذلك اليوم من السّؤدد الذي لم يتّفق لأحد من الأنبياء قبله، وإلى سؤدد الإسلام وأهله، وإلى أنّ الدين المحمديّ لا يتبدل؛ لأنّ السواد أبعد تبدّلا من غيره.

وقد لبس السواد جماعة منهم عليّ يوم قتل عثمان وغيره، والحسن فقد كان يخطب في ثياب سود، وعمامة سوداء، وابن الزبير كان يخطب بعمامة سوداء، وأنس، وعبد الله بن جرير، وعمّار كان يخطب كل جمعة بالكوفة؛ وهو أميرها

ص: 517

وقال ابن حجر

وعليه عمامة سوداء، ومعاوية فإنّه لبس عمامة سوداء، وجبّة سوداء، وعصابة سوداء! وابن المسيّب كان يلبسها في العيدين، وابن عبّاس كان يعتمّ بها، والخلفاء العبّاسيّون باقون على لبس السواد، وكثير من الخطباء على المنابر، ومستندهم ما سبق من دخول المصطفى صلى الله عليه وسلم مكّة بعمامة سوداء؛ أرخى طرفها بين كتفيه، فخطب بها، فتفاءل الناس لذلك بأنّه نصر وعزّ، وقد جمع السيوطي جزءا في لبس السواد، وذكر فيه أحاديث وآثارا.

وقد زعم بعض الخلفاء العباسيّين من أولاد المعتصم: أنّ تلك العمامة التي دخل بها صلى الله عليه وسلم مكّة وهبها لعمه العبّاس، وبقيت بين الخلفاء يتداولونها بينهم، ويجعلونها على رأس من تقرّر له الخلافة.

وسأل الرشيد الأوزاعي عن لبس السواد، فأجابه بأنّه يكرهه، لأنه لا تجلى فيه عروس، ولا يلبّي فيه محرم، ولا يكفّن فيه محرم «1» ، والظاهر أنّ مراده غير العمامة.

قال القرطبيّ: وفي هذا الحديث دليل للمسوّدة، غير أنّه صلى الله عليه وسلم لم يكن ذلك منه دائما، ولا في كل لباسه، بل في العمامة خاصة، لكن إذا أمر إمام بلبس ذلك وجب.

وفي «شرح الزيلعي» : يسنّ لبسه لخبر فيه، وكيف ما كان الأفضل في لبس الخطبة البياض. وقال ابن القيم: لم تكن عمامة المصطفى صلى الله عليه وسلم كبيرة يؤذي الرأس حملها، ولا صغيرة تقصر عن وقاية الرأس؛ من نحو حر أو برد، بل كانت وسطا بين ذلك، وخير الأمور الوسط.

(وقال) الإمام العلّامة، شيخ الإسلام، أبو العبّاس، شهاب الدين؛ أحمد بن محمد بن عليّ (بن حجر) الأنصاري السعدي، المصري، الهيتميّ ثمّ

(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب «ميت» .

ص: 518

المكّيّ: اعلم أنّه لم يتحرّر- كما قاله بعض الحفّاظ-

(المكّيّ) المشهور ب «ابن حجر الهيتميّ» ؛ نسبة إلى محلّة «أبي الهيتم» بالمثنّاة الفوقية من إقليم الغربيّة بمصر شيخ الشافعية، وسلطان الشريعة، وخاتمة المحقّقين، فريد عصره، ووحيد دهره.

ولد في بلدة محلّة «أبي الهيتم» سنة: - 909- تسع وتسعمائة- بتقديم المثناة على المهملة فيهما- ونشأ بها، وحفظ القرآن، ثمّ انتقل إلى القاهرة.

وتلقّى العلم في الأزهر المعمور، فحفظ المختصرات، وأخذ عن جمع من العلماء؛ منهم شيخ الإسلام زكريّا الأنصاريّ، وهو أجلّهم، وقرأ على الشيخ عميرة المصريّ، والشهاب الرّمليّ، وأبي الحسن البكريّ، وغيرهم.

وبرع في جميع العلوم؛ خصوصا فقه الشافعيّة، وصنّف التصانيف الحسنة المفيدة، ثمّ انتقل من مصر إلى مكّة المشرّفة.

وسبب انتقاله أنه اختصر «الروض» لابن المقرىء، وشرع في شرحه، فأخذه بعض الحسّاد وفتّته وأعدمه؛ فعظم عليه الأمر، واشتد حزنه، وانتقل إلى مكة وصنّف بها التصانيف الكثيرة الجليلة، منها «تحفة المحتاج شرح المنهاج» للإمام النووي، وهو أجلّ كتبه.

وكان زاهدا متقلّلا على طريقة السلف، آمرا بالمعروف؛ ناهيا عن المنكر، واستمرّ على ذلك حتى مات [بمكة ودفن] سنة: - 973- ثلاث وسبعين- أو أربع وسبعين وتسعمائة- رحمه الله تعالى رحمة واسعة آمين.

قال رحمه الله تعالى: (اعلم أنّه لم يتحرّر- كما قاله بعض الحفّاظ-) ؛

كالحافظ ابن حجر، فقد قال في «فتاويه» : لا يحضرني في طول عمامة النبي صلى الله عليه وسلم قدر محدود، وقد سئل عنه الحافظ عبد الغني فلم يذكر شيئا.

وكالحافظ السيوطي فإنّه قال: لم يثبت في مقدارها حديث، وفي خبر ما يدلّ على أنّها عشرة أذرع، والظاهر أنّها كانت نحو العشرة، أو فوقها بيسير.

ص: 519

في طول عمامته صلى الله عليه وسلم وعرضها شيء. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقة، إذا توضّأ.. تمسّح بها.

وكالحافظ السخاوي؛ فإنّه قال في «فتاويه» : رأيت من نسب لعائشة: أنّ عمامته في السفر بيضاء، وفي الحضر سوداء، وكلّ منها سبعة أذرع، وهذا شيء ما علمته! انتهى.

وعلى كلام هؤلاء الحفاظ عوّل ابن حجر المكي في تصريحه بأنه لم يتحرّر (في طول عمامته صلى الله عليه وسلم وعرضها شيء) .

وما وقع للطبرانيّ في طولها «أنّه نحو سبعة أذرع» ، ولغيره «أنّه نقل عن عائشة:

أنّها سبعة أذرع في عرض ذراع، وأنّها كانت في السفر بيضاء وفي الحضر سوداء من صوف، وأنّ عذبتها في السفر من غيرها، وفي الحضر منها» !! لا أصل له.

وفي «تصحيح المصابيح» لابن الجزريّ: تتبّعت الكتب، وتطلّبت من السّير والتواريخ لأقف على قدر عمامة المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم أقف على شيء، حتى أخبرني من أثق به أنّه وقف على شيء من كلام النووي ذكر فيه أنّه كان للمصطفى عمامة قصيرة. وعمامة طويلة، وأنّ القصيرة كانت ستة أذرع، والطويلة اثني عشر ذراعا. انتهى «زرقاني» .

وقد ألّف العلماء رحمهم الله تعالى قديما وحديثا في العمامة المؤلفات النافعة، منهم الشيخ ابن حجر المكي؛ له كتاب:«درّ الغمامة في العذبة والطيلسان والعمامة» ، ومنهم السيّد محمد بن جعفر الكتّاني، المغربيّ، له كتاب:

«الدعامة لمعرفة أحكام سنّة العمامة» . فمن أراد الاطّلاع على ما فيهما فليراجعهما؛ خصوصا الأخير منهما، فإنّه مفيد جدا.

(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقة) - بكسر الخاء المعجمة- (إذا توضّأ تمسّح بها) . رمز له برمز الدارقطني.

وفي «الجامع الصغير» : كان له صلى الله عليه وسلم خرقة يتنشّف بها بعد الوضوء، ورمز له برمز الترمذيّ، والحاكم عن عائشة.

ص: 520

وكان منديله صلى الله عليه وسلم باطن قدميه.

قال المناوي: قال الترمذي عقبه: ليس بالقائم، ولا يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه شيء، وفيه أبو معاذ: سليمان بن أرقم ضعيف عندهم، وقد رخّص قوم من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء. انتهى.

وقال قبل ذلك: وحينئذ لا يكره التنشّف، بل لا بأس به وعليه جمع.

وذهب آخرون إلى كراهته؛ لأنّ ميمونة أتته بمنديل فردّه، ولما أخرجه الترمذيّ؛ عن الزهري: أنّ ماء الوضوء يوزن.

وأجاب الأوّلون: بأنّها واقعة حال يتطرّق إليها الاحتمال، وبأنّه إنّما ردّه مخافة مصيره عادة، ويمنع دلالته على الكراهة؛ فإنّه لولا أنّه يتنشّف لما أتته به، وإنّما ردّه! لعذر كاستعجال، أو لشيء رآه فيه، أو لوسخ، أو تعسف ريح.

وفي هذا الحديث إشعار بأنّه كان لا ينفض ماء الوضوء عن أعضائه! وفيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه:«لا تنفضوا أيديكم في الوضوء؛ كأنّها مراوح الشّيطان» . قال ابن الصلاح وتبعه النووي: لم أجده. وقد أخرجه ابن حبّان في «الضعفاء» ، وابن أبي حاتم في «العلل» . انتهى كلام المناوي في «الكبير» .

(و) في «إحياء علوم الدين» ، و «كشف الغمّة» ، و «كنوز الحقائق» :

(كان منديله صلى الله عليه وسلم - المنديل- بكسر الميم وفتحها، وكمنبر- هو الذي يتمسّح به، وهو مذكّر، ولا يجوز فيه التأنيث- (باطن قدميه) .

قال العراقي: لا أعرفه من فعله!! وإنّما المعروف فيه ما رواه ابن ماجه؛ من حديث جابر رضي الله تعالى عنه: كنّا زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلا ما نجد الطعام، فإذا وجدناه لم تكن لنا مناديل إلّا أكفّنا وسواعدنا. والله أعلم.

ص: 521