الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الثّالث في صفة خاتمه صلى الله عليه وسلم]
الفصل الثّالث في صفة خاتمه صلى الله عليه وسلم كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورق،
…
(الفصل الثّالث) من الباب الثالث:
(في) بيان ما ورد في (صفة خاتمه) بفتح التاء المثنّاة فوق وكسرها- وفي صفة تختّمه صلى الله عليه وسلم ؛ أي: لبسه الخاتم.
والمراد بالخاتم الطابع الذي كان يختم به الكتب، لا خاتم النبوّة؛ فإنّه البضعة الناشزة بين كتفيه، وليس مرادا هنا.
وفي الخاتم عشر لغات نظمها الحافظ ابن حجر في قوله:
خذ عدّ نظم لغات الخاتم انتظمت
…
ثمانيا ما حواها قطّ نظّام
خاتام خاتم ختم خاتم وختا
…
م خاتيام وخيتوم وخيتام
والهمز مع فتح خاء تاسع وإذا
…
ساغ القياس أتمّ العشر خأتام
قالوا: والخاتم حلقة ذات فصّ من غيرها، فإن لم يكن لها فصّ فهي فتخة بفاء ومثناة فوقية وخاء معجمة- كقصبة.
قال ابن العربي: والخاتم عادة في الأمم ماضية، وسنّة في الإسلام قائمة.
وقال ابن جماعة وغيره: وما زال الناس يتّخذون الخواتيم سلفا وخلفا من غير نكير.
(كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورق) - بكسر الراء وتسكّن تخفيفا- أي: فضّة، وأخذ بعض أئمة الشافعيّة من إيثار المصطفى صلى الله عليه وسلم الفضّة كراهة التختّم بنحو حديد أو
وكان فصّه حبشيّا.
نحاس. وأيّد بما في رواية أنّه رأى بيد رجل خاتما من صفر؛ فقال: «مالي أجد منك ريح الأصنام؟» فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد؛ فقال:«مالي أرى عليك حلية أهل النّار» ؟.
ويويّده أيضا ما في رواية: «أنّه أراد أن يكتب كتابا إلى الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى» ؛ فقال له رجل: يا رسول الله؛ إنّهم لا يقبلون كتابا إلّا مختوما. فأمر أن يعمل له خاتم من حديد، فجعله في أصبعه، فأتاه جبريل فقال له: انبذه من أصبعك. فنبذه من أصبعه وأمره بخاتم آخر يصاغ له، فعمل له خاتم من نحاس؛ فجعله في أصبعه، فقال له جبريل: انبذه، فنبذه، وأمر بخاتم يصاغ له من ورق؛ فجعله في أصبعه. فأقرّه جبريل
…
» إلى آخر الحديث.
لكن اختار النوويّ أنّه لا يكره، لخبر الشيخين:«التمس؛ ولو خاتما من حديد» ، ولو كان مكروها لم يأذن فيه، ولخبر أبي داود: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملويّا عليه فضّة. قال: وخبر النهي ضعيف.
ويؤخذ من الحديث أنّه يسن اتّخاذ الخاتم، ولو لم يحتجه لختم وغيره، وعدم التعرض في الخبر لوزنه!! يدلّ على أنّه لا تحجير في بلوغه مثقالا فصاعدا، ولذلك أناط بعض الشافعية الحكم بالعرف؛ أي: بعرف أمثال اللّابس.
لكن ورد النهي عن اتّخاذه مثقالا في خبر حسن، وضعّفه النوويّ في «شرح مسلم» ، لكنّه معارض بتصحيح ابن حبّان وغيره له، وأخذ بعضهم بقضيته.
وللرجل لبس خواتيم، ويكره أكثر من اثنين.
(وكان فصّه) - بفتح أوّله وكسره؛ وقد يضمّ وبتشديد الصاد-: ما ينقش فيه اسم صاحبه أو غيره (حبشيّا) ؛ أي: حجرا منسوبا إلى الحبش، لأنّه معدنه.
رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» عن أنس رضي الله تعالى عنه.
و (الورق) : الفضّة. و (الفصّ) : ما يكتب عليه اسم صاحبه.
و (الحبشيّ) : منسوب إلى الحبش، فإنّه كان من جزع؛ وهو: خرز فيه بياض وسواد، أو من عقيق، ومعدنهما بالحبشة.
(والورق) - بكسر الراء وتسكّن تخفيفا-: (الفضّة) وهي في الأصل النقرة المضروبة، وقيل: النقرة مضروبة أوّلا. (والفصّ) قال القسطلّاني: بفتح الفاء والعامّة تكسرها، وأثبتها بعضهم لغة، وزاد بعضهم الضمّ، وعليه جرى ابن مالك في «المثلّث» . انتهى.
وفي «القاموس» : الفصّ للخاتم مثلّثة، ووهم الجوهريّ في جعله الكسر لحنا. نعم قال ابن السكّيت والفارابيّ: إنّه رديء.
وللفصّ معان كثيرة، والمراد هنا:(ما يكتب) أي: ينقش (عليه اسم صاحبه) أو غيره. (والحبشيّ: منسوب إلى الحبش) ؛ أي: جيء به من الحبشة، (فإنّه كان من جزع) - بفتح الجيم وسكون الزاي- (وهو: خرز فيه بياض وسواد) يشبه به الأعين، (أو من عقيق) كأمير (ومعدنهما بالحبشة) . وهذا أقرب ممّا قيل: إنّ معدنهما باليمن؛ وهي من الحبشة، أو أنّ لونه حبشيّ، أي:
أحمر يميل إلى السواد، أو صانعه حبشيّ، أو مصنوع كصنع الحبشة. هذا عصارة ما في الشروح المشهورة والزّبر المتداولة!! لكن الوجه الذي لا محيد عنه ما قاله الجلال السيوطيّ وغيره؛ اعتمادا على ما في «مفردات» ابن البيطار: إنّ الحبشيّ نوع من الزبر جد يكون ببلاد الحبش؛ لونه يميل إلى الخضرة، من خواصّه أنّه ينقي العين، ويجلو ظلمة البصر؛ ذكره المناوي في «شرح الشمائل» .
وأمّا خاتم العقيق!! فعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«تختّموا بالعقيق، واليمين أحقّ بالزّينة» . وفي سنده مجهول، بل قال في «اللسان» : هو موضوع بلا ريب، لكن لا أدري من وضعه. انتهى.
وروي بلفظ: «تختّموا بالعقيق فإنّه ينفي الفقر» .
ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه لبس خاتما كلّه عقيقا.
وعن عائشة مرفوعا: «تختّموا بالعقيق فإنّه مبارك» أخرجه ابن عديّ،
والبيهقيّ في «الشعب» ؛ من طريق يعقوب بن الوليد وهو متروك، بل كذّبه أحمد، وأبو حاتم، وغيرهما.
وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها مرفوعا: «من تختّم بالعقيق لم يزل يرى خيرا» . أخرجه ابن حبّان في «الضعفاء» ؛ من طريق أبي بكر بن شعيب؛ عن مالك؛ عن الزهريّ؛ عن عمرو بن الشّريد؛ عن فاطمة. قال ابن حبّان: إنّ ابن شعيب يروي عن مالك ما ليس من حديثه، لا يحلّ الاحتجاج به.
قال السخاوي: وهذا الحديث عند الطبرانيّ، وأبي نعيم، وغيرهما من طرق سواه، ومع ذلك فهو باطل، وكذا ورد في خاتم العقيق أحاديث غير هذا؛
كحديث عمر: «تختّموا بالعقيق، فإنّ جبريل أتاني به من الجنّة، وقال:
تختّم به، وأمر أمّتك أن تتختّم به» . رواه الديلميّ؛ وهو موضوع.
وحديث علي: «من تختّم بالعقيق، ونقش فيه: وما توفيقي إلّا بالله وفّقه الله لكلّ خير، وأحبّه الملكان الموكلان به» . وهذا كذب؛ قاله السخاوي.
وكلّ ما ورد في خاتم العقيق من الأحاديث؛ فإنّه لا يثبت؛ وإن كثرت طرقه كما قاله الحافظ ابن رجب-.
قال القسطلاني في «المواهب» : (ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه لبس خاتما كلّه) تأكيد لخاتم (عقيقا) نعت له. قال السيوطي في «مختصر الموضوعات» : وأمثل ما ورد في هذا الباب حديث البخاريّ في «التاريخ» : «من تختّم بالعقيق لم يقض له إلّا بالّتي هي أحسن» . انتهى. فهذا أصل أصيل فيه. انتهى؛ نقله الزرقاني رحمه الله تعالى.
والعقيق كأمير: خرز أحمر تتّخذ منه الفصوص يكون باليمن بالقرب من الشّحر، يتكوّن ليكون مرجانا فيمنعه اليبس والبرد.
وكان خاتمه صلى الله عليه وسلم من فضّة فصّه منه.
قال التيفاشي: يؤتى به من اليمن من معادن له بصنعاء؛ ثمّ يؤتى به إلى «عدن» ، ومنها يجلب إلى سائر البلاد، وذكر «القاموس» في مادة قرأ: أنّ معدن العقيق في موضع قرب صنعاء يقال له «مقرأ» ، وبسواحل بحر روميّة منه جنس كدر كماء يجري من اللّحم المملّح، وفيه خطوط بيض خفيّة؛ وهو المعروف بالرطبي؛ قاله التيقاشي.
وأجود أنواعه الأحمر، فالأصفر، فالأبيض، وغيرها رديء، ومن خواصّ الأحمر منه: أنّ من تختم به سكنت روعته عند الخصام، وزال عنه الهمّ والخفقان، وانقطع عنه الدم من أي موضع كان؛ ولا سيّما النساء اللّواتي يدوم طمثهنّ، وشربه يذهب الطحال، ويفتح السدد، ونحاتة جميع أصنافه تذهب حفر الأسنان، ومحروقه يثبت متحرّكها ويشدّ اللّثّة، والواحدة «عقيقة» بهاء، والجمع عقايق. قاله في «شرح القاموس» .
(و) أخرج البخاريّ، وغيره، وهذا لفظ «الشمائل» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:(كان خاتمه صلى الله عليه وسلم من فضّة فصّه منه)«من» تبعيضية.
والضمير للخاتم؛ أي: فصّه من بعضه؛ لا أنّه حجر منفصل عنه.
قال العراقيّ: لم ينقل كيف كان فصّ الخاتم: أمربّعا، أم مثلثا، أم مدورا؟ إلّا أنّ التربيع أقرب إلى النقش فيه. انتهى.
وقد تقدّم في رواية مسلم أنّ فصّه كان حبشيا.
قال النوويّ في «شرح مسلم» : قال ابن عبد البرّ رواية «فصّه منه» أصحّ.
وقال غيره: كلاهما صحيح، ويجمع بينهما بتعدّد الخاتم، فلا تعارض بين رواية مسلم، والبخاريّ. وبهذا جمع البيهقيّ؛ فقال في «الشعب» : حديث كان فصّه حبشيا فيه دلالة على أنّه كان له خاتمان، أحدهما فصّه حبشيّ، والآخر فصّه منه.
وقال في موضع آخر: الأشبه بسائر الروايات أنّ الذي كان فصّه حبشيا هو
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتما من فضّة، فكان يختم به ولا يلبسه.
الخاتم الذي اتّخذه من ذهب ثمّ طرحه، والذي كان فصّه منه هو الذي اتّخذه من فضة.
وفي حديث معيقيب: كان خاتمه من حديد ملويّ عليه فضّة، فربّما كان في يده، وليس في شيء من الأحاديث أنّه ظاهر بينهما؛ أي: لبسهما معا.
ووافقه على هذا الجمع ابن العربيّ، والقرطبيّ، والنوويّ، قال الحافظ ابن حجر: وهو أظهر. وقد ورد في حديث غريب كراهة كون فصّ الخاتم من غيره.
ففي كتاب «المحدّث الفاصل» ؛ من رواية عليّ بن زيد؛ عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه كره أن يلبس خاتما ويجعل فصّه من غيره، فالمستحبّ أن يكون فصّ الخاتم منه لا من غيره.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:
أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ) أي: اقتنى (خاتما من فضّة) .
جزم ابن سيّد الناس بأنّ اتّخاذه صلى الله عليه وسلم للخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنّه كان في السادسة، وجمع بأنّه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة؛ لأنّه إنما اتّخذه عند إرادة مكاتبة الملوك، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ستّ، ووجّه الرسل الذين أرسلهم إلى الملوك في المحرم من السابعة، وكان الاتّخاذ قبيل التوجيه. قال ابن العربي: وكان قبل ذلك إذا كتب كتابا ختمه بظفره.
قال الزين العراقي: ولم ينقل كيف كانت صفة خاتمه الشريف: هل كان مربعا، أو مثلثا، أو مدوّرا؟ وعمل الناس في ذلك مختلف، لكن التربيع أقرب إلى النقش فيه والختم به.
(فكان يختم به) الكتب التي يرسلها للملوك (ولا يلبسه) - بفتح الموحدة-.
وهذا ينافي الأخبار الآتية الدالة على أنّه كان يلبسه في يمينه.
وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يلبس خاتمه في يمينه.
ويدفع التنافي بأنّ له صلى الله عليه وسلم خاتمين؛ أحدهما: منقوش بصدد الختم به، وكان لا يلبسه، والثاني: كان يلبسه ليقتدى به، أو أنّ المراد أنّه لا يلبسه دائما بل غبّا، فلا منافاة حينئذ. وقد يقال: لم يلبسه أوّلا بل اتّخذه لضرورة الختم؛ ولم يلبسه، فخاف من توهّم أنّه اتّخذه لزينة فلبسه، والله أعلم.
(و) أخرج أبو داود، والنسائي، وابن حبّان وصحّحه، والترمذيّ في «الشمائل» واللّفظ له؛ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال:
(كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يلبس) - بفتح الباء-؛ من اللّبس- بضم اللّام- (خاتمه) بفتح التاء وتكسر- (في يمينه) ؛ أي: في خنصر يده اليمنى، فالتختّم فيها أفضل اقتداء به صلى الله عليه وسلم لكونه أكثر أحواله؛ كما قال ابن حجر، ولأنّ التختّم فيه نوع تكريم، وتشريف، وتزيّن، واليمنى بذلك أحقّ، وكونه صار شعار الروافض!! لا أصل له.
وتختّمه في اليسار الذي أخذ به مالك؛ ففضّله على اليمين!! حمله الشافعيّة على بيان الجواز، وقول بعضهم:«التختّم في اليسار مرويّ عن عائشة، وجميع الصحب، والتابعين» !! معارض بقول الحافظ الزين العراقيّ في «شرح الترمذيّ» وتبعه تلميذه الحافظ ابن حجر رحمهم الله تعالى-: ورد تختّمه في اليمين من رواية تسعة من الصحابة، وفي اليسار من رواية ثلاثة منهم. هكذا قال الحافظان، وذكرهما الثلاثة فقط يعكّر عليه نقل الزين العراقي نفسه التختّم في اليسار عن الخلفاء الأربعة، وابن عمرو، وعمرو بن حريث، لكنّ سنده إلى الخلفاء الأربعة منقطع.
وقول ابن رجب «ورد في حديث أنّ تختّمه في اليسار آخر الأمرين من فعله صلى الله عليه وسلم» !! لا يقاوم نقل الترمذيّ عن البخاريّ أنّ التختّم في اليمين أصحّ شيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، وإذا كان أصحّ؛ فلا وجه للعدول عن ترجيح أفضليّته.
ويجمع بين روايات اليمين وروايات اليسار: بأنّ كلّا منها وقع في بعض الأحوال، أو أنّه صلى الله عليه وسلم كان له خاتمان؛ كلّ واحد في يد على ما فيه، كما تقدم
والتّختّم في اليسار ليس مكروها، ولا خلاف الأولى، بل هو سنّة لوروده في أحاديث صحيحة، لكن التّختّم في اليمين أفضل؛ لأنّ أحاديثه أصحّ
…
الجمع بذلك، بين ما فصّه حبشيّ، وما فصّه منه. ذكره المناوي، والباجوري؛ قالا: وقد أحسن الحافظ العراقيّ حيث نظم ذلك فقال:
يلبسه كما روى البخاري
…
في خنصر يمين أو يسار
كلاهما في مسلم ويجمع
…
بأنّ ذا في حالتين يقع
أو خاتمين كلّ واحد بيد
…
كما بفصّ حبشيّ قد ورد
(و) بالجملة ف (التّختّم في اليسار) - بفتح الياء- (ليس مكروها) كراهة تنزيه؛ (ولا خلاف الأولى، بل هو) ؛ أي: التختّم في اليسار (سنّة لوروده في أحاديث صحيحة) منها حديث مسلم، عن أنس رضي الله عنه:
«كان خاتمه صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار لخنصر يسراه. ومنها حديث أبي داود؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان صلى الله عليه وسلم يتختّم في يساره.
بل قال في «المواهب» : إنّه نصّ الإمام أحمد في رواية صالح؛ قال: التختّم في اليسار أحبّ إليّ. وهو مذهب الإمام مالك.
ويروى أنّه كان يلبسه في يساره، وكذلك الإمام الشافعيّ. بل ذكر بعض الحفاظ أنّ التختّم في اليسار مرويّ عن عامّة الصحابة، والتابعين، ومعنى كونه مرويّا عن عامتهم أنّهم قائلون بأفضليّته على اليمين، لا أنّهم نقلوه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(لكن التّختّم في اليمين أفضل) من التختّم في اليسار، بل قال الترمذيّ في «جامعه» : روي عن أنس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تختّم في يساره، وهو لا يصح. انتهى.
لكنّ كلام الترمذيّ مردود برواية مسلم السابقة وغيرها، ولذلك ساغ قوله:
(لأنّ أحاديثه) ؛ أي: التختم في اليمين (أصحّ) ، وأكثره من أحاديث التختّم في اليسار، فقد روى البخاريّ، والترمذي؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:
قاله الباجوريّ.
وكان صلى الله عليه وسلم يتختّم في يساره.
كان صلى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه. ورواه مسلم، والنسائي؛ عن أنس رضي الله عنه وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن جعفر.
روى حمّاد بن سلمة قال: رأيت ابن أبي رافع يتختّم في يمينه، فسألته عن ذلك؟ فقال: رأيت عبد الله بن جعفر يتختّم في يمينه. وقال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه» . أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ، وقال الترمذيّ: قال محمّد- يعني البخاريّ-: هذا أصحّ شيء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.
وفي «الشمائل» للترمذيّ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختّم في يمينه.
وروى أبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن محمّد بن إسحاق قال:
رأيت على الصلت بن عبد الله خاتما في خنصره اليمنى فسألته، فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، ولا إخاله إلّا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه؛ (قاله) ؛ أي: هذا الكلام الذي نقله المصنّف متصرّفا فيه؛ قاله شيخ الإسلام إبراهيم (الباجوريّ) في حاشيته المسماة ب «المواهب اللدنية على الشمائل الترمذيّة» .
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختّم في يساره) ورمز له برمز مسلم، وقد مرّ حديث أبي داود؛ عن ابن عمر في ذلك. بل قال الحافظ ابن رجب:
وقد جاء التصريح بأنّ تختّمه عليه الصلاة والسلام في يساره كان آخر الأمرين، في حديث رواه سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير؛ عن عبد الله بن عطاء؛ عن نافع؛ عن ابن عمر: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختّم في يمينه، ثمّ إنّه حوّله
.........
إلى يساره. أخرجه ابن عديّ، وأبو الشيخ، واعتمد ذلك البغويّ في «شرح السنة» . وجمع بها بين الأخبار.
وتعقّبه الطبريّ: بأنّ ظاهره النسخ وليس بمراد، وقال الحافظ ابن حجر: لو صحّ هذا لكان قاطعا للنزاع! لكنّ سنده ضعيف، وله شاهد عند ابن عساكر عن عائشة بإسناد ضعيف أيضا.
وجمع البيهقيّ بين أحاديث تختّمه في يمينه، وأحاديث تختّمه في يساره؛ بأنّ الذي لبسه في يمينه خاتم الذهب، ثمّ نبذه كما في حديث ابن عمر، والذي في يساره خاتم الفضّة. انتهى «زرقاني» .
ولم يبيّن في هذا الحديث وما قبله من الأحاديث في أيّ الأصابع وضعه فيها، لكن الذي في «الصحيحين» : تعيين الخنصر. بل في مسلم، وأبي داود، والترمذيّ: النهي عن لبسه في السبابة والوسطى، ولم يثبت في الإبهام والبنصر شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحبه!! فثبت ندبه في الخنصر فقط، فالسنّة إذن جعله في الختصر.
وحكمته: أنّه أبعد عن الامتهان فيما يتعاطاه الإنسان باليد، وأنّه لا يشغل اليد عمّا تزاوله من الأعمال، بخلاف ما لو كان في غير الخنصر. انتهى «مناوي» .
والحاصل: أنّه يجوز التختّم في اليمين واليسار؛ ولو لغير ذي منصب، وتحصل السنّة بكلّ منهما، كما تحصل السنّة بلبس الخاتم؛ ولو مستعارا، أو مستأجرا، والأوفق للاتّباع للبسه بالملك، وكونه في الخنصر أفضل.
ويجوز تعدّد الخواتيم اتخاذا. وأمّا الاستعمال: فمفهوم كلام الرافعي عدم الجواز، وبه صرّح المحبّ الطبريّ؛ فقال: المتّجه أنّه لا يجوز للرجل أن يلبس خاتمين من فضة في يديه، أو في إحداهما؛ لأنّ استعمال الفضّة حرام، إلا ما وردت به الرخصة، ولم ترد إلّا في خاتم واحد.
وفي «التحفة» لابن حجر: ويتّجه اعتماد كلام «الروضة» الظاهر في حرمة
وكان صلى الله عليه وسلم يجعل فصّ خاتمه ممّا يلي كفّه.
التعدّد مطلقا؛ لأنّ الأصل في الفضة التحريم على الرجل؛ إلّا ما صحّ الإذن فيه، ولم يصحّ في الأكثر من الواحد.
ثمّ رأيت المحبّ الطبريّ علّل بذلك، وهو ظاهر جليّ. انتهى.
هذا معتمد «التحفة» ، لكنّه صرح في «الإمداد» ، و «النهاية» ، وغيرهما بكراهة لبس خاتمين. انتهى.
ويكره للرجل لبسه في غير الخنصر، ويجوز لبسه بفصّ، وبدونه، وجعله في باطن الكفّ أفضل، لأنّ حديثه أصحّ من حديث جعله في ظاهر الكفّ.
ويجوز نقشه ولو بذكر؛ ولا يكره، ويسنّ كونه دون مثقال، فإن بلغ مثقالا، وعدّه العرف إسرافا حرم، وإلّا! فلا على الأوجه، والعبرة بعرف أمثال اللّابس كما اعتمده في «التحفة» و «النهاية» -.
قال في «الإمداد» : ينبغي أنّ العرف لو اختلف باختلاف المحالّ، أو الحرف، ونحوهما: يقيّد أهل كلّ محلّ أو حرفة بعرفه. انتهى؛ نقله عنه الكردي.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل فصّ خاتمه) - مثلّث الفاء كما تقدّم- (ممّا يلي كفّه) ؛ أي: ما يلي بطن كفّه؛ كما في مسلم، فجعله كذلك أفضل اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: ولم يأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك بشيء، فيجوز جعل فصّه في باطن الكفّ وظاهرها، وقد عمل السلف بالوجهين، وممّن اتّخذه في ظاهرها الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ قالوا: ولكن الأفضل الأوّل اقتداء به صلى الله عليه وسلم، ولأنّه أصون لفصّه، وأسلم، وأبعد عن الزهد والإعجاب؛ كذا ذكره النووي في «شرح مسلم» .
وكان نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (محمّد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم
…
والكفّ مؤنثة؛ سمّيت بذلك!! لأنّها تكفّ؛ أي: تدفع عن البدن.
(و) أخرج البخاريّ، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:(كان نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «محمّد» سطر) مبتدأ وخبر، (و «رسول» سطر) مبتدأ وخبر أيضا، ويجوز في «رسول» التنوين بقطع النظر عن الحكاية، وترك التنوين نظرا للحكاية.
(و «الله» سطر) مبتدأ وخبر أيضا، ويجوز في لفظ الجلالة الرفع بقطع النظر عن الحكاية، والجرّ بالنظر لها.
وظاهر ذلك أنّ «محمّدا» هو السطر الأوّل، و «رسول» هو السطر الثاني، ولفظ «الجلالة» هو السطر الثالث.
ويؤيّده رواية الإسماعيلي: «محمّد» سطر، والسطر الثاني «رسول» ، والسّطر الثالث «الله» . وفي «تاريخ ابن كثير» عن بعضهم أنّ كتابته كانت مستقيمة، وكانت تطبع كتابة مستقيمة «1» . انتهى. وهو معجزة ظاهرة.
(و) أخرج البخاريّ، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ واللفظ لها:
(عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من الحديبية (أن يكتب) المكاتيب التي فيها الدعوة إلى الله تعالى، ويرسلها (إلى العجم) ؛ أي: إلى عظمائهم وملوكهم، والمراد بالعجم ما عدا العرب، فيشمل الروم وغيرهم.
(1) هكذا في الأصل!!.
قيل له: إنّ العجم لا يقبلون إلّا كتابا عليه خاتم. فاصطنع خاتما، فكأنّي أنظر إلى بياضه في كفّه.
وعن أنس أيضا: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، (قيل له) - أي: قال له رجل، قيل: من قريش، وقيل: من العجم- (: إنّ العجم لا يقبلون) - أي: لا يعتمدون- (إلّا كتابا عليه خاتم) - بالفتح والكسر- أي: نقش خاتم، فهو على تقدير مضاف. وعدم قبولهم له! لأنّه إذا لم يختم تطرّق إلى مضمونه الشكّ؛ فلا يعملون به، ولأنّ ترك ختمه تشعر بترك تعظيم المكتوب إليه، بخلاف ختمه، فإنّ فيه تعظيما لشأنه.
(فاصطنع خاتما) ؛ أي: فلأجل ذلك أمر بأن يصطنع له خاتم، فالتركيب فيه مجاز عقلي، على حد قولهم: بنى الأمير المدينة؛ والصانع له كان يعلى بن أمية.
(فكأنّي أنظر إلى بياضه)، أي: بياض الخاتم، لأنه كان من فضة (في كفّه) . ظاهره أنّه من باطن أصبعه، وفي ذلك إشارة إلى كمال إتقانه، واستحضاره لهذا الخبر حال الحكاية، كأنّه يخبر عن مشاهدة.
ويدلّ هذا الحديث على مشروعيّة المراسلة بالكتب، وقد جعل الله ذلك سنّة في خلقه، أطبق عليها الأوّلون والآخرون. وأوّل من استفاض ذلك عنه نبيّ الله سليمان عليه الصلاة والسلام، إذ أرسل كتابه إلى بلقيس مع الهدهد.
ويؤخذ منه ندب معاشرة الناس بما يحبّون، وترك ما يكرهون واستئلاف العدوّ بما لا يضرّ، ولا محذور فيه شرعا؛ قاله المناوي.
(و) في «الصحيحين» و «الشمائل الترمذيّة» ، - واللّفظ لها-:(عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كتب) - أي: أراد أن يكتب ليوافق الرواية السابقة- (إلى كسرى) - بكسر أوّله وفتحه-: ملك فارس، وهو معرّب خسرو بفتح الخاء، وسكون السين، وفتح الراء- أي: واسع الملك. والنسبة إليه «كسرويّ» ، وإن شئت «كسريّ» . وعن أبي عمرو: جمع كسرى: أكاسرة على غير
وقيصر، والنّجاشيّ، فقيل له: إنّهم لا يقبلون كتابا إلّا بخاتم، فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقته فضّة، ونقش فيه:(محمّد رسول الله) .
قياس، فإنّ قياسه: كسرون؛ نقله ابن الكمال.
(وقيصر) ملك الروم، (والنّجاشيّ) ملك الحبشة، مخفّف عند الأكثر، وكان ذلك لقبا لكلّ من ملك إقليما من ذلك، ك «فرعون» لمن ملك القبط، و «العزيز» لمن ملك مصر، و «تبّع» لمن ملك حمير، و «خاقان» لمن ملك التّرك.
وسيأتي الكلام على النجاشي في مبحث الخف.
(فقيل له:) - وعند ابن سعد: فقالت له قريش-: (إنّهم) ؛ أي: هؤلاء الملوك (لا يقبلون كتابا إلّا) مختوما (بخاتم) ، لأنه إذا لم يختم تطرّق إلى مضمونه الشكّ كما تقدم، ولذلك صرّح أصحابنا في «كتاب قاض إلى قاض» بأنّه لا بدّ من ختمه.
(فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما) ؛ أي: أمر بصوغه. والصوغ: تهيئة الشيء على أمر مستقيم، وتقدّم أنّ الصايغ كان يعلى بن أميّة (حلقته) - بسكون اللام، وقد تفتح- (فضّة) ، فيه إشعار بأنّه لم يكن فصّه فضّة، بل حبشيّ- على ما تقدّم في بعض الروايات- (ونقش) ببنائه للفاعل؛ أي: أمر، أو للمفعول، وهو عليه حقيقة (فيه) أي: في الخاتم؛ أي: فصّه: (محمّد رسول الله) ، وختم به الكتب.
فلما جاء كتابه إلى كسرى مزّقه، فدعا عليه؛ فمزّق ملكه.
ولما أتى إلى هرقل حفظه فحفظ ملكه.
ولما أتى الكتاب إلى النجاشي أسلم، وذلك سنة ستّ، واسمه أصحمة، ومات سنة تسع، وصلّى على جنازته، وكتب له كتابا ثانيا ليزوّجه أمّ حبيبة رضي الله تعالى عنها.
وفي هذا الحديث وما قبله: حلّ نقش اسم الله تعالى على الخاتم، والردّ على من كره ذلك؛ كابن سيرين. وقد كان نقش خاتم عليّ: لله الملك. وحذيفة؛
وكان صلى الله عليه وسلم يختم الكتب ويقول: «الخاتم على الكتاب خير من التّهمة» .
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، فكان يلبسه في يمينه،
…
وابن الجرّاح: الحمد لله. وأبي جعفر الباقر: العزّة لله. وإبراهيم النخعي: الثّقة بالله. ومسروق: باسم الله. فأولى نقش اسم الإنسان، ونسبه، ولقبه؛ ليحصل به تمييزه.
قال ابن جماعة: ونقش الخواتم تارة تكون كتابة؛ وتارة تكون غيرها، فإن لم تكن كتابة؛ بل لمجرّد التحسين! فهو مقصد مباح إذا لم يقارنه ما يحرّمه، كنقش نحو صورة، وإن كان كتابة! فتارة ينقش من الألفاظ الحكميّة ما يفيد تذكّره كلّ وقت وعدم الغفلة عنه؛ كما روي أنّ عمر نقش على خاتمه: كفى بالموت واعظا. وهذا مقصد صالح، وتارة ينقش اسم صاحبه للختم به، وهذا هو المراد هنا. انتهى.
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم الكتب) - جمع كتاب- (ويقول: «الخاتم على الكتاب خير من التّهمة» ) - بضمّ المثنّاة الفوقيّة المشدّدة، وفتح الهاء على وزان: رطبة، والسكون لغة، وأصل التاء واو، يقال: اتّهمته في قوله؛ شككت في صدقه. أي: أنّ الكتاب إذا لم يختم تطرّق إلى مضمونه الشكّ- كما تقدم-.
(و) أخرج الإمام مالك في «الموطّأ» ، والبخاريّ؛ ومسلم في «صحيحيهما» ، وأبو داود، والنسائي، والترمذيّ، في «الجامع» و «الشمائل» - واللّفظ لها- (عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:
اتّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب) ، زاد البخاريّ:«وجعل فصّه مما يلي كفّه، ونقش فيه محمّد رسول الله» . لكن ليس فيه قوله:
(فكان يلبسه في يمينه) ؛ أي: قبل تحريم الذهب على الرجال. قال
فاتّخذ النّاس خواتيم من ذهب، فطرحه، وقال:«لا ألبسه أبدا» ، فطرح النّاس خواتيمهم.
وعن ابن عمر أيضا: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتما من فضّة، وجعل فصّه ممّا يلي كفّه،
…
البيهقيّ: وهذا الخاتم هو الذي كان فصّه حبشيا. (فاتّخذ النّاس خواتيم) ؛ جمع خاتم، والياء فيه للإشباع. (من ذهب) تبعا له صلى الله عليه وسلم. (فطرحه)، أي: رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقال: «لا ألبسه أبدا» ) لما رأى من زهوّهم بلبسه، وصادق ذلك نزول الوحي بتحريمه، ففي «الصحيحين» : قال البراء: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فألقاه، ونهى عن التختّم بالذّهب.
وفي ذلك التصريح بأنّه لم يقتصر على الإلقاء؛ لأنّه بمجرّده لا يدلّ على التحريم. قال القسطلّاني في «المواهب» : وهو- أي: التحريم- مذهب الأئمّة الأربعة: مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد وأكثر العلماء رضي الله تعالى عنهم. (فطرح النّاس خواتيمهم) ؛ أي: من أيديهم تبعا له صلى الله عليه وسلم. والخواتيم:
جمع خاتم؛ كالخواتم، والياء فيه للإشباع.
قال ابن حجر: وهذا الحديث هو الناسخ لحلّه؛ مع قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وقد أخذ ذهبا في يد وحريرا في يد؛ وقال:«هذان حرام على ذكور أمّتي؛ حلّ لإناثها» .
ووقع لبعض من لا إلمام له بالفقه هنا تخليط فاجتنبه، كيف والأئمّة الأربعة على تحريمه؟! للنهي عنه في حديث «الصحيحين» وغيرهما، ورخّصت فيه طائفة، واستدلّوا بأنّ خمسة من الصحابة ماتوا وخواتيمهم من ذهب، ويردّ بأنّ ذلك إن صحّ عنهم يتعيّن حمله على أنّه لم يبلغهم النهي عنه. انتهى.
(و) في «مسلم» ، و «الشمائل» ؛- واللّفظ لها-:(عن ابن عمر أيضا) رضي الله تعالى عنهما (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتما من فضّة) ؛ أي: للختم به، وفي رواية: اتّخذها خاتما كلّه من فضّة (وجعل فصّه ممّا يلي كفّه) . وفي رواية
ونقش فيه محمّد رسول الله، ونهى أن ينقش أحد عليه.
لمسلم: ممّا يلي باطن كفّه. وهي تفسير للأولى.
وعورض هذا الحديث بما رواه أبو داود؛ من رواية الصّلت بن عبد الله قال:
رأيت ابن عبّاس يلبس خاتمه هكذا؛ وجعل فصّه على ظهرها. قال: ولا إخال ابن عبّاس إلّا وقد كان يذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس خاتمه كذلك.
وقد يجمع بما قاله الزين العراقيّ من أنه وقع مرّة هكذا ومرّة هكذا، قال:
ورواية جعله ممّا يلي كفّه أصحّ؛ فهو الأفضل. قال ابن العربي: ولا أعلم وجهه.
ووجّهه النوويّ بأنّه أبعد عن الزهو والعجب، وبأنّه أحفظ للنقش الذي فيه من أن يحاكي أن ينقش مثله، أو يصيبه صدمة، أو عود صلب، فيغيّر نقشه الذي اتّخذ لأجله.
(ونقش فيه) - أي: أمر بنقشه فهو بالبناء للفاعل، لكن على المجاز على حد قولهم: بنى الأمير المدينة- (محمّد رسول الله) ؛ أي: هذه الألفاظ.
قال الزين العراقيّ: وهل قصد به اسمه فقط!؟ فيكون قول «رسول الله» صفة لقوله «محمّد» لا خبر له، ويكون كما لو كتب: محمد بن عبد الله، كما نقش ابن عمر على خاتمه عبد الله بن عمر، وعليه فيكون خبر المبتدأ محذوفا؛ أي:
مالكه، أو صاحبه «محمد رسول الله» ، وكأنّه رمز به إلى صاحبه، كما رمز في كتب الحديث إلى صاحب تلك الرواية بكتابة اسمه عليها!! أو أراد به الإتيان بإحدى كلمتي الشهادة على أنّه مبتدأ وخبر؟ وعليه فهل أريد بعض القرآن؛ فيكون حجّة على جواز ذلك، وردّ على من كرهه من السلف، أو لم يقصد به القرآن؟ كلّ محتمل.
ويدلّ على أنّه أريد إحدى كلمتي الشهادة؛ الحديث الوارد في نقش كلمتي الشهادة على الخاتم. انتهى؛ نقله المناوي.
(ونهى) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (أن ينقش) بضمّ القاف (أحد عليه) أي: مثل نقشه؛ وهو: محمد رسول الله، كما يدلّ له رواية البخاريّ، ومسلم؛ عن أنس:
وهو الّذي سقط من معيقيب في بئر أريس.
و (معيقيب) : هو من أهل بدر، وكان يلي خاتم المصطفى صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من بعده.
اتّخذ رسول الله خاتما من فضّة، ونقش فيه:«محمّد رسول الله» ، وقال للنّاس:
«إنّي اتّخذت خاتما من ورق، ونقشت فيه: محمّد رسول الله. فلا ينقش أحد على نقشه» .
والحكمة في النهي عن ذلك: أنّه كان يختم به للملوك، فلو نقش غيره مثله لأدّى إلى الإلباس والفساد.
وما روي أنّ معاذا نقش على خاتمه: (محمّد رسول الله) وأقرّه المصطفى صلى الله عليه وسلم!! فلم يثبت، وبفرض ثبوته!! فهو قبل النهي، ويظهر- كما قاله ابن جماعة، والزين العراقيّ-: أنّ النهي خاصّ بحياته صلى الله عليه وسلم أخذا من العلّة. انتهى باجوري بزيادة.
(وهو الّذي سقط من معيقيب) بن أبي فاطمة الدوسيّ (في بئر أريس) بوزن «أمير» ، وهي الكائنة في قباء، ويقال لها: بئر الخاتم. (ومعيقيب) - بضمّ الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتيّتين، وقاف مكسورة بينهما، وموحدة في آخره- تصغير معقاب ك «مفضال» ، (هو) مولى سعد بن أبي العاص، وكان (من أهل بدر) : أسلم قديما بمكّة، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وأقام بها حتّى قدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
(وكان يلي خاتم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنوّرة، (و) يلي خاتم (الخلفاء من بعده) ، واستعمله أبو بكر، وعمر، وعثمان على بيت المال.
وهو قليل الحديث. قيل: مرويّاته سبعة أحاديث؛ اتّفق البخاريّ ومسلم على واحد منها، وانفرد البخاريّ بواحد. ومات سنة: أربعين هجريّة، وقيل: في آخر خلافة عثمان، وقيل: في خلافة عليّ.
قال الزركشيّ وغيره: كان به علّة من جذام، فعولج بأمر عمر بن الخطّاب
وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق، فكان في يده، ثمّ كان في يد أبي بكر، وفي يد عمر، ثمّ كان في يد عثمان
…
بالحنظل فوقف، وكان بأنس طرف من برص. قال بعض الحفّاظ: ولا يعرف في الصحابة من أصيب بذلك غيرهما.
(و) أخرج الشيخان: البخاري، ومسلم في «صحيحيهما» ، والترمذيّ في «الشمائل» ، وغيرها؛ (عن عبد الله بن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق) - بكسر الراء- وفي رواية: من فضّة.
وكان اتّخاذه سنة سبع، كما جزم به ابن سيّد الناس، وجزم غيره بأنّه في السادسة!! وجمع الحافظ ابن حجر بينهما بأنّه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة؛ كما مرّ، وكان صانع الخاتم يعلى بن منيّة، وهو اسم أمّه، واسم أبيه: أميّة؛ كما تقدّم.
وروى الدارقطنيّ، وغيره؛ عن يعلى بن منيّة قال: أنا صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم خاتما لم يشركني فيه أحد، نقش فيه: محمد رسول الله.
(فكان في يده) ؛ أي: في خنصر يده اليمنى، فهو من باب إطلاق الكلّ وإرادة الجزء، وهكذا يقال في لاحقه، (ثمّ) بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم (كان في يد أبي بكر) الصدّيق رضي الله تعالى عنه مدّة خلافته، (و) بعد أبي بكر كان (في يد عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه مدّة خلافته، (ثمّ) بعد موت عمر (كان في يد عثمان) بن عفّان رضي الله تعالى عنه ستّ سنين من خلافته، كما في بعض الروايات، وثمّ هنا للتراخي في الرتبة.
وظاهر هذا الحديث مخالف لما ورد، من أنّ أبا بكر جعل الخاتم عند معيقيب ليحفظه ويدفعه للخليفة وقت الحاجة إلى الختم؛ كما رواه أبو داود، وغيره. بل في رواية البخاريّ؛ عن ابن عمر:«فلبس الخاتم بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، وعثمان» .
حتّى وقع في بئر أريس، نقشه: محمّد رسول الله.
وهو صريح في المخالفة لرواية أبي داود وغيره، وتدفع المخالفة بأنّهم لبسوه أحيانا للتبرّك، وكان مقرّه عند معيقيب؛ جمعا بين الروايات.
وقيل: المراد من كون الخاتم في أيديهم أنّه كان عندهم في تصرّفهم، كما يقال في العرف: هذا الشيء في يد فلان؛ أي: عنده وفي تصرّفه، فلا يلزم منه لبسه، وهذه تردّه رواية البخاريّ المارّة، والله أعلم.
ويؤخذ من ذلك: أنّه يجوز للشخص استعمال ختم منقوش باسم غيره بعد موته. لأنّه لا التباس بعد موته، قال النووي: وفي الحديث التبرّك بآثار الصالحين، ولبس ملابسهم. انتهى.
(حتّى وقع) ؛ أي: إلى أن سقط في أثناء خلافة عثمان منه، كما في رواية البخاريّ، أو من معيقيب، كما في «الشمائل» ، وبعض طرق مسلم، ويحتمل كما في «القسطلّاني» - أنّه لمّا طلبه من معيقيب ليختم به شيئا استمرّ في يده، وهو متفكّر في شيء يعبث به، ثمّ دفعه في تفكّره إلى معيقيب، فاشتغل بأخذه فسقط، فنسب سقوطه لكلّ منهما، أحدهما حقيقة، والآخر مجازا. هذا غاية ما جمع به، والراجح من حيث الصناعة الأوّل، لاتّفاق رواية الشيخين عليه. انتهى.
(في بئر) - بالهمز، وتخفّف، وهي مؤنثة- (أريس) - بفتح الهمزة، وكسر الراء، وسكون المثنّاة التحتية، آخره سين مهملة، بوزن جليس، يصرف ولا يصرف- وهي بئر بحديقة قريبة من مسجد قباء؛ نسبة إلى رجل من اليهود اسمه أريس، وهو الفلّاح بلغة أهل الشام، ويقال لها: بئر الخاتم أيضا.
(نقشه) ؛ أي: نقش ذلك الخاتم أو نقش فصّه: (محمّد رسول الله)، أي:
هذه الكلمة على الترتيب، زاد في رواية أبي داود، والنسائي: فاتّخذ عثمان خاتما، ونقش فيه: محمّد رسول الله، فكان يختم به. وله شاهد من مرسل عليّ بن الحسين عند ابن سعد في «الطبقات» .
قال الباجوريّ: (وفي وقوعه إشارة إلى أنّ أمر الخلافة كان منوطا به، فقد تواصلت الفتن، وتفرّقت الكلمة، وحصل الهرج، ولذلك قال بعضهم: كان في خاتمه صلى الله عليه وسلم ما في خاتم سليمان من الأسرار؛ لأنّ خاتم سليمان لمّا فقد.. ذهب ملكه، وخاتمه صلى الله عليه وسلم لمّا فقد من عثمان.. انتقض عليه الأمر، وفي «الصحيح» ؛ عن أنس: كان خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم في يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلمّا كان عثمان جلس في بئر أريس، فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به فسقط، فاختلفنا ثلاثة أيّام مع عثمان ننزح البئر فلم نجده.
قال الحافظ ابن حجر وغيره: كان ذلك في السنة السابعة من خلافته رضي الله تعالى عنه.
(قال الباجوريّ) كالحافظ ابن حجر، وغيره:(وفي وقوعه) ؛ أي:
سقوطه في البئر (إشارة إلى أنّ أمر الخلافة) من حيث جمع الكلمة، واستقرار الأمور (كان منوطا) - أي: مربوطا ومعلّقا- (به) ؛ أي: بذلك الخاتم، لما فيه من السرّ؛ لأنّه من آثار الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، (فقد تواصلت) - أي: تتابعت- (الفتن) بعد سقوطه، (وتفرّقت الكلمة) - أي: كلمة المسلمين- ونقموا على عثمان أشياء، واختلّ نظام الطاعة له، وكان من أمر عثمان ما هو مذكور في التواريخ. ثم أسندت الخلافة بعده إلى عليّ بن أبي طالب؛ مع وجود المنازعين له بسبب قتلة عثمان الذين كانوا في جيش عليّ، ووقعت حروب طاحنة بين الجماعة؛ التابعين لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وبين الجماعة المخالفين له، (وحصل) شقاق كبير بين الطائفتين، وكثر (الهرج) ؛ أي: القتل بين الفريقين، (ولذلك قال بعضهم: كان في خاتمه صلى الله عليه وسلم شيء من الأسرار؛ مثل (ما) كان (في خاتم) نبيّ الله (سليمان) بن داود عليهما الصلاة والسلام (من الأسرار) ، وذلك (لأنّ خاتم سليمان لمّا فقد ذهب ملكه، و) كذلك (خاتمه صلى الله عليه وسلم ؛ فإنّه (لمّا فقد من عثمان) بن عفّان (انتقض عليه الأمر) ، وخرج عليه الخارجون، ووقع الاختلاف
وحصلت الفتن الّتي أفضت إلى قتله، واتّصلت إلى آخر الزّمان) انتهى.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشفق من الحاجة ينساها.. ربط في خنصره، أو في خاتمه الخيط.
إلى الآن، (وحصلت الفتن الّتي أفضت إلى قتله) شهيدا مظلوما؛ وهو يقرأ القرآن، والمصحف بين يديه، فوقع الدم على قوله تعالى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(137)[البقرة] .
(و) كان ذلك مبدأ الفتن التي (اتّصلت إلى آخر الزّمان) . قال ابن علّان في شرح «الأذكار» : والناس يعجبون من خاتم سليمان؛ وكانت المعجزة به في الشام فحسب! وهذا الخاتم مذ عدم اختلفت الكلمة، وزال الاتّفاق في جميع بلاد الإسلام، من أقصى خراسان إلى آخر بلاد المغرب! حفظنا الله وإيّاكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. آمين. (انتهى) ؛ أي: كلام الباجوري.
(و) أخرج ابن سعد، والحكيم الترمذيّ؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشفق من الحاجة ينساها؛ ربط في خنصره، أو في خاتمه الخيط) . ورواه أبو يعلى؛ عن ابن عمر بلفظ: كان إذا أشفق من الحاجة أن ينساها ربط في أصبعه خيطا ليذكرها. وفي سنده سالم بن عبد الأعلى؛ رماه ابن حبّان بالوضع، واتّهمه أبو حاتم بهذا الحديث، وقال: هذا حديث باطل. وروى ابن شاهين في «الناسخ» له النهي عنه، ثم قال: وجميع أسانيده منكرة، ولا أعلم شيئا منها صحيحا. ولابن عديّ بسند ضعيف؛ عن واثلة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد حاجة أوثق في خاتمه خيطا. وللدار قطني في «الأفراد» ؛ عن رافع بن خديج قال: رأيت في يد النّبيّ صلى الله عليه وسلم خيطا، فقلت:
ما هذا؟! قال: «أستذكر به» . انتهى. ذكر ذلك كلّه في «كشف الخفا ومزيل الإلباس» .
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء.. نزع خاتمه.
والذكر والنسيان من الله تعالى، لكنّ ربط الخيط سبب من الأسباب؛ لأنه نصب العين، فإذا رآه! ذكر ما نسي. فهذا سبب وضعه الله تعالى لعباده كسائر الأسباب، كحوز الأشياء بالأبواب، والأقفال، ونحوهما، وأهل اليقين؛ وهم الأنبياء لا تضرّهم الأسباب، بل يتعيّن فعلها عليهم للتشريع. والنسيان- كما قال بعض العارفين- من كمال العرفان؛ لأنّ الله تعالى نزّه نفسه عنه، وجعله من حقيقة العبد.
(و) أخرج أبو داود، والترمذيّ وقال: حسن، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن حبّان، والحاكم وقال: على شرط الشيخين، لكن قال النوويّ: ضعّفه أبو داود، والنسائي، والبيهقيّ، والجمهور، قال: وقول الترمذي: حسن! مردود. انتهى. وكذا رواه الترمذيّ في «الشمائل» ، واللّفظ لها، كلّهم؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء) - بالفتح والمدّ-؛ أي:
أراد الدخول إلى المحلّ الذي يتخلّى فيه لقضاء الحاجة، ويسمّى ب «الكنيف» ، والحش، والبراز- بفتح الموحّدة- والغائط، والمذهب، والمرفق، والمرحاض.
وسمّي بالخلاء! لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، أو لأنّ الشيطان الموكّل به اسمه «خلاء» ، ونصبه بنزع الخافض لا بالظرفيّه؛ خلافا لابن الحاجب، لأنّ «دخل» عدّته العرب بنفسه إلى كلّ ظرف مكان مختصّ، تقول: دخلت الدار، ودخلت المسجد، ونحوهما، كما عدّت «ذهب» إلى الشام خاصّة؛ فقالوا:
ذهبت الشام، ولا يقولون: ذهبت العراق، ولا اليمن. انتهى «مناوي» .
(نزع) ، وفي رواية أبي داود، وغيره: وضع (خاتمه) - بفتح التاء، وتكسر- أي: نزعه ووضعه خارج الخلاء، لاشتماله على اسم معظّم، بل على جملة من القرآن وهي (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)[49/ الفتح] . فاستصحابه في الخلاء مكروه تنزيها، وقيل: تحريما! وقد صرّح في رواية الحاكم بأنّ سبب الوضع ما نقش
وجاء رجل وعليه خاتم من شبه.
وفي رواية: من صفر؛ وهو: نوع من النّحاس كانت الأصنام تتّخذ منه، فقال:«ما لي أجد منك ريح الأصنام؟!» ، فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد؛ فقال:«ما لي أرى عليك حلية أهل عليه، ففيه: أنّ استصحابه في الخلاء ما نقش عليه معظّم مكروه كراهة تنزيه، وقيل كراهة تحريم. ولو نقش اسم معظّم كمحمّد، وجبريل، وقصد به المعظّم! كره استصحابه؛ كما رجحّه ابن جماعة، فإن لم يقصده! فلا؛ أخذا من الرافعيّ، نصّ الشافعي على حلّ كتابة «الله» في وسم نعم الصدقة «1» ؛ مع كونها تتلطّخ بالخبث؛ لأنّ المقصود من ذلك إنّما هو التمييز.
(و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي، والترمذيّ، وأبو داود، وابن حبّان في «صحيحه» ، والضياء في «المختارة» ، وأبو يعلى والبزّار في «مسنديهما» ، وغيرهم؛ باختلاف في بعض الألفاظ، وكلّهم يروونه عن بريدة- بالتصغير- بن الحصيب- بمهملتين مصغّرا أيضا- رضي الله تعالى عنهما قال:(جاء رجل)، رواية الجماعة المذكورين: أنّه رأى رجلا جاء (وعليه خاتم من شبه) - بفتح الشين المعجمة والموحدة، وبإسكان الموحدة وكسر المعجمة؛ لغتان- ضرب من النحاس كانت الأصنام تتّخذ منه، وسمّي بذلك لشبهه بالذهب لونا، (وفي رواية) للترمذيّ:(من صفر) - بضمّ الصاد المهملة، وإسكان الفاء، وبالراء، بدل من شبه، وهما بمعنى. (وهو) - أي: الصّفر- (نوع من) جيّد (النّحاس كانت الأصنام تتّخذ) - أي: تصنع- (منه) في الجاهليّة، (فقال:) - أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم للرّجل- ( «ما لي أجد) - أشمّ- (منك ريح الأصنام؟!» ) فضمّن «أجد» معنى «أشمّ» ، وأطلق على الأثر الذي يدركه منه:«ريحا» مجازا. (فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد، فقال) : - أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم ( «ما لي أرى عليك حلية أهل
(1) العلامة التي توضع على إبل الصدقة لتتميز عن غيرها وتصرف إلى مصارفها.
النّار؟!» ، فطرحه، وقال: يا رسول الله؛ من أيّ شيء أتّخذه؟
قال: «من ورق ولا تتمّه مثقالا» .
النّار؟!» ) - أي: زيّ الكفّار- فكرهه لذلك، أو لرائحته؛ (فطرحه)، ثم قال له بعد ما جاءه وعليه خاتم من ذهب فقال:«ما لي أرى عليك حلية أهل الجنّة؟!» .
فطرحه.
(وقال: يا رسول الله؛ من أيّ شيء أتّخذه؟ قال: «من ورق) - بكسر الراء- وفي رواية: «اتّخذه من فضّة؛ (ولا تتمّه مثقالا» ) - بكسر فسكون- درهم وثلاثة أسباع درهم.
قال ابن الأثير: وهو في الأصل مقدار من الوزن أيّ شيء كان؛ قلّ أو كثر.
فمعنى مثقال ذرة: وزنها. انتهى. وفي رواية: «ولا تزده على مثقال» .
وروي عند ابن عديّ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى فقال رجل: إنّهم لا يقرؤون كتابا إلّا مختوما، فأمر أن يعمل له خاتم من حديد، فقال له جبريل: انبذه من أصبعك! فنبذه، وأمر بخاتم من نحاس، فقال له جبريل: انبذه! فنبذه، وأمر بخاتم يصاغ له من ورق، فجعله في أصبعه، فأقرّه جبريل. انتهى.
قال ابن حجر: يجوز التختّم بنحو: الحديد، والنحاس، والرصاص بلا كراهة. وخبر:«ما لي أرى عليك حلية أهل النّار؟» لرجل وجده لابسا خاتما من حديد! ضعيف، لكن حسّنه بعضهم، فالأولى ترك ذلك. انتهى.
وقال النووي في شرح «المهذّب» : قال صاحب «الإبانة» : يكره الخاتم من حديد، أو شبه «1» ، وتابعه صاحب «البيان «2» » فقال: يكره الخاتم من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لحديث بريدة المذكور. وقال صاحب «التتمة» : لا يكره
(1) الشبه- بفتحتين-: من المعادن، ما يشبه الذهب في لونه، وهو أرفع النحاس.
(2)
في الفقه الشافعي للعمراني.
.........
الخاتم من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لحديث «الصحيحين» ؛ عن سهل:
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للّذي خطب الواهبة نفسها: «التمس ولو خاتما من حديد!!» . قال: ولو كان فيه كراهة! لم يأذن فيه. وفي «سنن» أبي داود بإسناد جيّد؛ عن معيقيب الصحابيّ: كان خاتمه عليه الصلاة والسلام من حديد ملويّ عليه فضّة. والمختار أنّه لا يكره؛ لهذين الحديثين. انتهى.
وقال في «شرح مسلم» في الكلام على حديث المرأة الواهبة [نفسها]«1» :
وفي هذا الحديث جواز اتّخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسّلف حكاه القاضي عياض، ولأصحابنا الشافعيّة في كراهته وجهان، أصحّهما: لا يكره؛ لأنّ الحديث في النهي عنه ضعيف. انتهى كلام النوويّ.
واعترض تضعيفه للحديث بتصحيح ابن حبّان، والضياء، وغيرهما له، فاعتذر القسطلّاني عن النووي بأنه تضعيف نسبيّ؛ أي: أنّ تضعيفه للحديث إنّما هو بالنسبة إلى مقاومة حديث سهل بن سعد في «الصحيحين» ، وغيرهما، في قصة الواهبة نفسها؛ لا مطلقا! فمعنى التضعيف: تقديم حديثهما عليه، على القاعدة في تقديم مرويّهما عند التعارض على غيره؛ وإن كان صحيحا، أو حسنا! إذ كيف يتوهّم أنّه ضعّفه مطلقا، - أي: حقيقة- وله في ذلك عدّة شواهد؛ إن لم ترفعه إلى درجة الصحّة لم تدعه ينزل عن درجة الحسن؟! قال المناوي: وهذا الاعتذار جرى فيه على عادة أهل القرن العاشر من الانتصار لكلام النوويّ كيفما كان.
والإنصاف: أنّ خبر النّهي دليل صالح لكراهة التنزيه، وحديث «الصحيحين» بيان للجواز معها؛ فلا معارضة، ولذا رجّح المالكيّة كراهة الحديد ونحوه. وإنّما يقدّم خبر الشيخين عند تحقّق المعارضه. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.
(1) في الأصل: نفسه. والصواب ما أثبتناه.