الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الرّابع في صفة عرقه صلى الله عليه وسلم ورائحته الطّبيعيّة]
الفصل الرّابع في صفة عرقه صلى الله عليه وسلم ورائحته الطّبيعيّة روى مسلم
…
(الفصل الرابع) من الباب الثاني (في) - بيان ما ورد في (صفة عرقه) بفتح العين والراء- أي: رشح بدنه صلى الله عليه وسلم ؛ لونا وريحا وكثرة، (و) في صفة (رائحته الطّبيعيّة) من غير أن يمسّ طيبا.
(روى) الإمام الحافظ الحجّة؛ أبو الحسين (مسلم) بن الحجّاج بن مسلم القشيري؛- من بني قشير؛ قبيلة من العرب معروفة. النيسابوريّ.
إمام أهل الحديث، سمع قتيبة بن سعيد، والقعنبيّ، وأحمد ابن حنبل، وخلائق من الأئمة، وروى عنه أبو عيسى الترمذي، وإبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد وهو رواية «صحيح مسلم» -، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وخلائق.
وأجمعوا على جلالته وإمامته وعلوّ مرتبته وحذقه في هذه الصنعة، وتقدّمه فيها، وتضلّعه منها.
ومن أكبر الدلائل على جلالته وإمامته وورعه وحذقه وقعوده في علوم الحديث واضطلاعه منها وتفنّنه فيها كتابه «الصحيح» ، الذي لم يوجد في كتاب قبله ولا بعده من حسن الترتيب وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة ولا نقصان، ومع هذا ف «صحيح البخاري» أصحّ وأكثر فوائد، هذا هو مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح المختار.
عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير العرق. وكان عرقه صلى الله عليه وسلم في وجهه كاللّؤلؤ، وأطيب من المسك الأذفر.
وكانت وفاته عشية الأحد، ودفن يوم الإثنين لخمس بقين من رجب سنة:
261-
إحدى وستين ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين سنة رضي الله تعالى عنه ورحمه رحمة الأبرار. آمين.
(عن أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه؛ أنّه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير العرق) ؛ وهو قطعة من حديث سيأتي.
(و) أخرج أبو نعيم وغيره؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان عرقه صلى الله عليه وسلم في وجهه كاللّؤلؤ) في الصفاء والبياض، واللؤلؤ- بهمز أوله وآخره، وبتركهما، وبهمز الأول دون الثاني وعكسه-.
وفي مسلم؛ عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأنّ عرقه اللؤلؤ
…
الحديث.
وروى البيهقيّ؛ من حديث عائشة: كان يخصف نعله؛ وكنت أغزل، فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتلألأ نورا.
وروى البيهقي؛ من حديث علي: كان عرقه اللؤلؤ.
(وأطيب من المسك الأذفر) - بذال معجمة- أي: شديد الرائحة ويقع على الكريه، ويفرّق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به، وأمّا بدال مهملة!! فخاصّ بالنتن.
روى البيهقيّ؛ من حديث علي: ولريح عرقه أطيب من المسك الأذفر، وفي سنده رجل مجهول، والمراد بيان رائحته الذاتية؛ لا المكتسبة، لأنه لو أريد المكتسبة لم يكن فيه كمال مدح، بل لا تصحّ إرادتها وحدها، ومع كونه كان كذلك؛ وإن لم يمسّ طيبا؛ كان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات؛ مبالغة في طيب ريحه، لملاقاة الملائكة ومجالسته المسلمين، وللاقتداء به في التطيّب فإنّه سنّة أكيدة.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي.. ثقل لذلك، وتحدّر جبينه عرقا كأنّه جمان، وإن كان في البرد.
وكان صلى الله عليه وسلم يأتي أمّ سليم فيقيل عندها،
…
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد صحيح؛ عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي ثقل لذلك) النزول (وتحدّر) - بفتح الحاء وتشديد الدال المهملتين-؛ أي: سال (جبينه عرقا) بالتحريك؛ تمييز- (كأنّه جمان) - بضم الجيم وتخفيف الميم-، أي: لؤلؤ، لثقل الوحي عليه (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (5) [المزمل] ؛ (وإن كان) نزوله (في البرد) ؛ أي: الزمن البارد، لشدّة ما يلقى عليه من القرآن، ولضعف القوّة البشرية عن تحمّل مثل ذلك الوارد العظيم، وللوجل من خوف تقصير فيما أمر به من قول أو فعل، ولشدّة ما يأخذ به نفسه من جمعه في قلبه وحفظه، فيعتريه لذلك حال كحال المحموم، وحاصله: أنّ الشدّة إما لثقله، أو لإتقان حفظه، أو لابتلاء صبره، أو للخوف من التقصير؛ قاله المناوي في «كبيره» .
(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ من طريق أبي قلابة؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي أمّ سليم) - بالتصغير- بنت ملحان- بكسر الميم- ابن خالد بن زيد بن حرام الأنصارية النجّاريّة، يقال اسمها سهلة، أو رميلة، أو رميثة، أو مليكة، أو أنيقة، وهي: الغميصا- بضم الغين المعجمة-، أو الرميصاء- بالراء-، اشتهرت بكنيتها؛ وهي أمّ أنس بن مالك «خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وكانت تحت أبي طلحة، وهي من الصحابيّات الفاضلات، وكانت وفاتها في خلافة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما، ولفظ الحديث؛ كما في «مسلم» : حدثنا عفّان بن مسلم؛ قال: حدّثنا وهيب؛ قال:
حدّثنا أيوب؛ عن أبي قلابة؛ عن أنس؛ عن أم سليم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيها (فيقيل عندها.) - قال في «النهاية» : القيلولة: الاستراحة نصف النهار؛ وإن لم يكن معها نوم، يقال: قال يقيل قيلولة؛ فهو قائل. انتهى.
فتبسط له نطعا فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطّيب، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«يا أمّ سليم؛ ما هذا؟» . قالت: عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطّيب.
وفي رواية قالت: يا رسول الله؛ نرجو بركته لصبياننا. قال:
«أصبت» .
وكان كفّه صلى الله عليه وسلم ألين من الحرير، (فتبسط له نطعا) - بفتح النون وكسرها مع فتح الطاء وسكونها- أربع لغات، وهو: بساط من أديم معروف؛ (فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطّيب) والقوارير.. الحديث.
وفي رواية؛ عن ثابت؛ عن أنس بن مالك قال: دخل علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال عندنا، فعرق، وجاءت أمّي بقارورة؛ فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم؛ (فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«يا أمّ سليم؛ ما هذا) الّذي تصنعين» !! (قالت) : هذا (عرقك) . خبر موطّىء لقوله (نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطّيب) . قال الأبّي: وكانت رائحة العرق أخصّ من رائحة البدن كما يوجد في ضدّ طيب الرائحة، فإنّ ذا الرّائحة الكريهة هي منه في حالة العرق أكره منها في حالة عدم العرق.
(وفي رواية) لمسلم؛ من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة؛ عن أنس: (قالت: يا رسول الله؛ نرجو بركته لصبياننا. قال: «أصبت» ) - بكسر التاء- خطاب لأمّ سليم.
وهذه الأحاديث ترجم لها الإمام النووي في «شرح مسلم» : باب طيب عرقه صلى الله عليه وسلم والتبرّك به، قال النووي: وفيه الدخول على المحارم، وجواز النوم على الأدم؛ وهي الأنطاع والجلود. انتهى.
(و) قال الشعراني في «كشف الغمة» : (كان كفّه صلى الله عليه وسلم ألين من الحرير،
وكانت رائحته كرائحة كفّ العطّار، مسّها صلى الله عليه وسلم بطيب أم لم يمسّها، وكان يصافح الرّجل فيظلّ يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصّبيّ فيعرف من بين الصّبيان بريحها على رأسه.
وكانت رائحته كرائحة كفّ العطّار، مسّها صلى الله عليه وسلم بطيب؛ أم لم يمسّها) ؛ أي:
الكف، وفيه قلب، إذ الظاهر «مسّ بها طيبا؛ أم لا» ، وهو إشارة إلى أن طيبه ذاتيّ.
روى مسلم في «صحيحه» ؛ عن أنس رضي الله عنه: ما شممت شيئا قطّ؛ مسكا ولا عنبرا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مسست شيئا قطّ؛ حريرا ولا ديباجا ألين مسّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(وكان يصافح) ؛ أي: يمسّ النبي صلى الله عليه وسلم بصفحة يده (الرّجل) - وفي رواية:
يصافحه المصافح؛ وهو: من يريد مصافحته- (فيظلّ) - بفتح الظاء المعجمة- (يومه) - منصوب على الظرفية- (يجد ريحها) الطّيبة طيبا خلقيا، خصّه الله به معجزة وتكرمة، فالإضافة عهدية.
وعند الطبراني؛ من حديث وائل بن حجر: كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يمسّ جلدي جلده فأتعرّفه بعد في يدي؛ وإنّه لأطيب من ريح المسك. وهذا صادق ببقائه أكثر من يوم لم يقيد التعرف بزمن.
(ويضع يده على رأس الصّبيّ) ؛ أيّ صبي كان لا معيّن، (فيعرف من بين الصّبيان بريحها على رأسه) لشدّة فوحه برائحتها الحاصلة بمسّه، والفاء للسببية؛ أي: يعرف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مسّه فيميّز من بينهم، وفي رواية «لريحها» - باللام التعليلية- ومعناهما واحد، وفي رواية «من ريحها» ، ويحتمل أنّ ذلك في يومه، وأنّه يستمرّ مدّة طويلة.
وهذا الحديث رواه أبو نعيم، والبيهقي بإسناد ضعيف؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها بمخالفة في آخره، ولفظ عائشة رضي الله تعالى عنها: ويضعها على رأس الصبي؛ فيعرف من بين الصبيان أنّه مسح على رأسه. انتهى.
وقال أنس: ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح خدّه،
…
وأورده ابن دحية في «المستوفى» بلفظ: وكان صلى الله عليه وسلم إذا صافح أحدا فيظلّ يومه يجد ريحها. والباقي كما في «المتن» .
(وقال أنس) - كما في البخاري في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مسست) - قال الحافظ وغيره: بمهملتين الأولى مكسورة، ويجوز فتحها والثانية ساكنة- (ديباجا) - بكسر المهملة وحكي فتحها، وقال أبو عبيد: الفتح مولّد؛ أي ليس بعربي. قال في «النهاية» : الديباج- بكسر الدال-: الثياب المتخذة من الإبريسم «فارسي معرّب» وقد تفتح داله، ويجمع على ديابيج- بالياء التحية-، ودبابيج بالباء الموحدة- وفي «المصباح» : الديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم. انتهى.
(ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي: بل كفّه الشريفة كانت الين من كلّ شيء، ولا ينافيه ما مرّ أنّه شثن الكف؛ لأنّ معناه- كما تقدم- أنّه غليظها، فمع كونه غليظ الكفّ كان ناعمها، وتمام الحديث: ولا شممت ريحا قطّ، أو عرقا قطّ أطيب من ريح أو عرق النبي صلى الله عليه وسلم. هذا بقيّة الحديث عند البخاري، وأخرجه مسلم بنحوه كما تقدّم.
(و) روى مسلم في «صحيحه» ؛ (عن جابر بن سمرة) الصحابي ابن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) قال:
صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان؛ فجعل يمسح خدّي أحدهم واحدا واحدا، قال: وأمّا أنا فمسح خدّي. فذكره المصنف بمعناه حيث قال:
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح خدّه) تأنيسا وشفقة وتبريكا.
قال: فوجدت ليده بردا وريحا؛ كأنّما أخرجها من جؤنة عطّار.
وكان صلى الله عليه وسلم يعرف منه ريح الطّيب إذا أقبل.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يسلك طريقا فيتبعه
…
(قال) جابر: (فوجدت) - أي أحسست- (ليده) أي: كفّه وما قاربها (بردا) حقيقيا، لرواية «أبرد من الثلج» لا لعارض مسّ ماء، وهذا ممدوح عند العرب لا سيما في الزمن الحارّ، ولا بعد في أنه خاصّ به مع كمال حرارته الغريزية، وقيل: هو عبارة عن لين كفّه ورطوبته، والأقرب أنّه بمعنى الراحة واللّذة والطيب.
قال في «النهاية» : كلّ محبوب عندهم بارد، و «برد الظل طيب العيش» ، و «الغنيمة الباردة: الهنية» .
(و) وجدت لها (ريحا؛ كأنّما أخرجها) - أي: اليد؛ لأنها مؤنثة- (من جؤنة) - بضم الجيم وسكون الهمزة، ويقال بواو ساكنة تليها نون وهاء تأنيث-:
شبه صندوق صغير مغشى بجلد وزند مستدير، يضع العطار فيها عطره، وهو: كلّ ما طابت رائحته، أي: كأنّ ريح يده ريح ما أخرج من جؤنة (عطّار) مضمّخا بالعطر، والجملة صفة «ريحا» ، أو مستأنفة، وقال يزيد بن الأسود: ناولني رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك. رواه البيهقي.
(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن إبراهيم مرسلا- وهو حديث حسن-: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف منه ريح الطّيب إذا أقبل) ، لأنّه كان رائحة الطيب صفته؛ وإن لم يمسّ طيبا، فكلما مرّ على محلّ عبق طيبا؛ فكان الشخص إذا شمّ ذلك الطيب عرف أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ من ذلك المحل؛ وإن لم ير ذاته الشريفة- كما سيأتي-.
(و) أخرج البخاري في «تاريخه» ، والبيهقي، والدارمي، وأبو نعيم بألفاظ متقاربة؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسلك طريقا فيتبعه) - بالرفع؛ أي: يأتي بعد ذهابه منه، لا يمشي تابعا له،
أحد.. إلّا عرف أنّه قد سلكه من طيب عرفه.
وذكر إسحاق بن راهويه:
…
وهو بالتخفيف والتشديد، ويجوز نصبه، أي: يمشي بعده بزمان قليل، فالفاء للتعقيب- (أحد) فاعل «يتبع» على حال من الأحوال (إلّا) على حال (عرف أنّه) صلى الله عليه وسلم (قد سلكه) ؛ أي: دخل الطريق ومرّ فيه (من طيب عرفه) - بالفاء-:
ريحة الطيب، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، فيفيد طيب ريح بدنه؛ وإن لم يعرق، وذلك لأن القلب الطّاهر الحيّ يشمّ منه رائحة الطيب، كما أن القلب الخبيث الميت يشمّ منه رائحة النتن، لأن نتن القلب والروح يتّصل بباطن البدن أكثر من ظاهره، والعرق يفيض من الباطن، والنفس الطيّبة يقوى طيبها ويفوح عرف عرقها حتّى يبدو على الجسد، والخبيثة بضدّها؛ كذا قال بعضهم؛ نقله الزرقاني رحمه الله تعالى.
ولله درّ من قال:
ولو أنّ ركبا يمّموك لقادهم
…
نسيمك حتّى يستدلّ به الرّكب
وروى أبو يعلى، والبزار بإسناد صحيح؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب؛ وقالوا: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الطريق.
وما أحسن قول من قال في هذا المعنى:
يروح على غير الطّريق الّتي غدا
…
عليها فلا ينهى علاه نهاته
تنفّسه في الوقت أنفاس عصره
…
فمن طيبه طابت له طرقاته
تروح له الأرواح حيث تنسّمت
…
له سحرا من حبّه نسماته
قوله «تنفّسه» مبتدأ، وقوله «أنفاس عصره» - بالصاد- خبر على حذف مضاف؛ أي: أهل عصره، وذلك لأن النّفس الواحد منه في وقت يعمّ أهل الأرض جميعا. انتهى.
قال في «الشفا» : (وذكر إسحاق بن راهويه) : أبو يعقوب المروزي، الإمام
أنّ تلك كانت رائحته بلا طيب صلى الله عليه وسلم.
الزاهد الثقة المجتهد، أمير المؤمنين في الحديث- كما قاله ابن حنبل رحمه الله تعالى- وهو الذي أحيا السّنة بالمشرق. ما سمع شيئا إلّا حفظه، وما حفظ شيئا فنسيه، قال: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألف حديث أسردها. وهو عالم خراسان، طاف البلاد لجمع الحديث، أخذ عنه الإمام أحمد ابن حنبل، والبخاري، ومسلم وغيرهم، استوطن نيسابور وتوفي بها سنة:
238-
ثمان وثلاثين ومائتين، وولادته سنة: - 161- إحدى وستين ومائة، و «راهويه» لقب أبيه إبراهيم بن مخلد التميمي الحنظلي، لقب به!! لأنّه ولد بطريق مكة و «راه» بالفارسية: معناه الطريق، و «هو» بالهاء والواو المفتوحتين والمثناة التحتية الساكنة والهاء المكسورة في المشهور، ويقال [راهويه] بضم الهاء وسكون الواو وتحتانية مفتوحة ك «نفطويه» ، وهو أحبّ عند المحدثين، آخره «هاء» .
(أنّ تلك) الرائحة التي كانت تشمّ منه وتبقى في الطريق (كانت رائحته) الذاتيّة المدركة منه صلى الله عليه وسلم (بلا طيب) يمسّه ويتطيّب منه من خارج، ومع هذا كان يستعمل الطيب في أكثر أوقاته مبالغة في طيب ريحه؛ لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي ومجالسة المسلمين؛ قاله النووي. ولأنه حبّب إليه كما قال:«حبّب إليّ من دنياكم: النّساء، والطّيب» كما سيأتي.
وروى ابن مردويه؛ عن أنس رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم منذ أسري به ريحه ريح عروس؛ وأطيب من ريح عروس. ولا دلالة فيه على أنّ مبدأ طيب ريح جسده من ليلة الإسراء؛ كما زعم من زعم!! إذ ريح عروس أخصّ من مطلق رائحة طيبه، فلا ينافي أنّه طيّب الرائحة من حين ولد؛ كما رواه أبو نعيم والخطيب: أنّ أمّه آمنة لما ولدته، قالت: ثمّ نظرت إليه؛ فإذا هو كالقمر ليلة البدر، ريحه يسطع كالمسك الأذفر صلى الله عليه وسلم .
وقد تقدّم ما يدلّ على ما قاله إسحاق من الأحاديث. فما قيل «أنّه لم يظهر من
وعن أمّ عاصم امرأة عتبة بن فرقد السّلميّ قالت: كنّا عند عتبة أربع نسوة، فما منّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطّيب؛ لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمسّ عتبة الطّيب إلّا أن يمسّ دهنا يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحا منّا، وكان إذا خرج إلى النّاس.. قالوا:
ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنّا لنجتهد في الطّيب، ولأنت أطيب ريحا منّا! فممّ ذلك؟!
…
رواه، والظاهر ثبوته عندهم» !! من قلة التتبّع؛ قاله الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» .
(وعن أمّ عاصم امرأة عتبة) - بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية- (ابن فرقد) - بفتح الفاء والقاف بينهما راء ساكنة- ابن يربوع بن حبيب بن مالك بن أسعد بن رفاعة (السّلميّ) - وقال ابن سعد: يربوع هو فرقد- شهد خبير وقسم له منها، فكان يعطيه لبني أخواله عاما ولبني أعمامه عاما، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوتين، وولّاه عمر رضي الله عنه في الفتوح، ففتح الموصل سنة: ثمان عشرة مع عياض بن غنم، ونزل بعد ذلك الكوفة، ومات بها. ذكره في «الإصابة» .
(قالت: كنّا عند عتبة) - حال من- (أربع نسوة) ، لأنّه في الأصل صفة لها، فلما قدّم أعرب حالا، و «أربع» خبر كان، (فما منّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطّيب) ؛ أي: في تحصيل أحسنه واستعماله، (لتكون أطيب من صاحبتها) كما هو شأن الضرائر، (وما يمسّ عتبة الطّيب إلّا أن يمسّ دهنا) مطيّبا (يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحا منّا وكان إذا خرج إلى النّاس؛ قالوا: ما شممنا) - بكسر الميم الأول وتفتح، وإسكان الثانية- (ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما:
إنّا لنجتهد في الطّيب؛ ولأنت أطيب ريحا منّا! فممّ) - بحذف ألف «ما» الاستفهامية، لأنّه يحذف إذا دخل عليها حرف الجر، أي: من أي سبب- (ذلك) الوصف الذي ثبت لك؟!.
فقال: أخذني الشّرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرّد، فتجرّدت عن ثوبي، وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده، ثمّ مسح ظهري وبطني بيده، فعبق بي هذا الطّيب من يومئذ. رواه الطّبرانيّ في «معجمه الصّغير» .
وروى أبو يعلى
…
(فقال: أخذني الشّرى) - كالصّدى: بثور صغار حمر حكّاكة مكربة، تحدث دفعة غالبا، وتشتدّ ليلا لبخار حارّ يثور في البدن دفعة؛ كما في «القاموس» - (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرّد، فتجرّدت عن ثوبي وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي) وما حوله، واقتصر عليه بكونه أفحش، ويحتمل خلافه، (فنفث) - أي: تفل- (في يده) الشريفة (ثمّ مسح ظهري وبطني بيده) الشريفة. (فعبق) - بفتح الباء، أي: لزق- (بي هذا الطّيب من يومئذ.
رواه الطّبرانيّ) : سليمان بن أحمد بن أيّوب بن مطير اللّخمي الشامي، أبو القاسم، من كبار المحدثين، أصله من طبرية الشام؛ وإليها نسبته، ولد بعكا سنة: - 260- ستين ومائتين هجرية، ورحل إلى الحجاز واليمن ومصر والعراق وفارس والجزيرة، وتوفي بأصبهان سنة: - 360- سنة ستين وثلثمائة هجرية، وله ثلاثة معاجم في الحديث:«كبير» و «صغير» و «أوسط» ؛ طبع الصغير «1» ، رتّب فيه أسماء المشايخ على الحروف، وله كتب في التفسير، والأوائل، ودلائل النبوة، وغير ذلك، رحمه الله تعالى آمين (في «معجمه الصّغير» ) و «الكبير» أيضا، كما في «الإصابة» .
(وروى أبو يعلى) : أحمد بن علي بن المثنّى التميميّ الموصليّ الحافظ
(1) والكبير والأوسط أيضا؛ على نقص في الكبير.
والطّبرانيّ قصّة الّذي استعان بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة فسلت له فيها من عرقه، وقال:«مرها فلتطّيّب به» ، فكانت إذا تطيّبت به شمّ أهل المدينة ذلك الطّيب، فسمّوا «بيت المطيّبين» .
المشهور الثقة، نعته الذهبي ب «محدّث الموصل» ، عمّر طويلا وتفرّد ورحل الناس إليه، وزاد عمره على المائة، وكانت وفاته سنة: - 307- سبع وثلثمائة- بتقديم المهملة على الموحدة- بالموصل، وله كتب منها «المعجم» في الحديث، و «مسندان» كبير وصغير.
(والطّبرانيّ) ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (قصّة) - مفعول «روى» - (الّذي استعان بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة) - أي: طلبها من الرجل- (فسلت) ؛ أي: مسح بأصبعه (له فيها من عرقه) - محرّكة؛ أي بعضه- (وقال: «مرها فلتطّيّب به» ) وهذا الحديث ذكره المصنف بالمعنى تبعا لصاحب «المواهب» .
ولفظ أبي يعلى والطبرانيّ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
جاء رجل فقال: يا رسول الله؛ إنّي زوّجت ابنتي؛ وأنا أحبّ أن تعينني بشيء، قال:«ما عندي شيء، ولكن إذا كان غدا فاتني بقارورة واسعة الرّأس وعود شجرة، وآية ما بيني وبينك أن أجيف ناحية الباب» .
فلما كان من الغد أتاه بذلك، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسلت العرق عن ذراعيه حتّى امتلأت القارورة؛ فقال:«خذها وأمر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة فتطيّب به» .
(فكانت إذا تطيّبت به شمّ أهل المدينة ذلك الطّيب) ، وإن بعدوا عن دارها؛ هذا ظاهره، ولا مانع؛ إذ هو أمر خارق، (فسمّوا «بيت المطيّبين» ) قال الذهبي: حديث منكر؛ أي ضعيف. انتهى «زرقاني» .