الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الثّالث في صفة شعره صلى الله عليه وسلم، وشيبه، وخضابه، وما يتعلق بذلك]
الفصل الثّالث في صفة شعره صلى الله عليه وسلم، وشيبه، وخضابه، (الفصل الثّالث) ؛ من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة شعره صلى الله عليه وسلم ؛ أي: مقداره طولا وكثرة وغير ذلك، والشّعر- بسكون العين وفتحها-:
الواحدة منه شعرة-؛ بسكون العين، وقد تفتح.
واعلم أنّ الشعر حيث جاء بدون تاء؛ فهو بفتح العين وتسكّن، وإذا جاء بالتاء فهو بسكونها وتفتح؛ قاله في «جمع الوسائل» . وقال ابن العربي: والشّعر في الرأس زينة، وتركه سنّة، وحلقه بدعة؛ قال بعض شرّاح «المصابيح» : لم يحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه في سنيّ الهجرة إلّا في عام الحديبية، وعمرة القضاء، وحجّة الوداع، فليعتبر الطول والقصر منه بالمسافات الواقعة منه في تلك الأزمنة، وأقصرها ما كان بعد حجة الوداع، فإنّه توفّي بعدها بنحو ثلاثة أشهر، ولم يقصّر شعره إلّا مرة واحدة؛ كما في «الصحيحين» ، انتهى «مناوي وباجوري» .
(و) في بيان ما ورد في (شيبه) صلى الله عليه وسلم من الأخبار. والشّيب: ابيضاض الشعر المسودّ؛ كما في «المصباح» ، ويؤخذ من «القاموس» : أنه يطلق على بياض الشعر وعلى الشعر الأبيض.
(و) في بيان ما ورد في (خضابه) صلى الله عليه وسلم من الأخبار، والخضاب؛ كالخضب مصدر بمعنى: تلوين الشعر بالحناء ونحوه، وهو عندنا- معاشر الشافعية- بغير السواد سنّة، وبالسواد حرام. يدلّ لنا:
وما يتعلّق بذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل الشّعر حسنه، ليس..
1-
ما في «الصحيحين» : لمّا جيء بأبي قحافة يوم الفتح للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولحيته ورأسه كالثّغامة بياضا؛ فقال: «غيّروا هذا بشيء واجتنبوا السّواد» .
و2- ما في «الصحيحين» أيضا؛ عن ابن عمر أنّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة. زاد ابن سعد وغيره؛ عن ابن عمر أنه قال: فأنا أحبّ أن أصبغ بها.
و3- ما رواه أحمد، وابن ماجه؛ عن ابن وهب قال: دخلنا على أمّ سلمة فأخرجت إلينا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مخضوب بالحنّاء والكتم.
وعن أبي جعفر قال: شمط «1» عارضا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضب بحنّاء وكتم.
وعن عبد الرحمن الثمالي قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم يغيّر لحيته بماء السّدر، ويأمر بتغيير الشعر؛ مخالفة للأعاجم.
وفي حديث أبي ذر: «إنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب الحنّاء والكتم» أخرجه الأربعة.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبيض الرأس واللحية، فقال:«ألست مؤمنا» ؟! قال: بلى!. قال: «فاختضب» . لكن قيل: إنه حديث منكر. ولا يعارض ذلك ما ورد: أنّه صلى الله عليه وسلم لم يغيّر شيبه، لتأويله جمعا بين الأخبار- بأنه صلى الله عليه وسلم صبغ في وقت وتركه في معظم الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وهذا التأويل كالمتعيّن؛ كما قاله ابن حجر، انتهى؛ من الباجوري رحمه الله تعالى. (وما يتعلّق بذلك) من الترجيل والادّهان والتقنّع ونحوها!!
قال العلّامة حجّة الإسلام الغزاليّ في «الإحياء» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل) بسكون الجيم وكسرها- (الشّعر) - بفتح العين- أي: مسترسله (حسنه؛ ليس
(1) أي: ابيضّا شيبا.
بالسّبط ولا الجعد القطط، وكان إذا مشطه بالمشط.. يأتي كأنّه حبك الرّمل، وربّما جعله غدائر أربعا؛ يخرج كلّ أذن من بين غديرتين،
…
بالسّبط) - بسكون الباء وكسرها-، (ولا الجعد القطط) - بفتحتين كجسد؛ على الأشهر، ويجوز كسر الطاء المهملة الأولى، - أي: شعره صلى الله عليه وسلم ليس بنهاية في الجعودة؛ وهو: تكسّره الشديد؛ كشعر الحبش والزنوج، ولا بنهاية في السبوطة؛ وهو عدم تكسّره أصلا كشعر الهنود والجاوة، بل كان وسطا بينهما، و «خير الأمور أوساطها» .
قال الزّمخشري: الغالب على العرب جعودة الشعر، وعلى العجم سبوطته.
وقد أحسن الله تعالى برسوله الشمائل، وجمع فيه ما تفرّق في الطوائف من الفضائل.
رواه البخاريّ، ومسلم، والبيهقي في «الدلائل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه.
(وكان إذا مشطه بالمشط) - بضم الميم- أي: سرّحه به (يأتي كأنّه حبك) بضم الحاء المهملة والباء الموحدة- وهي: طرائق (الرّمل) .
وهذا يؤيّد من فسّر الرّجل بالمتكسّر قليلا، ولا ينافي ذلك ما تقدّم من الروايات، لأنّ الرّجولة أمر نسبيّ، فحيث أثبتت أريد بها الوسط بين السبوطة والجعودة، وحيث نفيت أريد بها السّبوطة؛ انتهى «شرح الإحياء» مع زيادة.
(وربّما جعله غدائر أربعا؛ يخرج كلّ أذن من بين غديرتين) .
قال العراقيّ: روى أبو داود، والترمذي وحسّنه، وابن ماجه؛ من حديث أمّ هانىء: قدم مكّة؛ وله أربع غدائر. انتهى.
قلت: ورواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من طريق سفيان؛ عن ابن أبي نجيح؛ عن مجاهد قال: قالت أم هانىء: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة قدمة؛ وله أربع غدائر.
وربّما جعل شعره على أذنيه؛ فتبدو سوالفه تتلألأ.
ومعنى (الغدائر) : الذّوائب، واحدتها غديرة.
و (الحبك) - جمع حباك- ككتاب، وهي: الطّريقة في الرّمل ونحوه. وكان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الجمّة، وفوق الوفرة.
تعني: ضفائر، والغديرة والضفيرة: هي الذؤابة. ولفظ الترمذي في «الشمائل» .
قدم مكة قدمة؛ وشعره إلى أنصاف أذنيه، وله أربع غدائر.
والظاهر أنها عنت قدومه مكّة عام الفتح، لأنه حينئذ اغتسل وصلّى الضحى في بيتها، وقدماته إلى مكة أربع متّفق عليها: 1- في عمرة القضاء، و 2- الفتح، و 3- لما رجع من حنين؛ دخلها حين اعتماره من الجعرانة، و 4- في حجّة الوداع.
(وربّما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه) ؛ جمع سالفة؛ وهي: صفحة العنق (تتلألأ) ؛ أي: تضيء وتتنوّر من وبيص الطّيب. (ومعنى الغدائر) - بفتح الغين المعجمة والدال المهملة-: (الذّوائب) ؛ جمع ذؤابة؛ وهي الخصلة من الشعر إذا كانت مرسلة، فإن كانت ملويّة فعقيصة، والغدائر:(واحدتها غديرة) ، وكلّ من الغديرة والضفيرة بمعنى الذؤابة، ويقال: الغديرة: هي الذؤابة، والضفيرة: هي العقيصة.
(والحبك) - بضمتين- (جمع) : حبيكة؛ كطريقة وطرق، أو جمع (حباك ككتاب) وكتب، ومثال ومثل؛ (وهي: الطّريقة في الرّمل ونحوه) ، ومنه قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (7) [الذاريات] أي: صاحبة الطرق في الخلقة كالطرق في الرمل.
(و) روى أبو داود في «سننه» ، وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:(كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الجمّة) - بضم الجيم وتشديد الميم- (وفوق الوفرة) - بفتح الواو وسكون الفاء- ورواه الترمذي في «جامعه» و «شمائله» بلفظ: فوق الجمّة ودون الوفرة.
.........
قال الحافظ العراقي في «شرح الترمذي» : ورواية أبي داود وابن ماجه هي الموافقة لكلام أهل اللغة، إلا أن تؤوّل رواية الترمذي. وذلك أنّه قد يراد بقوله «دون» النسبة إلى القلّة والكثرة، وقد يراد به النسبة إلى محلّ وصول الشعر، ورواية الترمذي محمولة على هذا التأويل: أي: أنّ شعره كان فوق الجمّة، أي:
أرفع في المحلّ، فعلى هذا يكون شعره لمّة؛ وهو بين الوفرة والجمّة. وتكون رواية أبي داود وابن ماجه معناها: كان شعره فوق الوفرة؛ أي: أكبر من الوفرة، ودون الجمّة؛ أي في الكثرة، وعلى هذا فلا تعارض بين الروايتين، فروى كلّ راو ما فهمه من الفوق والدون.
قال تلميذه الحافظ ابن حجر: وهو جمع جيّد؛ لولا أنّ مخرج الحديث متّحد!! وأجاب القسطلّاني: بأن إحدى الروايتين نقل بالمعنى، ولا يضرّه اتّحاد المخرج، لاحتمال أنّه وقع ممن دونه. انتهى. ونحوه قول بعضهم: مآل الروايتين على هذا التقدير متّحد معنى، والتفاوت بينهما إنما هو في العبارة، ولا يقدح فيه اتّحاد المخرج؛ وهو عائشة، لأن من دونها أدّى معنى إحدى العبارتين.
هذا؛ وقد يستعمل أحد اللفظين المتقاربين مكان الآخر كما سبق في «أفلج الثنيتين» ، حيث قالوا: الفلج يستعمل مكان الفرق؛ فكذا يقال بمثله هنا.
انتهى.
قال الحافظ العراقيّ: ورد في شعره صلى الله عليه وسلم ثلاثة أوصاف: جمّة، ووفرة، ولمّة، فالوفرة: ما بلغ شحمة الأذن، واللّمة: ما نزل عن شحمة الأذن، والجمة: ما نزل عن ذلك إلى المنكبين؛ هذا قول جمهور أهل اللغة، وهو الذي ذكره صاحب «المحكم» و «النهاية» و «المشارق» وغيرهم.
واختلف فيه كلام الجوهري؛ فذكره على الصواب في مادة «لمم» ، فقال:
واللّمة- بالكسر-: الشعر المتجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغت المنكبين فهي جمّة، وخالف في ذلك في مادة «وفر» فقال: والوفرة إلى شحمة الأذن ثم الجمّة، ثم
وكان شعره صلى الله عليه وسلم يضرب إلى منكبيه، وكثيرا ما يكون إلى شحمة أذنيه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الجسم،
…
اللّمة التي ألمّت بالمنكبين، وما قاله في «باب الميم» هو الصواب الموافق لقول غيره من أهل اللغة، انتهى «زرقاني» .
(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني: (كان شعره صلى الله عليه وسلم يضرب إلى منكبيه) - مثنى منكب كمجلس؛ وهو: مجتمع رأس العضد والكتف، أي: يصل إليهما. كنّى بالضرب عن الوصول.
روى الشيخان؛ من حديث أنس: كان شعره يضرب منكبيه، وللبخاري أيضا: كان يضرب رأس النبي صلى الله عليه وسلم منكبيه. (وكثيرا ما يكون إلى شحمة أذنيه) ؛ وهي: ما لان في أسفلها؛ وهي معلّق القرط. روى الشيخان؛ من حديث البراء:
يبلغ شعره شحمة أذنيه. وروى البيهقيّ في «الدلائل» ؛ عن أنس: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شحمة أذنيه. وروى مسلم؛ عن أنس: كان شعره إلى أنصاف أذنيه. ولفظ الترمذي في «الشمائل» : عظيم الجمّة إلى شحمة أذنيه؛ أي:
تكاثفها ينتهي إلى شحمة أذنيه. وفي «الصحيحين» ؛ عن أنس: أنّه كان بين أذنيه وعاتقه. وفي أخرى عند الترمذي وغيره: فوق الجمّة؛ ودون الوفرة. وفي رواية: إن انفرقت عقيقته فرق، وإلّا! فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه. إذا هو وفره. وفي أخرى: كان إلى أذنيه. وفي أخرى: إلى كتفيه.
والجمع بين هذه الروايات: أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمتها، وما خلفها هو الذي يضرب منكبيه. أو بأنّ ذلك لاختلاف الأوقات، فكان إذا ترك تقصيرها بلغ المنكب، وإذا قصّرها كانت إلى الأذن؛ أو شحمتها؛ أو نصفها، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) قال النووي في «التهذيب» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الجسم) ؛ أي: معتدل الخلق متناسب الأعضاء. رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه، والبيهقي في «الدلائل» ؛ عن رجل من الصحابة- وقد تقدّم-.
بعيد ما بين المنكبين، له شعر إلى منكبيه، وفي وقت إلى شحمتي أذنيه، وفي وقت إلى نصف أذنيه.
وكان صلى الله عليه وسلم يسدل شعره،
…
(بعيد ما بين المنكبين) - روي بالتكبير والتصغير-، و «ما» موصولة؛ أو موصوفة؛ لا زائدة- كما زعمه بعضهم-
والمنكبان؛ تثنية منكب: وهو مجمع العضد والكتف، والمراد بكونه «بعيد ما بين المنكبين» : أنّه عريض أعلى الظهر. ويلزمه أنّه عريض الصدر، وقد تقدّم أنّه رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما.
(له شعر إلى منكبيه، وفي وقت إلى شحمتي أذنيه، وفي وقت إلى نصف أذنيه) . انتهى كلام «التهذيب» ، وهو يشير إلى الجمع بين الروايات في صفة شعره صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم قريبا أنّ ذلك لاختلاف الأوقات. والله أعلم.
(و) روى البخاريّ في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يسدل) - بفتح أوله وسكون السين المهملة وكسر الدال المهملة، ويجوز ضمّ الدال؛ قاله الحافظ وغيره، وبالضمّ ضبطه الدمياطي في «حاشية الصحيح» ، والمنذري في «حاشية السنن» .
فاستفدنا أنّ الرواية بالوجهين؛ قاله الزرقاني- (شعره) ؛ أي: يترك شعر ناصيته على جبهته، لما في رواية للشيخين: سدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته. ولذلك قال النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: المراد إرساله على الجبين واتخاذه كالقصّة، أي: بضم القاف، وإلّا! فالسدل لغة لا يخصّ الناصية، بل هو إرخاء الشعر حول الرأس من غير أن يقسمه نصفين، يقال: سدلت الثوب سدلا: أرخيته وأرسلته من غير ضمّ جانبيه، فإن ضممتهما؛ فهو قريب من التلفيف، قالوا:
ولا يقال فيه: أسدلته- بالألف-.
وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، (وكان المشركون) ؛ أي: كفّار مكّة (يفرقون) - بضم الراء وكسرها، روي مخفّفا وهو الأشهر، ومشددا من باب التفعيل- (رءوسهم) ؛ أي: شعر رءوسهم، والفرق- بفتح فسكون-: قسم الشعر نصفين؛ وإرسال نصف من جانب اليمين على الصدر، وإرسال نصف من جانب اليسار على الصدر، وهو ضدّ السّدل الذي هو: مطلق الإرسال من سائر الجوانب.
(وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم) ؛ أي: شعرها؛ وفي رواية:
أشعارهم، (وكان يحبّ موافقة أهل الكتاب) اليهود حين كان عبدة الأوثان كثيرين، (فيما لم يؤمر فيه بشيء) ؛ أي: فيما لم يؤمر فيه وحي، أو فيما لم يطلب منه على جهة الوجوب، أو الندب، أو فيما لم يؤمر فيه بالمخالفة لهم، يعني فيما لم يخالف شرعه؛ إيجابا أو ندبا، فقصر الأمر هنا على حقيقته؛ وهو الوجوب تقصير، وإنما أحبّ موافقتهم! لتمسّكهم في زمانه ببقايا شرائع الرسل، والمشركون وثنيون؛ لا مستند لهم إلّا ما وجدوا عليه آباءهم.
قال الحافظ ابن حجر: فكانت موافقتهم أحبّ إليه من موافقة عبّاد الأوثان، فلما أسلم غالبهم أحبّ حينئذ مخالفة أهل الكتاب. انتهى.
وقال النووي وغيره: أو كان لاستئلافهم كما تألّفهم باستقبال قبلتهم، وتوقّف فيه بأن المشركين أولى بالتأليف، وردّ بأنه قد حرص أوّلا على تألّفهم؛ ولم يأل جهدا في ذلك، وكلما زاد زادوا نفورا، فأحبّ تأليف أهل الكتاب ليجعلهم عونا على قتال الآبين من عبدة الأوثان.
وقال القرطبي: حبّه لموافقتهم كان أوّلا في الوقت الذي كان يستقبل قبلتهم؛ ليتألّفهم حتى يصغوا إلى ما جاء به، فلما لم ينفع فيهم ذلك وغلبت عليهم الشّقوة أمر بمخالفتهم في أمور كثيرة، لقوله:«إنّ اليهود والنّصارى لا يصبغون؛ فخالفوهم» . انتهى «زرقاني» .
ثمّ فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه.
(ثمّ فرق) - بفتح الفاء والراء مخففا ومشددا- (رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه) ؛ أي:
ألقى شعره إلى جانبي رأسه، فلم يترك منه شيئا على جبهته.
وحكمة عدوله عن موافقة أهل الكتاب: أن الفرق أنظف وأبعد عن الإسراف في غسله، وعن مشابهة النساء.
قال العلماء: والفرق سنّة، لأنه الذي رجع إليه صلى الله عليه وسلم، والصحيح جواز السّدل والفرق معا، لكن الفرق أفضل فقط، لأنه الذي رجع إليه صلى الله عليه وسلم، فكأنّه ظهر الشرع به؛ لكن لا وجوبا، لأن من الصّحب من سدل بعد ذلك، فلو كان الفرق واجبا ما سدلوا بعد، ولهذا قال في «المطامح» : الحديث يدلّ على جواز الأمرين، والأمر فيه واسع.
وقال القاضي عياض: نسخ السّدل فلا يجوز فعله، ولا اتخاذ الناصية والجمّة، قال: ويحتمل أن المراد جواز الفرق؛ لا وجوبه، ويحتمل أن الفرق كان اجتهادا في مخالفة أهل الكتاب؛ لا بوحي، فيكون الفرق مستحبا. انتهى.
والقول بالنسخ ردّه ابن حجر، وقال القرطبي: أمّا توهّم النسخ!! فلا يلتفت إليه أصلا، لإمكان الجمع، لكن العسقلاني قال: جزم الحازمي أن السدل نسخ بالفرق، واستدلّ برواية معمر؛ عن الزهري، عن عبد الله بلفظ: ثم أمر بالفرق، وكان الفرق آخر الأمرين؛ أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» ، وهو ظاهر. والله أعلم.
قال ابن حجر: والذي يتّجه أنّ محل جواز السدل حيث لم يقصد به التشبّه بالنساء، وإلّا!! حرم من غير نزاع. انتهى.
هذا؛ والحديث الذي ساقه المصنّف رواه الترمذي في «الشمائل» - كما تقدّم-. وفي «صحيح البخاري» في الصفة النبوية وفي «اللباس» نحوه، وفي «صحيح مسلم» نحوه، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه؛ قاله الزرقاني على «المواهب» .
ومعنى (سدل الشّعر) : إرساله.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن السّبلة.
ومعنى (السّبلة) : مقدّم اللّحية، وما انحدر منها على الصّدر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثّ اللّحية،
…
قال المصنف: (ومعنى سدل الشّعر) - فيما قاله العلماء-: (إرساله) على الجبين واتّخاذه كالقصة- أي: بضمّ القاف بعدها مهملة- انتهى، وهو المراد هنا.
وقيل: سدل الشعر: أن يرسله ولا يضمّ جوانبه. وقيل: السّدل: أن يرسل الشخص شعره من ورائه؛ ولا يجعله فرقتين. انتهى «جمع الوسائل» .
(و) روى الطبراني في «الكبير» ؛ عن العدّاء- بفتح العين المهملة وتشديد الدال المهملة والمد- ابن خالد بن هودة العامري، أسلم يوم حنين هو وأبوه جميعا رضي الله تعالى عنهما؛ قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن السبلة) - بالتحريك-: ما أسبل من مقدّم اللحية؛ ذكره الزمخشري. قال المصنف- تبعا للعزيزي-: (ومعنى السّبلة) - بالتحريك-:
(مقدّم اللّحية، وما انحدر منها على الصّدر) ؛ وهو الشّعرات التي تحت اللّحي الأسفل؛ أو الشارب، وقال الحفني: ما أسبل من مقدّم اللحية الذي تحت العنفقة وفوقه العارضان، انتهى.
(و) قال الغزالي في «الإحياء» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثّ اللّحية) ؛ أي:
كثير شعر اللحية ملتفّها. رواه البيهقي؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
ورواه من طريق محمد بن علي بن أبي طالب؛ عن أبيه، ورواه من طريق نافع بن جبير؛ عنه: كان ضخم الهامة عظيم اللّحية، وفي لفظ: ضخم الرأس واللحية، ومن حديث أبي هريرة: كان أسود اللحية حسن الشعر، ومن طريق أبي ضمضم؛ عن رجل من الصحابة لم يسمّ: كان رجلا مربوعا حسن السبلة؛ قال: كانت اللحية تدعى في أول الإسلام سبلة، ورواه الطبراني في «الكبير»
وكان يعفي لحيته ويأخذ من شاربه.
وسماه العدّاء بن خالد. انتهى شرح «الإحياء» . وقد سبقت رواية العدّاء آنفا.
(وكان يعفي لحيته) ؛ أي: يوفّرها، وسيأتي أنّه كان يأخذ من عرضها وطولها. (ويأخذ من شاربه) ؛ أي: يقصّه، في أيّ وقت احتاج إليه من غير تقييد بيوم، كما أفاده الحديث الذي رواه الترمذي وحسّنه؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصّ شاربه، وحديث التقييد بالجمعة ضعيف.
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإعفاء اللحية وقصّ الشارب. روى البيهقي في «السنن» ، وابن عدي؛ من حديث عمرو بن شعيب؛ عن أبيه؛ عن جدّه:«أحفوا الشّوارب وأعفوا اللّحى» . ورواه أيضا الطحاوي؛ من حديث أنس بزيادة: ولا تشبّهوا باليهود» .
وروى الترمذي- وقال: حسن صحيح-، والنسائي، والإمام أحمد؛ من حديث زيد بن أرقم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يأخذ من شاربه فليس منّا» ؛ أي: ليس على طريقتنا الإسلامية، لندب ذلك مؤكّدا؛ فتاركه متهاون بالسنة، هذا مذهب الجمهور.. وأخذ جمع بظاهره فأوجبوا قصّه.
وروى الإمام أحمد؛ عن رجل من الصحابة رفعه: «من لم يحلق عانته ويقلّم أظفاره ويجزّ شاربه فليس منّا» وحسّنه بعض الحفاظ لشواهده.
وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حديث: «خالفوا المشركين، وفّروا اللّحى وأحفوا الشّوارب» . ومعنى «وفّروا» - بتشديد الفاء-:
اتركوها وافرة لتكثر وتغزر، ولا تتعرّضوا لها. وأحفوا قال النووي: بقطع الهمزة ووصلها؛ من أحفاه وحفاه: استأصله، وقال الزركشي: بألف قطع رباعي؛ أشهر وأكثر، وهو المبالغة في استقصائه، ومنه «أحفى في المسألة» إذا أكثر، وقال القاضي عياض: من «الإحفاء» ، وأصله الاستقصاء في أخذ الشارب، وفي معناه رواية:«أنهكوا الشّوارب» والمراد: بالغوا في قصّ ما طال منها حتّى تبين الشّفة بيانا ظاهرا استحبابا. وقيل: وجوبا.
.........
وقد اختلف في قصّ الشارب وحلقه أيّهما أفضل!؟
فقال القاضي عياض: ذهب كثير من السلف إلى استيعاب الشارب، وحلقه لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:«أحفوا وأنهكوا» وهو قول الكوفيين.
وذهب كثير منهم إلى منع الحلق، ومنهم الإمام مالك، قال: ويحفي الشارب ويعفي اللحى، وليس إحفاء الشارب حلقه؛ أي: بل أخذ ما طال عن الشفة بقصّ ونحوه، بحيث لا يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ. قال القرطبي: وأرى تأديب من حلق شاربه؛ لما فيه من التشبّه بالمجوس. وعن أشهب؛ عن مالك:
أنّ حلقه بدعة لذلك. قال: وأرى أن يوجع ضربا من فعله.
وقال النووي: المختار في قصّ الشارب أنّه يقصّه حتى يبدو طرف الشفة، ولا يحفّه من أصله. وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي شيئا منصوصا في هذا، وكان المزنيّ والربيع يحفيان شاربهما، قال: وما أظنّهم أخذوا ذلك إلّا عنه.
وأما أبو حنيفة وأصحابه! فمذهبهم في شعر الرأس والشارب: أنّ الإحفاء الذي هو الإزالة بالكلية- أفضل من التقصير.
وأما أحمد!! فقال الأثرم: رأيته يحفي شاربه شديدا، ونصّ على أنّه أولى من القصّ.
قال في «فتح الباري» : وذهب ابن جرير إلى التخيير، فإنّه لمّا حكى قول مالك وقول الكوفيين؛ ونقل عن أهل اللغة أنّ الإحفاء هو الاستئصال؛ قال: دلّت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فالقصّ يدلّ على أخذ البعض، والإحفاء يدلّ على أخذ الكلّ، فكلاهما ثابت؛ فيخير فيما شاء.
قال الحافظ ابن حجر: فيؤخذ من قول الطبري ثبوت الأمرين معا في الأحاديث.
فأما الاقتصار على القصّ! ففي حديث المغيرة: ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفير فقصّه على سواك. رواه أبو داود والبيهقي بلفظ: فوضع السّواك تحت الشارب
.........
وقصّ عليه. وأخرج البزار؛ عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل؛ فقال: «ائتوني بمقصّ وسواك» ، فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه. وأخرج البيهقي والطبراني؛ عن شرحبيل بن مسلم الخولاني:
رأيت خمسة من الصحابة يقصّون شواربهم: أبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معديكرب، وعتبة بن عون السلمي، والحجاج بن عامر الثمالي، وعبد الله بن بسر.
وأما الإحفاء! فأخرج الطبرانيّ، والبيهقيّ؛ عن عبد الله بن أبي رافع قال:
رأيت أبا سعيد الخدريّ، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، ورافع بن خديج، وأبا أسيد الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق.
وأخرج الطبراني؛ عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة: أنّهم كانوا يحلقون شواربهم.
واختلف في كيفية قصّ الشارب: هل يقص طرفاه أيضا؛ وهما المسمّيان ب «السّبالين» ، أم يترك السبالان كما يفعله كثير من الناس!؟
قال الغزالي في «الإحياء» : لا بأس بترك سباليه؛ وهما طرفا الشارب، فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه وغيره، لأن ذلك لا يستر الفم، ولا تبقى فيه زهومة الطعام، إذ لا يصل إليه. انتهى.
وروى أبو داود؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه: كنا نحفي السّبال إلّا في حجة وعمرة، وكره بعضهم إبقاءه؛ لما فيه من التشبّه بالأعاجم، وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: إياكم وزيّ الأعاجم!! وقال الإمام مالك: أميتوا سنّة العجم، وأحيوا سنّة العرب. وفيه تشبّه بالمجوس وأهل الكتاب، والقول بالكراهة أولى بالصواب، لما رواه ابن حبان في «صحيحه» ، والطبراني، والبيهقي؛ من حديث ميمون:«إنّهم يوفّرون سبالهم ويحلقون لحاهم؛ فخالفوهم» . فكان ابن عمر يجزّ سباله كما تجزّ الشاة أو البعير. انتهى.
وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ من لحيته الشّريفة، من عرضها وطولها.
وأما فعل عمر رضي الله تعالى عنه إن صحّ!! فلعله لم يبلغه النهي. انتهى من «المواهب اللدنية» مع شيء من «شرح الزرقاني» رحمهم الله تعالى. آمين.
(و) روى الترمذيّ- وقال: حديث غريب- من طريق عمرو بن شعيب؛ عن أبيه؛ عن جدّه رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من لحيته الشّريفة؛ من عرضها وطولها) بالسويّة؛ كما في رواية، أي: يأخذ الشّعر الزائد في الطول لتقرب من التدوير من جميع الجوانب، لأنّ الاعتدال محبوب، والطول المفرط قد يشوّه الخلق، ويطلق ألسنة المغتابين، ففعل ذلك مندوب ما لم ينته إلى تقصيص اللحية وجعلها طاقات؛ فإنه مكروه، وكان بعض السلف يقبض على لحيته فيأخذ ما تحت القبضة، وقال النّخعي: عجبت لعاقل كيف لا يأخذ من لحيته؛ فيجعلها بين لحيتين، فإنّ التوسّط في كلّ شيء حسن، ولذا قيل: كلما طالت اللحية تشمّر العقل، ففعل ذلك إذا لم يقصد الزينة والتحسين لنحو النساء سنّة، كما عليه جمع؛ منهم القاضي عياض وغيره، واختار النووي تركها بحالها مطلقا.. ثم لا ينافي فعله صلى الله عليه وسلم قوله:«أعفوا اللّحى» . لأنّه في الأخذ منها لغير حاجة؛ أو لنحو تزين، وهذا فيما احتيج إليه لتشعّث؛ أو إفراط طول يتأذّى به، وقال الطيبي: المنهيّ عنه قصّها كالأعاجم، أو وصلها كذنب الحمار، وقال الحافظ ابن حجر: المنهيّ عنه الاستئصال أو ما قاربه، بخلاف الأخذ المذكور، انتهى.
لطيفة: قال الحسن بن المثنّى: إذا رأيت رجلا له لحية طويلة، ولم يتخذ لحية بين لحيتين؛ كان في عقله شيء. وجلس المأمون مع أصحابه مشرفا على دجلة، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط؛ إلا ونقص من عقله بقدر ما طال منها، وما رأيت عاقلا قطّ طويل اللحية!. فقال بعض الجلساء: ولا يردّ على أمير المؤمنين؛ إنه قد يكون في طولها عقل، فأقبل رجل كبير اللحية حسن الهيئة فاخر الثياب، فقال المأمون: ما تقولون فيه!! فقال بعضهم: يجب كونه قاضيا، فأمر بإحضاره، فوقف فسلّم فأجاد، فأجلسه المأمون واستنطقه فأحسن، فقال
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر تسريح لحيته.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يفارقه سواكه ولا مشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرّح لحيته.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا اهتمّ.. أكثر من مسّ لحيته.
المأمون: ما اسمك؟ فقال: أبو حمدويه والكنية علوية. فضحك المأمون وغمز جلساءه، ثم قال: ما صنعتك؟ قال: فقيه أجيد المسائل. قال: ما تقول فيمن اشترى شاة فلما تسلّمها؛ خرج من استها بعرة؛ ففقأت عين رجل، فعلى من الدية!؟ قال: على البائع دون المشتري، لأنه لما باعها لم يشترط أنّ في استها منجنيقا، فضحك المأمون حتّى استلقى على قفاه وأنشد:
ما أحد طالت له لحية
…
فزادت اللّحية في هيئته
إلّا وما ينقص من عقله
…
أكثر ممّا زاد في لحيته
(و) قال المناوي في «كنوز الحقائق» : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر تسريح لحيته) أي: تمشيطها وإرسال شعرها وحلّها بمشطها؛ رواه الترمذي في «جامعه» و «شمائله» ، والبغوي في «شرح السنة» كلّهم؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته، ويكثر القناع حتى كأنّ ثوبه ثوب زيّات، وسيأتي.
(و) أخرج الطبراني في «الأوسط» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفارقه سواكه ولا مشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرّح) بتشديد الراء- (لحيته) - أي: مشطها-.
(و) أخرج ابن السنّي، وأبو نعيم كلاهما في كتاب «الطب النبوي» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها ترفعه، وأبو نعيم في «الطب» أيضا؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بسند حسن:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اهتمّ أكثر من مسّ لحيته) ، فيعرف بذلك كونه
وكان صلى الله عليه وسلم إذا اغتمّ.. أخذ لحيته بيده ينظر فيها.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا توضّأ.. خلّل لحيته بالماء.
مهموما، قال بعضهم: ويجوز كون مسّه لها تسليما لله تعالى بنفسه، وتفويضا لأمره إليه، فكأنه موجه نفسه إلى مولاه. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج الشيرازي في «الألقاب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهو حديث حسن لغيره-: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتمّ) - بغين معجمة ومثناة فوقية- أي: حزن، قال في «المصباح» : غمّه الشيء غمّا؛ من باب (قتل) : غطاه، ومنه قيل للحزن غمّ، لأنه يغطي السرور. انتهى.
(أخذ لحيته) ؛ أي: تناولها (بيده ينظر فيها) كأنّه يتفكّر، أو يسلّي بذلك حزنه.
(و) في «الجامع الصغير» : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضّأ خلّل لحيته بالماء) أي: أدخل الماء في خلالها بأصابعه الشريفة، فيندب تخليل اللّحية الكثّة، فإن لحيته الشريفة كانت كثّة، ومثلها كلّ شعر لا يجب غسل باطنه.
قال ابن القيّم: ولم يكن يواظب على التخليل. ورمز في «الجامع الصغير» لمن أخرجه برمز أحمد والحاكم وصحّحه؛ عن عائشة، والترمذي والحاكم؛ عن عثمان بن عفان- وقال الترمذي: حسن صحيح عنه-، والترمذي والحاكم؛ عن عمار بن ياسر، والحاكم؛ عن بلال المؤذّن، وابن ماجه والحاكم؛ عن أنس بن مالك، والطبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة الباهلي، وعن أبي الدرداء، وعن أم سلمة، والطبراني في «الأوسط» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين. قال الحافظ الهيثمي: بعض هذه الطرق رجاله موثقون، وفي البعض مقال. انتهى.
وأشار المصنف- يعني السيوطي- باستيعاب مخرّجيه إلى ردّ قول أحمد وأبي زرعة «لا يثبت في تخليل اللحية حديث» ؛ قاله المناوي على «الجامع الصغير» .
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته، ويكثر اتّخاذ القناع.
(و) أخرج الترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، والبغوي في «شرح السنة» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه) - بفتح الدال المهملة وسكون الهاء-: استعمال الدّهن- بالضم-، والدهن: ما يدهن به من زيت وغيره، وجمعه دهان- بالكسر-، وإكثاره ذلك إنما كان في وقت دون وقت، وفي زمن دون آخر، بدليل نهيه عن الادّهان إلّا غبّا في عدّة أحاديث.
قال ابن القيم: الدهن يسدّ مسام البدن، ويمنع ما تخلّل منه، والدهن في البلاد الحارة كالحجاز من آكد أسباب حفظ الصحة، وإصلاح البدن، وهو كالضروري لهم.
(وتسريح لحيته) بالماء، أو بماء الورد ونحوه، وهو عطف على دهن رأسه؛ كما هو ظاهر، لا على رأسه؛ كما وهم. والمراد تمشيطها وإرسال شعرها وحلّها بمشطها، ولا ينافيه ما في «أبي داود» من النهي عن التسريح كلّ يوم، لأنّه لا يلزم من الإكثار التسريح كل يوم، بل الإكثار قد يصدق على الشيء الذي يفعل بحسب الحاجة؛ ذكره الوليّ العراقي، ولم يرد أنّه كان يقول عند تسريحها شيئا؛ ذكره السيوطي.
(ويكثر اتّخاذ القناع) . قال السيوطي رحمه الله تعالى يعني: يتطيلس؛ نقله المناوي. وقال الحفني والعزيزي؛ كالمناوي في «كبيره» : والمراد باتخاذ القناع هنا: تغطية الرأس وأكثر الوجه، وذلك لما علاه من الحياء، ولذا كان يتقنّع عند الجماع، لأنه يستحيا منه عادة؛ وإن كان جائزا.
وقال المناوي في «كبيره» : وسبب إكثاره للتقنّع: أنّه كان قد علاه من الحياء من ربّه ما لم يحصل لبشر قبله؛ ولا بعده، وما ازداد عبد بالله علما إلا ازداد حياء من الله تعالى، فحياء كلّ عبد على قدر علمه بربّه، فألجأه ذلك إلى ستر منبع الحياء
و (القناع) : خرقة توضع على الرّأس حين استعمال الدّهن لتقي العمامة والثّياب.
ومحلّه؛ وهو العين والوجه؛ وهما من الرأس، والحياء من عمل الروح، وسلطان الروح في الرأس، ثم هو ينشر في جميع البدن، فأهل اليقين قد أبصروا بقلوبهم أنّ الله يراهم؛ فصارت جميع الأمور لهم معاينة، فهم يعبدون ربّهم كأنّهم يرونه، وكلما شاهدوا عظمته ومنّته ازدادوا حياء، فأطرقوا رءوسهم وجلا، وقنّعوها خجلا.
وأنت بعد أن سمعت هذا التقرير انكشف لك أنّ من زعم «أن المراد هنا بالقناع: خرقة تلقى على الرأس لتقي العمامة من نحو دهن» لم يدر حول الحمى، بل في البحر فوه؛ وهو في غاية الظمأ!! انتهى.
وقال الحفني على «الجامع الصغير» : القناع عند أهل الله يسمّى الخلوة الصغرى، لأنّه يمنع من كثرة الاشتغال بالخلق والنظر إليهم. انتهى.
وقال الباجوري «على الشمائل» : صحّ عن ابن مسعود- وله حكم المرفوع-:
«التّقنّع من أخلاق الأنبياء» ، وفي خبر:«لا يتقنّع إلّا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» ويؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون للعلماء شعار يختصّ بهم، ليعرفوا فيسألوا ويمتثل أمرهم ونهيهم، وهذا أصل في لبس الطيلسان ونحوه، وله فوائد جليلة كالاستحياء من الله والخوف منه، إذ تغطية الرأس شأن الخائف الذي لا ناصر له؛ ولا معين، وكجمعه للتفكّر، لأنه يغطي أكثر وجهه، فيحضر قلبه مع ربّه، ويمتلىء بشهوده وذكره، وتصان جوارحه عن المخالفات، ونفسه عن الشهوات، ولذلك قال بعض الصوفية: الطيلسان الخلوة الصغرى. انتهى كلام الباجوري رحمه الله تعالى.
وبما قرّرناه تعلم ما في قول المصنف (والقناع) - بكسر القاف وخفة النون وفي آخره مهملة؛ كرجال-: (خرقة توضع على الرّأس حين) - أي: بعد- (استعمال الدّهن) - بالضم- (لتقي العمامة والثّياب) من أثر الدهن واتساخها به، شبّهت
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ادّهن.. صبّ في راحته اليسرى، فبدأ بحاجبيه، ثمّ عينيه، ثمّ رأسه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ التّيامن
…
بقناع المرأة. وفي «الصّحاح» : هو أوسع من المقنعة. انتهى.
(و) أخرج الشيرازي في «الألقاب» - وهو حديث حسن لغيره-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ادّهن) - بالتشديد على «افتعل» : تطلّى بالدّهن، أي: إذا أراد أن يدّهن- (صبّ) الدّهن (في راحته) ؛ أي: بطن كفّه (اليسرى) ، ثم أخذ الدهن باليمنى ودهن، (فبدأ بحاجبيه) فدهنهما أوّلا، (ثمّ عينيه ثمّ رأسه) ؛ أي: ثم عنفقته؛ ثم عارضيه، ثم بقيّة لحيته. انتهى «حفني» .
قال العزيزي: وفي رواية: كان إذا دهن لحيته بدأ بالعنفقة، وقال المناوي:
وفي رواية الطبراني؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان إذا دهن لحيته بدأ بالعنفقة.
(و) أخرج السبعة: أحمد، والبخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذي في «جامعه» ، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» ببعض اختلاف في اللفظ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ) - وفي رواية لمسلم و «الشمائل» : ليحبّ- (التّيامن) - ولفظ رواية مسلم: التّيمّن، أي: الابتداء في الأفعال باليد اليمنى والرجل اليمنى والجانب الأيمن، وكلّ ما كان من باب التكريم؛ لأنّ اليمين مشتقة من اليمن؛ وهو البركة؛ وهو صلى الله عليه وسلم كان يحبّ الفأل الحسن، وأصحاب اليمين أهل الجنة، فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود ممدوح بيانا وشرعا؛ دنيا وآخرة، والشمال على النقيض، وقد شرف الله تعالى أهل الجنة بنسبتهم إليها، كما دمّ أهل النار بنسبتهم إلى الشمال؛ فقال (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ
في طهوره إذا تطهّر، وفي ترجّله إذا ترجّل، وفي انتعاله إذا انتعل، وفي شأنه كلّه.
الْيَمِينِ) (91)[الواقعة] وعكس في أصحاب الشمال!! زاد البخاري في روايته:
ما استطاع، فنبّه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع.
(في طهوره) - بضمّ أوّله؛ أو فتحه: روايتان مسموعتان، ورواية الضمّ لا تحتاج إلى تقدير، لأن الطّهور- بالضم- هو الفعل، ورواية الفتح تحتاج إلى تقدير مضاف: أي في استعماله، لأن الطّهور- بالفتح-: ما يتطهّر به (إذا تطهّر) ؛ أي: وقت اشتغاله بالطهارة، وهي أعمّ من الوضوء والغسل.
وإنّما قال: إذا تطهّر!! ليدلّ على تكرّر المحبّة بتكرر الطهارة، كما في قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا)[6/ المائدة] .
وقوله (وفي ترجّله) - بضم الجيم المشددة- أي: تمشيط شعر رأسه ولحيته، وفي معناه الادّهان (إذا ترجّل) ؛ أي: وقت إيجاد هذا الفعل، أي: ويحبّ التيامن في ترجّله وقت اشتغاله بالترجّل، فإذا أراد أن يدهن أو يمشط أحبّ أن يبدأ بالجهة اليمنى من الرأس أو اللحية.
(وفي انتعاله) ؛ أي: لبس نعله (إذا انتعل) ؛ أي: وقت إرادة لبس النعل، وفيه احتراز من حال الاختلاع، فإنه يبتدىء باليسار، أي: ويحبّ التّيامن في انتعاله وقت اشتغاله بالانتعال، فإذا أراد لبس النعل أحبّ أن يبدأ بالرجل اليمنى.
(و) يحبّ التيامن (في شأنه) - أي: في حاله- (كلّه) يعني: في جميع حالاته، وهذا عطف عامّ على خاصّ، لكن ليس على عمومه، بل مخصوص بما كان من باب التكريم، وأما ما كان من باب الإهانة!! فيستحبّ فيه التياسر.
ولذلك قال النووي: قاعدة الشرع المستمرّة استحباب البداءة باليمين في كلّ ما كان من باب التكريم والتشريف؛ كلبس الثوب والسراويل والخفّ والانتعال، ودخول المسجد والسواك، وتقليم الأظفار وقصّ الشارب، وترجيل الشعر ونتف الإبط، وحلق الرأس والاكتحال، والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة،
وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى.
والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة واستلام الحجر الأسود، وندب الصلاة عن يمين الإمام؛ وفي ميمنة المسجد، وغير ذلك مما هو في معناه يستحبّ التيامن فيه.
فأما ما كان بضدّه مثل: دخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط والاستنجاء، وخلع الثوب والسراويل والخفّ، وأخذ النعلين
…
وما أشبه ذلك!! فيستحبّ التياسر فيه. انتهى؛ نقله جسّوس مع زيادة من غيره.
ومما لا يخفى أن التّيامن في فعل بين أجزائه تقدّم وتأخّر، فلا تيامن في نحو غسل الوجه ومسح الأذنين لغير الأقطع، والله أعلم.
(و) أخرج أبو داود في «سننه» ، وغيره بالإسناد الصحيح- كما قاله النووي في «الأذكار» - عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، (وكانت يده اليسرى لخلائه) ؛ أي: للاستنجاء، ويمكن أن يؤخذ من الخبر تقديم الرجل اليسرى؛ أو بدلها عند دخول؛ أو وصول الخلاء أو محلّ قضاء الحاجة من الفضاء، بأن يراد باليسرى ما يشمل اليد والرجل؛ من استعمال المشترك في معنييه، أو من عموم المجاز.
وقوله (وما كان من أذى) ؛ أي: من النوع الذي يعدّ بالنسبة لسائر الناس أذى، من المخاط والبصاق والدم ونحوه؛ فلإستقذار جنسه من باقي الناس جعل له صلى الله عليه وسلم اليسرى، وأما بالنسبة إلى الحاصل منه صلى الله عليه وسلم؛ فلا أذى، ولذا كانوا يدلكون به وجوههم ويسارعون إليه، وقد شرب ابن الزّبير دم حجامته، ومصّ مالك بن سنان دمه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشربت أمّ أيمن بوله، وهذا دليل على فقد الأذى منه، إذ يحرم على الإنسان تناول كلّ مؤذ للبدن، ومنه الريق بعد انفصاله من معدنه؛ لا فيه، فلا منع منه من حليلة «1» .
(1) زوجة أو أمة.
وإذا نام واضطجع.. اضطجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة.
وكان صلى الله عليه وسلم يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه، وشماله لما سوى ذلك.
وعن عائشة
…
وعدلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن قولها (من مستقذر) إلى ما عبّرت به!! لما في لفظ الاستقذار من البعد عن أن ينسب إليه صلى الله عليه وسلم، فليس من مستقذر أصلا.
قال العلماء: من استقذر شيئا مما أضيف إليه صلى الله عليه وسلم من الأحوال والأفعال؛ فهو كافر. انتهى شرح «الأذكار النووية» .
(و) قال الإمام النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» : و (إذا نام) صلى الله عليه وسلم (واضطجع اضطجع على جنبه الأيمن) - تشريفا لجانب اليمين حال كونه- (مستقبل القبلة.) في اضطجاعه.
(و) أخرج الإمام أحمد؛ عن حفصة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل يمينه) - أي: يده اليمنى- (لأكله وشربه ووضوئه) يحتمل أن يكون المراد: وأخذ ماء وضوئه. زاد في رواية: وصلاته، (وثيابه) يعني: للبس ثيابه؛ أو تناولها (وأخذه وعطائه) مما لا دناءة فيه.
(و) كان يجعل (شماله لما سوى ذلك) مما ليس من باب التكريم.
ورواه الإمام أحمد أيضا؛ عن حفصة أمّ المؤمنين أيضا بلفظ: كانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك. ورواه عنها أيضا البيهقيّ، قال ابن محمود شارح «سنن أبي داود» وهو حسن؛ لا صحيح، انتهى (مناوي) .
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين بنت أبي بكر الصدّيقة بنت الصّديق رضي الله تعالى عنهما.
رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أرجّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض.
أمّها أمّ رومان- بضم الراء وسكون الواو على المشهور-، وهي أم عائشة وعبد الرحمن بن أبي بكر، أسلمت قبل الهجرة، وماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد قصة الإفك، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها رضي الله تعالى عنها. وكنية عائشة «أم عبد الله» كنّاها النبي صلى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأسلمت صغيرة بعد ثمانية عشر إنسانا ممّن أسلم، وتزوّجها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بسنتين؛ وهي بنت ستّ سنين، وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة بعد منصرفه من بدر؛ في شوال سنة: اثنتين؛ وهي بنت تسع سنين.
وهي من أكثر الصحابة رواية، روي لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث؛ اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثا، وانفرد البخاريّ بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بثمانية وستين.
روى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين، وفضائلها ومناقبها مشهورة معروفة.
وتوفيت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة: سبع وخمسين، وصلّى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وأمرت أن تدفن بالبقيع ليلا؛ فدفنت من ليلتها بعد الوتر، واجتمع على جنازتها أهل المدينة وأهل العوالي، وقالوا: لم نر ليلة أكثر ناسا منها (رضي الله تعالى عنها) ، وعن والديها وجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم وجمعنا بهم في مستقرّ رحمته. آمين.
(قالت: كنت أرجّل) - بضم الهمزة وفتح الراء وتشديد الجيم المكسورة؛ أي: أسرّح وأحسّن- (رأس رسول الله) - أي: شعر رأسه- صلى الله عليه وسلم - فهو من قبيل إطلاق اسم المحل وإرادة الحال، أو على تقدير مضاف، ويؤخذ من هذا ندب تسريح شعر الرأس، وقيس به اللحية، وبه صرّح في خبر ضعيف- (وأنا حائض) جملة حالية، ولا يقال «حائضة» إلّا في شذوذ؛ لأنّ علامة التأنيث يؤتى بها للفرق
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترجّل غبّا؛ أي: حينا بعد حين. وكان شيبه صلى الله عليه وسلم في الرّأس واللّحية شيئا قليلا، نحو سبع عشرة شعرة.
بين المذكّر والمؤنّث عند خوف اللّبس، وهو مأمون هنا لاختصاص الحيض بالأنثى؛ فلا حاجة إلى علامة التأنيث الفارقة، قال الناظم:
وما من الألفاظ بالأنثى يخصّ
…
عن تاء استغنى لأنّ اللّفظ نصّ
وفيه دليل على طهارة يدها وسائر بدنها؛ ما لم يصبه دم من بدنها؛ وهو إجماع، وفيه دليل على عدم كراهة مخالطتها، وحلّ استخدام الزوجة برضاها في الترجيل ونحوه، وأنه ليس فيه نقص؛ ولا هتك حرمة؛ ولا إضرار بها، وأنه ينبغي للزوجة تولّي خدمة زوجها بنفسها، والله أعلم.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترجّل) - أي يتمشّط- (غبّا) ؛ بغين معجمة مكسورة وموحدة مشددة؛ أصله: ورود الإبل الماء يوما وتركه يوما، ثم استعمل في فعل الشيء حينا وتركه حينا، كما قال (أي: حينا بعد حين) . والمراد: أنه كانت عادته صلى الله عليه وسلم أنه لا يبالغ في الترجّل، بل يفعله يوما ويتركه يوما، ولا يواظب عليه، لأن مواظبته تشعر بشدّة الإمعان في الزينة والترفّه؛ وذلك شأن النساء، ولهذا قال ابن العربي: موالاته تصنّع، وتركه تدنّس، وإغبابه سنة. انتهى.
(و) قال العارف الشعراني في «كشف الغمة» : (كان شيبه صلى الله عليه وسلم في الرّأس واللّحية) - أراد بها ما قابل الرأس؛ فيشمل العنفقة والصّدغين- (شيئا قليلا؛ نحو سبع عشرة شعرة) . رواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من طريق حماد بن سلمة؛ عن ثابت؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قيل له: هل كان شاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما شانه الله تعالى بالشيب، ما كان في رأسه إلا سبع عشرة- أو ثمان عشرة- شعرة، هكذا هو في نسخة «الدلائل» ، وفي لفظ له عند البيهقي: ما كان في رأسه ولحيته إلا سبع عشرة؛ أو ثمان عشرة شعرة.
وقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله؛ قد شبت؟! قال:
«شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشّمس كوّرت» ؛
…
وعن أنس أيضا: ما عدّت في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء. رواه الترمذي وغيره.
وروى البخاري من طريق الليث؛ عن أنس: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. ورواه البخاري ومسلم؛ عن أنس من طريق مالك عن ربيعة. وروى الترمذي في «الشمائل» من حديث ابن عمر: إنما كان شيبه صلى الله عليه وسلم نحوا من عشرين شعرة بيضاء.
ويجمع بين هذه الأخبار بأنه اختلف فيها لاختلاف الأوقات، وبأن رواية الأربع عشرة إخبار عن العدّ، ورواية السبع عشرة إخبار عن الواقع، فهو لم يعدّ إلا أربع عشرة، وأما في الواقع فكان سبع عشرة؛ أو ثمان عشرة.
ونفي الشيب في رواية أنس؛ المراد به نفي كثرته لا أصله!!.
وسبب قلّة شيبه: أن النساء يكرهنه غالبا، ومن كره من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا كفر، وإنما كان الشيب شينا مع أنه نور ووقار؛ لأن فيه إزالة بهجة الشباب ورونقه، وإلحاقه بالشيوخ الذين يكون الشيب فيهم عيبا عند النساء.
(و) أخرج الترمذي في «الشّمائل» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
(قال أبو بكر) - الصدّيق- رضي الله عنه: يا رسول الله، قد شبت) - أي: قد ظهر فيك أثر الشيب والضعف، مع أن مزاجك اعتدلت فيه الطبائع، واعتدالها يستلزم عدم الشيب- (قال:«شيّبتني هود) - بالصرف، أي: سورة هود، وبترك الصرف على أنه علم على السورة، وهما روايتان، ولا ينافي ذلك حديث أنس أنه لم يبلغ الشيب، لأن مقصوده نفي احتياجه إلى الخضاب الذي سئل عنه، إذ الروايات الصحيحة صريحة في أن ظهور الشيب في رأسه ولحيته لم يبلغ مبلغا يحكم عليه بالشيب- (والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشّمس كوّرت» )
لاشتمال هذه السّور على بيان أحوال القيامة ممّا يوجب خوفه على أمّته صلى الله عليه وسلم.
زاد الطبراني: و «الحاقة» ، وزاد ابن مردويه: و «هل أتاك حديث الغاشية» ، وزاد ابن سعد: و «القارعة» ، و «سأل سائل» ، وفي رواية: و «اقتربت الساعة» .
وإسناد الشيب إلى السور المذكورة من قبيل الإسناد إلى السبب؛ فيكون مجازا عقليا، على حدّ قولهم: أنبت الربيع البقل، لأن المؤثّر حقيقة هو الله تعالى، وإنما كانت سببا في الشيب!! (لاشتمال هذه السّور على بيان أحوال) - السعداء والأشقياء، وأحوال- (القيامة) وما تتعسّر؛ بل تتعذّر غايته على غير النفوس القدسية، وهو الأمر بالاستقامة كما أمر، الذي لا يمكن لأمثالنا وغير ذلك (ممّا يوجب) - استيلاء الخوف؛ لا سيما- (خوفه على أمّته صلى الله عليه وسلم . لعظيم رأفته بهم ورحمته، ودوام التفكّر فيما يصلحهم، وتتابع الغمّ فيما ينوبهم أو يصدر عنهم، واشتغال قلبه وبدنه وإعمال خاطره فيما فعل بالأمم الماضين، كما في بعض الروايات:«شيّبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي» ، وذلك كلّه يستلزم ضعف الحرارة الغريزية، وضعفها يسرع الشيب ويظهره قبل أوانه. قال المتنبي:
والهمّ يخترق الجسيم مخافة
…
ويشيب ناصية الصّبيّ ويخرم
لكن لما كان صلى الله عليه وسلم عنده من شرح الصدر وتزاحم أنوار اليقين على قلبه ما يسلّيه؛ لم يستول ذلك إلّا على قدر يسير من شعره الشريف؛ ليكون فيه مظهر الجلال والجمال ويستبين أنّ جماله غالب على جلاله، وإنّما قدّمت هود على بقية السور؛ لأنه أمر فيها بالثبات في موقف الاستقامة التي هي من أعلى المراتب، ولا يستطيع الترقّي إلى ذروة سنامها إلّا من شرّفه الله بخلع السلامة.
وقد أورد: أن ما اشتملت عليه هود من الأمر بالاستقامة مذكور في سورة الشورى، فلم أسند الشيب إليها دونها؟!
وأجيب: بأنه أول ما سمعه في هود، وبأن المأمور في سورة الشورى نبينا
.........
فقط، وفي سورة هود نبينا ومن تبعه من أمة الإجابة، فلما علم أنّهم لم يخرجوا من عهدة القيام بهذا الأمر الخطير كما يجب؛ اهتم بحالهم وملاحظة عاقبة أمرهم، فصار معتكفا في زوايا الهموم والغموم، ولا ريب أن تدبير تلك العظائم يظهر الغمّ والهمّ، ويظهر في صفحات وجنات الإنسان الضعف والسقم. انتهى «مناوي» .
يقول العبد الضعيف عبد الله بن سعيد اللحجي مقيّد هذا التعليق اللطيف: إني وقفت على مؤلّف خاصّ يسمى «فيض الجود على حديث: شيّبتني هود» منسوب للشيخ العلّامة المحقّق عزّ الدين بن علي بن عبد العزيز المكي الزمزمي الشافعي المولود سنة: - 900- تسعمائة- بتقديم المثناة على السين المهملة-، والمتوفّى سنة: - 963- ثلاث وستين وتسعمائة، أطال فيه ذيول الكلام، وذكر أن هذا الحديث أخرجه على اختلاف ألفاظه وطرقه خاتمة الحفّاظ شيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني في اختصاره كتاب «تخريج أحاديث الكشاف» للإمام أبي محمد الزيلعي، وأخرجه أيضا تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه «المقاصد الحسنة» ؛ وأورده أتمّ من ابن حجر رحمهم الله تعالى. آمين.
وحاصل ما استقرّ عليه رأي الزمزمي في هذه الرسالة: أنه ردّ القول بأن المراد من هود آية (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)[112/ هود] قال: ويحتاج بعد أن رددنا القول بأن المراد من سورة هود آية (فَاسْتَقِمْ)
[112/ هود] أن نبيّن المراد من الحديث!! قال:
وقد قدّمنا عن ابن عطية أنه إشارة إلى ما فيها مما حلّ بالأمم إلى آخره. قال: وهذا التأويل حسن في ذاته، لكنه لا يتأتّى في جميع السور الواردة من الطرق الصحيحة.
قال: ولم أر لغير ابن عطية من المفسّرين كلاما في ذلك!! قال:
فالصواب أن يحمل على أمر يوجد في جميع تلك السور، ولعله- والله أعلم- ذكر القيامة وأحوالها، فإنه موجود في جميع السور المذكورة في الروايات. أو يقال: المراد به ما هو أعمّ من ذلك مما يقتضي الخوف والفزع؛ مما هو موجود في جميع السور أو بعضها؛ كالأمر بالاستقامة.
وسئل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
…
قال الزمزمي: ولما دخلت مدينة زبيد بعد تأليف هذا الجزء بسنين؛ وذلك عام 958- تسعمائة وثمان وخمسين، أفادني عالم تلك البلاد خاتمة المحقّقين؛ الفقيه:
عبد الرحمن بن زياد- أدام الله النفع بعلومه-: أن الإمام الغزالي- رحمه الله تعالى- ذكر في «الإحياء» أن المشيّب له صلى الله عليه وسلم ما في سورة هود من ذكر الإبعاد، وأوقفني على الكتاب المذكور، فأحببت أن ألحق ههنا ما رأيته فيه بلفظه المسطور:
قال الغزالي- رحمه الله تعالى- فيما ترجم له بقوله:
القول في علامة محبّة العبد لله تعالى ما صورته: ولخصوص المحبّين مخاوف في مقام المحبّة ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشدّ من بعض، فأوّلها خوف الإعراض، وأشدّ منه خوف الحجاب، وأشدّ منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيّب سيّد المحبّين؛ إذ سمع قوله تعالى (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)(68)[هود] ، (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(95)[هود] . وإنما تعظم هيبة البعد وخوفه في قلب من ألف القرب وذاقه وتنعّم به، فحديث البعد في حق المبعدين شيّب سماعه أهل القرب و [هم] في القرب. انتهى بحروفه.
وهو داخل فيما قرّرناه ثانيا، والحصر فيه غير مضرّ، لكن لا دليل على الحصر فيه، اللهم إلا أن يكون بإطلاع من الله لحجّة الإسلام عليه وتنبيه، وحسب الحجّة هذه الحجّة «1» ! والله أعلم. انتهى كلام الزمزمي رحمه الله تعالى.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» قال: حدثنا سفيان بن وكيع، قال:
حدثنا أبي؛ عن شريك؛ عن عثمان بن موهب قال:
(سئل أبو هريرة) عبد الرحمن بن صخر الأزدي الدوسي (رضي الله تعالى عنه: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) - أي: هل لوّن شعره بحنّاء أو نحوه- (قال:
(1) الأولى: حجة الإسلام، والثانية: حجة البينة والبرهان.
نعم.
وعن عبد الله بن محمّد بن عقيل قال: رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك مخضوبا.
وفي «الصّحيحين» من طرق
…
نعم) - أي: قال أبو هريرة: نعم- يعني-: خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن «نعم» لتقرير ما قبلها من نفي أو إثبات، وما هنا من الثاني.
ويوافق هذا الحديث ما في «الصحيحين» عن ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم:
يصبغ بالصفرة. وهو عند ابن سعد وغيره أيضا؛ عن ابن عمر بلفظ: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، فأنا أحب أن أصبغ بها، وغيرها من الأحاديث الدالّة على الخضاب، وقد تقدّمت الإشارة إلى الجمع بينها وبين الأخبار الواردة؛ بأنه صلى الله عليه وسلم لم يغيّر شيبه: بأنه صلى الله عليه وسلم خضب في وقت وترك الخضاب في معظم الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وسيأتي كلام النووي في ذلك.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن) أبي محمد (عبد الله بن محمّد بن عقيل) ك «دليل» بمهملتين بينهما مثناة- ابن أبي طالب الهاشمي المدني، وأمّ عبد الله زينب بنت علي، وعبد الله هذا قال فيه أبو حاتم وعدّة: ليّن الحديث، وقال ابن خزيمة: لا أحتجّ به، لكن كان أحمد وابن راهويه يحتجّان به، روى عن ابن عمر وجابر وعدّة، وعنه معمر وغيره، مات سنة: - 145- خمس وأربعين ومائة من الهجرة، خرّج له البخاري في «التاريخ» ، وأبو داود وابن ماجه (قال:
رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك مخضوبا) يمكن كون الخضب من أنس، فلا ينافي رواية أنس الأخرى أنه لم يبلغ شعره الخضاب!! على أن رواية أنس هذه قد حكم جمع بشذوذها.
(و) بيّنوه، فلا يقاوم ما (في «الصّحيحين» ) عنه (من طرق) صحيحة
كثيرة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يخضب، ولم يبلغ شيبه أوان الخضاب، وإنّما خضب من كان عنده شيء من شعره بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ليكون أبقى له.
وفي «الصّحيحين» أيضا و «سنن أبي داوود» : عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:
…
(كثيرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يخضب، ولم يبلغ شيبه أوان الخضاب) .
(و) قد جاء أنه (إنّما خضب من كان عنده شيء من شعره بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ ليكون أبقى له) كما رواه مالك والدارقطني عن أبي هريرة، وعلى تقدير صحّة رواية أنس هذه؛ فقد جمع بأن الشعر لما تغيّر بكثرة الطيب سمّاه مخضوبا، وبأنه أراد بالنفي أكثر أحواله، وبالإثبات- إن صح عنه- أقلّها.
(وفي «الصّحيحين» أيضا) ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصّفرة. (و) في ( «سنن) الإمام الحافظ (أبي داود» ) سليمان بن الأشعث السجستاني، روى عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، وأبي بكر وعثمان «ابني أبي شيبة» ، وأحمد بن صالح، وأحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وقتيبة بن سعيد؛ وخلائق. وروى عنه الترمذي، والنسائي، وأبو عوانة: يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني، وابن الأعرابي، وابن داسة التمّار واللؤلؤي؛ وهما اللذان يرويان عنه كتاب «السنن» .
واتفق العلماء على الثناء على أبي داود ووصفه بالحفظ التام، والعلم الوافر، والإتقان والورع والدين، والفهم الثاقب في الحديث وغيره، وكانت ولادته سنة:
202-
مائتين واثنتين، وتوفي بالبصرة لأربع عشرة بقيت من شوال سنة: - 275- خمس وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى.
(عن) أبي عبد الرحمن عبد الله (ابن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما) ؛ القرشي العدوي المدني، الصحابي الزاهد، أمّه وأمّ أخته حفصة: زينب بنت مظعون بن حبيب الجمحي.
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصفّر لحيته بالورس والزّعفران.
وعن قتادة
…
أسلم مع أبيه قبل بلوغه، وهاجر قبل أبيه، وأجمعوا على أنه لم يشهد بدرا لصغره، وقيل: شهد أحدا؛ وقيل: لم يشهدها، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد غزوة مؤتة، واليرموك، وفتح مصر وإفريقية، وكان شديد الاتّباع لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم: ألف حديث وستمائة حديث. وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على: مائة وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، وانفرد مسلم بأحد وثلاثين، روى عنه أولاده الأربعة: سالم وحمزة وعبد الرحمن وبلال؛ وخلائق لا يحصون من كبار التابعين وغيرهم.
ومناقبه كثيرة مشهورة، بل قلّ نظيره في المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء من الأقوال والأفعال، وفي الزهادة في الدنيا ومقاصدها والتطلّع إلى الرئاسة وغيرها، وكان ابن عمر كثير الصدقة، فربما تصدّق في المجلس الواحد بثلاثين ألفا.
وكان ابن عمر يسرد الصوم، وهو أحد الصحابة الساردين للصوم، منهم:
عمر، وابنه، وأبو طلحة، وحمزة بن عمرو، وعائشة.
وهو أحد السبعة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، وأعتق ألف رقبة، وحجّ ستين حجّة، واعتمر ألف عمرة، وحمل على ألف فرس في سبيل الله، وأفتى في الإسلام ستين سنة، وتوفي بمكّة سنة: ثلاث وسبعين؛ وعمره ستّ وثمانون سنة، ودفن ب «ذي طوى» مقبرة المهاجرين، ومناقبه وأحواله كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه.
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصفّر لحيته بالورس) - وهو: نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به- (والزّعفران) معروف.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» قال: حدثنا محمد بن بشّار، قال:
حدثنا أبو داود، قال: حدّثنا همام؛ (عن) أبي الخطّاب (قتادة) - كسعادة- ابن
قال: قلت لأنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنّما كان شيئا في صدغيه،
…
دعامة- بكسر الدال المهملة- ابن قتادة ابن عزيز- بفتح العين وبالزاي المكررة- ابن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن سدوس السدوسي البصري التابعي.
ولد أعمى، وسمع أنس بن مالك وابن المسيّب وغيرهم من التابعين.
روى عنه جماعة من التابعين؛ منهم: سليمان التيمي، وحميد الطويل، والأعمش، وأيوب، وخلائق من تابعي التابعين؛ منهم: مطر الورّاق وجرير بن حازم وشعبة والأوزاعي وغيرهم،
وأجمعوا على جلالته وتوثيقه وحفظه وإتقانه وفضله، وكان أحفظ أهل البصرة؛ لا يسمع شيئا إلا حفظه. توفي سنة: - 117- سبع عشرة ومائة، وقيل: ثمان عشرة ومائة؛ وهو ابن ست وخمسين، وقيل: خمس وخمسين رحمه الله تعالى.
(قال: قلت لأنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) - أي: هل غيّر بياض رأسه ولحيته ولوّنه بالحنّاء ونحوه؛ لأن الخضب كالخضاب بمعنى: تلوين الشعر بحمرة- (قال: لم يبلغ ذلك) . أي: قال أنس: لم يبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم حدّ الخضاب الذي في ضمن «هل خضب» ، فالضمير في «يبلغ» راجع للنبي صلى الله عليه وسلم كما قاله بعض الشّرّاح- وهو الظاهر، وجعله بعضهم راجعا للشعر المفهوم من السياق.
وأتى باسم الإشارة [ذلك] الذي للبعيد!! ليشير إلى بعد وقت الخضاب.
(إنّما كان) - أي: شيبه المفهوم من السياق- (شيئا) أي: قليلا، أي:
بياضا يسيرا، وفي بعض النسخ «شيبا» بدل «شيئا» (في صدغيه) - بضم الصاد وإسكان الدال المهملتين، وقد يقال بالسين؛ تثنية: صدغ؛ بالضم- وهو ما بين لحاظ العين إلى أصل الأذن، ويسمى الشعر الذي تدلّى على هذا الموضع «صدغا» أيضا، ذكره في «المصباح» .
ولكن أبو بكر رضي الله تعالى عنه خضب بالحنّاء والكتم.
و (الكتم) :
…
قال القسطلّاني: وهو المراد هنا، وما ذكر في هذه الرواية «من أنّ البياض لم يكن إلا في صدغيه» ؛ مغاير لما في البخاري من «أنّ البياض كان في عنفقته؛ وهي ما بين الذّقن والشّفة» !! ولعل الحصر في هذه الرواية إضافي، فلا ينافي ما في البخاري.
وأما قول الحافظ ابن حجر: ووجه الجمع: ما في مسلم؛ عن أنس: كان في لحيته شعرات بيض، لم ير من الشيب إلا قليل، ولو شئت أن أعدّ شمطات كنّ في رأسه لفعلت، ولم يخضب؛ إنما كان البياض في عنفقته وفي الصّدغين وفي الرأس؛ نبذ متفرقة. انتهى.
فلم يظهر منه وجه الجمع كما قاله القسطلّاني في «شرح الشمائل» .
وقوله: «لم يخضب» قاله بحسب علمه، لما مرّ عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، (ولكن أبو بكر) الصدّيق (رضي الله تعالى عنه خضب) وجه الاستدراك: مناسبته له صلى الله عليه وسلم وقربه منه سنّا (بالحنّاء) - بكسر المهملة وتشديد النون والمدّ ك «قثّاء» معروف- (والكتم) بفتحتين، والتاء المثناة مخففة-: نبت فيه حمرة، يخلط بالوسمة ويختضب به لأجل السواد، والوسمة كما في «المصباح» -: نبت يختضب بورقه.
ويشبه؛ كما في «النهاية» أن يكون معنى الحديث: أنه خضب بكل منهما منفردا عن الآخر، لأن الخضاب بهما معا يجعل الشعر أسود، وقد صحّ النهي عن السواد، فالمراد أنه خضب بالحنّاء تارة، وبالكتم تارة أخرى.
لكن قال القسطلاني: الكتم الصرف يوجب سوادا مائلا إلى الحمرة، والحنّاء الصرف يوجب الحمرة، فاستعمالهما معا يوجب بين السواد والحمرة. انتهى.
وعليه فلا مانع من الخضاب بهما معا، قال المصنف:(والكتم) - بفتح الكاف وفتح المثناة فوق مخففة، وأبو عبيدة معمر بن المثنى يشدّد التاء،
نبت فيه حمرة.
وقال النّوويّ: المختار أنّه صبغه في وقت، وتركه في معظم..
والمشهور التخفيف-: (نبت فيه حمرة) يخلط مع الوسمة للخضاب، وفي بعض كتب اللغة: هو ورق يشبه ورق الآس، يصبغ به، وفي كتب الطب: الكتم من نبات الجبال؛ ورقه كورق الآس؛ يخضب به مدقوقا، وله ثمر كقدر الفلفل، ويسودّ إذا نضج، ويعتصر منه دهن يستصبح به في البوادي، وقيل غير ذلك.
وقد اختلف العلماء؛ هل خضب عليه الصلاة والسلام أم لا؟ ومثار الخلاف اختلاف الرواية في ذلك، فأثبته ابن عمر وأبو هريرة وأبو رمثة؛ قال:«أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحنّاء» . رواه الحاكم وأصحاب «السنن» ، وأنكره أنس كما تقدّم عنه.
وقال القاضي عياض: منعه الأكثرون لحديث أنس، وهو مذهب مالك؛ فوافق أنسا على الإنكار، وتأوّل حديث ابن عمر بحمله على الثياب؛ لا الشعر، وأحاديث غيره إن صحّت على أنّ تلوّنه من الطيب؛ لا من الصبغ، لما في البخاري وغيره. قال ربيعة: فرأيت شعرا من شعره صلى الله عليه وسلم؛ فإذا هو أحمر، فسألت فقيل:
احمرّ من الطيب.
قال الحافظ ابن حجر: لم أعرف المسؤول المجيب بذلك!! إلا أنّ الحاكم روى أنّ عمر بن عبد العزيز قال لأنس: هل خضب النبي صلى الله عليه وسلم فإني رأيت شعرا من شعره قد لوّن؟ فقال: إنما هذا الذي لوّن من الطيب الذي كان يطيّب به شعره فهو الذي غيّر لونه، فيحتمل أن يكون ربيعة سأل أنسا عن ذلك فأجابه، ووقع في «رجال مالك» للدارقطني و «الغرائب» له عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب من كان عنده شيء من شعره ليكون أبقى له- كما مر- فإن ثبت هذا! استقام إنكار أنس، ويقبل ما أثبته سواه من التأويل. انتهى.
(وقال) الإمام محيي الدين (النّوويّ) رحمه الله تعالى: (المختار أنّه صبغه) أي: الشعر- حقيقة، لأن التأويل خلاف الأصل (في وقت وتركه في معظم
الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وهو صادق.
الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى؛ وهو صادق.) قال: وهذا التأويل كالمتعيّن؛ لحديث ابن عمر في «الصحيحين» - أي المتقدم قريبا-: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، قال: ولا يمكن تركه لصحته، ولا تأويل له. انتهى كلام النووي.
قال الزرقاني: وفيه نظر؛ إذ هو في نفسه محتمل للثياب والشعر، ثم قد ورد ما يعيّن الأول؛ وهو ما في «سنن أبي داود» ؛ عن ابن عمر نفسه: كان يصبغ صلى الله عليه وسلم بالورس والزعفران حتى عمامته، ولذا رجّحه عياض. انتهى كلام الزرقاني.
قال المناوي في «شرح الشمائل» بعد ذكر كلام النووي: وللمخالف أن يقول: تركه في معظم الأوقات وفعله على الندور؛ فيه شعور بأنه إنما فعله أحيانا بيانا للجواز؛ فقصاراه الإباحة، فدلالته على السّنّيّة من أين!؟ انتهى.
أما الإمام العلّامة الحافظ عبد الرحمن بن علي الدّيبع اليمني الزبيدي رحمه الله تعالى، فقد وافق القاضي عياضا على الإنكار، ولمّا بلغه عن بعض فضلاء عصره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخضب لحيته أنكر ذلك عليه، وكتب هذه الأبيات:
والله ما وقّر المختار من مضر
…
من ادّعى أنّه للشّيب قد خضبا
لم يبلغ الخضب فيما قاله أنس
…
وهو الخبير به من دون من صحبا
إذ كان خادمه دهرا يلازمه
…
ليلا وصبحا مقيما عنده حقبا
قالوا له: احمرّ منه الشّعر؟ قال: نعم
…
من كثرة الطّيب تلك الحمرة اكتسبا
ما شاب شيبا إلى فعل الخضاب دعا
…
بل كان يدخل تحت الحصر لو حسبا
إذا تدهّن وارى الدّهن ذاك فلم
…
يرى له أثرا من رام أو طلبا
ومن يقل «قد أرتني أمّ سلمة مخ
…
ضوبا من الشّعر» أي من طيبه انخضبا
إذ لم يقل إنّها قالت له خضب ال
…
نّبيّ هذا مقالي الحقّ قد وجبا
ومن روى صبغه بالصّفرة اعتبروا
…
ما قال في ثوبه أو نعله أدبا
لا في الشّعور وقس ما قيل فيه على
…
ما قيل إنّ رسول الله قد كتبا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشّعر مخالفة للأعاجم. وكان صلى الله عليه وسلم يتنوّر في كلّ شهر، ويقلّم أظفاره في كلّ خمسة عشر يوما.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا اطّلى
…
(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ؛ عن عتبة بن عبد قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشّعر) ؛ أي: بتغيير لونه الأبيض بالخضاب بغير سواد؛ كحنّاء، أما تغييره بالسواد! فحرام لغير الجهاد، ثم علّل الأمر بتغيير الشعر بقوله:
(مخالفة للأعاجم) ، فإنّهم لا يصبغون شعورهم، وهذا علّة للتغيير، والأعاجم؛ جمع: أعجم، أو أعجمي: وهم خلاف العرب.
(و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» - وهو حديث ضعيف-؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ قال (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنوّر) - أي: يستعمل النّورة لإزالة الشعر- (في كلّ شهر) مرّة. قال السيوطيّ: والتّنوّر مباح؛ لا مندوب، لعدم ثبوت الأمر به، وفعله؛ وإن حمل على الندب لكن هذا من العاديات! فهو لبيان الجواز، ويحتمل ندبه لما فيه من الامتثال، والكلام إذا لم يقصد الاتباع، وإلّا! كان سنّة. انتهى «نقله العزيزي عن المناوي» .
(ويقلّم أظفاره) - يعني: يزيلها بقلم؛ أو غيره فيما يظهر- (في كلّ خمسة عشر يوما) مرّة. قال الغزالي: قيل: إنّ النورة في كلّ شهر مرّة تطفىء الحرارة، وتنقي اللون، وتزيد في الجماع، وورد أنّه كان يقلّمها يوم الجمعة، وفي رواية:
كلّ يوم جمعة، ولعلّه كان يفعل ذلك تارة كلّ أسبوع، وتارة كل أسبوعين!! بحسب الحاجة. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج ابن سعد؛ عن إبراهيم، وعن حبيب بن أبي ثابت مرسلا؛ وسنده صحيح:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطّلى) أصله: اتطلى- قلبت التاء طاء وأدغمت- يقال: طليته بالنّورة أو غيرها: لطّخته، واطّليت- بترك المفعول- إذا
بالنّورة.. ولي عانته وفرجه بيده.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا اطّلى.. بدأ بعورته فطلاها بالنّورة، وسائر جسده أهله.
فعل ذلك بنفسه (بالنّورة) المعروفة؛ وهي: زرنيخ وجصّ (ولي عانته) وهي:
اسم للشعر النابت فوق ذكر الرجل وفرج المرأة؛ وهو قول ابن الأعرابي وابن السّكّيت، وقال الأزهري وجماعة: هي منبت الشعر على الفرجين؛ لا الشعر نفسه! واسمه الإسب- بكسر الهمزة وسكون المهملة-. انتهى زرقاني على «المواهب» .
(وفرجه بيده) الشريفة، ولا يمكّن أحدا من أهله من مباشرتها لشدّة حيائه، وفي رواية بدل «عانته» :«مغابنه» - بغين معجمة- جمع مغبن؛ من: غبن الثوب إذا أثناه، وهي: بواطن الأفخاذ وطيّات الجلد. قال ابن حجر: وهذا الحديث يقابله حديث أنس رضي الله تعالى عنه: كان لا يتنوّر، وكان إذا كثر شعره حلقه. وسنده ضعيف جدا. انتهى.
قال المناوي: وهذا الحديث- أي: المرويّ في المتن- رواه ابن ماجه والبيهقي- إلّا «فرجه» - عن أمّ سلمة. قال في «الفتح» : ورجاله ثقات، لكن أعلّ بالإرسال، وأنكر أحمد صحّته، وروى الخرائطيّ؛ عن أمّ سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينوّره الرجل فإذا بلغ مراقه تولّى هو ذلك. انتهى.
(و) أخرج ابن ماجه؛ عن أم سلمة بإسناد جيد، ورواه عنها البيهقي أيضا- قال في «المواهب» : ورجاله ثقات، لكن أعلّ بالإرسال قالت:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطّلى) بالنورة (بدأ بعورته) - أي: ما بين سرّته وركبته- (فطلاها بالنّورة) المعروفة بيد نفسه، (و) طلى (سائر) - أي: باقي- (جسده) من كل ما فيه شعر يحتاج لإزالته (أهله) بالرفع فاعل «طلى» ، أي: بعض أهله؛ أي زوجاته.
وإنما لم يمكّن بعض الزوجات من طلاء عورته؛ مع أنه يجوز للزوجة نظر عورة زوجها بإذنه لشدّة حيائه صلى الله عليه وسلم.
.........
فاستعمال النورة مباح؛ لا مكروه، وتوقف السيوطي في كونها سنة، قال:
لاحتياجه إلى ثبوت الأمر بها؛ كحلق العانة ونتف الإبط.
وفعله وإن كان دليلا على السنة؛ فقد يقال: هذا من الأمور العادية التي لا يدلّ فعله لها على سنة. وقد يقال: فعله لبيان الجواز ككلّ مباح. وقد يقال: إنها سنة، ومحلّه كلّه ما لم يقصد اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم في فعله، وإلا! فهو مأجور، آت بالسنة. انتهى.
قال: وأما خبر «كان لا يتنوّر» !! فضعيف لا يقاوم هذا الحديث القوي إسنادا، على أنّ هذا الحديث مثبت وذاك ناف، والقاعدة عند التعارض تقديم المثبت.
قال ابن القيّم: لم يدخل نبينا صلى الله عليه وسلم حماما قطّ. ويردّه ما رواه الخرائطيّ؛ عن أحمد بن إسحاق الورّاق عن سليمان بن ناشرة؛ عن محمد بن زياد الألهاني قال:
كان ثوبان مولى المصطفى صلى الله عليه وسلم جارا لي، وكان يدخل الحمام، فقلت: فأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدخل الحمام!!. فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام، وكان يتنوّر.
وأخرجه أيضا يعقوب بن سفيان في «تاريخه» ؛ عن سليمان بن سلمة الحمصي؛ عن بقية؛ عن سليمان بن ناشرة به.
وأخرجه ابن عساكر في «تاريخه» من طريقه.
قال ابن القيم: وقد ورد في النّورة عدّة أحاديث هذا أمثلها، يعني حديث أمّ سلمة الذي في المتن، قال: وأما خبر «كان لا يتنوّر، وكان إذا كثر شعره حلقه» !! فجزم بضعفه غير واحد. انتهى من «المناوي الكبير» .
وما قرّره من دخوله صلى الله عليه وسلم الحمام مخالف لما صرّح به ابن حجر وغيره أن العرب لم تعرف الحمام ببلادها إلّا بعد موته صلى الله عليه وسلم. فليحرر.
وكان صلى الله عليه وسلم يقلّم أظفاره ويقصّ شاربه يوم الجمعة، قبل أن يروح إلى الصّلاة.
(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ من حديث إبراهيم بن قدامة الجمحي عن الأغرّ، وكذا البزّار عنه؛ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلّم أظفاره ويقصّ شاربه يوم الجمعة) . قال الحفني:
أي اتفق أنه وقع ذلك يوم الجمعة، لا أنه يطلب تأخيره إلى يوم الجمعة أو الخميس، بل المدار على الحاجة إلى ذلك، ولم يثبت في تخصيص يوم بالقص شيء. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: المعتمد أنه يسنّ كيفما احتاج إليه، ولم يثبت في استحباب قصّ الظفر يوم الخميس حديث، ولا في كيفيته، ولا في تعيين يوم له، وما عزي لعلي من النظم باطل. انتهى: وهذا النظم المعزوّ لعليّ:
ابدأ بيمناك وبالخنصر
…
في قصّ أظفارك واستبصر
وكذا ما عزي لشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر من النظم باطل أيضا؛ كما قاله الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى، وهو قوله:
في قصّ ظفرك يوم السّبت آكلة
…
قال الحفني في حاشية «الجامع الصغير» : لكن صحّ عندنا- كما في الفقه- أنه يطلب البدء بسبابة اليمين. انتهى. قال في «المواهب» : والمراد مما يأخذه من الأظفار: إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر، وإنما استحبّ!! لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حدّ يمنع من وصول الماء فيما يجب غسله في الطهارة، ولا يصح الوضوء حينئذ. انتهى ملخصا مع الشرح.
(قبل أن يروح إلى الصلاة) قال المناوي: يعارضه خبر البيهقي؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: «المؤمن يوم الجمعة كهيئة المحرم؛ لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى تنقضي الصلاة» . وخبره؛ عن ابن عمر:
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن الشّعر والأظفار.
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان:
الشّعر، والظّفر، والدّم، والحيضة، والسّنّ، والعلقة، والمشيمة.
«المسلم يوم الجمعة محرم فإذا صلّى فقد حلّ» والجواب بأنّ هذين ضعيفان، وهذا الجواب لا ينجع؛ إذ خبرنا ضعيف أيضا، وروى الديلمي في «مسند الفردوس» بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:«من أراد أن يأمن الفقر وشكاية العين والبرص والجنون؛ فليقلّم أظفاره يوم الخميس بعد العصر، وليبدأ بخنصر يده اليمنى» . انتهى
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن الشّعر) - المبان بنحو قصّ أو حلق أو نتف من نحو رأس أو لحية- (والأظفار) المبانة بقصّ أو قطع أو غيرهما، لأن الآدمي محترم؛ فكذا أجزاؤه، فأمر بدفنها لئلا تتفرّق أجزاؤه، وقد يقع في النار أو غيرها من الأقذار، لكن ذلك الأمر على سبيل الندب؛ لا الوجوب!
(و) أخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» بدون سند؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان:
الشّعر، والظّفر، والدّم) - قال الحكيم الترمذي: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم، وقال لعبد الله بن الزبير: أخفه حيث لا يراك أحد، فلما برز شربه ورجع، فقال:
«ما صنعت» ؟ فقال: جعلته في أخفى مكان عن الناس. فقال: «شربته!؟» قال: نعم، قال له:«ويل للنّاس منك، وويل لك من النّاس» ، انتهى. أي:
للشدة التي حصلت له باختلاط دمه بدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقاتل الناس ويقاتلونه، وإن كان شرب دمه جائزا مطلوبا للتبرّك، إلّا أنه يحصل منه الشدة المترتّب عليها ما ذكر. انتهى. «حفني ومناوي» .
(والحيضة) - بكسر الحاء المهملة: خرقة الحيض- (والسّن، والعلقة، والمشيمة) وهي ما يكون فيه المولود حين نزوله من بطن أمه، وإنما يأمر بدفن هذه
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلّاق يحلقه، وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل.
السبعة!! لأنها من أجزاء الآدمي فتحترم كما تحترم جملته لما تقدّم.
(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ (عن أنس) بن مالك الصحابي الجليل خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (والحلّاق) معمر بن عبد الله- كما ذكره البخاري- وقيل: خراش بن أمية- بمعجمتين-، والصحيح الأول، فإنّ خراشا كان الحلّاق بالحديبية (يحلقه) - بكسر اللام- (وأطاف به أصحابه) - دار ما حوله- (فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل) تيمّنا وتبرّكا، وفي «الصحيحين» عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه صلى الله عليه وسلم لمّا حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره.
قال القسطلّاني: ولم يرو أنه صلى الله عليه وسلم حلق رأسه الشريف في غير نسك حج؛ أو عمرة فيما علمته، وبه جزم ابن القيّم؛ فقال: لم يحلق رأسه إلّا أربع مرات، قال العراقي في «نظم السيرة» :
يحلق رأسه لأجل النّسك
…
وربّما قصّره في نسك
وقد رووا لا توضع النّواصي
…
إلّا لأجل النّسك المحّاص
فتبقية الشعر في الرأس سنّة، ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية يباح له إزالته. انتهى.