الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الأوّل في جمال صورته صلى الله عليه وسلم، وما شاكلها]
الفصل الأوّل في جمال صورته صلى الله عليه وسلم، وما شاكلها الفصل الأوّل:
في جمال صورته صلى الله عليه وسلم ؛ وهي: ما يظهر للناظرين من جسده صلى الله عليه وسلم ، وفي «المصباح» ؛ قال سيبويه: الجمال رقّة الجسد، والأصل جمالة بالهاء مثل (صبح صباحة) لكنهم حذفوا الهاء تخفيفا لكثرة الاستعمال.
وما شاكلها) ، أي: ناسبها.
واعلم أنّ الكلام على خلقته صلى الله عليه وسلم يستدعي الكلام على ابتداء وجوده؛ فاحتيج إلى ذكره، وإن أغفله المصنّف رحمه الله تعالى.
وملخصه أنه صحّ في «مسلم» أنّه قال: «إنّ الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السّموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» . ومن جملة ما كتب في الذكر؛ وهو «أمّ الكتاب» : أنّ محمدا خاتم النبيين.
وصحّ أيضا: «إنّي عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النّبيّين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته» أي: لطريح ملقى قبل نفخ الروح فيه.
وصحّ أيضا: يا رسول الله؛ متى كنت نبيّا؟! قال: «وآدم بين الرّوح والجسد» . وروي «كتبت» ؛ من الكتابة. وروى الترمذي وحسّنه: يا رسول الله؛ متى وجبت لك النبوة؟! فقال: «وآدم بين الرّوح والجسد» . ومعنى وجوب النبوة وكتابتها ثبوتها وظهورها في الخارج؛ أي: للملائكة، وروحه صلى الله عليه وسلم في عالم الأرواح؛ إعلاما بعظيم شرفه وتميّزه عن بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
.........
وخصّ الإظهار بحالة كون آدم بين الروح والجسد!! لأنّه أوان دخول الأرواح إلى عالم الأجساد، والتمايز حينئذ أتمّ وأظهر فاختصّ صلى الله عليه وسلم بزيادة إظهار شرفه حينئذ، ليتميّز على غيره تميّز أظهر وأتمّ.
وأجاب الغزالي في بعض كتبه عن وصف نفسه بالنبوة قبل وجود ذاته، وخبر «أنا أوّل الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا» : بأن المراد بالخلق هنا التقدير، لا الإيجاد، فإنه قبل أن تحمل به أمّه لم يكن مخلوقا موجودا، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير؛ لا حقة في الوجود. فقوله:«كنت نبيّا» - أي: في التقدير- قبل تمام خلقة آدم. إذ لم ينشأ إلّا لينتزع من ذريّته محمد صلى الله عليه وسلم. وتحقيقه أنّ للدار في ذهن المهندسين وجودا ذهنيّا؛ سببا للوجود الخارجي وسابقا عليه، فالله تعالى يقدّر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا. انتهى.
وذهب السبكي إلى ما هو أحسن وأبين؛ وهو أنّه جاء: «إنّ الأرواح خلقت قبل الأجساد» . والإشارة ب «كنت نبيّا» إلى روحه الشريفة، أو حقيقة من حقائقه لا يعلمها إلّا الله تعالى، ومن حباه بالاطلاع عليها.
ثم إنّ الله تعالى يؤتي كلّ حقيقة منها ما شاء؛ في أيّ وقت شاء، فحقيقته صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم آتاها الله ذلك الوصف بأن خلقها متهيئة له؛ وأفاضه عليه فصار نبيا، وكتب اسمه على العرش ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت؛ وإن تأخّر جسده الشريف المتّصف بها؛ فحينئذ فإيتاؤه النبوة والحكمة وسائر أوصاف حقيقته وكمالاته معجّل لا تأخير فيه، وإنما المتأخّر تكوّنه وتنقّله في الأصلاب والأرحام الطاهرة إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم. ومن فسّر ب (علم الله تعالى أنّه سيصير نبيّا) !! لم يصل لهذا المعنى، لأن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء، فالوصف بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنّه أمر ثابت له، وإلّا لم يختصّ بأنه نبيّ حينئذ، إذ الأنبياء كلّهم كذلك بالنسبة لعلمه تعالى.
وقال العماد ابن كثير؛ في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الآية [81/ آل عمران] :
.........
إنّ الله تعالى لم يبعث نبيا إلّا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم إن بعث؛ وهو حي:
ليؤمننّ به ولينصرنّه، ويأخذ العهد بذلك.
وأخذ السبكي من الآية: أنّه على تقدير مجيئه في زمانهم مرسل إليهم؛ فتكون نبوّته ورسالته عامّة لجميع الخلق من آدم إلى يوم القيامة. وتكون الأنبياء والأمم كلّهم من أمته. فقوله: «وبعثت إلى النّاس كافّة» يتناول من قبل زمانه أيضا، وبه يتبيّن معنى قوله «كنت نبيّا وآدم بين الرّوح والجسد» ، وكذا حكمة كون الأنبياء تحت لوائه في الآخرة وصلاته بهم ليلة الإسراء.
فأوّل الأشياء على الإطلاق: النور المحمّدي، ثم الماء، ثم العرش، ثم القلم. ولما خلق الله آدم جعل ذلك النور في ظهره؛ فكان يلمع في جبينه، ولما توفي كان ولده شيث وصيّه، فوصّى ولده بما وصّاه به أبوه «أن لا يوضع هذا النور إلّا في المطهّرات من النساء» ، ولم يزل العمل بهذه الوصية إلى أن وصل ذلك إلى عبد الله مطهّرا من سفاح الجاهلية كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في عدّة أحاديث. ثم زوّج عبد المطلب ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا؛ فدخل بها، وحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم، فظهر في حمله ومولده عجائب تدلّ لما يؤول إليه أمر ظهوره ورسالته.
وقد صح أنّ أمّه صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاء له قصور الشام، وولد مختونا في قول- عام الفيل، وحكي الاتفاق عليه، والمشهور أنّه بعده بخمسين يوما، وقيل: بأربعين، وقيل: بعشر سنين، وقيل غير ذلك.
ثم الجمهور على أنّه ولد في شهر ربيع الأول، فقيل: ثانيه. وقيل: ثامنه.
وانتصر له كثير من المحدّثين. وقيل: عاشره. وقيل: ثاني عشره وهو المشهور.
وقيل غير ذلك، وذلك في يوم الاثنين- كما صحّ في «مسلم» - عقب الفجر- كما في رواية ضعيفة-
قال في «المواهب» : (اعلم أنّ من تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم.. الإيمان بأنّ الله تعالى جعل خلق بدنه الشّريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدميّ مثله.
ومدّة حمله تسعة أشهر، أو عشرة، أو ثمانية، أو سبعة، أو ستة: أقوال.
بمكة بمولده المشهور الآن؛ وهو الأصحّ. وقيل: بالشّعب. وقيل: بالروم.
ثم أرضعته حليمة السعدية، والمشهور موت أبيه بعد حمله بشهرين، وقيل: وهو في المهد، وماتت أمه ودفنت بالأبواء، وقيل: بالحجون. وجمع بعض كما في «الخميس» بأنها دفنت أوّلا بالأبواء؛ وكان قبرها هناك، ثم نبشت ونقلت إلى مكة؛ كما في الزرقاني على «المواهب» .
ومات جدّه كافله عبد المطلب؛ وله ثمان سنين، أو: تسع، أو: عشر، أو ست: أقوال.
ثم كفله عمّه شقيق أبيه أبو طالب.
وتزوّج خديجة؛ وهي بنت أربعين. وهدمت قريش الكعبة وعمره خمس وثلاثون سنة.
ثم لما بلغ أربعين سنة- أو: وأربعين يوما، أو: وشهرين- بعثه الله رحمة للعالمين يوم الاثنين؛ لخبر «مسلم» ، في رمضان، وقيل: ربيع. فأقام بمكّة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين.
(قال) - أي- العلّامة القسطلّاني (في «المواهب) اللّدنّيّة بالمنح المحمّديّة» :
(اعلم أنّ من تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم، الإيمان) ؛ أي: التصديق والاعتقاد (بأنّ الله تعالى جعل خلق) - أي: تقدير- (بدنه الشّريف على وجه) - أي: حال؛ وهيئة- (لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدميّ مثله) ؛ أي: لم يجتمع في بدن آدمي من المحاسن الظاهرة ما اجتمع في بدنه صلى الله عليه وسلم. وسرّ ذلك: أنّ المحاسن الظاهرة آيات
ولله درّ الأبوصيريّ حيث قال:
فهو الّذي تمّ معناه وصورته
…
ثمّ اصطفاه حبيبا بارىء النّسم
على المحاسن الباطنة، والأخلاق الزكية؛ ولا أكمل منه صلى الله عليه وسلم، ولا مساو له في هذا المدلول؛ فكذلك الدالّ، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه آيات على ما يتّضح من عظيم خلق نفسه الكريمة. وما يتّضح من عظيم أخلاق نفسه، آيات على ما تحقّق له من سرّ قلبه المقدّس، أي: ما اشتمل عليه من المعاني البديعة.
فالمعاني مكنونة فيه لا يطّلع عليها، ولكن يستدلّ عليها بما ظهر من أخلاقه وكمالاته. وهو صلى الله عليه وسلم؛ وإن ظهر منه كمالات لا تحصى؛ فهي بالنسبة لما خفي كنقطة من بحر. فالمراتب إذن ثلاث: المشاهد دليل على الباطن، وذلك الباطن دليل على ما أودع في قلبه من العلوم والمعارف.
(ولله درّ الأبوصيريّ) : محمد بن سعيد الصّنهاجي الدّلاصي المولد، المغربي الأصل، البوصيري المنشأ. ولد ب «دلاص» أول شوال سنة: - 608- ثمان وستمائة، وبرع في النظم. قال فيه الحافظ ابن سيّد الناس: هو أحسن من الجزار والوراق. ومات سنة: - 695- 694- خمس؛ أو: أربع وتسعين وستمائة.
كان أحد أبويه من «بوصير الصعيد» والآخر من «دلاص» بفتح الدال المهملة: قرية ب «البهنسا» ، فركّبت النسبة منها؛ فقيل الدلاصيري. ثم اشتهر بالبوصيري؛ لنشأته بها، أو لأنّها بلد أبيه. فقوله «الأبوصيري» منتقد، لأنّ القرية إنما هي «بوصير» والنسبة إليها البوصيري، كما في «المراصد» و «اللباب» و «لبّه» في باب الموحدة؛ لا الهمزة. (حيث قال) في «بردة المديح» :
(فهو الّذي تمّ) : كمل (معناه) : حال باطنه، (وصورته) : حال ظاهره؛ بالرفع عطف على «معناه» والنصب مفعول معه (ثمّ اصطفاه) : اختاره (حبيبا بارىء) : خالق (النّسم) : جمع نسمة- بفتحتين-: وهي الإنسان.
و «ثمّ» للترتيب في الإخبار؛ دون الصفات، أو في الاصطفاء؛ كما قال المحلّي، نظرا للوجود الخارجي، فإن اتخاذه حبيبا ومخاطبته به بعد تمام معناه وصورته:
منزّه عن شريك في محاسنه
…
فجوهر الحسن فيه غير منقسم
وقد حكى القرطبيّ رحمه الله تعالى في (كتاب الصّلاة)، أنّه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه لو ظهر لنا تمام حسنه.. لما طاقت أعيننا رؤيته صلى الله عليه وسلم انتهى.
(منزّه) : مبعّد (عن شريك في محاسنه) ؛ جمع محسن؛ بمعنى الحسن أي: لا شريك له في حسنه، (فجوهر الحسن) أصله (فيه غير منقسم) ؛ أي:
متفرّق.
ومعنى البيتين: هو الذي كمل باطنه في الكمالات، وظاهره في الصفات. ثم اختاره خالق الإنسان حبيبا لا شريك له في الحسن. وجوهره لا يقبل القسمة بينه وبين غيره. كما أن الجوهر الفرد المتوهّم في الجسم، ويقول المتكلمون: الجسم مركّب منه غير منقسم بوجه؛ لا بالفرض، ولا بالوهم، ومن كان موصوفا بكمال الصفات ظاهرا وباطنا كان محبوبا؛ قاله الشيخ خالد.
(وقد حكى) الشيخ العلّامة محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح- بإسكان الراء وبالحاء المهملتين- أبو عبد الله الأنصاري الأندلسي (القرطبيّ) - بضم القاف والطاء المهملة وموحدة-؛ نسبة إلى قرطبة مدينة بالأندلس، المفسّر وكان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين، الزّاهدين المشغولين بأمور الآخرة.
أوقاته ما بين توجّه وعبادة وتصنيف. وله تصانيف كثيرة.
أخذ عن أبي العبّاس أحمد بن عمر القرطبي شارح «مسلم» المتوفى بالإسكندرية سنة: - 626- ست وعشرين وستمائة. وأخذ عن غيره واستقر ب «منية ابن خصيب» ، وبها مات سنة: - 671- إحدى وسبعين وستمائة (رحمه الله تعالى في كتاب الصّلاة) ؛ عن بعضهم: (أنّه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه صلى الله عليه وسلم ؛ رفقا من الله تعالى بنا، (لأنّه لو ظهر لنا تمام حسنه لما طاقت أعيننا رؤيته صلى الله عليه وسلم ؛ لعجزنا عن ذلك. (انتهى) ما في «المواهب» . ولقد أحسن البوصيري حيث قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الجسم. رواه غير واحد.
وروى التّرمذيّ عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطّويل
…
أعيا الورى فهم معناه فليس يرى
…
للقرب والبعد فيه غير منفحم
كالشّمس تظهر للعينين من بعد
…
صغيرة وتكلّ الطّرف من أمم «1»
و (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الجسم)، والحسن- كما قال بعضهم-: عبارة عن كلّ بهج مرغوب فيه حسّا؛ أو عقلا. وهو هنا صادق بهما جميعا. والجسم:
هو الجسد من البدن والأعضاء. والمراد بحسن جسمه أنّه معتدل الخلق، متناسب الأعضاء؛ كما في المناوي.
(رواه) أي: ما ذكر من حسن جسمه (غير واحد) من المحدّثين؛ منهم الحافظ الترمذي في «الشمائل» عن أنس رضي الله تعالى عنه. ومنهم الحافظ البيهقيّ عن رجل من الصّحابة؛ كما في الزرقاني. وذكره الإمام النووي في «التهذيب» .
(وروى) مسلم في «صحيحه» ، و (التّرمذيّ) في «الشمائل» ؛ (عن أنس) «خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين» . والمراد حيث أطلق أنس بن مالك؛ وإن كان هناك جماعة يسمّى كلّ منهم أنسا. وقد تقدّمت ترجمته (رضي الله تعالى عنه؛ قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان» مع المضارع لا تفيد التكرار، كما نقله النووي في «شرح مسلم» ؛ عن المحققين. وقال ابن الحاجب: تفيده، وليس المراد أنّها تفيده مطلقا، بل في مقام يقبله، لا كما هنا.
(ليس بالطّويل) خبر «كان» وليس لنفي مضمون الجملة حالا؛ وهو
(1) أمم: قرب.
البائن، ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق،
…
المناسب هنا. وقيل: إنها لنفي مضمونها في الماضي، وعليه فتكون حالا ماضية قصد دوام نفيها (البائن) - بالهمز- ووهم من جعله بالياء لوجوب إعلال اسم الفاعل؛ إذا أعل فعله، كبائع وقائل. وهو إمّا من «بان يبين بيانا» ؛ إذا ظهر على غيره، وعليه فهو بمعنى الظاهر طوله. أو من «بان يبون بونا» ؛ إذا بعد، وعليه فهو بمعنى البعيد عن حدّ الاعتدال، ويصحّ أن يكون من البين؛ وهو القطع، لأن من رأى فاحش الطول تصوّر أنّ كلّا من أعضائه مبان عن الآخر. انتهى «مناوي» .
(ولا) عطف على خبر «ليس» ولا مؤكّدة للنفي، (بالقصير) - أي- المتردّد الداخل بعضه في بعض- كما سيأتي-. والمعنى أنّه كان متوسّطا بين الطول والقصر، لا زائد الطول ولا القصر.
وفي نفي أصل القصر ونفي الطول البائن لا أصل الطول إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان مربوعا؛ مائلا إلى الطول، وأنّه كان إلى الطول أقرب؛ كما رواه البيهقي.
ولا ينافيه وصفه الآتي بأنه ربعة!! لأنه أمر نسبي، ويوافقه خبر البراء: كان ربعة؛ وهو إلى الطول أقرب. وقد ورد عند البيهقي؛ وابن عساكر أنّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يماشيه أحد من الناس إلّا طاله صلى الله عليه وسلم، ولربّما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسب إلى الرّبعة. وفي «خصائص ابن سبع» : كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من الجالس. قيل: ولعل السرّ في ذلك أنّه لا يتطاول عليه أحد صورة، كما لا يتطاول عليه معنى.
(ولا) - عطف على خبر «ليس» ولا مؤكّدة للنفي- (بالأبيض الأمهق) ؛ أي: الشديد البياض الخالي عن الحمرة والنّور؛ كالجص؛ وهو كريه المنظر ربّما توهّمه الناظر أبرص، بل كان بياضه نيّرا مشرّبا بحمرة؛ كما في روايات أخر؛ منها أنّه كان أزهر اللون. فالنفي للقيد فقط.
واعلم أنّ أشرف الألوان في هذه الدار البياض المشرّب بالحمرة، وفي الآخرة البياض المشرّب بصفرة.
ولا بالآدم، ولا بالجعد
…
فإن قيل: من عادة العرب أن تمدح النساء بالبياض المشرّب بصفرة، كما وقع في لاميّة امرئ القيس. وهذا يدلّ على أنّه فاضل في هذه الدار أيضا.
أجيب بأنه لا نزاع في أنه فاضل فيها، ولكن البياض المشرّب بحمرة أفضل منه فيها، وحكمة التفرقة بين هذه الدار؛ وتلك الدار: أن الشّوب بالحمرة ينشأ عن الدم وجريانه في البدن وعروقه، وهو من الفضلات التي تنشأ عن أغذية هذه الدار، فناسب الشوب بالحمرة فيها. وأما الشّوب بالصفرة التي تورث البياض صقالة وصفاء؛ فلا ينشأ عادة عن غذاء من أغذية هذه الدار؛ فناسب الشوب بالصفرة في تلك الدار، فظهر أنّ الشوب في كلّ من الدارين بما يناسبه، وقد جمع الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بين الأشرفين، ولم يكن لونه في الدنيا كلونه في الأخرى!! لئلا يفوته أحد الحسنيين. انتهى ملخصا من المناوي وابن حجر رحمهما الله تعالى.
(ولا بالآدم)، أي: ولا بالأسمر الآدم؛ أي: شديد الأدمة أي: السمرة، وآدم- بمدّ الهمزة- أصله: أأدم- بهمزتين- على وزن «أفعل» أبدلت الثانية ألفا، وعلم مما ذكر أن المنفيّ إنّما هو شدّة السمرة، فلا ينافي إثبات السمرة في الخبر الآتي، لكن المراد بها الحمرة، لأن العرب قد تطلق على من كان كذلك أسمر.
ومما يؤيّد ذلك رواية البيهقي كان أبيض؛ بياضه إلى السمرة.
وفي «مسند أحمد» ؛ عن الحبر: جسمه ولحمه أحمر. وفي رواية: أسمر إلى البياض.
فثبت بمجموع هذه الروايات أنّ المراد بالسمرة: حمرة تخالط البياض، وبالبياض المثبت ما يخالط الحمرة. وأما وصف لونه في أخبار بشدّة البياض كخبر البزار؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان شديد البياض. وخبر الطبراني؛ عن أبي الطّفيل: ما أنسى شدّة بياض وجهه!! فمحمول على البريق واللّمعان، كما يشير إليه حديث: كأنّ الشمس تحرك في وجهه، انتهى «مناوي وباجوري» .
(ولا بالجعد) - بفتح الجيم وسكون العين- من الجعودة؛ وهي في الشعر أن
القطط ولا بالسّبط.
ومعنى (البائن) : الظّاهر طوله.
و (الأمهق) : الشّديد البياض، الخالي عن الحمرة.
و (الآدم) : الأسمر. و (الجعد) : من في شعره التواء.
و (القطط) : شديد الجعودة. و (السّبط) : مسترسل الشّعر.
يتكسّر تكسّرا تامّا، ولا يترسّل (القطط) - بفتحتين- كجسد على الأشهر، وبكسر الثاني؛ وهو شدّة الجعودة. قال المناوي: والجعد يرد بمعنى: الجواد، والكريم، والبخيل، واللئيم جميعا، ومقابل السّبط، ويوصف بالقطط في الكلّ؛ فالقطط لا يعيّن المراد، فلذا قابله بقوله:
(ولا بالسّبط) - بفتح المهملة وكسر الموحدة، وتسكن، وبفتحتين-. والمراد أنّ شعره ليس نهاية في الجعودة؛ وهي تكسره الشديد، ولا نهاية في السبوطة؛ وهي عدم تكسّره وتثنّيه بالكلية، بل كان وسطا بينهما، و «خير الأمور أوسطها» .
قال الزمخشري: الغالب على العرب جعودة الشعر، وعلى العجم سبوطته.
وقد أحسن الله لرسوله الشمائل، وجمع فيه ما تفرق في غيره من الفضائل.
(ومعنى البائن) - بالهمزة-: (الظّاهر طوله، و) معنى (الأمهق: الشّديد البياض الخالي عن الحمرة) ، والنّور كالجصّ؛ وهو كريه المنظر ربما توهّمه الناظر برصا، بل كان بياضه صلى الله عليه وسلم نيّرا مشرّبا بحمرة- كما تقدم-.
(و) معنى (الآدم: الأسمر)، والسّمرة: منزلة بين البياض والسواد.
(و) معنى (الجعد: من في شعره التواء)، وفي «المصباح» : جعد الشعر بضم العين وكسرها- جعودة، إذا كان فيه التواء وانقباض.
(و) معنى (القطط) - بفتحتين، وبفتح فكسر-:(شديد الجعودة، و) معنى (السّبط: مسترسل الشّعر) ؛
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمّة
…
(و) في «الشمائل الترمذية» ؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا) - بفتح الراء وكسر الجيم- وهو: الذي بين الجعودة والسّبوطة؛ قاله الأصمعيّ وغيره: ووقع في الروايات المعتمدة بضم الجيم!! فيحتمل أن يكون المراد به المعنى المتبادر المتعارف الذي يراد بلفظ الرجل؛ وهو المقابل للمرأة، ومعناه واضح، وهو خبر موطّىء، لأن الخبر في الحقيقة قوله (مربوعا) إذ هو يفيد الفائدة المعتدّ بها، كقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(13)[الحشر] ، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(55)[النمل] .
والمربوع يرادف الرّبعة؛ وهو: المتوسط بين الطويل والقصير. وهذا تقريب؛ لا تحديد، فلا ينافي أنّه كان يضرب إلى الطول؛ كما في خبر ابن أبي هالة الآتي: كان أطول من المربوع؛ وأقصر من المشذّب.
(بعيد ما بين المنكبين) ، روي بالتكبير، و [بعيد] بالتصغير، و «ما» موصولة، أو موصوفة، لا زائدة؛ كما زعمه بعضهم. والمنكبان- تثنية منكب- وهو:
مجمع العضد والكتف، والمراد بكونه بعيد ما بين المنكبين: أنّه عريض أعلى الظهر، ويلزمه أنّه عريض الصدر، ومن ثمّ جاء في رواية:«رحب الصدر» ، وذلك آية النّجابة، وفي رواية التصغير إشارة إلى تقليل البعد؛ إيماء إلى أن بعد ما بين منكبيه لم يكن منافيا للاعتدال.
(عظيم الجمّة) - بضم الجيم وتشديد الميم- أي: كثيفها. قال حسوس:
والجمّة عند جمهور أهل اللغة: ما سقط من شعر الرأس إلى المنكبين. وأما الوفرة!! فهي: التي تصل إلى شحمة الأذن، وأما ما نزل عن الأذنين؛ ولم يصل إلى المنكبين!! فهو اللّمّة، وعلى هذا قول من قال:
الوفرة الشّعر لشحمة الأذن
…
وجمّة إن هي لمنكب تكن
إلى شحمة أذنيه.
ومعنى (الرّجل) : من في شعره تكسّر قليل.
و (الجمّة) : مجتمع شعر الرّأس؛ وهي أكثر من الوفرة واللّمّة.
وسمّ ما بينهما باللّمّة
…
قد قال ذا جمهور أهل اللّغة
وقال الزّمخشريّ في المقدمة: الجمّة: ما تدلّى من الشعر إلى شحمة الأذن.
وفي «الصحاح» : الجمّة: الشّعر المجموع على الرأس وظاهره مطلقا.
وفي «ديوان الأدب» : إن الجمّة هي الشعر إذا تدلّى من الرأس إلى شحمة الأذن، وإلى المنكبين، وإلى أكثر من ذلك. فتحصّل أنّ في الجمّة ثلاثة أقوال:
1-
ما وصل إلى المنكبين.
2-
ما وصل إلى شحمة الأذن.
3-
ما تدلّى من شعر الرأس مطلقا.
فقوله (إلى شحمة أذنيه) إنّما يأتي على القول الثاني والثالث؛ دون الأول.
انتهى «كلام حسّوس» .
(ومعنى الرّجل) - بكسر الجيم- (: من في شعره تكسّر قليل.
والجمّة) - بضمّ الجيم وتشديد الميم-؛ قال في «الصحاح» : هي (مجتمع شعر الرّأس؛ وهي) - أي: الجمّة- (أكثر من الوفرة و) أكثر من (اللّمّة) ، لأن الجمّة ما وصلت المنكب، والوفرة: ما بلغت شحمة الأذن، واللّمّة ما بينهما.
كما تقدّم. وعلى هذا فترتيبها «ولج» فالواو للوفرة، واللام للّمة، والجيم للجمّة.
وهذه الثلاثة اضطرب أهل اللغة في تفسيرها، وأقرب ما وفّق به أنّ فيها لغات، وكل كتاب اقتصر على شيء منها، كما يشير إليه كلام «القاموس» في مواضع؛ قاله الباجوري رحمه الله تعالى.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شثن الكفّين والقدمين، ضخم الرّأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة، إذا مشى تكفّأ تكفّؤا؛ (و) روى الترمذي في «الشمائل» ؛ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شثن) - بمعجمة مفتوحة ومثلثة ساكنة- كذا في الشروح!! وفسّره ابن حجر العسقلاني بغليظ الأصابع والراحة. وهي المتبادر، ويؤيّده رواية «ضخم الكفّين والقدمين» .
قال ابن بطّال: كانت كفّه صلى الله عليه وسلم ممتلئة لحما غير أنّها مع غاية ضخامتها كانت ليّنة، كما ثبت في حديث أنس:«ما مسست خزّا، ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكفّين) - تثنية كفّ- وهي: الراحة مع الأصابع، سمّيت به!! لأنّها تكفّ الأذى عن البدن؛ وهي مؤنّثة، (والقدمين) - تثنية قدم- وهي من الإنسان معروفة؛ وهي أنثى، وتصغيرها «قديمة» بالهاء. وجمعها: أقدام، وجمع بين الكفين والقدمين في مضاف واحد! لشدّة تناسبهما، ومن ثمّ لم يجمع بين الرأس والكراديس حيث قال:
(ضخم الرّأس) ؛ أي: عظيمه. وفي رواية «عظيم الهامة» وعظم الرأس دليل على كمال القوى الدماغية؛ وهو آية النّجابة.
(ضخم الكراديس) ؛ أي: عظيم رؤوس العظام، وهو بمعنى جليل المشاش الآتي. والكراديس- جمع كردوس؛ بوزن عصفور- وهو: رأس العظم. وقيل:
مجمع العظام؛ كالرّكبة والمنكب. وعظم ذلك يستلزم كمال القوى الباطنية.
(طويل المسربة) - بضم الراء كمكرمة، وقد تفتح الراء- وأمّا محل خروج الخارج! فهو مسربة- بالفتح فقط-، كما في «المصباح» . وسيأتي تفسير المسربة في المصنف: بأنها الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة.
(إذا مشى تكفّأ تكفّؤا) - بالهمز فيهما- وحينئذ يقرأ المصدر بضمّ الفاء؛ ك «تقدّم تقدّما» ، أو بلا همز تخفيفا، وحنيئذ يقرأ المصدر بكسر الفاء، ك «تسمّى تسمّيا» . وعلى كلّ فهو مصدر مؤكد، أي: يسرع المشي كأنه يميل بين
كأنّما ينحطّ من صبب. ومعنى (شثن) : غليظ.
و (الكراديس) - جمع كردوس- وهو: مجمع العظام كالرّكبة والمنكب.
و (المسربة) : الشّعر الدّقيق الّذي كأنّه قضيب من الصّدر إلى السّرّة.
يديه من سرعة مشيه كما تتكفّأ السفينة في جريها. (كأنّما ينحطّ من صبب) ، وفي رواية كأنّما يهوي من صبب. وعلى كلّ فهو مبالغة في التكفّؤ، والانحطاط: النزول.
وأصله الانحدار من علوّ إلى سفل، وأسرع ما يكون الماء جاريا؛ إذا كان منحدرا.
(ومعنى شثن) - بشين معجمة وثاء مثلثة- وضبطه الجلال السيوطي بالمثناة فوق بدل المثلثة؛ وعلى كلّ فمعناه- (: غليظ) . ونقل عن الأصمعي أنّه فسّر «الشّثن» بالغلظ مع الخشونة. فقيل له: إنه ورد في وصف كفّه صلى الله عليه وسلم اللّين والنعومة!! فآلى على نفسه أن لا يفسّر شيئا في الحديث أبدا. وتفسير أبي عبيدة بالغلظ مع القصر!! ردّ بما صحّ أنّه كان سائل الأطراف. وفي «القاموس» : شثنت كفّه: خشنت وغلظت. فمقتضاه أنّ الشثن معناه: الخشن الغليظ. وعليه فهو محمول على ما إذا عمل في الجهاد؛ أو مهنة أهله، فإنّ كفّه الشريفة تصير خشنة للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجعت إلى النعومة؛ كذا قاله الباجوري.
(والكراديس: جمع «كردوس» ) - بضمتين-: (وهو: مجمع العظام) ، فكلّ عظمين التقيا في مفصل يقال له «كردوس» ؛ على ما في «القاموس» ، وذلك (كالرّكبة، والمنكب) ، والورك.
(والمسربة) - بفتح الميم وسكون السين المهملة؛ وضم الراء وبالموحدة- هو: شعر بين الصدر والسرّة. على ما في «المهذب» . وظاهر الروايات أنّه ما دقّ من شعر الصّدر سائلا إلى السّرّة؛ كما ورد في حديث علي رضي الله عنه: المسربة (الشّعر) - بفتح العين وتسكن- (الدّقيق الّذي كأنّه قضيب) أي: غصن نظيف، أو سيف لطيف؛ على ما في «القاموس» . أو سهم ظريف؛ على ما في «المهذب» . ابتداؤها (من) أعلى (الصّدر) ، وانتهاؤها (إلى السّرّة) .
و (التّكفّؤ) : الميل إلى سنن المشي، وهو: ما بين يديه كالسّفينة في جريها.
و (الصّبب) : المكان المنحدر من الأرض.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهّم؛ وأما (التّكفّؤ) !! فهو مصدر تفعّل- من الصحيح- تفعّلا ك «تقدّم تقدّما» ، وتكفّأ تكفؤا. والهمز حرف صحيح، ومعناه:(الميل إلى سنن المشي) - مثلث السين وبضمتين-: نهجه وجهته؛ كما في «القاموس» . وهذا التفسير قطع به الأزهريّ مخطّئا تفسيره بتمايل يمينا وشمالا؛ كالسفينة؛ بأنه من الخيلاء. وتكفّؤ السفينة: تمايلها على سمتها الذي يقصد. ويردّه قوله كأنما ينحطّ من صبب، فإنه مفسّر له. وقال الكسائي: أكفأت الإناء وكفأته: إذا كببته، وأكفأته: إذا أملته.
ومنه الحديث أي: تمايل إلى قدام كما تتكفّأ السفينة في جريها. انتهى.
وأجاب القاضي عياض بأن التمايل يمينا وشمالا إنّما يذمّ بالقصد؛ لا إن كان خلقة كالغصن، وهو حسن صواب. انتهى «زرقاني» .
فلأجل هذا قال المصنف: (وهو: ما بين يديه) أي: التمايل إلى قدام (كالسّفينة في جريها. والصّبب) - بفتح الصاد والموحدة الأولى- معناه: (المكان المنحدر من الأرض)، يقال: انحدرنا في صبوب وصبب، أي: مكان منحدر.
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» بسند فيه انقطاع؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنّه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعدا رجلا) الجعد- بفتح الجيم وسكون العين المهملة-: هو الشعر المتجعّد؛ أي: المتثنّي. والرّجل- قال الحافظ ابن حجر: بفتح الراء وكسر الجيم، وقد يضمّ، وقد يفتح، وقد يسكّن- ما فيه تكسّر يسير. انتهى. فكان شعره بين السّبوطة والجعودة.
(ولم يكن بالمطهّم) الرواية فيه بلفظ اسم المفعول فقط، وسيأتي تفسيره في كلام المصنف بالبادن: الكثير اللحم.
ولا بالمكلثم، وكان في وجهه تدوير، أبيض مشرّب، أدعج العينين،
…
(ولا بالمكلثم) الرواية فيه بلفظ اسم المفعول فقط. ومعناه: مدوّر الوجه؛ كما سيأتي في كلام المصنف. والمراد أنّه أسيل الوجه مسنون الخدين، ولم يكن مستديرا غاية التدوير، بل كان بين الاستدارة والإسالة، وهو أحلى عند كلّ ذي ذوق سليم وطبع قويم.
ونقل الذهبيّ؛ عن الحكيم أنّ استدارة الوجه المفرطة دالّة على الجهل.
(وكان في وجهه تدوير) أي: شيء قليل منه، وليس كلّ تدوير حسنا كما علمت، وهذه الجملة كالمبيّنة لقوله «ولا بالمكلثم» .
(أبيض) - بالرفع- خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أبيض (مشرّب) بحمرة؛ كما في رواية ومشرب- بالتخفيف- من الإشراب؛ وهو: خلط لون بلون كأنه سقي به، أو [مشرّب] بالتشديد من التشريب؛ وهو مبالغة في الإشراب. وهذا لا ينافي ما في بعض الروايات:«وليس بالأبيض» ، لأن البياض المثبت ما خالطه حمرة، والمنفيّ ما لا يخالطه؛ وهو الذي تكرهه العرب؛ وتسمّيه «أمهق» .
تنبيه: صرّح العلماء رحمهم الله تعالى بكفر من قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أسود، لأن وصفه بغير صفته في قوّة نفيه فيكون تكذيبا به، ومنه يؤخذ أنّ كلّ صفة علم ثبوتها بالتواتر كان نفيها كفرا، للعلّة المذكورة. وقول بعضهم «لا بد في الكفر في أن يصفه بصفة تشعر بنقصه، كالسواد هنا» لأنه لون مفضول!! فيه نظر، لأن العلّة ليست هي النقص، بل ما ذكر فالوجه أنّه لا فرق. انتهى «باجوري» .
(أدعج) - بمهملتين فجيم- (العينين) ؛ أي: شديد سواد حدقة العين مع سعتها. كما سيأتي في كلام المصنف، فلا يشكل بأنه أشكل. لأنّ الشّكلة في البياض؛ لا في السواد. كما يأتي. وقيل: الأدعج شديد بياض البياض وسواد السواد.
أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد، ذا مسربة، شثن الكفّين والقدمين، إذا مشى.. تقلّع كأنّما ينحطّ من صبب،
…
(أهدب الأشفار) ؛ جمع شفر- بالضم ويفتح- وهو حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر. ويقال له الهدب- بضم الهاء وسكون المهملة بعدها موحدة-.
والأهدب: الذي شعر أجفانه كثير مستطيل. وفي كلامه حذف مضاف أي: أهدب شعر الأشفار هي الأجفان التي تنبت عليها الأهداب ويحتمل أنّه سمّى النابت باسم المنبت للملابسة.
(جليل) - أي عظيم- (المشاش) - بضم الميم فمعجمتين بينهما ألف- جمع مشاشة- بالضم والتخفيف-: رؤوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين. (و) جليل (الكتد) - بمثناة فوقية مفتوحة أو مكسورة- وسيأتي في كلام المصنف: أنّه مجمع الكتفين وهو الكاهل؛ أي: عظيم ذلك كلّه. وهو يدلّ على غاية القوّة ونهاية الشجاعة.
(أجرد) أي: هو أجرد؛ أي: غير أشعر؛ وهو: من عمّ الشعر جميع بدنه، فالأجرد: من لم يعمّه الشعر فيصدق بمن في بعض بدنه شعر كالمسربة والساعدين والساقين. وقد كان له صلى الله عليه وسلم في ذلك شعر؛ فوصفه صلى الله عليه وسلم بأنه أجرد باعتبار أكثر مواضعه، إما بجعل الأكثر في حكم الكلّ، أو تغليب ما لا شعر له على ما له شعر.
(ذا مسربة) - تقدّم شرحه- (شثن الكفّين والقدمين) تقدّم الكلام عليهما.
(إذا مشى تقلّع) في مشيه كأنه يقلع رجله من رجل، إذا أراد قوّة مشيه كأنه يرفع رجليه من الأرض رفعا بائنا متداركا إحداهما بالأخرى؛ مشية أهل الجلادة والهمّة، لا كمن يمشي اختيالا ويقارب خطاه، فإنّ ذلك من مشي النساء.
فالتقلّع قريب من التكفّي. وقد سبق.
(كأنّما ينحطّ من صبب) ، وهذا مؤكّد لمعنى التقلّع، وتقدّم إيضاحه.
وإذا التفت.. التفت معا، بين كتفيه خاتم النّبوّة.
وهو خاتم النّبيّين، أجود النّاس صدرا،
…
(وإذا التفت التفت معا) ؛ أي: بجميع أجزائه، فلا يلوي عنقه يمنة أو يسرة إذا نظر إلى الشيء، لما في ذلك من الخفّة وعدم الصيانة، وإنّما كان يقبل جميعا ويدبر جميعا، لأنّ ذلك أليق بجلالته ومهابته. وفي «ألفيّة العراقي» :
يقبل كلّه إذا ما التفتا
…
وليس يلوي عنقا تلفّتا
وينبغي- كما قاله الدّلجي- أن يخصّ هذا بالتفاته وراءه، أما لو التفت يمنة أو يسرة!! فالظاهر أنّه بعنقه الشريف. وقيل: أراد بذلك أنّه لا يسارع. قال القسطلّاني: وهو أقرب لما يأتي: أنه كان جلّ نظره الملاحظة. انتهى.
(بين كتفيه خاتم) - بفتح التاء وكسرها، والكسر أشهر وأفصح، وهو في الأصل-: ما يختم به كالطابع. والمراد هنا الأثر الذي بين كتفيه المنعوت به في الكتب المتقدمة، وكان علامة أنّه النبي الموعود به في تلك الكتب. وهو: قطعة لحم بارزة بين كتفيه بقدر بيضة الحمامة أو غيرها بحسب اختلاف الروايات فيه، وإضافته إلى (النّبوّة) لكونه علامتها.
وهذه الجملة غير معطوفة على ما قبلها لعدم المناسبة.
(وهو خاتم النّبيّين) أي: آخرهم، فلا نبيّ بعده تبتدأ نبوّته. فلا يرد عيسى عليه الصلاة والسلام لأنّ نبوّته سابقة؛ لا مبتدأة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. فعيسى إنّما ينزل حاكما بشريعته ومتابعا لها مستمدّا أحكامه من الكتاب والسنة.
وهذه الجملة حاليّة مكمّلة لما قبلها؛ أو معطوفة عليها لوجود المناسبة.
(أجود النّاس صدرا) ؛ أي: من جهة الصدر، والمراد به هنا القلب تسمية للحال باسم المحلّ، إذ الصدر محلّ القلب الذي هو محلّ الجود. والمعنى: أنّ جوده عن طيب قلب وانشراح صدر؛ لا عن تكلّف وتصنّع. وفي رواية: أوسع الناس صدرا؛ وهو كناية عن عدم الملل من الناس على اختلاف طباعهم وتباين
وأصدق النّاس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة.. هابه،
…
أمزجتهم، كما أن ضيق الصّدر كناية عن الملل. انتهى «باجوري» .
(وأصدق النّاس لهجة) - بسكون الهاء وتفتح؛ والفتح أفصح- واللهجة: هي اللسان. لكن لا بمعنى العضو المعروف؛ بل بمعنى الكلام. لأنه هو الذي يتّصف بالصّدق؛ فلا مجال لجريان صورة الكذب في كلامه. ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله «أصدق الناس» !! لزيادة التمكّن؛ كما في قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ) (2)[الإخلاص] . وإنما لم يجر على سننه فيما بعد!! اكتفاء في حصول النكتة بهذا.
(وألينهم عريكة) ألين، من اللّين؛ وهو ضدّ الصلابة. والعريكة: الطبيعة؛ وزنا ومعنى، ومعنى لينها: انقيادها للخلق في الحقّ. فكان معهم على غاية من التواضع وقلّة الخلاف والنفور. وهذه الجملة منبئة عن كمال مسامحته صلى الله عليه وسلم ووفور حلمه؛ ما لم تنتهك حرمات الله تعالى.
(وأكرمهم عشرة) - بالكسر- اسم من المعاشرة؛ وهي المخالطة.
فمعاشرته صلى الله عليه وسلم ومخالطته أكرم من جميع مخالطة الناس كما يدلّ عليه قوله: (من رآه بديهة) ؛ أي: رؤية بديهة، فهو مفعول مطلق، يعني فجأة من غير سابقة مخالطة ومعرفة أحواله، أو قبل النظر في أخلاقه العليّة وأحواله السّنيّة (هابه) ؛ أي: خافه لما فيه من صفة الجلال الربّانيّة، ولما عليه من الهيبة الإلهية والفيوضات السماوية.
قال ابن القيّم: والفرق بين المهابة والكبر: أنّ المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الربّ ومحبّته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حلّ فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وألبس رداء الهيبة؛ فكلامه نور؛ وعلمه نور، إن سكت علاه الوقار، وإن نطق أخذ بالقلوب والأبصار.
وأما الكبر! فإنّه أثر من آثار امتلاء القلب بالجهل والظلم والعجب. فإذا امتلأ القلب بذلك ترحّلت عنه العبودية، وتنزّلت عليه الظلمات الغضبية، فمشيته بينهم
ومن خالطه معرفة.. أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله.
تبختر، ومعاملته لهم تكبّر، لا يبدأ من لقيه بالسلام؛ وإن ردّ عليه يريه أنّه بالغ في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه. وقد حمى الله حبيبه من هذه الأخلاق.
(ومن خالطه) ؛ أي: عاشره وصاحبه (معرفة) ؛ أي: مخالطة معرفة، أو لأجل المعرفة (أحبّه) حبّا شديدا حتى يصير أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين، لظهور ما يوجب الحبّ من كمال حسن خلقه ومزيد شفقته.
وخرج بقوله «معرفة» من خالطه تكبّرا، كالمنافقين، فلا يحبّه.
(يقول ناعته) ؛ أي: واصفه بالجميل على سبيل الإجمال، لعجزه عن أن يصفه وصفا تامّا بالغا على سبيل التفصيل:(لم أر قبله ولا بعده مثله) ؛ أي: من يساويه صورة وسيرة وخلقا وخلقا، إذ ليس في الناس من يماثله في الجمال، ولا في الخلق من يشابهه على وجه الكمال. هذا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو هو في العلم والمعرفة، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنا مدينة العلم وعليّ بابها» بعد أن عدّد بعض البعض من صفات جماله ونعوت كماله صلى الله عليه وسلم اعترف بالعجز عن استقصاء محاسن هذا الجناب الأرفع، ورجع إلى القصور عن إدراك كمالات هذا الشفيع المشفّع؛ إشارة إلى أن الجناب المذكور في غاية العلوّ ونهاية الارتفاع، فمن طاوله ورام استقصاء كمالاته عجز وانقطع.
ثمّ اعلم أنّ المنفيّ عموم الشّبه؛ لا أصله أو معظمه، فلا ينافي ما ذكره العلماء من أنّ الذين كانوا يشبهونه صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم، وابنته فاطمة، وابناها الحسن والحسين، وجعفر بن أبي طالب، والسائب بن عبيد «جدّ الإمام الشافعي» ، وعبد الله بن عامر بن كريز العبشمي، وكابس بن ربيعة «رجل من أهل البصرة» ؛ كان أنس إذا رآه بكى، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ومسلم بن معتب بن أبي لهب، وعبد الله بن أبي طلحة الخولاني، في آخرين من التابعين. وذكر أيضا فيهم عثمان بن عفان. قال في «المواهب» : وعدّهم بعضهم سبعا وعشرين نفسا. وإنّما ذكر المصنف في باب الخلق ما ليس منه محافظة على تمام الخبر.
ومعنى (المطهّم) : البادن الكثير اللّحم. و (المكلثم) : المدوّر الوجه. و (أدعج العينين) : شديد سوادهما. و (أهدب الأشفار) :
طويل شعر الأجفان. و (المشاش) : رؤوس العظام. و (الكتد) :
مجتمع الكتفين. و (أجرد) : غير أشعر. و (تقلّع) : مشى بقوّة.
(ومعنى المطهّم) - بفتح الهاء المشددة-: (البادن) ؛ أي: عظيم البدن بكثرة لحمه، فقوله (الكثير اللّحم) صفة كاشفة للبادن؛ للمبالغة والتوضيح.
(و) معنى (المكلثم) : (المدوّر الوجه) ولا يكون إلّا مع كثرة اللحم.
(و) معنى (أدعج) - بمهملتين وجيم- (العينين: شديد سوادهما) ؛ أي:
شديد سواد حدقتهما مع سعة العين وشدّة بياضها. فالدّعج: شدّة بياض البياض وسواد السواد، وهو الأنسب بمقام المدح. وقد تقدّم قول آخر ثمّ.
(و) معنى (أهدب الأشفار) ؛ جمع شفر- بضمّ أوله وقد يفتح-: (طويل شعر الأجفان) . ومعنى (المشاش) - بمعجمتين جمع مشاشة بالضمّ والتخفيف-: (رءوس العظام) كالمرفقين والكتفين والرّكبتين، أو: هي رءوس المناكب، أو العظام اللّيّنة، أو التي يمكن مضغها.
(و) معنى (الكتد) - بمثناة فوقية تفتح وتكسر-: (مجتمع الكتفين) ؛ تثنية كتف- بفتح أوله وكسر ثانيه، وبكسر أوله أو فتحه مع سكون ثانيه؛ كما في «القاموس» - (و) معنى (أجرد غير أشعر) قال في «القاموس» : رجل أجرد لا شعر عليه. فوصفه به مع وجود الشعر في مواضع من بدنه غالبيّ. وقول البيهقيّ في «التاج» : معنى «أجرد» هنا: صغير الشعر!! ردّ بقول «القاموس» : الأجرد إذا جعل وصفا للفرس كان بمعنى صغر شعره، وإذا جعل وصفا للرجل فمعناه:
لا شعر عليه، على أن لحيته الشريفة كانت كثّة. وقيل: معنى «أجرد» : أي لا غش فيه ولا غلّ، فهو على أصل الفطرة.
(و) معنى (تقلّع: مشى بقوّة) : أراد قوّة مشيه، كأنه يرفع رجله من الأرض
و (اللهجة) : الكلام. و (العريكة) : الطّبيعة.
و (البديهة) : المفاجأة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل الخدّين، ضليع الفم، رفعا قويا. وذلك أبعد عن الكبر وأعون على قطع الطريق، لا كمن يختال يقارب خطاه، فإنّه شأن النساء.
(و) معنى (اللهجة) - بسكون الهاء وجيم، و [اللهجة] تحرّك أفصح:
(الكلام) والمعنى كلامه أصدق الكلام، فلا مجال لجريان صورة الكذب عليه.
(و) معنى (العريكة: الطبيعة) وزنا ومعنى. (و) معنى (البديهة:
المفاجأة) بالهمز، أي: البغتة، ومنه البديهي: الحاصل من غير التروّي. يقال بدهته بأمر؛ أي: فجأته. وفجأه الأمر: إذا جاءه بغتة.
تنبيه: قال الحافظ أبو نعيم: قد اختلفت ألفاظ الصحابة في نعته وصفاته، وذلك لما ركّب في الصدور من جلالته وعظيم مهابته، ولما جعل في جسده الشريف من النّور الذي يتلألأ ويغلب على بشرته، فأعياهم ضبط نعته وصفة حليته، حتّى قال بعضهم: كان مثل الشمس طالعة. وقال بعضهم: كان يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر. وقال بعضهم: لم أر قبله ولا بعده مثله. ولذلك السبب كان اختلافهم في نعت خلقته ولونه. انتهى «مناوي» .
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم، والترمذي؛ من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، والترمذي؛ من حديث هند بن أبي هالة، بألفاظ مختلفة- (سهل الخدّين) ؛ أي: غير مرتفع الوجنتين. وهو بمعنى خبر البزّار والبيهقي:
كان أسيل الخدّين. وذلك أعلى وأغلى وأحلى عند العرب.
(ضليع الفم) - بضاد معجمة مفتوحة: عظيمه، أو واسعه. والعرب تتمدح بسعة الفم وتذمّ ضيقه، لأن سعته دليل على الفصاحة. وكما تتمدح العرب بعظم الفم تتمدح بكثرة ريقه عند المقامات والخطب والحروب، لدلالته على ثبات
سواء البطن والصّدر، أشعر المنكبين والذّراعين وأعالي الصّدر، طويل الزّندين، رحب الرّاحة، أشكل العينين،
…
الجنان، بخلاف الجبان؛ فإنّه يجفّ ريقه في هذه المحافل (سواء) - بفتح السين والواو والألف الممدودة وبالإضافة إلى (البطن والصّدر) وبعدمها، والمعنى أنّ بطنه وصدره الشريفان مستويان لا ينتأ أحدهما عن الآخر، فلا يزيد بطنه على صدره؛ ولا يزيد صدره على بطنه. (أشعر) ؛ أي: كثير شعر (المنكبين) - بفتح الميم وكسر الكاف- تثنية منكب؛ وهو: مجتمع رأس الكتف والعضد.
(و) أشعر (الذّراعين) - بكسر الذال- تثنية ذراع. وهو: من المرفق إلى الأصابع.
(و) أشعر (أعالي) - جمع أعلى- (الصّدر) ؛ أي: أنّ شعر هذه الثلاثة كثير غزير. وفي «القاموس» : والأشعر: كثير الشعر وطويله. انتهى.
(طويل الزّندين) - بفتح الزاي وسكون النون وبالدال المهملة- تثنية زند كفلس، وهو- كما قال الزمخشري في «الفائق» -: ما انحسر عنه اللحم من الذراع. قال الأصمعي: لم ير أحد أعرض زندا من الحسن البصري كان عرض زنده شبرا. (رحب) الرواية بفتح الراء- ويجوز الضم في اللغة- بمعنى السعة (الرّاحة) ؛ أي: واسع الكفّ حسّا ومعنى. قيل: رحب الراحة دليل الجود، وضيقها دليل البخل، والراحة: بطن الكفّ مع بطون الأصابع وأصلها من الرّوح؛ وهو الاتساع.
(أشكل العينين) ؛ أي: في بياضهما شيء من الحمرة، يقال: شكلت العين بكسر الكاف- إذا خالط بياضها حمرة، وفي جميع كتب الغريب: الشّكلة- بضم الشين-: حمرة في بياض العين. قال الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها
…
كذاك عتاق الخيل شكل عيونها
والأشكل محمود ومحبوب. قال الحافظ العراقي: وهي- أي: الشّكلة-
أحمر المآقي، منهوس العقبين.
ومعنى (ضليع الفم) : واسعه، وهو ممدوح لدلالته على الفصاحة.
و (أشكل العينين) : في بياضهما حمرة.
و (منهوس العقبين) : قليل لحمهما.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم العينين، أهدب الأشفار، إحدى علامات النبوة، ولمّا سافر إلى الشام مع ميسرة وسأل عنه الراهب ميسرة؛ فقال: في عينه حمرة. فقال: هو هو. انتهى.
وأما الشّهلة! فهي حمرة في سواد العين.
(أحمر المآقي) - جمع: موق وماق- وهو: شقّ العين مما يلي الأنف، والذي يلي الصّدغ؛ يقال له «لحاظ» .
(منهوس) - ضبطه الجمهور بالسين المهملة- أي: قليل لحم (العقبين) بفتح العين وكسر القاف-: تثنية عقب؛ هو: مؤخر القدم.
(ومعنى ضليع الفم) - بالضاد المعجمة-: (واسعه)، وقيل: عظيمه (وهو ممدوح) عند العرب (لدلالته على الفصاحة) وسعة البلاغة.
(و) معنى (أشكل العينين: في بياضهما حمرة) يقال: ماء أشكل إذا خالطه دم. وهذا التفسير للشّكلة هو الصواب المعروف في كتب اللغة والغريب.
(و) معنى (منهوس) - بسين مهملة وفي رواية بمعجمة-: منهوش (العقبين) والمعنى واحد، أي:(قليل لحمهما) .
(و) روى البيهقيّ؛ عن علي رضي الله تعالى عنه قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم العينين) ؛ أي: شديد اتساعهما، فهو بمعنى رواية الترمذي وغيره المارّة عن علي. «أدعج العينين» . قال الجوهري: الدّعج محرّكا-: شدّة سواد العين مع سعتها.
(أهدب الأشفار) ؛ جمع شفر- بالضمّ وتفتح- وهي: حروف الأجفان التي
مشرّب العين بحمرة.
وكان صلى الله عليه وسلم أبلج الحاجبين، كأنّ ما بينهما الفضّة المخلّصة. وكانت عيناه نجلاوين، أدعجهما، وكان في عينيه تمزّج من حمرة، وكان أهدب الأشفار حتّى تكاد تلتبس من كثرتها.
ينبت عليها الشعر. أي: الهدب. وإيهامه أنّ الأشفار هي الأهداب غير مراد، فقد قال ابن قتيبة: العامّة تجعل أشفار العين الشعر، وهو غلط. وفي «المغرب» وغيره: لم يذكر أحد من الثقات أنّ الأشفار الأهداب، فهو إمّا على حذف مضاف؛ أي: الطويل شعر الأشفار، أو سمّي النابت باسم المنبت للملابسة.
(مشرّب العين) - بصيغة اسم المفعول مخفّفا ومشدّدا- (بحمرة) ؛ وهي عروق حمر دقاق، من علاماته في الكتب السابقة.
(و) في «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم أبلج الحاجبين، كأنّ ما بينهما الفضّة المخلّصة) ؛ أي: كأن بين حاجبيه بلجة، أي: فرجة بيضاء دقيقة: لا تتبيّن إلّا لمتأمّل، فهو غير أقرن في الواقع؛ وإن كان أقرن بحسب الظاهر عند من لم يتأمّله، لأنّهما سبغا حتى كادا يلتقيان. قال الأصمعيّ: كانت العرب تكره القرن وتستحبّ البلج، والبلج هو: أن ينقطع الحاجبان؛ فيكون ما بينهما نقيّا.
(وكانت عيناه نجلاوين) - أي: واسعتين- (أدعجهما) ؛ أي: شديد سواد حدقتهما. (وكان في عينيه تمزّج من حمرة) ؛ هو بمعنى كونه أشكل العينين، وقد مرّ أن الشّكلة- بضمّ الشين-: الحمرة تكون في بياض العين. والشّهلة غير الشّكلة؛ وهي حمرة في سوادها.
(وكان أهدب الأشفار) جمع شفر- بالضم- وهو: حرف الجفن الذي ينبت عليه الهدب. قال ابن قتيبة: والعامّة تجعل أشفار العين الشعر، وهو غلط، وإنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر. انتهى.
(حتّى تكاد تلتبس من كثرتها) روي ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ومن حديث علي رضي الله تعالى عنه بألفاظ مختلفة.
وكان صلى الله عليه وسلم ضخم الرّأس واليدين والقدمين.
وكان صلى الله عليه وسلم سهل الخدّين صلتهما، ليس بالطّويل الوجه، ولا المكلثم. وكان صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس صفة وأجملها، كان ربعة إلى الطّول ما هو،
…
(و) روى البخاريّ في «باب اللباس» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرّأس) ؛ أي: عظيمه، لأنه يدلّ على قوّة الحواسّ والذكاء والفطنة. وفي رواية ضخم الهامة (واليدين) - يعني: الذراعين؛ كما جاء مبيّنا هكذا في رواية- (والقدمين) - يعني: ما بين الكعب إلى الركبة. وجمع بين الرأس واليدين والقدمين في مضاف واحد!! لشدّة تناسبها، إذ هي جميع أطراف الحيوان، وهو بدونها لا يسمّاه.
(و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل الخدّين صلتهما) ، أي:
سائلهما من غير ارتفاع وجنتيه، وذلك أحلى عند العرب. رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقيّ، والطبرانيّ؛ من حديث هند بن أبي هالة.
وروى البزار والبيهقي: كان أسيل الخدين. وأصلت الخدين: أسيلهما، هو المستوي الذي لا يفوت بعض لحم بعضه بعضا. انتهى شرح «الإحياء» ) .
(ليس بالطّويل الوجه ولا المكلثم) ؛ أي: لم يكن شديد تدوير الوجه.
والمكلثم: هو المدوّر الوجه، يقول: فليس كذلك ولكنه مسنون. رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث علي: لم يكن بالمطهّم؛ ولا بالمكلثم. وكان في وجهه تدوير. الحديث. والمطهّم: هو المنتفخ الوجه، وقيل: الفاحش السّمن. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) روى البيهقيّ في «دلائل النبوة» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس صفة) ؛ أي: صفة كمال، (وأجملها) ؛ أي: الناس، لما منحه الله تعالى من الصفات الحميدة الجليلة.
(كان ربعة إلى الطّول، ما هو) يحتمل أنّ «ما» صلة، أو صفة لمصدر محذوف.
بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدّين، شديد سواد الشّعر، أكحل العينين، أهدب الأشفار، إذا وطىء بقدمه.. وطىء بكلّها، ليس له أخمص، إذا وضع رداءه عن منكبيه.. فكأنّه سبيكة فضّة، وإذا ضحك.. يتلألأ.
ومعنى (أسيل الخدّين) : ليس فيهما ارتفاع.
و (الأكحل) : أسود أجفان العين خلقة.
والجارّ والمجرور متعلّق بمحذوف؛ أي: هو يميل إلى الطول ميلا قليلا.
(بعيد) - بفتح فكسر- (ما بين المنكبين) ؛ أي: عريض أعلى الظهر؛ ويلزمه عرض الصدر. وذلك علامة النجابة.
(أسيل الخدّين) - بكسر المهملة- وفي رواية الترمذي «سهل الخدين» ؛ أي:
ليس في خدّيه نتوء؛ ولا ارتفاع. وأراد أنّ خدّيه أسيلان قليلا اللحم رقيقا الجلد.
(شديد سواد الشّعر، أكحل العينين) ؛ أي: شديد سواد أجفانهما. والكحل بفتحتين-: سواد في أجفان العين خلقة.
(أهدب الأشفار، إذا وطىء بقدمه وطىء بكلّها) ؛ أي: لا يلصق القدم بالأرض عند الوطء، وهو مشي الشجاع، (ليس له أخمص) - بفتح الميم- أي:
خارج عن الحدّ؛ فله خموصة أزيد من الناس لكنها مع عدم الإفراط المخلّ بالجمال؛ (إذا وضع رداءه عن منكبيه؛ فكأنّه سبيكة فضّة، وإذا ضحك) ؛ أي:
تبسّم (يتلألأ) ؛ أي: يلمع ويضيء، ويظهر من ثغره نور.
ولا يخفى ما في تعدّد هذه الصفات من الحسن، وذلك لأنّها بالتعاطف تصير كأنّها جملة واحدة.
(ومعنى «أسيل الخدّين» ) : أنّهما (ليس فيهما ارتفاع.
(و) معنى (الأكحل) هو: (أسود أجفان العين خلقة) أي: من أصل الخلقة.
وكان صلى الله عليه وسلم شبح الذّراعين، بعيد ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين.
ومعنى (شبح الذّراعين) : عريضهما ممتدّهما.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبل العضدين والذّراعين، (و) روى البيهقيّ في «الدلائل» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم شبح الذّراعين) - قال المناوي: بشين معجمة فموحّدة مفتوحة، فحاء مهملة-: عريضهما ممتدّهما. والذّراعان: تثنية ذراع؛ وهو:
ما بين مفصل الكفّ والمرفق، أو من المرفق إلى أطراف الأصابع.
(بعيد) - بفتح فكسر- (ما بين المنكبين) ؛ أي: عريض أعلى الظهر.
و «ما» موصولة أو موصوفة؛ لا زائدة. لأنّ «بين» من الظروف اللازمة للإضافة، فلا وجه لإخراجه عن الظرفية بالحكم بزيادة «ما» . والمنكب: مجتمع رأس العضد والكتف، وبعد ما بينهما يدلّ على سعة الصدر، وذلك آية النجابة.
وجاء في رواية: «بعيد» مصغّرا، تقليلا للبعد المذكور؛ إيماء إلى أنّ بعد ما بين منكبيه لم يكن وافيا منافيا للاعتدال.
(أهدب أشفار العينين) ؛ أي: طويلهما غزيرهما- على ما مرّ-.
(ومعنى «شبح الذّراعين» ) : عبلهما (عريضهما ممتدّهما) ؛ ففي «المجمل» شبحت الشيء: مددته.
(و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبل) - بفتح العين المهملة وسكون الموحدة تليها لام، كذا ضبطه بعضهم بإسكان الباء. فإن كان الرواية، وإلّا! ففيه أيضا كسر الباء؛ بزنة فرخ- أي: ضخم قوي (العضدين) - تثنية:
عضد؛ بفتح العين وضمّ الضاد المعجمة وتسكّن تخفيفا؛ وهو ما بين المرفق والكتف.
(و) عبل (الذّراعين) : ضخمهما، والذراعان: تثنية ذراع؛ وهو: ما بين مفصل الكفّ والمرفق، أو: من المرفق إلى أطراف الأصابع.
وما تحت الإزار من الفخذين والسّاق، طويل الزّندين، رحب الرّاحتين، سائل الأطراف، كأنّ أصابعه قضبان الفضّة.
وكان صلى الله عليه وسلم معتدل الخلق في السّمن، فبدن في آخر عمره،
…
(و) عبل (ما تحت الإزار من الفخذين والسّاق) ، وذلك كلّه مما يؤذن بكمال قوّته؛ لما في الحديث أنّه صلى الله عليه وسلم أعطي قوّة ثلاثين رجلا.
(طويل الزّندين) ؛ أي: عظيمهما إذ الزند موصل عظم الذّراع؛ وهما زندان: الكوع والكرسوع؛ قاله في «شرح الإحياء» .
وقد مرّ أن: الزند ما انحسر من الذراع.
(رحب الرّاحتين) ؛ أي: واسعهما حسّا ومعنى، والراحة: باطن الكف.
(سائل الأطراف) - بالسين المهملة- أي: ممتدّها، وهي الأصابع امتدادا معتدلا بين الإفراط والتفريط. ويروى بالشين المعجمة: أي مرتفعها.
(كأنّ) - بالتشديد- (أصابعه) صلى الله عليه وسلم (قضبان) - جمع قضيب؛ وهو:
الغصن. والمراد تشبيهها بقضبان- (الفضّة) في امتدادها وصفاء لونها. وهذا رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقيّ، والطبرانيّ بألفاظ شتّى مفرّقة؛ من حديث أبي هريرة، وعائشة، وهند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدل الخلق) - بفتح الخاء المعجمة- (في السّمن) ، والمراد أنّه معتدل الصورة الظاهرة، بمعنى أن أعضاءه متناسبة غير متنافرة، وكلّ متناسب معتدل، وكلّ متوسط في كمّ وكيف معتدل، وكلّ مستقيم قويم معتدل.
(فبدن في آخر عمره)، ولما كان إطلاق البادن يوهم الإفراط في السّمن المستدعي لرخاوة البدن وعدم استمساكه وهو مذموم اتفاقا؛ استدرك ونفى ذلك؛ فقال:
وكان مع ذلك لحمه متماسكا، يكاد يكون على الخلق الأوّل، لم يضرّه السّنّ.
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطّويل البائن، ولا بالقصير، بل كان ينسب إلى الرّبعة إذا مشى وحده،
…
(وكان مع ذلك لحمه متماسكا) ؛ أي: كان أعضاؤه يمسك بعضها بعضا؛ من غير ترجرج (يكاد يكون على الخلق الأوّل، لم يضرّه السّنّ) ؛ أي: الطعن في العمر والتقدّم في السن، وأراد أنّه في السنّ الذي شأنه استرخاء اللحم كان كالشباب.
(و) روى البخاريّ، ومسلم؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس وجها) حتّى من يوسف. قال السيوطي: من خصائصه أنّه أوتي كلّ الحسن؛ ولم يؤت يوسف إلّا شطره.
(وأحسنهم خلقا) . قال القرطبي: الرواية بفتح الخاء وسكون اللام. قال:
والمراد حسن جسمه، بدليل قوله بعده: ليس بالطويل
…
الخ. وأما ما في حديث أنس؛ فروايته بضمّ الخاء واللام، لأنه عنى به حسن المعاشرة بدليل بقية الخبر؛ نقله المناوي، وردّ ما جزم به ابن حجر من ضمّ الخاء واللام في هذا الحديث.
(ليس بالطّويل البائن) - بالهمز وجعله بالياء وهم- والمراد نفي الطول المفرط، (ولا بالقصير) هذه رواية الشيخين. وزاد في «الإحياء» :
(بل كان ينسب إلى الرّبعة) - بفتح فسكون- وقد يحرّك، وتأنيثه!! باعتبار النفس، ولذلك استوى فيه المذكّر والمؤنّث. إذ يقال في جمع كلّ منهما: ربعات بالسكون والتحريك- أي: أنّه يوصف بها، فيقال: هو ربعة لقربه منها، وذلك (إذا مشى وحده) ، فهو من نسبة الجزئي إلى كلّيّه.
واستأنفت السيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها جوابا لسؤال نشأ من مفهوم،
ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد من النّاس وهو ينسب إلى الطّول..
إلّا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولربّما اكتنفه الرّجلان الطّويلان فيطولهما، فإذا فارقاه.. نسبا إلى الطّول؛ ونسب هو صلى الله عليه وسلم إلى الرّبعة.
وحدّه قولها: (ومع ذلك) ؛ أي: مع كونه ربعة معتدلا (فلم يكن يماشيه أحد من النّاس) بأن يمشي معه وبجنبه؛ (وهو ينسب إلى الطّول)، المراد بنسبته إلى الطول اتصافه به وكونه معروفا به مشهورا؛ (إلّا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: زاد عليه في الطول.
(ولربّما اكتنفه الرّجلان الطّويلان فيطولهما) ؛ أي: يزيد عليهما في الطول؛ إكراما من الله حتى لا يزيد أحد عليه صورة؛ (فإذا فارقاه نسبا إلى الطّول؛ وينسب هو صلى الله عليه وسلم إلى الرّبعة) .
والسرّ في ذلك: هو التنبيه على أنّه لا يتطاول عليه أحد من الأمّة صورة، كما لا يتطاولون عليه معنى. وهذه الزيادة المذكورة في «الإحياء» رواها ابن عساكر، والبيهقي، وابن أبي خيثمة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- كما في «المواهب» ببعض اختلاف في الألفاظ-:
وفي «الدلائل» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان ربعة إلى الطول مائل
…
الحديث. وعند المنذري في «الزهريات» ؛ من حديثه: كان ربعة؛ وهو إلى الطول أقرب. وإسناده حسن.
وعند البيهقي؛ من حديث علي: وهو إلى الطول أقرب.
وعنده أيضا؛ من حديث عائشة: كان ينسب إلى الرّبعة.
وفي «زوائد المسند» لعبد الله بن أحمد: ليس بالذاهب طولا وفوق الرّبعة.
ولا تنافي بين الأخبار، لأنه أمر نسبيّ. فمن وصفه بالرّبعة أراد الأمر التقريبي؛ ولم يرد التحديد. ومن ثمّ قال ابن أبي هالة: كان أطول من المربوع، وأقصر من المشذّب؛ وهو البائن الطول في نحافة. رواه الترمذي في
ويقول صلى الله عليه وسلم: «جعل الخير كلّه في الرّبعة» .
وزاد ابن سبع في «الخصائص» : أنّه كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس.. يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين.
«الشمائل» ، والطبرانيّ، والبيهقي. انتهى شرح «الإحياء» .
(و) كان (يقول صلى الله عليه وسلم: «جعل الخير كلّه في الرّبعة» ) يعني المعتدل القامة.
رواه أبو بكر بن لال في «مكارم الأخلاق» . والديلمي؛ من حديث عائشة رضي الله عنها. ويروى عن الحسن بن علي: أنّ الله جعل البهاء والهوج في الطوال. قال السخاوي: وما اشتهر على الألسنة: «ما خلا قصير من حكمة!!» لم أقف عليه.
انتهى شرح «الإحياء» .
(وزاد) الإمام أبو الربيع (ابن سبع) - بإسكان الموحدة: بلفظ العدد، وقد تضمّ؛ كما في «التبصير» - (في) كتاب (الخصائص) ، ورزين (أنّه صلى الله عليه وسلم إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين) .
قال الشهاب الخفاجي في «نسيم الرياض» : وهل هذا محض إراءة لذلك؛ أو حقيقيّ يرجع عنه!؟ فيه تردّد. ولم يخلق أطول من غيره!! لخروجه عن الاعتدال الأكمل المحمود، ولكن جعل الله له هذا في رأي العين معجزة خصّه الله تعالى بها!! لئلا يرى تفوّق أحد عليه بحسب الصورة، وليظهر من بين أصحابه تعظيما له بما لم يسمع لغيره، فإذا فارق تلك الحالة زال المحذور وعلم التعظيم، فظهر كماله الخلقي. انتهى.
وقال الزرقاني: وحكمة ما رأيت ودليله قول علي: إذا جامع القوم غمرهم.
إذ هو شامل للمشي والجلوس. فقصّر من توقف فيه بأنه لم يره إلّا في كلام رزين وكلام الناقلين عنه. انتهى.
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، والطبراني في «الكبير» ؛ عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: سألت
وكان صلى الله عليه وسلم فخما مفخّما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع،
…
خالي هند بن أبي هالة- وكان وصّافا- عن حلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلّق به، فقال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما) - بفاء مفتوحة فمعجمة ساكنة- (مفخّما) اسم مفعول من التفعيل، وهو خبر بعد خبر ل «كان» ، أي: كان عظيما في نفسه، معظّما في الصدور والعيون، لا يستطيع مكابر أن لا يعظّمه؛ وإن حرص على ترك تعظيمه، ولم يرد بالفخامة فخامة الجسم؛ وإن كان ضخما في الجملة (يتلألأ وجهه) ؛ أي: يشرق ويضيء كاللؤلؤ. وأصل تلألأ: ابيضّ فأشبه بياضه اللؤلؤ.
وسمي «لؤلؤا» !! لضوئه. وإنما بدأ الوصّاف بالوجه!! لأنه أشرف ما في الإنسان، ولأنه أوّل ما يتوجّه إليه النظر.
وقوله (تلألؤ القمر) ؛ أي: مثل إشراقه واستنارته (ليلة البدر) ؛ وهي ليلة أربع عشرة؛ ليلة كماله. وإنما سمّي فيها «بدرا» !! لأنّه يبدر بالطلوع فسبق طلوعه مغيب الشمس. وتشبيه بعض صفاته صلى الله عليه وسلم بنحو الشمس والقمر إنّما جرى على عادة الشعراء والعرب، أو على التقريب والتمثيل، وإلّا! فلا شيء يعادل شيئا من أوصافه، إذ هي أعلى وأجلّ من كلّ مخلوق.
وشبّه الوصّاف تلألؤ الوجه بتلألؤ القمر؛ دون الشمس!! لأنّه ظهر في عالم مظلم بظلام الكفر؛ ونور القمر أنفع من نورها، فنور وجهه أنفع من نور الشمس.
وهذا كما ترى أحسن من الجواب: بأن القمر يتمكّن من النظر إليه، ويؤنس من يشاهده من غير أذى يتولّد عنه، بخلاف الشمس، فإنها تغشي البصر وتؤذي، على أنّه ورد تشبيهه بالشمس أيضا؛ كما سيأتي؛ كذا قال المناوي رحمه الله تعالى.
(أطول) - بالنصب- خبر آخر (من المربوع) عند إمعان النظر وتحقيق التأمّل، وقد عرفت أنّ وصفه بالربعة- فيما مرّ- تقريبي، فلا ينافي أنّه أطول من المربوع، ولا ريب أنّ القرب من الطول في القامة أحسن وألطف.
وأقصر من المشذّب، عظيم الهامة، رجل الشّعر، إن انفرقت عقيقته.. فرقها،
…
ومن معجزاته أنّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل بين جماعة طوال كان في نظر الحاضرين أطول منهم جميعا، كما روي أنّه لم يكن أحد يماشيه من الناس إلّا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان فيطولهما؛ فإذا فارقاه نسبا إلى الطول ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرّبعة، وقد مرّ ذلك قريبا.
(وأقصر من المشذّب) - بصيغة اسم المفعول-؛ أي: من الطويل البائن في نحافة. وأصل المشذّب: النخلة الطويلة التي شذّب عنها جريدها، أي: قطع وفرّق، لأن بذلك تطول. كذا قيل؛ نقله في «جمع الوسائل» .
(عظيم الهامة) - بالتخفيف- أي: الرأس، وعظم الرأس ممدوح، لأنّه أعون على الإدراكات والكمالات (رجل) - بكسر الجيم وسكونها- (الشّعر) - بفتح العين وسكونها- أي: في شعره تكسّر وتثنّ قليل.
(إن انفرقت عقيقته) ؛ أي: شعر رأسه الذي على ناصيته. وأصل العق:
الشق والقطع. والعقيقة في الحقيقة: الشعر الذي يولد عليه المولود قبل أن يحلق في اليوم السابع، فإذا حلق ونبت ثانيا فقد زال عنه اسم العقيقة، وربّما سمّي الشعر عقيقة بعد الحلق أيضا على المجاز، لأنّه منها؛ ونباته من نباتها. وبذلك جاء الحديث؛ لئلا يلزم أن يكون شعره باقيا من حيث ولادته، فإنّه مستبعد جدّا في العادة، فإنّ عادتهم حلق شعر المولود في السابع، وكذا ذبح الغنم وإطعام الفقراء. اللهم إلّا أن يقال إنه من الكرامات الإلهية؛ لئلا يذبح باسم الآلهة.
ويؤيده ما قاله القفّال المروزي في «فتاويه» من أنه يستحبّ لمن لم يعقّ عنه أن يعقّ عن نفسه، فإنّه صلى الله عليه وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوّة، لكن يحتمل أنه ما اعتبر عقيقتهم لكونها على اسم غيره سبحانه. وفي رواية عقيصته- بالصاد المهملة؛ بدل القاف الثانية- والمشهور عقيقته- بقافين- ومعنى الخبر: أنّه إذا قبلت عقيقته الفرق بسهولة؛ بأن كان حديث عهد بنحو غسل (فرقها) - بالتخفيف- أي: جعل شعره
وإلّا.. فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره.
أزهر اللّون،
…
نصفين: نصفا عن اليمين، ونصفا عن اليسار، قيل: بالمشط، وقيل: بيده.
(وإلّا) ؛ أي: وإن لم تقبل الفرق بأن كان شعره مختلطا متلاصقا، (فلا) يفرقها، بل يسدلها؛ أي: يرسلها على جبينه، فيجوز الفرق والسّدل، لكن الفرق أفضل، لأنّه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المشركين كانوا يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلونها؛ فكان صلى الله عليه وسلم يسدل رأسه، لأنه كان يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق واستمرّ عليه. قال الحافظ العراقي في «ألفية السيرة» :
يحلق رأسه لأجل النّسك
…
وربّما قصّره في نسك
وما قرّرناه مبنيّ على جعله قوله «وإلّا فلا» كلاما تاما، وما بعده مستأنف ليس من مدخول النفي؛ وهو ما حقّقه العصام، وعليه شرح ابن حجر والمناويّ والقاري وحسّوس، وتبعهم الباجوري. ثم قال:
ويصحّ أن يكون ما بعده من مدخول النفي، فيصير التركيب هكذا: وإلّا فلا (يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره) أي: جعله وفرة، وتقدّم أنّ الوفرة الشعر النازل من شحمة الأذن إذا لم يصل إلى المنكبين.
وحاصل المعنى على التقرير الأول أنّ شعره صلى الله عليه وسلم يجاوز شحمة أذنيه إذا جعله وفرة؛ ولم يفرقه، فإن فرقه؛ ولم يجعله وفرة وصل إلى المنكبين؛ وكان جمّة:
وعلى التقرير الثاني: أنّ عقيقته صلى الله عليه وسلم إذا لم تنفرق؛ بل استمرت مجموعة لم يجاوز شعره شحمة أذنيه، بل يكون حذاء أذنيه فقط. فإن انفرقت عقيقته! جاوز شعره شحمة أذنيه، بل وصل إلى المنكبين. انتهى.
(أزهر اللّون) ؛ أي: أبيضه بياضا نيّرا، لأنه مشرّب بحمرة. كذا قال الأكثر، لكن قال السّهيلي: الزّهرة- في اللغة-: إشراق في اللون؛ بياضا وغيره.
واسع الجبين، أزجّ الحواجب؛ سوابغ في غير قرن،
…
(واسع الجبين) ؛ أي: ممتدّ الجبين طولا وعرضا، وسعة الجبين محمودة عند كلّ ذي ذوق سليم. والجبين- كما في «الصحاح» - فوق الصّدغ؛ وهو:
ما اكتنف الجبهة من يمين وشمال، فهما جبينان، فتكون الجبهة بين جبينين، وبذلك تعلم أن «أل» في «الجبين» للجنس، فيصدق بالجبينين كما هو المراد.
(أزجّ الحواجب) بمعنى مقوّس الحاجبين مع وفور الشعر وطوله في طرفه وامتداده، أو دقيقهما مع طول، لأن الزّجج- بزاي وجيمين محرّكة-: استقواس الحاجبين مع طول؛ كما في «القاموس» . أو دقّة الحاجبين مع سبوغهما إلى مؤخّر العين؛ كما في «الفائق» .
وإنّما قيل: «أزج الحواجب» ؛ دون «مزجّج الحواجب» !! لأن الزجج خلقة والتزجيج صنعة؛ والخلقة أشرف. وعليه قوله:
ومقلة وحاجبا مزجّجا
وقوله:
وزجّجن الحواجب والعيونا
أي: صنعن ذلك بدليل عطف العيون عليه.
والحواجب: جمع حاجب؛ وهو: ما فوق العين بلحمه وشعره، وهو صفة غالبة. أو هو الشعر الذي على العظم وحده، وسمّي به لمنعه الشمس عن العين، ووضع الحواجب موضع الحاجبين!! لأن التثنية جمع؛ أو للمبالغة في امتدادهما حتّى صارا كالحواجب.
(سوابغ) - بالسين والصاد والسين أفصح- جمع سابغة؛ أي: كوامل، وهو حال من الحواجب، لأنه في المعنى فاعل؛ أي: دقّت وتقوّست حال كونها سوابغ أي- كاملات. والأظهر أنّه منصوب على المدح (في غير قرن) - بالتحريك؛ مصدر قولك: رجل أقرن- أي: مقرون الحاجبين. وهو مكمل للوصف
بينهما عرق يدرّه الغضب، أقنى العرنين،
…
المذكور، والمراد أنّ حاجبيه قد سبغا حتّى كادا يلتقيان ولم يلتقيا.
والقرن غير محمود عند العرب ويستحبون البلج، وهو الصحيح في صفته صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما روته أمّ معبد حيث قالت في صفته: أزجّ أقرن.
ويمكن أن يجمع بينهما على تقدير صحّة رواياتها: بأن يقال: كان بين حاجبيه فرجة دقيقة لا تتبين إلّا للمتأمل، فهو غير أقرن في الواقع؛ وإن كان أقرن بحسب الظاهر، فكأنه جمع من لطافة العرب وظرافة العجم صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات «في غير قرن» . ففي بمعنى «من» ، و «غير» بمعنى «لا» ، أي: بلا قرن، وهو حال أيضا من الحواجب على الترادف؛ أو التداخل، والتداخل هو الأحسن.
(بينهما) ؛ أي: الحاجبين، وفيه تنبيه على أن الحواجب في معنى الحاجبين.
(عرق) أجوف يكون فيه الدم- وهو بكسر العين- والعصب غير أجوف. وهذا حال من الحواجب. وترك الواو في الجملة الاسمية جائز.
(يدرّه الغضب) ؛ من الإدرار- على الرواية الصحيحة- أي: بين الحاجبين عرق يصيّره الغضب ممتلئا دما؛ كما يصير الضرع ممتلئا لبنا. وفي ذلك دليل على كمال قوّته الغضبية التي عليها مدار حماية الديار وقمع الأشرار. والجملة صفة «عرق» .
(أقنى) - بقاف فنون مخففة- أي: طويل الأنف. يقال رجل أقنى وامرأة قنواء. (العرنين) - بكسر العين المهملة وسكون الراء وكسر النون الأولى- قيل:
هو ما صلب من الأنف. وقيل: الأنف كله، وهو المناسب هنا. والمراد أنّه طويل الأنف مع دقّة أرنبته، ومع حدب في وسطه، فلم يكن طوله مع استواء، بل كان في وسطه بعض ارتفاع، وهو وصف مدح.
له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمّله أشمّ، كثّ اللّحية، سهل الخدّين، ضليع الفم،
…
(له نور يعلوه) الظاهر أنّ الضميرين راجعان إلى العرنين، لأن ما بعده من تتمات صفات الأنف، ويحتمل أنّه عائد للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه الأصل، وكذا الضمير في قوله بعده «يحسبه من لم يتأمّله أشمّ» .
والنور: قال السعد التفتازاني: أجود تعريفاته: كيفية تدركها الباصرة أولا، وبواسطتها تدرك سائر المبصرات.
(يحسبه) - بكسر السين وفتحها- أي: يظن النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يتأمّله) : يمعن النظر فيه. والتأمّل إعادة النظر في الشيء مرّة بعد أخرى حتى يعرفه ويتحقّقه.
(أشمّ) مفعول ثان ل «يحسبه» .
والشّمم- بفتحتين-: ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاها، ومع إشراف الأرنبة قليلا. وحاصل المعنى: أنّ الرائي له صلى الله عليه وسلم يظنّه أشمّ لحسن قناه ولنور علاه، ولو أمعن النظر لحكم بأنه غير أشمّ.
(كثّ) - بتشديد المثلثة، وفي رواية. كثيف- (اللّحية)، وفي أخرى:
عظيم اللحية، وعلى كلّ؛ فالمعنى أنّ لحيته صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة غليظة.
واللّحية- بكسر اللام على الأفصح-: الشّعر النابت على الذّقن، وهو مجتمع اللحيين (سهل الخدّين) غير مرتفع الوجنتين، وهو بمعنى خبر البزار والبيهقي (كان أسيل الخدين) ، وذلك أعلى وأغلى وأحلى عند العرب.
(ضليع الفم) - بضاد معجمة مفتوحة-: عظيمه. وقيل: واسعه.
والعرب تتمدح بسعة الفم وتذمّ بضيقه، لأنّ سعته دليل على الفصاحة.
قال الزمخشري: والضليع في الأصل الذي عظمت أضلاعه ووفرت؛ فأجفر جنباه، ثم استعمل في موضع العظم؛ وإن لم يكن ثمّ أضلاع. انتهى.
ومن فسر ضليعه بعظيم الأسنان!! ففي كلامه نظر من وجهين:
أشنب، مفلّج الأسنان، دقيق المسربة، كأنّ عنقه جيد دمية في صفاء الفضّة،
…
الأول: أنّ إضافته إلى الفم تمنع منه، لأنها تقتضي أنّ المراد عظيم الفم؛ لا عظيم الأسنان.
والثاني: أن المقام مقام مدح، وليس عظم الأسنان بمدح؛ بخلاف عظم الفم.
(أشنب) - بشين معجمة ونون بعدها موحدة- أي: أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها (مفلّج الأسنان) ؛ بصيغة اسم المفعول من التفليج- بالفاء والجيم- أي: منفرجها، وهو خلاف متراصّ الأسنان. والفلج: انفراج ما بين الثنايا. وفي «القاموس» : مفلّج الثنايا: منفرجها. وظاهره اختصاص الفلج بالثنايا.
ويؤيده: إضافته إلى الثّنيّتين في خبر ابن عبّاس الآتي، وما قاله العصام من «أنّه يحتمل أنّ المراد الانفراج مطلقا» !! يردّه أن المقام مقام مدح، وقد صرح جمع من شرّاح «الشفاء» وغيرهم بأن انفراج جميع الأسنان عيب عند العرب:
والألصّ ضد المفلج فهو متقارب الثنايا. والفلج، أبلغ في الفصاحة، لأنّ اللسان يتّسع فيها.
(دقيق) - بالدال، وفي رواية: بالراء- (المسربة) - بفتح الميم وسكون السين المهملة وضمّ الراء-: الشعر المستدقّ ما بين اللّبّة إلى السّرة، ووصفها بالدقّة للمبالغة.
(كأنّ) - بتشديد النون- (عنقه) - بضمّتين ويسكّن- (جيد دمية) ؛ أي:
كأن عنقه الشريف عنق صورة متّخذة من عاج ونحوه (في صفاء الفضّة) فالجيد بكسر الجيم وسكون المثناة التحتية-: العنق، والدّمية- بضم الدال المهملة وسكون الميم بعدها مثناة تحتية-: الصورة المتّخذة من عاج ونحوه.
فشبّه عنقه الشريف بعنق الدّمية في الاستواء والاعتدال؛ وحسن الهيئة والكمال؛ والإشراق والجمال، لا في لون البياض، بدليل قوله «في صفاء
معتدل الخلق.
بادن متماسك،
…
الفضة» !! لبعد ما بين لون العاج ولون الفضة من التفاوت.
وقد بحث فيه بأن في أنواع المعادن ما هو أحسن نضارة من العاج ونحوه، كالبلور، فلم آثر العاج؟ وأجيب بأن هذه الصورة قد تكون مألوفة عندهم؛ دون غيرها، لأن مصورها يبالغ في تحسينها ما أمكنه.
(معتدل الخلق) - بفتح الخاء المعجمة-: أي: معتدل الصورة الظاهرة بمعنى أن أعضاءه متناسبة غير متنافرة. وهذا الكلام إجمال بعد تفصيل بالنسبة لما قبله، وإجمال قبل التفصيل بالنسبة لما بعده. وهذه الفقرة بالنصب والرفع، والنصب أظهر.
(بادن) أي: سمين سمنا معتدلا، بدليل قوله فيما تقدم «لم يكن بالمطهّم» .
فالحقّ أنّه لم يكن سمينا جدّا؛ ولا نحيفا.
وفي «جمع الوسائل» : قال الحفني: قوله «بادن» روايتنا إلى هنا بالنصب، ومن هنا إلى آخر الحديث بالرفع. ويحتمل- كما قيل- أن يكون قوله «بادن» منصوبا كما يقتضيه السياق، ويكتفى بحركة النصب عن الألف كما هو رسم المتقدمين. ويؤيده ما وقع في «جامع الأصول» : بادنا- بالألف- وكذا في «الفائق» ، وكذا في «الشفاء» للقاضي عياض.
ولما كانت البدانة قد تكون من الأعضاء؛ وقد تكون من كثرة اللحم والسمن المفرط المستوجب لرخاوة البدن وهو مذموم؛ أردفه بما ينفي ذلك فقال:
(متماسك) يمسك بعض أجزائه بعضا من غير ترجرج، وقيل: معناه ليس بمسترخي البدن، حتّى أنه في السنّ الذي شأنه استرخاء البدن كان كالشاب. ولذلك قال الغزالي: لحمه متماسك يكاد يكون على الخلق الأول فلم يضرّه السنّ.
سواء البطن والصّدر، عريض الصّدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرّد، موصول ما بين اللّبّة والسّرّة
…
(سواء) - بفتح السين والواو والألف- (البطن والصّدر) برفع «سواء» منونا، ورفع «البطن» و «الصّدر» ، وفي بعض النسخ: سواء البطن والصدر؛ برفع «سواء» غير منون، وجرّ البطن والصدر على الإضافة. والمعنى: أن بطنه وصدره الشريفين مستويان لا ينتأ أحدهما عن الآخر؛ فلا يزيد بطنه على صدره؛ ولا يزيد صدره على بطنه.
(عريض الصّدر) ؛ كالمؤكّد لقوله «سواء البطن والصدر» ، وكون الصدر عريضا مما يمدح به في الرجال.
(بعيد ما بين المنكبين) روي بالتكبير والتصغير، والمراد بكونه (بعيد ما بين المنكبين) : أنّه عريض أعلى الظهر كما تقدّم. و «ما» موصولة.
(ضخم الكراديس) : غليظها عظيمها. قال في «الصحاح» : الضخم الغليظ من كلّ شيء. وفي «المصباح» : الضخم العظيم، وضخم عظم. ومن كلامهم:
العظم أساس البدن.
(أنور المتجرّد) - بكسر الراء المشددة؛ على أنّه اسم فاعل، وبفتحها على أنه اسم مكان، قيل: وهو أشهر، بل قيل: إنه الرواية-.
والمعنى أنّه نيّر العضو المتجرّد عن الشعر؛ أو عن الثوب، فهو على غاية من الحسن ونصاعة اللون. وعلم من ذلك أنّه وضع «أفعل» موضع «فعيل» ؛ كما قاله جمع.
(موصول ما بين اللّبّة والسّرّة)«ما» موصولة؛ أو موصوفة، واللّبّة- بفتح اللام وتشديد الباء-: النّقرة التي فوق الصدر، أو موضع القلادة منه، والسّرّة بضم أوّله المهملة-: ما بقي بعد القطع، والذي يقطع سرّ. قال في «الصحاح» . تقول: عرفت ذلك قبل أن يقطع سرّك، ولا تقل سرّتك. لأنّ السرة لا تقطع، وإنما هي الموضع الذي قطع منه السّرّ- بالضم-. والمعنى: وصل
بشعر يجري كالخطّ، عاري الثّديين والبطن ما سوى ذلك، أشعر الذّراعين والمنكبين وأعالي الصّدر،
…
ما بين لبّته وسرّته (بشعر) جار ومجرور متعلق بموصول.
(يجري) ؛ أي: يمتد ذلك الشعر، فشبّه امتداده بجريان الماء؛ وهو امتداده في سيلانه (كالخطّ) ؛ أي: خطّ الكتابة. وروي كالخيط، والتشبيه بالخطّ أبلغ، لإشعاره بأن الشعرات مشبهة بالحروف، وهذا معنى «دقيق المسربة» الذي مرّ الكلام عليه. وفي رواية لابن سعد: له شعر من لبّته إلى سرّته يجري كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره؛ أي: ما عدا أعاليه. أخذا مما يأتي شعر غيره.
(عاري) - أي: خالي- (الثّديين) - بفتح المثلثة: وسكون الدال-.
(و) عاري (البطن) من الشعر (ما سوى ذلك) الخطّ. وفي رواية: ممّا سوى ذلك. وهي أنسب وأقرب؛ أي: سوى محلّ الشعر المذكور، أما هو!! ففيه الشعر الذي هو المسربة.
والمعنى: لم يكن على ثدييه وبطنه شعر غير مسربته.
ويؤيّده ما وقع في حديث ابن سعد: له شعر من لبّته إلى سرّته، يجري كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره. قال بعضهم: ولا شعر تحت إبطيه، ولعله أخذه من ذكر أنس وغيره «بياض إبطيه» . وردّه المحقق أبو زرعة بأنه لا يلزم من البياض فقد الشعر، على أنه صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينتف شعر إبطيه؛ كما في «جمع الوسائل» .
(أشعر) ؛ أي: كثير شعر (الذّراعين) - بكسر الذال- تثنية ذراع من المرفق إلى الأصابع. (و) أشعر (المنكبين) تثنية منكب- بفتح الميم وكسر الكاف-:
مجتمع رأس الكتف والعضد، (و) أشعر (أعالي) جمع أعلى (الصّدر) ؛ أي:
أن شعر هذه الثلاثة غزير كثير. وهذا من تتمة الصفتين المارتين. والأشعر ضدّ:
الأجرد، وهو أفعل صفة لا أفعل تفضيل. وفي «القاموس» : الأشعر كثير الشعر
طويل الزّندين.
رحب الرّاحة، شثن الكفّين والقدمين،
…
وطويله. وفي أكثر الشروح: أي كثيره. وقيل: طويله، والمقام يحتملهما والله أعلم.
(طويل الزّندين) - بفتح الزاي وسكون النون وبالدال المهملة؛ تثنية زند كفلس-: ما انحسر عنه اللحم من الذراع، وله رأسان: الكوع والكرسوع.
قال في «القاموس» : الكوع- بالضمّ-: طرف الزّند الذي يلي الإبهام.
والكاع طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الكرسوع- بالعين المهملة- كما في «القاموس» ولبعضهم:
فعظم يلي الإبهام كوع وما يلي
…
لخنصره الكرسوع والرّسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رجل ملقّب
…
ببوع، فخذ بالعلم واحذر من الغلط
والزّند مذكّر. قال الأصمعي: لم ير أحد أعرض زندا من الحسن البصري، كان عرض زنده شبرا.
(رحب الرّاحة) واسع الكفّ حسّا ومعنى. ولله درّ حسان بن ثابت الصحابي رضي الله عنه حيث قال:
له راحة لو أنّ معشار جودها
…
على البرّ كان البرّ أندى من البحر
له همم لا منتهى لكبارها
…
وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر
والرواية بفتح الراء في «رحب» ، ويجوز الضمّ في اللّغة. وقيل: رحب الراحة دليل الجود، وضيقها دليل البخل. والرّاحة: بطن الكفّ مع بطون الأصابع، وأصلها من الرّوح؛ وهو الاتساع.
(شثن الكفّين والقدمين) ، سبق معناه، وأنّه فسّره ابن حجر العسقلاني بغليظ الأصابع والراحة، وهو المتبادر، ويؤيّده رواية «ضخم الكفين والقدمين» . قال ابن بطّال: كانت كفّه صلى الله عليه وسلم ممتلئة لحما، غير أنّها مع غاية ضخامتها كانت ليّنة؛ كما
سائل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء؛
…
ثبت في حديث أنس: ما مسست خزّا؛ ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(سائل الأطراف) - بالسين المهملة وبهمز مكسور بعد ألف وفي آخره لام- أي: ممتدّ الأصابع طويلها طولا معتدلا بين الإفراط والتفريط، فكانت مستوية مستقيمة؛ وذلك مما يتمدّح به.
(خمصان) - بضمّ الخاء المعجمة وسكون الميم كعثمان، وبضمتين وبفتح فسكون- (الأخمصين) - بفتح الميم بلفظ التثنية- والأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض منها عند الوطء؛ مأخوذ من الخمص- بفتحتين-، وهو:
ارتفاع وسط القدم عن الأرض. والخمصان المبالغ فيه؛ أي: أن ذلك الموضع من أسفل قدميه شديد التجافي عن الأرض؛ كذا في «النهاية» . ولم يرتض ابن الأعرابي جعل الصيغة للمبالغة. وقال: إذا كان معتدل الخمص؛ لا مرتفعه جدا ولا منخفضه كذلك؛ فهو أحسن، بل غيره مذموم. انتهى.
ورجّح مقال ابن الأعرابي لأنه الأنسب بأوصافه؛ إذ هي في غاية الاعتدال.
ولا يعارضه خبر أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا وطىء بقدمه وطىء بكلّها، ليس له أخمص» !! لأنّ مراده سلب نفي الاعتدال، فمن أثبت الأخمص أراد أنّ في قدميه خمصا يسيرا، ومن نفاه نفى شدّته.
(مسيح القدمين) أي: أملسها من ظهرهما لوجود الخموصة في بطنها.
ومستويهما: ليّنهما بلا تكسّر؛ ولا تشقّق جلد بحيث (ينبو) على وزن: يدعو؛ أي: يتباعد ويتجافى (عنهما الماء) ؛ أي: إذا صبّ عليهما الماء مرّ سريعا لملاستهما ولينهما، وكان غليظ أصابعهما. يقال: نبا الشيء تجافى وتباعد وبابه «سما» ؛ كما في «المختار» .
وروى الإمام أحمد وغيره أنّ سبّابتي قدميه صلى الله عليه وسلم كانتا أطول من بقيّة أصابعهما.
إذا زال.. زال قلعا، يخطو تكفّيا ويمشي هونا،
…
وما اشتهر من إطلاق «أنّ سبّابتيه كانتا أطول من وسطاه» !؟ غلط، بل ذلك خاصّ بأصابع رجليه؛ كما قاله بعض الحفاظ.
(إذا زال زال قلعا) ؛ أي: إذا مشى رفع رجليه بقوّة كأنّه يقلع شيئا من الأرض؛ لا كمشي المختال. وقلعا حال؛ أو مصدر على تقدير مضاف؛ أي:
زوال قلع؛ وفيه خمسة أوجه: 1/ 3- فتح أوّله مع تثليث ثانيه؛ أي: فتحه وكسره وسكونه، و 4/ 5- ضمّ أوّله مع سكون ثانيه وفتحه.
والقلع- في الأصل-: انتزاع الشيء من أصله، أو: تحويله عن محلّه.
وكلاهما صالح لأن يراد هنا، لأنّه يرفع رجله بقوّة ويحوّلها كذلك.
(يخطو) - بوزن: يعدو-؛ أي: يمشي (تكفّيا) - بكسر الفاء المشددة بعدها ياء-؛ أي: مائلا إلى سنن المشي؛ لا إلى طرفيه. وهذه الجملة مؤكّدة لمعنى قوله «زال قلعا» .
(ويمشي هونا) - بالنون ك «ضربا» ، نعت لمصدر محذوف؛ أي: مشيا هونا، أو حال-؛ أي: هيّنا في تؤدة وسكينة. وهذه الجملة قيل: إنّها تفنّن في العبارة حيث عبّر عن المشي بعبارتين فرارا من كراهة تكرار لفظه. وقيل: تتميم لكيفية مشيه صلى الله عليه وسلم، فقوله «إذا زال زال قلعا» بيان لكيفيّة رفع رجليه عن الأرض، وقوله «ويمشي هونا» بيان لكيفية وضعهما على الأرض.
وبهذا عرف أنّه لا تدافع بين الهون والتقلّع والانحدار، والهون: الرفق واللين. فكان صلى الله عليه وسلم يمشي برفق ولين، وتثبّت ووقار، وحلم وأناة، وعفاف وتواضع، فلا يضرب برجله، ولا يخفق بنعله. وقد قال الزّهري: إنّ سرعة المشي تذهب بهاء الوجه. يريد الإسراع الخفيف، لأنه يخلّ بالوقار، إذ الخير في الأمر الوسط.
وهذه الصفة قد وصف الله تعالى بها عباده الصالحين بقوله (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)[63/ الفرقان] . ولا يخفى أنّه صلى الله عليه وسلم أثبت منهم في ذلك،
ذريع المشية، إذا مشى.. كأنّما ينحطّ من صبب، وإذا التفت..
التفت جميعا، خافض الطّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السّماء،
…
لأن كلّ كمال في غيره فهو فيه أكمل.
(ذريع المشية) - بكسر الميم- أي: واسع الخطو خلقة؛ لا تكلّفا. قال الراغب: الذريع: الواسع. يقال: فرس ذريع؛ أي: واسع الخطو، فمع كونه صلى الله عليه وسلم كان يمشي بسكينة كان يمدّ خطوه حتّى كأن الأرض تطوى له.
(إذا مشى) - يصحّ أن يكون ظرفا لقوله «ذريع المشية» ، ولقوله- (كأنّما ينحطّ من صبب) ؛ أي: محلّ منحدر، والاحتمال الثاني هو المتبادر.
(وإذا التفت التفت) عطف على الجملة الشرطية الأولى. أعني «إذا زال زال قلعا» . لأنّ ما بعدها من لواحقها.
(جميعا) على وزن «فعيل» ، وفي بعض الروايات «جمعا» على وزن «ضربا» ، وهو منصوب على المصدر؛ أو الحال، أراد أنّه لا يسارق النظر، ولا يلوي عنقه يمنة ويسرة إذا نظر إلى الشيء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف، ولكن كان يقبل جميعا ويدبر جميعا؛ أي: بجميع أجزائه لمّا أن ذلك أليق بجلالته ومهابته.
(خافض) - بالرفع- خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو خافض (الطّرف) - بفتح الطاء وسكون الراء-: هو العين، وأما الطرف- بالتحريك- فهو آخر الشيء.
فطرف الحبل آخره. والمراد أنّه خافض البصر، لأن هذا شأن المتأمّل المشتغل بربّه، فلم يزل مطرقا متوجّها إلى عالم الغيب؛ مشغولا بحاله، متفكّرا في أمور الآخرة، متواضعا بطبعه.
ثم أردف ذلك بما هو كالتفسير له؛ أو التأكيد، فقال:
(نظره)، أي: مطالعته (إلى الأرض أطول)، أي: أكثر، أو زمن نظره إليها أطول؛ أي: أزيد وأمدّ (من نظره إلى السّماء) ، والمراد أنّ نظره إلى الأرض
جلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه،
…
حال السكوت وعدم التوجّه إلى أحد أطول من نظره إلى السماء، فلا ينافي ما ورد من حديث أبي داود؛ عن عبد الله بن سلام قال: «كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدّث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء. مع أنّه قد يحتمل أنّ الرفع محمول على حال توقّعه انتظار الوحي في أمر ينزل إليه. وقيل: الأكثر لا ينافي الإكثار؛ وإنما كان نظره إلى الأرض أطول لكونه أجمع للفكرة؛ وأوسع للاعتبار؛ لاشتغاله بالباطن وإعمال جنانه في تدبير ما بعث بسببه، أو لكثرة حيائه وأدبه مع ربّه، أو أنّه بعث لتربية أهل الأرض؛ لا لتربية أهل السماء.
والنظر- كما في «المصباح» -: تأمّل الشيء بالعين.
والأرض- كما قال الراغب-: الجرم المقابل للسماء. ويعبّر بها عن أسفل الشيء كما يعبر بالسماء عن أعلى الشيء. والطول: الامتداد. يقال «طال الشيء» : امتدّ. وأطال الله بقاءك: مدّه ووسّعه.
(جلّ نظره) - بضم الجيم واللام المشددة- أي: معظم نظره إلى الأشياء لا سيما إلى الدنيا وزخرفها (الملاحظة) ؛ أي: النظر باللّحاظ- بفتح اللام- وهو: شقّ العين مما يلي الصّدغ.
وأما الذي يلي الأنف!! فالموق، ويقال له: الماق. فلم يكن نظره إلى الأشياء كنظر أهل الحرص والشّره، بل كان يلاحظها في الجملة؛ امتثالا لقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)[131/ طه] الآية.
(يسوق أصحابه) ؛ أي: يقدّمهم بين يديه ويمشي خلفهم؛ كأنه يسوقهم، لأنّ الملائكة كانت تمشي خلف ظهره. روى الدارمي بإسناد صحيح أنّه صلى الله عليه وسلم قال:
«خلّوا ظهري للملائكة» . وأخرج أحمد؛ عن جابر رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون أمامه، ويدعون ظهره للملائكة. انتهى.
ولأن من كمال التواضع أن لا يدع أحدا يمشي خلفه، وإيماء إلى مراعاة
ويبدر من لقيه بالسّلام.
أضعفهم؛ فيتأخّر عنهم رعاية للضعفاء وإعانة للفقراء، لأن شأن الولي مع المولّى عليهم أن ينظر إليهم، ويربّي من يستحق التربية، ويعاتب من تليق به المعاتبة، ويؤدّب من يناسبه التّأديب، ويكمّل من يحتاج إلى التكميل، وإنما تقدّمهم في قصّة جابر؛ كما قال النووي!! لأنّه دعاهم إليه، فكان كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم.
(ويبدر) - بضم الدال؛ من باب «نصر» بمعنى: يسبق ويبادر، وفي نسخة: ويبدأ- (من لقيه) حتّى الصبيان؛ كما صرّح به جمع في الرواية عن أنس (بالسّلام) : بالتسليم، والمعنى أنّه كان يبادر ويسبق من لقيه من أمّته بتسليم التحية؛ لأنّه من كمال شيم المتواضعين؛ وهو سيّدهم.
وليست بداءته بالسلام لأجل إيثار الغير بالجواب الذي هو فرض؛ وثوابه أجزل من ثواب السنة؛ كما قاله العصام، لأنّ الإيثار في القرب مكروه؛ كما بيّنه النووي في «المجموع» في «باب التيمم» أتمّ بيان، ووضّحه ناظم «القواعد الفقهية» مع شرحها للجرهزي؛ تبعا للسيوطي في «الأشباه» .
وفي هذه الأفعال السابقة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من تعليم أمّته كيفية المشي، وعدم الالتفات، وتقديم الصحب، والمبادرة بالسلام؛ ما لا يخفى على الموفّقين لفهم بعض أسرار أحواله حتى العاديّة؛ نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بمنّه وكرمه.
آمين.
تنبيه: من فضائله صلى الله عليه وسلم أنّ الحقّ سبحانه ذكر أعضاءه عضوا عضوا في التنزيل، وذكره بجملته؛ فذكر وجهه في (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ)[144/ البقرة] ، وعينيه في (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)[131/ طه] ، ولسانه في (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ)[97/ مريم] ، ويده وعنقه في (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ)[29/ الإسراء] ، وصدره وظهره في (أَلَمْ نَشْرَحْ)[1/ الشرح] ، وقلبه في (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ)[193- 194/ الشعراء] ، وجملته في (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(4)[القلم] ؛ ذكره المناوي رحمه الله.
ومعنى (الفخم) : العظيم في نفسه. و (المفخّم) : المعظّم عند غيره. و (المشذّب) : الظّاهر الطّول مع نحافة. و (رجل الشّعر) :
مسترسله. و (العقيقة) : شعر الرّأس. و (وفره) : جعله وفرة، وهي الشّعر النّازل عن شحمة الأذن إذا لم يصل إلى المنكبين. و (أزهر) :
مشرق اللّون، نيّره. و (أزجّ الحواجب) : مقوّسها مع طول.
(ومعنى الفخم) ؛ في قوله «فخما» : (العظيم في نفسه. و) معنى (المفخّم) ؛ في قوله «مفخّما» : (المعظّم عند غيره) حتّى الكفّار، وما وقع من بعضهم من رميه بالحجارة ونحو ذلك!! إنما هو من العناد في الكفر مع اعتقاد عظمته وتفخيمه.
(و) معنى (المشذّب) - بميم مضمومة فشين معجمة؛ فذال معجمة مشدّدة مفتوحتين فباء موحدة، على صيغة اسم المفعول؛ من التشذيب-:(الظّاهر الطّول مع نحافة) ؛ أي: نقص في اللحم.
(و) معنى (رجل) - بكسر الجيم؛ أفصح من فتحها وسكونها-: (الشّعر) بفتح العين وسكونها- (مسترسله) .
(و) معنى (العقيقة) - بقافين على المشهور-: (شعر الرّأس) سمّي «عقيقة» !! تشبيها بشعر المولود قبل أن يحلق، فإذا حلق ونبت ثانيا زال عنه اسم العقيقة، وربما سمّي الشعر «عقيقة» بعد الحلق؛ على الاستعارة، ومنه هذا الحديث.
(و) معنى (وفره: جعله وفرة) ؛ أي: مجموعا. (وهي) أي: الوفرة:
(الشّعر النّازل عن شحمة الأذن؛ إذا لم يصل إلى المنكبين) - على ما سبق-.
(و) معنى (أزهر) اللون: (مشرق اللّون؛ نيّره) في كلّ أجزاء بدنه.
(و) معنى (أزجّ الحواجب: مقوّسها مع طول) في طرفه- على ما في «القاموس» -. وفي «الصحاح» : دقّة الحاجبين بالطول. وفي «الأساس» :
الدقّة والاستقواس. ويمكن الجمع.
و (السّوابغ) : الكاملات. و (أقنى العرنين) : طويل الأنف مع دقّة أرنبته، في وسطه بعض ارتفاع.
و (الأشمّ) : مرتفع قصبة الأنف. و (الأشنب) : أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها.
و (المفلّج) : منفرج الثّنايا.
و (الدّمية) : صورة من رخام ونحوه. و (البادن) : السّمين سمنا معتدلا.
(و) معنى (السّوابغ) - بالسين والصاد؛ والسين أعلى، جمع سابغة-:
(الكاملات) ؛ أي: غزيرات الشعر، حتّى أنّ من لم يتأمّلها يظنّه أقرن، وفي نفس الأمر لا قرن. (و) معنى (أقنى) - بقاف فنون مخفّفة مفتوحة- (العرنين) بكسر المهملة وسكون الراء وكسر النون الأولى-:(طويل الأنف مع دقّة أرنبته؛ في وسطه بعض ارتفاع)، فالعرنين: الأنف، وأوّله حيث يكون الشم، وجمعه:
عرانين. والقنا: طول الأنف ودقّة أرنبته وحدب في وسطه.
(و) معنى (الأشمّ: مرتفع قصبة الأنف) مع استواء أعلاها وإشراف الأرنبة قليلا. (و) معنى (الأشنب) - بشين معجمة فنون فموحدة-: (أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها) .
(و) معنى (المفلّج) - بصيغة اسم المفعول-: (منفرج الثّنايا) ؛ جمع:
ثنيّة، أي: بين ثناياه فرجة لطيفة. والثّنايا: هي الأسنان الأربع التي في مقدّم الفم؛ ثنتان من فوق، وثنتان من تحت. والرّباعيات: أربع أسنان بجانب الثنايا.
وسيأتي أنّه كان أفلج الثنيّتين.
(و) معنى (الدّمية) - بضم الدال المهملة وإسكان الميم وتحتية مفتوحة-:
(صورة) منقوشة (من رخام ونحوه) كالعاج، وكانوا يبالغون في تحسين عنقها.
(و) معنى (البادن) - بالدال المهملة-: (السّمين سمنا معتدلا) بلا إفراط.
و (المتجرّد) : العضو العاري عن الشّعر. و (اللّبّة) : النّقرة الّتي فوق الصّدر. و (الرّحب) : الواسع. و (سائل الأطراف) :
طويلها طولا معتدلا. و (خمصان الأخمصين) : متجافيهما عن الأرض. و (الأخمص) : الموضع الّذي لا يمسّ الأرض عند الوطء من وسط القدم.
(و) معنى (المتجرّد) - بجيم وراء مشددة مفتوحتين-: (العضو العاري عن الشّعر) ؛ أو الثوب.
(و) معنى (اللبّة) - بفتح اللام وتشديد الباء الموحدة المفتوحة-: (النّقرة الّتي فوق الصّدر)، أي: المنحر، وهي المتطامن الذي فوق الصدر وأسفل الحلق من الترقوتين، وفيه تنحر الإبل.
(و) معنى (الرّحب) - بفتح الراء وإسكان الحاء-: (الواسع)
(و) معنى (سائل الأطراف) - بالسين المهملة وبهمز مكسور بعد ألف؛ وفي آخره لام-: (طويلها طولا معتدلا) بين الإفراط والتفريط.
(و) معنى (خمصان) ؛ بضمّ المعجمة وفتحها مع سكون الميم فيها (الأخمصين) - بفتح الميم بصيغة التثنية-: (متجافيهما عن الأرض)، ليس بالأرحّ الذي يمسّها أخمصاه. والأرحّ: بالراء والحاء المهملة المشددة.
(و) معنى (الأخمص) بزنة «الأحمر» - كما قال الزرقاني، وابن الأثير-:
(الموضع الّذي لا يمسّ الأرض عند الوطء) ؛ أي: المشي (من وسط القدم) ؛ وهو ما رقّ من أسفلها؛ مأخوذ من الخمص- بفتحتين-؛ وهو: ارتفاع وسط القدم عن الأرض، يقال منه: خمص القدم خمصا؛ من باب «تعب» ، فالرّجل أخمص، والمرأة خمصاء، والجمع خمص؛ مثل أحمر وحمراء وحمر، لأنّه صفة، وسمّي أخمصا!! لضموره، والخمصان: المبالغة فيه، أي: أنّ ذلك المحلّ من بطن قدميه شديد التجافي عن الأرض- على ما سبق ما فيه-.
و (المسيح) : الأملس. و (ينبو) : يتباعد.
و (إذا زال.. زال قلعا) : إذا مشى.. رفع رجليه بقوّة.
و (ذريع المشية) : واسع الخطو خلقة لا تكلّفا.
و (الملاحظة) : النّظر باللّحاظ؛ وهو: شقّ العين ممّا يلي الصّدغ. و (يسوق أصحابه) : يقدّمهم بين يديه.
و (يبدر) : يبتدىء.
(و) معنى (المسيح) - بميم مفتوحة فسين مهملة مكسورة، فمثناة تحتية ساكنة فحاء مهملة آخره-:(الأملس) .
(و) معنى (ينبو) - على وزن يدعو-: (يتباعد) ، ويتجافى.
(و) معنى (إذا زال زال قلعا) - بفتح القاف وسكون اللام-: أنه (إذا مشى رفع رجليه) رفعا (بقوّة) ؛ لا كمشي المختال.
(و) معنى (ذريع) - بوزن سريع- (المشية) - بكسر الميم-: (واسع الخطو خلقة؛ لا تكلّفا) ؛ أي: مع كون مشيه بسكينة كان يمدّ خطوه حتّى كأن الأرض تطوى له.
(و) معنى (الملاحظة) : مفاعلة من اللّحظ؛ وهو: (النّظر باللّحاظ) بفتح اللام-: (وهو: شقّ العين ممّا يلي الصّدغ)، يقال: لحظه ولحظ إليه؛ أي: نظر إليه بمؤخّر العين، وأما الذي يلي الأنف!! فالموق والماق، واللّحاظ بالكسر مصدر-: لاحظته إذا راعيته. والصّدغ: ما بين العين والأذن.
(و) معنى (يسوق أصحابه: يقدّمهم بين يديه) ويمشي خلفهم كأنه يسوقهم.
(و) معنى (يبدر) ؛ كينصر: (يبتدىء) ويسبق. قال في «الصحاح» :
بدر إلى الشيء: أسرع، وتبادر القوم: تسارعوا. وفي «المصباح» : بدرت منه بادرة: سبقه غضبه. انتهى.
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ، والدارمي في «مسنده» ، و «البيهقي» ؛ كلهم عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثّنيّتين، إذا تكلّم ريء كالنّور يخرج من بين ثناياه. وكان صلى الله عليه وسلم أحسن البشر قدما.
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثّنيّتين) تثنية: ثنيّة- بتشديد الياء-، والأفلج من الفلج؛ أي: بعيد ما بين الثنايا والرباعيات. قال الطيبي: الفلج هنا: الفرق، بقرينة إضافته إلى الثنايا، فاستعمل الفلج مكان الفرق، إذ الفلج: فرجة بين الثنايا والرباعيات، والفرق: فرجة بين الثنايا. انتهى.
لكن ظاهر كلام «الصحاح» : أنّ الفلج مشترك بينهما! وعليه فلا حاجة إلى ما قاله الطيبي.
وفي الفم أربع ثنايا، وهي الأسنان التي في مقدّم الفم؛ ثنتان من أعلى، وثنتان من أسفل، فمراده بالثنيتين الجنس، وإلّا! فهي أربع- كما علمت-.
والرباعيات: أربع أسنان بجانب الثنايا. يعني: أنّ بين ثنيّتيه فرجة لطيفة.
وذلك يدلّ على الفصاحة والقدرة على الكلام، وتعدّه العرب جمالا.
(إذا) هي ومدخولها (تكلّم) خبر ثان ل «كان» (ريء) - بكسر الراء- بزنة قيل؛ على الأفصح، ويقال: بضمّ الراء وكسر الهمزة- وبني للمجهول!! إشارة إلى أن الرؤية لا تختصّ بأحد؛ دون أحد، ولذا لم يقل إذا تكلّم يخرج (كالنّور) ؛ أي: شعاع مثله، فالكاف بمعنى «مثل» ، فلا حاجة لتقدير شيء.
(يخرج من بين ثناياه) ، إمّا من الثنايا نفسها، أو من داخل الفم وطريقه من بينها؛ معجزة له، وهو نور حسّيّ. ووهم من قال: معنوي. والمراد ألفاظه بالقرآن أو السنة، لأنه خلاف الظاهر المتبادر من قوله «ريىء» .
(و) روى ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن عبد الله بن بريدة مرسلا- كما في «المواهب» و «الجامع الصغير» -؛ قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن البشر قدما) - بفتحتين-؛ وهي: من الإنسان معروفة، وهي أنثى، وتصغيرها قديمة، والجمع أقدام.
وعن ميمونة بنت كردم؛ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نسيت طول إصبع قدمه السّبّابة على سائر أصابعه. رواه الإمام أحمد
…
(و) في «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» : (عن ميمونة بنت كردم) - بفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال المهملة بزنة «جعفر» - الثقفية، صحابيّة صغيرة لها حديث، ابنة صحابي رضي الله تعالى عنهما، حديثها عند أهل الطائف؛ لا عند أهل البصرة؛ كما ادّعى ابن عبد البر. نبّه عليه في «الإصابة» . إلّا أن يجاب بأن مراده يزيد بن هارون روايه عن أهل الطائف، لأنه بصري واسطي، وأصحاب الحديث يقولون: لم يرو هذا غير أهل البصرة ويريدون واحدا من أهلها؛ كما في «الألفية» .
(قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نسيت طول إصبع قدمه السّبّابة) ؛ بدل من «إصبع» ؛ أي: ما نسيت طول كلّ أصبع من أصبعي قدميه السبابتين (على سائر) أي: باقي- (أصابعه.
رواه) إمام السّنّة (الإمام) البارع المجمع على جلالته وإمامته، وورعه وزهادته وحفظه، ووفور علمه وسيادته: أبو عبد الله (أحمد) بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيّان- بالمثناة- ابن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب- بكسر الهاء وإسكان النون وبعدها موحدة- ابن أفصى- بالفاء والصاد المهملة- ابن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان؛ الشيباني؛ المروزي، ثم البغدادي.
خرج من «مرو» حملا، وولد ببغداد، ونشأ بها إلى أن توفي.
ودخل مكة والمدينة، والشام واليمن، والكوفة والبصرة والجزيرة، وسمع من خلق كثير؛ منهم: يحيى القطان، وابن عيينة، وابن مهدي، وعبد الرزاق.
وروى عنه شيخه عبد الرزاق، وعلي ابن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وخلائق.
وغيره.
وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة: - 164- أربع وستين ومائة، وتوفي ضحوة يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة: - 241- إحدى وأربعين ومائتين هجرية، وعمره سبع وسبعون سنة تقريبا.
ودفن ببغداد، وقبره مشهور معروف يتبرّك به. وأحواله ومناقبه أكثر من أن تحصر، وقد أفردت بالتأليف. رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه وأنواره وأسراره.
آمين.
(وغيره) ؛ أي: غير أحمد؛ كالطبراني في حديث طويل.
قال في «المواهب» : وقد اشتهر على الألسنة أن سبّابة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أطول من الوسطى. قال الحافظ ابن حجر: وهو غلط ممّن قاله، وإنما ذلك في أصابع رجليه! وقال شيخنا الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» : حديث سبابة النبي صلى الله عليه وسلم وأنها كانت أطول من الوسطى!! اشتهر هذا على الألسنة كثيرا، وسلف جمهورهم الكمال الدميري، وهو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة. انتهى ملخصا.
هذا؛ وقد اشتهر في المدائح قديما وحديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى على الصخر غاصت قدماه فيه وأثرت. وأنكره السيوطي، وقال: لم أقف له على أصل ولا سند، ولا رأيت من خرّجه في شيء من كتب الحديث!! وكذا أنكره غيره، لكن صاحب «المواهب» ذكر في «الخصائص» في بعض نسخه تقويته بما حاصله: أنّه ما خصّ نبي بمعجزة أو كرامة إلّا ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثلها، وأثر قدمي إبراهيم بالمقام بمكّة متواتر، وفيه يقول أبو طالب:
وموطىء إبراهيم في الصّخر رطبة
…
على قدميه حافيا غير ناعل
وفي البخاري حديث تأثير ضرب موسى في الحجر ستا أو سبعا، إذ فرّ بثوبه حين اغتسل. انتهى. إلّا أن مثل هذا لا يدفع إنكار وروده. والمثليّة التي لنبينا إمّا من جنسها؛ أو بغيرها أعلى أو مساو! كما نصّوا عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم في ساقيه حموشة.
ومعنى (الحموشة) : الدّقّة، وهي محمودة في السّاقين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي كأنّما يتقلّع من صخر، وينحدر من صبب، يخطو تكفّيا، ويمشي الهوينا بغير تبختر. ومعنى (الهوينا) : تقارب الخطا.
انتهى؛ ذكره الزرقاني في «شرح المواهب» .
(و) روى الترمذي، والحاكم؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساقيه) - روي بالإفراد والتثنية- (حموشة. ومعنى الحموشة) - بفتح الحاء المهملة وشين معجمة-: (الدّقّة، وهي محمودة في السّاقين) . قال القاضي: حموشة الساق: دقّتها، يقال: حمشت قوائم الدابة إذا دقّت. هكذا ضبطه بعضهم. وقال بعضهم: خموشة- بضم الخاء المعجمة-:
دقّتها، وبكسره ليفيد التقليل. والمراد نفي غلظها، وذلك مما يتمدّح به. وقد أكثر أهل القيافة من مدح الحموشة وفوائدها. انتهى «مناوي» .
(و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي كأنّما يتقلّع من صخر وينحدر من صبب) - محرّكة؛ أي: محلّ منحدر- (يخطو تكفّيا) - بالفاء والهمزة وبالياء تخفيف، والأصل الهمز- أي: مائلا إلى سنن المشي، أي: إلى قدّام، (ويمشي الهوينا بغير تبختر) ؛ أي: تكبّر واختيال.
(ومعنى الهوينا: تقارب الخطا) ، والمشي على الهينة؛ قاله السيّد مرتضى.
وقال: رواه البيهقي بلفظ «وإذا مشى فكأنّما يتقلّع في صخر وينحدر من صبب؛ يخطو تكفّيا، ويمشي الهوينا بغير عثر» .
وروى الترمذي في «الشمائل» ، والطبرانيّ، والبيهقي؛ من حديث هند بن أبي هالة: وإذا زال زال تقلّعا، ويخطو تكفّيا، ويمشي هونا، ذريع المشية؛ إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب
…
الحديث.
وروى مسلم؛ من حديث أنس: إذا مشى تكفّأ.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى.. مشى مجتمعا؛ أي: قويّ الأعضاء، غير مسترخ في المشي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى.. مشى أصحابه أمامه، وتركوا ظهره للملائكة.
وروى البيهقي؛ من حديث أبي هريرة: ما رأيت أحدا أسرع في مشيه منه، كأنّ الأرض تطوى له، إنّا لنجتهد؛ وإنه غير مكترث. وفي لفظ آخر له: يطأ بقدمه جميعا؛ إذا أقبل أقبل جميعا، وإذا أدبر أدبر جميعا.
ومن حديث علي: إذا مشى تكفّأ تكفّؤا كأنّما ينحطّ من صبب
…
الحديث.
وفي لفظ آخر له: وكان يتكفّأ في مشيته كأنما يمشي من صبب.
وفي لفظ آخر: إذا مشى تكفّأ كأنما يمشي من صعد.
وفي لفظ آخر: وكان إذا مشى تقلّع كأنما يمشي في صبب.
وفي لفظ آخر: إذا مشى يمشي قلعا كأنما ينحدر من صبب.
وفي لفظ آخر له: إذا مشى كأنما يتقلّع من صخر.
ومن حديث أنس: وكان يتوكّأ إذا مشى. انتهى. ولله درّ البوصيري رحمه الله تعالى حيث يقول:
سيّد ضحكه التّبسّم والمش
…
ي الهوينا ونومه الإغفاء
(و) في «المواهب» : روي أنّه (كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى مجتمعا؛ أي: قويّ الأعضاء، غير مسترخ في المشي) . انتهى.
(و) روى ابن ماجه، والحاكم؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى أصحابه أمامه) ، لأنّ المشي خلف الشخص صفة المتكبّرين، وكان سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم لا متكبّرا ولا متجبّرا.
(وتركوا ظهره للملائكة) يحرسونه من أعدائه، ولا يعارضه قوله تعالى (وَاللَّهُ
وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى.. لم يلتفت.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يلتفت وراءه إذا مشى، وكان ربّما تعلّق رداؤه بالشّجر فلا يلتفت حتّى يرفعوه عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى.. كأنّما يتوكّأ.
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [67/ المائدة] !! لأن هذا إن كان قبل نزول الآية؛ فظاهر. وإلّا! فمن عصمة الله تعالى له أن يوكّل به جنده من الملأ الأعلى؛ إظهارا لشرفه بينهم.
قاله المناوي.
(و) روى الحاكم؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى لم يلتفت) ، لأنه كان يواصل السير ويترك التواني والتوقّف، ومن يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة. أو لئلا يشغل قلبه بمن خلفه، ولكون أصحابه أمامه فهو يراعيهم ويلاحظهم ويعلّمهم. وهذا لا ينافي ما تقدّم؛ من أنّه كان إذا التفت التفت جميعا!! لإمكان حمل ما تقدّم على غير حالة المشي، أو ما هنا على الغالب. انتهى «عزيزي» .
(و) روى ابن سعد في «طبقاته» ، والترمذي الحكيم في «نوادره» ، وابن عساكر في «تاريخه» كلهم؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت وراءه إذا مشى) ، وذلك لشدّة استغراقه صلى الله عليه وسلم في جلال مولاه، وكذا خلفاؤه لا يلتفتون لشيء من الدنيا لإعراضهم عنها؛ قاله الحفني.
(وكان ربّما تعلّق رداؤه بالشّجر فلا يلتفت) لتخليصه (حتّى يرفعوه عليه)، قال المناوي: زاد الطبراني: لأنّهم كانوا يمزحون ويضحكون؛ وكانوا قد أمنوا التفاته صلى الله عليه وسلم.
(و) روى أبو داود، والحاكم؛ عن أنس رضي الله عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنّما يتوكّأ) ؛ أي: لا يتكلّم كأنّه أو كأفاه فلم ينطق، ومنه خبر ابن الزبير: كان يوكىء بين الصفا والمروة سعيا. والمراد سعى سعيا شديدا؛ قاله المناوي.
وكان صلى الله عليه وسلم يمشي مشيا يعرف فيه أنّه ليس بعاجز ولا كسلان. وكان صلى الله عليه وسلم لا يطأ عقبه رجلان قطّ، إن كانوا ثلاثة.. مشى بينهم، وإن كانوا جماعة.. قدّم بعضهم.
زاد بعضهم؛ عن العلقمي: والإيكاء في كلام العرب يكون بمعنى السعي الشديد. واستدلّ عليه الأزهريّ بحديث الزبير، ثم قال: وإنّما قيل للذي يشتدّ عدوه «موك» !! لأنه قد ملأ ما بين جري رجليه؛ وأوكىء عليه. انتهى.
وفي الحفني على «الجامع الصغير» : قوله يتوكّأ؛ أي: كان يمشي بشدّة بحيث يرى كأنّه يتوكّأ على عكازة؛ ولم يتوكّأ، فإنّ الذي يتوكّأ يمشي بقوّة؛ كذا قاله. والله أعلم.
(و) روى ابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي مشيا يعرف فيه) - أي: به- (أنّه ليس بعاجز ولا كسلان) ، بل كانت أصحابه تجهد في المشي معه فلا تدركه؛ كأنما الأرض تطوى له، معجزة له.
ومع سرعة مشيه كان على غاية من الهون والتأنّي وعدم العجلة، فكان يمشي على هينته ويقطع ما يقطع بالجهد بغير جهد. ولهذا قال أبو هريرة: إنّا كنّا لنجهد أنفسنا؛ وإنّه لغير مكترث.
(و) ذكر الإمام العارف بالله عبد الوهّاب الشعراني في «كشف الغمة» قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطأ عقبه) ؛ أي: لا يمشي خلفه (رجلان قطّ) ؛ ولا أكثر من رجلين كما تفعل الملوك يتبعهم الناس كالخدم، أي: لا يكون له من يمشي خلفه من الأتباع كالسلطان، فيكون موطىء العقب، لأنّ من كان ذا مال؛ أو سلطان اتبعه الناس ومشوا خلفه، وهو صلى الله عليه وسلم يكره أن يمشي أمام القوم، بل (إن كانوا ثلاثة مشى بينهم، وإن كانوا جماعة قدّم بعضهم) ، وكانت أصحابه لا تمشي خلفه، بل يمينه وشماله وأمامه؛ يفعل ذلك تواضعا لله تعالى واستكانة، وليطّلع على حركات أصحابه وسكناتهم؛ فيعلّمهم آداب الشريعة، ولتخلى ظهره
وكان صلى الله عليه وسلم إذا لبس نعليه.. بدأ باليمنى، وإذا خلع.. خلع اليسرى. وكان إذا دخل المسجد.. أدخل رجله اليمنى.
وكان يحبّ التّيمّن في كلّ شيء أخذا وعطاء.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
…
للملائكة، ويوافق هذا الخبر قوله في الخبر المار:«كان يسوق أصحابه قدّامه» .
(و) روى أبو يعلى، والطبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس نعليه بدأ باليمنى) - أي: بإنعال الرجل اليمنى-، (وإذا خلع خلع اليسرى) - أي: بدأ بخلعها لتمكث اليمين لابسة بعدها زمنا، إذ اللّبس تكريم؛ فاليمين أولى به-.
(وكان إذا دخل المسجد أدخل رجله اليمنى، وكان يحبّ التّيمّن) - أي:
الابتداء باليمين- (في كلّ شيء) من باب التكريم؛ (أخذا وعطاء) .
قال النّووي: قاعدة الشرع المستمرّة: استحباب البداءة باليمين في كلّ ما كان من باب التكريم، وما كان بضدّه فاستحبّ فيه التياسر. ويدلّ لذلك ما رواه أبو داود؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:«كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمين لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى» . انتهى.
فإذا أراد أن يدهن أو يمشط أحبّ أن يبدأ بالجهة اليمنى من الرأس؛ أو اللحية، وإذا أراد لبس النعل!! أحبّ أن يبدأ بالرجل اليمنى، فكان يحبّ التيمّن في طهوره وترجّله وتنعّله، وفي شأنه كلّه. وإنّما أحبّه!! لأنّه كان يحبّ الفأل الحسن، ولأن أصحاب اليمين أهل الجنة. انتهى «باجوري» .
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) ؛ واسمه عبد الرحمن بن صخر- على الأصحّ؛ من نحو ثلاثين قولا- وهو دوسي من الأزد.
وكنّي «أبا هريرة» ! لهرّة صغيرة كان يحملها ويحسن إليها.
قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنّ الشّمس تجري في
…
وكان أكثر الصحابة حفظا للحديث ورواية له.
نشأ يتيما ضعيفا في الجاهلية، وقدم المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر؛ فأسلم سنة سبع- بتقديم السين على الموحدة-، ولزم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدور مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث دار.
وروى عنه خمسة آلاف حديث وثلثمائة وأربعة وسبعين حديثا؛ اتفق الشيخان منها على ثلثمائة وخمسة وعشرين حديثا، وانفرد البخاري بثلاثة وعشرين، وانفرد مسلم بمائة وتسعة وثمانين حديثا.
روى عنه من الصحابة والتابعين أكثر من ثمانمائة رجل؛ منهم ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وآخرون. قال ابن تيميّة:
صحب النبي صلى الله عليه وسلم أقل من أربع سنين، فأخباره كلّها متأخّرة. انتهى.
وولي إمرة المدينة مدّة، ولما صارت الخلافة إلى عمر استعمله على البحرين، ثم رآه ليّن العريكة مشغولا بالعبادة؛ فعزله. وأراده بعد زمن على العمل؛ فأبى.
وكان أكثر مقامه بالمدينة المنورة، وتوفّي بها. وكان متصدّرا للفتيا.
وقد جمع شيخ الإسلام تقي الدين السبكي جزءا سماه «فتاوى أبي هريرة» رضي الله تعالى عنه. ولعبد الحسين شرف الدين كتاب في سيرته؛ وقد طبع.
وكانت وفاته سنة: - 59- تسع وخمسين- بتقديم المثناة على السين المهملة- رضي الله عنه ونفعنا بعلومه. آمين.
(قال: ما رأيت) ؛ أي: علمت. ويصحّ كونه بمعنى: أبصرت، والأول أبلغ (شيئا) - تنوينه للتنكير- (أحسن) - صفة «شيئا» على كون الرؤية «بصرية» ، ومفعول ثان على كونها «علمية» - (من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد منه: نفي كون شيء أحسن منه صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنّه أحسن مما عداه.
(كأنّ) - بتشديد النون- (الشّمس) ؛ أي: شعاعها (تجري في
وجهه، ولا رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنّما الأرض تطوى له، إنّا لنجهد أنفسنا، وإنّه لغير مكترث.
وجهه) ؛ أي: لأن لمعان وجهه وضوءه يشبه لمعان الشمس وضوءها، فيكون قد شبّه لمعان وجهه الشريف وضوءه بلمعانها وضوئها، وهذا مما فيه المشبّه أبلغ من المشبّه به؛ كما في قوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ)[35/ النور] .
وقصد الراوي بذلك إقامة البرهان على أحسنيّته، وخصّ الوجه! لأنه هو الذي تظهر فيه المحاسن، ولكون حسن البدن تابعا لحسنه غالبا.
(ولا رأيت أحدا أسرع في مشيته) - بكسر فسكون للهيئة، وفي نسخة [مشيا]«1» بلفظ المصدر؛ وهو بفتح الميم بلا تاء، أي: في كيفية مشيه- (من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأنّما الأرض) - بالرفع- (تطوى له) ؛ أي: تجمع وتجعل مطويّة تحت قدميه.
ومرّ أنّه مع سرعة مشيه كان على غاية من الهون والتأنّي وعدم العجلة.
وأفاد بقوله «له» أنها لا تطوى لمن يماشيه؛ كما أوضحه بقوله:
(إنّا) - بكسر الهمزة؛ استئناف مبين- (لنجهد) - قال الجزري: بضمّ النون وكسر الهاء، ويجوز فتحهما؛ أي: إنا لنتعب (أنفسنا) ونوقعها في المشقّة في سيرنا معه صلى الله عليه وسلم، والمصطفى كان لا يقصد إجهادهم، وإنّما كان طبعه ذلك، كما يدلّ عليه قوله (وإنّه لغير مكترث) ؛ أي: والحال أنّه صلى الله عليه وسلم لغير مبال بحيث لا يجهد نفسه، بل يمشي على هينته؛ فيقطع من غير جهد ما لا نقطع بالجهد.
ومعنى الخبر: أنّه إذا مشى بالعادة ما قدرنا أن نلحقه مسرعين في المشي، ولو كنا مجتهدين في ذلك. واستعمال «مكترث» في النفي هو الأغلب، وفي الإثبات قليل شاذّ.
(1) أضيفت للإيضاح.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نورا، فكان إذا مشى في الشّمس والقمر.. لا يظهر له ظلّ.
وكان وجهه صلى الله عليه وسلم مثل الشّمس والقمر، وكان مستديرا.
(و) في «المواهب» : قال ابن سبع: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نورا، فكان إذا مشى في الشّمس والقمر لا يظهر له ظلّ) ، لأن النور لا ظلّ له.
قال غير ابن سبع: ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه «واجعلني نورا» ؛ أي:
والنور لا ظلّ له. وقد روى الترمذي الحكيم؛ عن ذكوان أبي صالح السّمان مرسلا. أنّه لم يكن له صلى الله عليه وسلم ظلّ في شمس ولا قمر. انتهى؛ أي: لأنّه كان نورا، كما قال ابن سبع.
وقال رزين: لغلبة أنواره. قيل: وحكمة ذلك صيانته عن أن يطأ كافر على ظلّه. وإطلاق الظلّ على القمر مجاز، لأنّه إنما يقال له «ظلمة القمر ونوره» .
وفي «المختار» : ظلّ الليل: سواده، وهو استعارة، لأنّ الظل حقيقة ضوء شعاع الشمس؛ دون السواد، فإذا لم يكن ضوء؛ فهو ظلمة لا ظلّ. انتهى من «شرح المواهب» مع المتن.
(و) روى مسلم في «صحيحه» ؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال له رجل: (كان وجهه صلى الله عليه وسلم مثل السيف! فقال جابر: بل (مثل الشّمس) في مزيد الإشراق والإضاءة؛ لكنّه ليس مثلها في كونه لا يستطاع النظر إليه، ولذا قال:
(والقمر) في الحسن والملاحة وقوّة النظر إليه، ولمّا كان قد يتوهّم عدم استدارته؛ قال:(وكان) ؛ أي: وجهه (مستديرا)، وفيه ردّ على من قال: كان وجهه مثل السيف. فأراد أن يزيل ما توهّمه القائل من معنى الطول الذي في السيف إلى معنى الاستدارة التي في القمر. وصرّح بهذا؛ وإن علم بالتشبيه بالقمر!! لمزيد الردّ وللتأكيد، ولئلا يتوهّم أنّ التشبيه من حيث الإشراق والنور؛ لا من جهة الاستدارة أيضا.
وعن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: ما رأيت من ذي لمّة في حلّة حمراء.. أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواية البخاري و «الشمائل» بلفظ: كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف.
قال: لا؛ بل مثل القمر.
(و) روى الشيخان: البخاريّ ومسلم، والترمذي في «الشمائل» ؛
(عن البراء) - بفتح الموحدة وتخفيف الراء والمدّ؛ على وزن سحاب، وحكي فيه القصر- كنيته: أبو عمارة.
ولد عام ولادة ابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وأوّل مشهد شهده الخندق، وهو من المشاهير، نزل الكوفة وافتتح الري.
ومات بالكوفة أيّام مصعب بن الزبير سنة: اثنتين وسبعين هجرية.
(ابن عازب) - بمهملة وزاي مكسورة؛ على وزن فاعل- وهو أنصاريّ أوسي، وكلّ من البراء وأبيه صحابيّ (رضي الله تعالى عنهما؛ قال:
ما رأيت) - أي: أبصرت- (من ذي لمّة) ؛ أي: صاحب لمّة- بكسر اللّام وتشديد الميم والجمع لمم-، سمّيت «لمّة» لأنّها تلمّ بالمنكبين، إذ هي الشعر المتجاوز شحمة الأذن مع الوصول إلى المنكب، لأنّها تطلق 1- على الواصل إليها؛ وهو المسمّى ب «الجمّة» ، و 2- على غيره وهو المسمّى ب «الوفرة» .
وهذا على القول الأول في تفسير اللّمّة.
وأما على القول الثاني! فالظاهر أنّه محمول على حالة تقصير الشعر- كما سبق- أي: ما رأيت صاحب لمّة حال كونه (في حلّة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولا مثله، فهو أحسن صورة. و «من» زائدة لتأكيد العموم.
والحلّة: ثوبان، أو ثوب له ظهارة وبطانة؛ كما في «القاموس» .
ولا يشترط أن يكون الثوبان من جنس، خلافا لمن اشترط ذلك.
سمّيت «حلّة» !! لحلول بعضها على بعض، أو لحلولها على الجسم؛ كما في «المشارق» .
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنّ الشّمس تجري في وجهه، وإذا ضحك.. يتلألأ في الجدر.
وقالت أمّ معبد
…
وهذا الحديث احتجّ به إمامنا لحلّ لبس الأحمر؛ ولو قانيا- أي- شديد الحمرة، غير أنه قد يخصّ بلبسه أهل الفسق؛ فحينئذ يحرم لبسه، لأنه تشبّه بهم، ومن تشبّه بقوم فهو منهم؛ كما في «الذحيرة» .
وأخطأ من كره لبسه مطلقا. منع لبسه ابن القيّم في «الهدي النبوي» ، وأجاز لبسه القاضي محمد بن علي الشوكاني في «نيل الأوطار» رحمهم الله تعالى. آمين.
(و) في «الشفاء» وشرحه للشيخ ملّا علي قاري الحنفي رحمه الله تعالى:
(قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساواة منفيّة أيضا بالمشاهدة العرفية- (كأنّ الشّمس تجري في وجهه) ؛ أي:
يتوهّج كتوهّج الشمس لحسنه وصفائه وبهاء ضيائه، (وإذا ضحك يتلالأ) بهمزتين؛ أي: تلمع ثناياه كاللآلي (في الجدر) - بضمتين-: جمع الجدار؛ وهو حائط الدار، وأما الجدر- بفتح فسكون- فهو الحاجز الذي يحبس الماء، كما في حديث:«اسق يا زبير حتّى يبلغ الجدر» ، وليس مفردا بمعنى الجدار كما توهّم. أي: أن نور وجهه الشريف يشرق إشراقا يصل إلى الجدران المقابلة له، كما يكون ذلك من الشمس والقمر. وقيل: إنّه من نور يخرج من بين ثناياه وفمه؛ إذا افترّ وتبسّم. ففي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه: يكاد يتلألأ في الجدر.
فتفاوته بحسب الأوقات، وبحسب خفّة ضحكه وشدّته. أو ما هنا محمول على المبالغة على تقدير «تكاد» . انتهى الشهاب الخفاجي؛ على «الشفاء» .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان، والبيهقي.
(وقالت أمّ معبد) - بفتح الميم وإسكان المهملة وفتح الموحدة ومهملة-
في بعض ما وصفته به رضي الله تعالى عنها: أجمل النّاس من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب.
الخزاعيّة: التي كانت نازلة بخباء في طريق المدينة المنورة، وقد نزل عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته لمّا خرج من غار ثور (في بعض ما) أي: كلام (وصفته به) في حديثها الطويل، الذي رواه البغوي، وابن شاهين، وابن السّكن، والطبرانيّ، وابن منده، والبيهقيّ وغيرهم؛ من طريق حرام بن هشام بن حبيش؛ عن أبيه؛ عن جدّه: حبيش بن خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة بن حرام الخزاعي؛ ويقال له حبيش الأشعري؛ وهو لقب والده خالد، وحبيش: أخو أمّ معبد؛ واسمها:
عاتكة بنت خالد، لها صحبة (رضي الله تعالى عنها)، ولأخيها حبيش صحبة أيضا رضي الله عنه. وأورده ابن السّكن؛ من حديث أم معبد نفسها. فقال حرام بن هشام بن حبيش بن خالد: سمعت أبي يحدّث عن أمّ معبد- وهي عمّته-
…
فساق القصّة. وقصّتها معه مشهورة مرويّة من طرق عديدة تعضدها وتصحّحها، وكان زوجها أبو معبد غائبا وهو صحابيّ قديم الوفاة رضي الله تعالى عنه، فلما أتاها أخبرته به، فاستوصفها إيّاه؛ فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه محلة، ولم تزر به صعلة، وسيم، قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، أقرن، إن صمت؛ فعليه الوقار، وإن تكلّم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب
…
إلى آخر ما قالته في نعته من كلام بليغ؛ مشروح في السّير. فقوله: «في بعض ما وصفته به» ؛ أي في بعض كلام وصفته به. وأقحم لفظ «بعض» ! إشارة إلى أنّه كلام طويل مشتمل على وصفه وغيره؛ من قصّة الشاة وغيرها، واقتصر هنا على قوله:(أجمل النّاس) ؛ أي أتمّهم جمالا وحسنا صوريا (من بعيد، وأحلاه) ؛ أي: أحلى الناس.
وأفرد لأنّه اسم جنس فروعي لفظه دون معناه. وكذا قوله (وأحسنه) .
وفي بعض النسخ: «وأحلاهم وأحسنهم» (من قريب)، أي: تبين حلاوة ملاحته، وطراوة فصاحته.
وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان؛ وعليه حلّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي
…
(و) روى البيهقيّ في «الدلائل» ، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن جابر بن سمرة) بن جنادة بن جندب بن حجير بن رباب بن حبيب بن سواء- بالمدّ وضمّ السين- ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان- بالعين المهملة- ابن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان السّوائي، وهو وأبوه صحابيّان (رضي الله تعالى عنهما) .
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وستّة وأربعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين حديثا، روى عنه جماعات من التابعين؛ منهم عبد الملك بن عمير، وعامر بن سعد، والشعبيّ؛ توفي سنة:
ست وستين. روينا في «صحيح مسلم» ؛ عن جابر بن سمرة قال: والله؛ لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ألفي صلاة. انتهى.
(قال) ؛ أي: جابر: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة) - بالتنوين- (إضحيان) - بكسر الهمزة وسكون الضاد المعجمة وكسر الحاء المهملة وتخفيف التحتية، وفي آخره نون منونة- أي: ليلة مقمرة من أوّلها إلى آخرها.
قال في «الفائق» : يقال «ليلة إضحيان» ، و «إضحيانة» ، و «ضحيا» ، وهي المقمرة من أوّلها إلى آخرها. قال: وإفعلان في كلامهم قليل جدّا. انتهى.
والقياس: إضحانة، وكأنه لتأويل الليلة بالليل!!.
(وعليه حلّة حمراء) ؛ أي: والحال أن عليه حلّة حمراء، فالجملة حاليّة، والقصد بها بيان ما أوجب التأمّل وإمعان النظر فيه من ظهور مزيد حسنه صلى الله عليه وسلم حينئذ، (فجعلت) ؛ أي: فصرت (أنظر إليه) ؛ أي: إلى وجهه تارة (و) أنظر (إلى القمر) تارة أخرى، (فلهو عندي) ؛ أي: فو الله لوجهه عليه الصلاة والسلام
أحسن من القمر. ومعنى (إضحيان) : مقمرة.
وسأل رجل البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السّيف؟ قال: لا، بل مثل القمر.
عندي (أحسن من القمر) ؛ فهو جواب قسم مقدّر، والتقييد بالعندية!! لافتخاره باعتقاده هذه القضية؛ لا لتخصيصه، فإنّ ذلك عند كلّ أحد رآه كذلك.
وإنّما كان صلى الله عليه وسلم أحسن!! لأن ضوءه يغلب على ضوء القمر، بل وعلى ضوء الشمس، ففي رواية لابن المبارك وابن الجوزي: لم يكن له ظلّ، ولم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه على ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلّا غلب ضوؤه على ضوء السراج.
(ومعنى) قوله (إضحيان) - بكسر الهمزة وسكون الضاد المعجمة وكسر الحاء المهملة وتخفيف التحتية وفي آخره نون منونة-: (مقمرة) من أوّلها إلى آخرها؛ كما قاله الزمخشري.
(و) روى البخاريّ في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ له- عن أبي إسحاق السبيعي قال:(سأل رجل البراء بن عازب) هو وأبوه صحابيان (رضي الله تعالى عنهما) - وتقدّمت ترجمته قريبا-:
(أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السّيف؟!) أي: في الاستنارة والاستطالة، فالسؤال عنهما معا. (قال: لا) أي: ليس مثل السيف في الاستنارة والاستطالة، (بل مثل القمر) المستدير الذي هو أنور من السيف، لكنه لم يكن مستديرا جدّا بل كان بين الاستدارة والاستطالة، وكونه صلى الله عليه وسلم أحسن من القمر لا ينافي صحّة تشبيهه به في ذلك، لأن جهات الحسن لا تنحصر، على أن التشبيه بالقمر، أو بالشمس؛ أو بهما إنما هو على سبيل التقريب والتمثيل، وإلّا! فلا شيء يعادل شيئا من أوصافه صلى الله عليه وسلم، إذ هي أعلى وأجلّ من كلّ مخلوق، وكما أنّ وجهه أبهى من الشمس والقمر؛ فنور قلبه أعظم ضياء منهما، فلو كشف الحقّ عن مشارق أنوار قلبه لانطوى نور الشمس والقمر في مشرقات أنوارها، وأين نور القمرين من نوره!! فالشمس يطرأ عليها الكسوف والغروب، وأنوار قلوب الأنبياء لا كسوف لها
وكان لونه صلى الله عليه وسلم أزهر، ولم يكن بالأسمر، ولا بالشّديد البياض.
ولا غروب. ونور الشمس تشهد به الآثار، ونور القلب يشهد به المؤثّر، لكن لا بدّ للشمس من سحاب؛ وللحسناء من نقاب!!.
إن شمس النّهار تغرب باللّي
…
ل وشمس القلوب ليست تغيب
(وكان لونه صلى الله عليه وسلم أزهر) ؛ أي: أبيض بياضا نيّرا مشرقا، لأنه مشرّب بحمرة وقد وصفه جمهور أصحابه بالبياض؛ منهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعلي بن أبي طالب، وأبو جحيفة: ووهب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبّاس، وهند بن أبي هالة، والحسن بن علي، وأبو الطّفيل عامر بن واثلة، ومحرّش الكعبي «1» ، وعبد الله بن مسعود، والبراء بن عازب، وعائشة، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأنس في رواية جميع أصحابه عنه ما عدا حميدا؛ فقال: أسمر. قال الحافظ العراقي: انفرد بها حميد عن أنس، ورواه غيره من الرواة عنه؛ فقال: أزهر اللون. فهؤلاء ستّة عشر صحابيا وصفوه بالبياض. وقد مرّت رواية بعضهم، وستأتي رواية بعضهم. وما فسّرنا به الأزهر، من كونه أبيض
…
الخ هو ما قاله الأكثر. لكن قال السّهيلي: الزّهرة- في اللغة-: إشراق في اللون بياضا؛ أو غيره.
(ولم يكن بالأسمر) الشديد السّمرة؛ وهو المعبّر عنه بالآدم، وإنّما يخالط بياضه الحمرة، لكنّها حمرة بصفاء. فيصدق عليه أنّه أزهر.
(ولا بالشّديد البياض)، وهو المعبّر عنه ب «الأمهق» ؛ رواه البخاريّ والترمذيّ؛ من حديث أنس بلفظ:«أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم» ..
الحديث، ورواه الترمذي في «الشمائل» عن هند بن أبي هالة «أزهر اللون واسع الجبين»
…
الحديث. وقد تقدّم.
(1) تأتي روايته وترجمته بعد عدة صفحات فقط.
ونعته عمّه أبو طالب فقال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
(ونعته عمّه) شقيق أبيه (أبو طالب) - واسمه: عبد مناف بن عبد المطلب؛ والد عليّ رضي الله عنه وإخوته: الحارث، وجعفر، وعقيل- (فقال) في قصيدة لاميّة طويلة أكثر من ثمانين بيتا؛ ذكرها ابن إسحاق بطولها.
(وأبيض) - بفتح الضاد، مجرور ب «ربّ» مقدّرة؛ كما صدر به الحافظ كالكرماني والسيوطي، وجزم به في «المغني» . أو منصوب، قال الحافظ ابن حجر: بإضمار «أعني» أو «أخصّ» . قال: والراجح أنّه بالنصب عطفا على «سيّدا» المنصوب في البيت قبله وهو:
وما ترك قوم لا أبا لك سيّدا
…
يحوط الذّمار غير ذرب مواكل
انتهى.
وبه قطع الدّماميني في «مصابيحه» ، وردّ به على ابن هشام، واستظهره في «شرح المغني» ، وقال: هو من عطف الصفات التي موصوفها واحد، أو هو مرفوع خبر مبتدأ محذوف؛ قاله الكرماني، وأفاده القسطلّاني عن ضبط الشرف اليونيني في نسخته من البخاري؛ أي: هو أبيض؛ ذكره الزرقاني في «شرح المواهب» ، في الجزء الأول، واقتصر في موضع آخر من الجزء الرابع على النصب؛ مصدّرا به والرفع، وردّ الجر. والله أعلم.
وفي رواية بدل «وأبيض» و «أبلج» من البلج- بفتحتين- وهو: نقاء ما بين الحاجبين.
(يستسقى) - بالبناء للمفعول- (الغمام) : السحاب (بوجهه) أي: يطلب السقي من الغمام بوجهه، والمراد ذاته، أي: يتوسّل إلى الله به. وهذا قاله عن مشاهدة لذلك، لما رأى في وجهه من مخايل ذلك؛ وإن لم يشاهده كما أبداه بعضهم احتمالا، وجزم به آخر فإنّه عجب.
.. ثمال اليتامى عصمة للأرامل وكان صلى الله عليه وسلم أزهر اللّون، كأنّ عرقه اللّؤلؤ، إذا مشى.. تكفّأ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
(ثمال اليتامى) - بكسر المثلثة وخفّة الميم- هو: العماد والملجأ، والمطعم والمغيث، والمعين والكافي. (عصمة للأرامل) ؛ أي: يمنعهم مما يضرّهم؛ جمع أرملة؛ وهي الفقير التي لا زوج لها. قال الدماميني: هو بنصب «ثمال» ؛ و «عصمة» ويجوز رفعهما على أنهما خبرا محذوف. زاد القسطلّاني: وبجرّهما على أن «أبيض» مجرور. انتهى؛ ذكره الزرقاني على «المواهب» رحمه الله تعالى.
(و) روى مسلم في «صحيحه» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللّون) ؛ أي: نيّره وحسنه. وفي «الصحاح» كغيره:
الأبيض المشرق، وبه أو ب «الأبيض المنير» فسّره عامّة المحدّثين؛ حملا على الأكمل، أو لقرينة. ولعل من فسّره بالأبيض الممزوج بحمرة نظر إلى المراد بقرينة الواقع. قال محقق: والأشهر في لونه أنّ البياض غالب عليه؛ لا سيما فيما تحت الثياب، لكن لم يكن كالجصّ، بل نيّر ممزوج بحمرة غير صافية، بل مع نور كدر؛ كما في «المغرب» . ولهذا جاء في رواية «أسمر» ، وبه يحصل التوفيق بين الروايات؛ ذكره المناوي في «كبيره» . وقال العزيزي: قال العلقمي: هو الأبيض المستنير المشرق، وهو أحسن الألوان، أي: ليس بالشديد البياض.
(كأنّ) - بالتشديد- (عرقه) - بالتحريك-: ما يترشّح من جلد الإنسان (اللّؤلؤ) في الصفاء والبياض، (إذا مشى تكفّأ) - بالهمز، ودونه- قال الأزهري: معناه أنّه يميل إلى سننه وقصد مشيه. وقال في «الدر» : تكفّأ؛ أي:
تمايل إلى قدّام- بالتشديد- كالسفينة في جريها، وقال المناوي: أي: يسرع كأنّه يميل تارة إلى يمينه وأخرى إلى شماله انتهى «عزيزي» .
(و) في «الإحياء» - وعزاه في شرحه؛ إلى «دلائل النبوة» للبيهقي-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، ورواه أبو نعيم عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أحسن النّاس وجها وأنورهم، لم يصفه واصف إلّا شبّهه بالقمر ليلة البدر.
وكانوا يقولون: هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصّدّيق
…
أحسن النّاس وجها وأنورهم) . روى البخاريّ ومسلم؛ من حديث البراء: كان أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا
…
الحديث، وللترمذيّ وابن ماجه؛ من حديث أنس: كان أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس. (لم يصفه واصف إلّا شبّهه بالقمر) . وإنما اختير على الشمس!! لأنه يتمكّن من النظر إليه ويؤنس من شاهده من غير أذى يتولّد عنه، بخلاف الشمس؛ لأنها تغشي البصر، وقال:
(ليلة البدر!!) لأنّ القمر فيها في نهاية إضاءته وكماله. رواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث أبي إسحاق الهمداني عن امرأة من همدان سمّاها؛ قالت:
حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّات فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن، عليه بردان أحمران
…
الحديث. وفيه قال: قال أبو إسحاق: فقلت لها: شبّهيه فقالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله. انتهى. وقولها:
«مرّات» !! قال الزرقاني. كذا هنا!! فلعلها قبل الهجرة، إذ لم يحجّ بعد الهجرة سوى حجة الوداع. وقوله «1» :«فرأيته على بعير له» ؛ أي: في حجة الإسلام؛ كما في الزرقاني على «المواهب» .
(و) في «الإحياء» - وهو معزوّ إلى «دلائل النبوة» أيضا؛ من تتمة الحديث السابق-: (كانوا يقولون: هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصّدّيق) .
واسمه: عبد الله بن أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمير بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرّة بن كعب.
وأمّ أبي بكر؛ أمّ الخير بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
(1) هكذا في الأصل: وصوابه (وقولها
…
) .
أسلم أبو [أبي]«1» بكر وأمّه وصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: لا يعرف أربعة متناسلون؛ بعضهم من بعض صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا آل أبي بكر الصديق؛ وهم عبد الله بن أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة؛ فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون. وأيضا أبو عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله تعالى عنهم.
ولقب أبي بكر «عتيق» ! لعتقه من النار، وقيل: لحسن وجهه وجماله.
وروى الترمذي بإسناده؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أبو بكر عتيق الله من النّار» فمن يومئذ سمّي «عتيقا» .
وأجمعت الأمة على تسميته «صدّيقا» . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنّ الله تعالى هو الذي سمّى أبا بكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّيقا، وسبب تسميته أنّه بادر إلى تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازم الصدق، فلم يقع منه هناة؛ ولا وقفة في حال من الأحوال.
وكانت له في الإسلام مواقف رفيعة؛ منها: قصته صبيحة الإسراء، وثباته وجوابه للكفّار في ذلك، وهجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك عياله وأطفاله؛ وملازمته في الغار وسائر الطريق، ثمّ كلامه يوم بدر، ويوم الحديبية حين اشتبه الأمر على غيره في تأخّر دخول مكّة، ثم بكاؤه حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ عبدا خيّره الله بين الدّنيا وبين ما عند الله» ، ثم ثباته في وفاة رسول الله، وخطبته الناس وتسكينهم، ثم قيامه في قصة البيعة لمصلحة المسلمين، ثم اهتمامه وثباته في بعث جيش أسامة بن زيد إلى الشام وتصميمه في ذلك، ثم قيامه في قتال أهل الردّة؛ ومناظرته للصحابة حتّى حجّهم بالدلائل، وشرح الله صدورهم لما شرح الله صدره من الحق؛ وهو قتال أهل الردة، ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام لفتوحه وإمدادهم بالإمداد، ثم ختم ذلك بمهمّ من أحسن مناقبه وأجلّ فضائله؛ وهو استخلافه على
(1) أضيفت لضرورة صحّة المعنى، وليست في الأصل.
رضي الله تعالى عنه حيث يقول:
أمين مصطفى للخير يدعو
…
كضوء البدر زايله الغمام
وكان صلى الله عليه وسلم أبيض كأنّما صيغ من فضّة،
…
المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتفرّسه فيه ووصيته له، واستيداعه الله الأمّة، فخلفه الله فيهم أحسن الخلافة، وظهر لعمر- الذي هو حسنة من حسناته؛ وواحدة من فعلاته- تمهيد الإسلام وإعزاز الدين، وتصديق وعد الله تعالى بأن يظهره على الدين كلّه، وكم للصديق من مواقف وآثار!! ومن يحصي مناقبه ويحيط بفضائله غير الله عز وجل!!.
وكانت ولادته بعد الفيل بثلاث سنين تقريبا بمكّة المكرّمة، وتوفي بالمدينة المنورة سنة: ثلاث عشرة من الهجرة، وعمره: ثلاث وستون سنة كرسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ومدّة خلافته: سنتان وثلاثة أشهر ونصف شهر.
روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وأربعون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ستة، وانفرد البخاريّ بأحد عشر، ومسلم بحديث.
وسبب قلّة روايته مع تقدّم صحبته وإسلامه وملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم!! أنّه تقدّمت وفاته قبل انتشار الأحاديث واعتناء التابعين بسماعها وتحصيلها وحفظها.
(رضي الله تعالى عنه) وأرضاه (حيث يقول:
أمين مصطفى للخير يدعو
…
كضوء البدر زايله الغمام)
وقوله (زايله الغمام) أي: فارقه، فالبدر أضوأ ما يكون إذ ذاك.
(و) روى الترمذي في «الشمائل» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض كأنّما صيغ) ؛ من الصوغ- بالغين المعجمة:
بمعنى صنع الحلي والإيجاد- أي: سبك وصنع (من فضّة) باعتبار ما كان يعلو بياضه صلى الله عليه وسلم من النور والإضاءة، وفيه إيماء إلى تماسك أجزائه وتناسب أعضائه، ونورانيّة وجهه وسائر بدنه. وفي رواية لأحمد: فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة
رجل الشّعر.
وكان صلى الله عليه وسلم أبيض مليحا مقصّدا.
فضة. وسيأتي. وعلم من ذلك أن المراد أنّه كان نيّر البياض (رجل) - بكسر الجيم وتسكن- (الشّعر) ؛ أي: لم يكن قططا؛ ولا سبطا. قال القرطبي: كأنّ شعره من أصل الخلقة مسرّحا. انتهى.
(و) روى مسلم، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ ل «الشمائل» - عن سعيد الجريري؛ قال: سمعت أبا الطفيل يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما بقي على وجه الأرض أحد رآه غيري. قلت: صفه لي. قال:
(كان صلى الله عليه وسلم أبيض) ؛ أي: بياضا مشرّبا بحمرة؛ لا خالصا كالبهق، لأنه لا جمال فيه (مليحا) ؛ أي: حسنا جميلا، لأنّه كان أزهر اللون، وهذا غاية الملاحة، فلم يقارب جماله أحد. وما أعطي يوسف!! إنّما هو جزء مما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (مقصّدا) - بتشديد الصاد المفتوحة؛ على أنه اسم مفعول من باب التفعيل- أي: متوسّطا. يقال رجل مقصّدا؛ أي: متوسط، كما يقال رجل قصد؛ أي: وسط، قال تعالى (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [9/ النحل] أي: وسطه.
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم متوسّط بين الطول والقصر، وبين الجسامة والنحافة، بل جميع صفاته على غاية من الأمر الوسط، فكان في لونه وهيكله؛ وشعره وشرعه مائلا عن طرفي الإفراط والتفريط. وأمته وسط بين الأمم. وكان في قواه كذلك؛ فكان معتدل القوى، واعتدالها: أن لا يخرج إلى حدّ الإفراط والتفريط، ألا ترى أن اعتدال قوى العقل يعبّر عنه بالفطنة والكياسة!! فإن مالت عن الاعتدال إلى طرف الإفراط سمّي: مكرا وخداعا، أو إلى التفريط سمي: بلها وحمقا. وكذا اعتدال قوّة الغضب، فإنه يعبّر عنه بالشجاعة، فإن مالت إلى طرف الإفراط سمي:
تهوّرا، أو التفريط سمي: جبنا. وكذا اعتدال قوّة الشهوة يعبّر عنه بالعفة، فإن مالت إلى الإفراط سمي: شرها؛ أو التفريط سمي: خمودا. فالطرفان في سائر الأخلاق مذمومان، والاعتدال هو الوسط محمود. فحفظ صلى الله عليه وسلم في ذلك كلّه من
ومعنى (المقصّد) : المتوسّط بين الطّول والقصر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض مشربا بياضه بحمرة، وكان أسود الحدقة، أهدب الأشفار.
وكان صلى الله عليه وسلم أبيض مشربا بحمرة، ضخم الهامة، محذوري الإفراط والتفريط. انتهى «مناوي، وباجوري» .
وقد روى هذا الحديث أبو داود بلفظ: كان أبيض مليحا، إذا مشى كأنما يهوي في صبوب. ورواه مسلم أيضا بلفظ: كان أبيض مليح الوجه.
(ومعنى المقصّد) - بالتشديد-: (المتوسّط بين الطّول والقصر) يعني: ليس بجسيم ولا نحيف، ولا طويل ولا قصير، كأنّه نحي به القصد من الأمور. قال البيضاوي:
المقصّد: المقتصد. يريد به المتوسّط بين الطويل والقصير؛ والناحل والجسيم.
(و) روى البيهقيّ في «الدلائل» ؛ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض مشربا) - بالتخفيف والتشديد- (بياضه بحمرة)، أي: يخالط بياضه حمرة؛ كأنه سقي بها.
(وكان أسود الحدقة) - بفتحات- أي: شديد سواد العين، (أهدب) بالدال المهملة- (الأشفار) جمع شفر- بالضم ويفتح-: حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر؛ أي: طويل شعر الأجفان كثيرا.
(و) روى البيهقي في «الدلائل» ؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه في الجنة؛ قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض مشربا بحمرة) بالتخفيف من الإشراب، و [مشرّبا] بالتشديد من التشريب- يقال: بياض مشرب بحمرة- بالتخفيف- فإذا شدّد كان للتكثير والمبالغة، فهو هنا للمبالغة في البياض، لأن الإشراب خلط لون بلون؛ كأنّ أحد اللونين سقى الآخر.
(ضخم الهامة) - بالتخفيف- أي: عظيم الرأس، لأن الهامة هي الرأس، وعظمه ممدوح محبوب، لأنه أعون على الإدراكات ونيل الكمالات.
أغرّ أبلج، أهدب الأشفار. ومعنى (الأغرّ) : الصّبيح.
و (الأبلج) : الحسن المشرق المضيء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن عباد الله عنقا، لا ينسب إلى الطّول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشّمس والرّياح فكأنّه إبريق فضّة مشرّب ذهبا، يتلألأ في بياض الفضّة وفي حمرة الذّهب.
وكان صلى الله عليه وسلم من أحسن عباد الله شفتين
…
(أغرّ) ؛ أي: صبيحا، (أبلج) أي: مشرقا مضيئا. وقيل: الأبلج: خالي الشعر بين الحاجبين، فليس بأقرن الحاجبين، لأن العرب تمدح بعدم القرن.
(أهدب الأشفار) ؛ أي: أنّ لأشفاره هدبا؛ أي: شعرا أطول من غيره، أخذا من أفعل التفضيل، وحذف العاطف فيه وفيما قبله!! ليكون أدعى إلى الإصغاء إليه، وأبعث للقلوب على تفهّم خطابه. فإنّ اللفظ إذا كان فيه نوع غرابة وعدم ألفة أصغى السمع إلى تدبّره والفكر فيه، فجاءت المعاني مسرودة على نمط التعديد؛ إشعارا بأن كلّا منها مستقلّ بنفسه؛ قائم برأسه، صالح لانفراده بالغرض.
(ومعنى الأغرّ: الصّبيح. و) معنى (الأبلج: الحسن المشرق المضيء.)
وقيل: الأبلج: نقيّ ما بين الحاجبين من الشعر- كما تقدّم-.
(و) في «الإحياء» - وعزاه في «شرحه» إلى البيهقي في «دلائل النبوة» -؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن عباد الله عنقا؛ لا ينسب إلى الطّول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشّمس والرّياح؛ فكأنّه إبريق فضّة مشرّب ذهبا، يتلألأ في بياض الفضّة وفي حمرة الذّهب) ، وما غيّبت الثياب من عنقه وما تحته! فكأنّه القمر ليلة البدر. هذا تمام الكلام، والحديث طويل جدا، ساقه في «شرح الإحياء» بطوله. وهو مشتمل على نفائس من أوصافه صلى الله عليه وسلم.
(و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن عباد الله شفتين،
وألطفهم ختم فم. وكان صلى الله عليه وسلم عريض الصّدر لا يعدو لحم بعض بدنه بعضا؛ كالمرآة في استوائها، وكالقمر في بياضه.
وكان له صلى الله عليه وسلم ثلاث عكن يغطّي الإزار منها واحدة.
وعن أمّ هانىء
…
وألطفهم ختم فم) . رواه البيهقي في «دلائل النبوة» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وهو من جملة الحديث الطويل الذي تقدّمت الإشارة إليه.
(و) في «الإحياء» أيضا: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم عريض الصّدر، لا يعدو لحم بعض بدنه بعضا؛ كالمرآة في استوائها، وكالقمر في بياضه) .
قال في «شرحه» : رواه البيهقي؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ: وكان عريض الصدر ممسوحه كأنّه المرآة في سموتها واستوائها، لا يعدو بعض لحمه بعضا، على بياض القمر ليلة البدر. وهو من جملة الحديث الطويل الذي تقدمت منه جمل. وفي سنده نظر.
(و) في «الإحياء» أيضا: (كان له صلى الله عليه وسلم ثلاث عكن) - العكن: جمع عكنة بالضم؛ طيّة من طيات البطن- (يغطّي الإزار منها واحدة) ، وتظهر اثنتان.
قال في «شرحه» : رواه البيهقيّ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، إلّا أنّه قال: يغطي الإزار منها اثنتين وتظهر منها واحدة. ومنهم من قال: واحدة وتظهر اثنتان. ثم قال: تلك العكن أبيض من القباطي المطواة، وألين مسّا.
(وعن أمّ هانىء) - بهمزة في آخره-، لا خلاف بين أهل اللغة والأسماء، وكلّهم مصرّحون به.
واسم أم هانىء: فاختة بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب لأبويه رضي الله تعالى عنها، وهذا هو المشهور في اسمها. وقيل: اسمها هند، قاله
رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا ذكرت القراطيس المثنيّة بعضها على بعض.
وعن محرّش الكعبيّ رضي الله تعالى عنه قال: اعتمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الجعرانة
…
الإمامان الشافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهما. وقيل: فاطمة؛ حكاه ابن الأثير.
أسلمت عام الفتح، وكانت تحت هبيرة بن عمرو؛ فولدت له عمرا وهانئا ويوسف وجعدة. وهرب زوجها إلى نجران ففرّق الإسلام بينهما؛ فعاشت أيّما، وماتت بعد سنة أربعين من الهجرة؛ بعد قتل أخيها عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما.
روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ستة وأربعين حديثا (رضي الله تعالى عنها؛ قالت:
ما رأيت بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا ذكرت القراطيس المثنيّة بعضها على بعض) .
(و) أخرج الإمام أحمد ابن حنبل (عن محرّش) - بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الراء الثقيلة ومعجمة- ضبطه ابن ماكولا؛ تبعا لهشام بن يوسف ويحيى بن معين. ويقال: بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، وصوّبه ابن السكن؛ تبعا لابن المديني كما في «الإصابة» ، وزاد في «التبصير» : وقال ابن سعد مخرّش- بالخاء المعجمة-. وقال بعضهم: مهملة. وقال الزمخشري: الصواب بالخاء المعجمة. انتهى. وفي «الجامع» لابن الأثير: ويقال: محرش؛ بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الراء مخففة وشين معجمة.
قال في «الإصابة» : وهو ابن سويد بن عبد الله بن مرّة الخزاعي (الكعبيّ) عداده في أهل مكة. وقيل: إنه ابن عبد الله. انتهى (رضي الله تعالى عنه.
قال: اعتمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الجعرانة) - بكسر الجيم وسكون العين المهملة وتخفيف الراء- وهو الأشهر وصوّبه النووي في «تهذيبه» ، ونقله عن الشافعي رضي الله تعالى عنه؛ وأئمة اللغة، ومحقّقي المحدّثين، و [الجعرّانة] بكسر المهملة وتشديد الراء، وعليه عامّة المحدّثين، لكن عدّه الخطّابي من تصحيفهم.
وقال صاحب «المطالع» : كلا اللّغتين صواب:
ليلا فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة فضّة.
وفي «المواهب» : عن مقاتل بن حيّان:
…
موضع مشهور بين الطائف ومكّة؛ وهو إليها أقرب، إذ بينهما ثمانية عشر ميلا؛ على ما قاله الرافعي والباجي المالكي وتبعهما الإسنوي. واثنا عشر؛ على ما قاله الفاكهي والأسدي وغيرهما. ورجّحه الفاسي بعد تحريره، فبينها وبين الحرم من جهتها نحو ثلاث أميال.
سمّيت «جعرانة» !! باسم امرأة من تميم، وقيل: من قريش. وهي المشار إليها بقوله تعالى (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها)[92/ النحل] وبها ماء شديد العذوبة.
قال الفاكهي: يقال إنه صلى الله عليه وسلم حفر موضعه بيده الشريفة المباركة فانبجس فشرب منه، وسقى الناس. أو غرز رمحه فنبع. قال الواقدي كمجاهد: وإحرامه صلى الله عليه وسلم بها من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى (ليلا) . قال الواقدي:
وكانت ليلة الأربعاء لثنتي عشرة بقين من ذي القعدة. انتهى.
(فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة فضّة) ، فاعتمر وأصبح بها كبائت. هذا بقية الحديث. وأخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي بإسناد حسن. قال الترمذي:
ولا يعرف له غيره. انتهى «زرقاني» .
(وفي «المواهب) اللدنية بالمنح المحمّدية» للعلامة القسطلّاني؛ (عن مقاتل بن حيّان) - بمهملة فتحتية مشددة- النّبطي- بفتح النون والموحدة- المفسّر أبي بسطام البلخي الخزار- بمعجمة وزايين- كما ضبطه الزرقاني على «المواهب» .
وهو مولى بكر بن وائل. وهو من تابعي التابعين، صدوق فاضل. روى عن سالم بن عبد الله، وعكرمة «مولى ابن عباس» وعطاء بن أبي رباح، وأبي بردة بن أبي موسى، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والحسن البصري، وأبي الصديق الناجي، وشهر بن حوشب، وعبد الله بن بريدة، والضحّاك بن مزاحم وغيرهم.
وروى عنه علقمة بن مرثد، وعتّاب بن محمد، وأبو جعفر الرازي،
قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: «اسمع وأطع، يا ابن الطّاهرة البكر البتول، إنّي خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمين، فإيّاي فاعبد، وعليّ فتوكّل، فسّر لأهل سوران إنّي أنا الله الحيّ القيّوم الّذي لا أزول، صدّقوا النّبيّ الأمّيّ صاحب الجمل والمدرعة، والعمامة والنّعلين والهراوة،
…
وعبد الله بن المبارك، وخلائق غيرهم. واتفقوا على توثيقه والثناء عليه.
وروى له مسلم وأصحاب «السنن» ، وأخطأ الأزدي في زعمه «أنّ وكيعا كذّبه» ، وإنّما كذّب مقاتل بن سليمان!!. مات قبل الخمسين ومائة هجرية بأرض الهند.
(قال: أوحى الله تعالى إلى) المسيح (عيسى) ابن مريم- على نبينا و (عليه) الصلاة (والسّلام) -: جدّ في أمري ولا تهزل و (اسمع وأطع؛ يا ابن الطّاهرة البكر البتول) : المنقطعة عن الرجال؛ (إنّي خلقتك من غير فحل فجعلتك آية) : علامة دالّة على قدرتي (للعالمين) الإنس والجن والملائكة حيث خلقتك من غير فحل، (فإيّاي فاعبد) لا غيري، (وعليّ فتوكّل) ؛ لا على غيري، (فسّر لأهل سوران) - بالسريانية-: بلّغ من بين يديك (إنّي أنا الله الحيّ) الدائم البقاء، (القيّوم) : المبالغ في القيام بتدبير خلقه، (الّذي لا أزول، صدّقوا النّبيّ الأمّيّ) العربيّ (صاحب الجمل والمدرعة) - بكسر الميم- أي: القتال والملاحم؛ كما في «السّامي في الأسماء» ؛ وإن كانت في الأصل كالدّرّاعة ثوب، ولا يكون إلّا من صوف؛ كما في «القاموس» ؛ كذا في الزرقاني.
وقال المصنّف النبهاني في كتاب «الأسمى» : صاحب المدرعة هي نوع من الثياب، ولا تكون إلّا من الصوف، وهي علامة التواضع ولبس الصالحين.
انتهى.
(والعمامة والنّعلين والهراوة) - بكسر الهاء ثم راء فألف فواو فتاء تأنيث-:
الجعد الرّأس، الصّلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدّين، الكثّ اللّحية، عرقه في وجهه كاللّؤلؤ،
…
العصا مطلقا، أو الضخمة.
(الجعد الرّأس) - بفتح الجيم وسكون العين- أي: جعودة متوسّطة، فلا يخالف قول أنس في «الصحيحين» والترمذي «ليس بالجعد القطط، ولا بالسّبط» القطط، بفتحتين: الشديد الجعودة كالسودان، والسّبط- بفتح فكسر أو سكون-:
المنبسط المسترسل الذي لا تكسّر فيه، فهو متوسّط بين الجعودة والسبوطة.
(الصّلت) : الواضح (الجبين، المقرون الحاجبين) .
وفي «شرح الإحياء» : المفروق الحاجبين. وهو الموافق لرواية ابن أبي هالة، وزيادة جملة وهي «الأنجل العينين» .
(الأهدب الأشفار، الأدعج العينين) - بمهملة وجيم- أي: الشديد سواد الحدقة مع سعتها، فلا يشكل بأنه «أشكل» ، لأن الشّكلة في البياض؛ لا في السواد.
(الأقنى الأنف) - بقاف فنون- مخففا من القنى. وفسّر في «النهاية» بالسائل الأنف المرتفع وسطه مع احد يدابه وارتفاع أعلاه.
(الواضح الخدّين) أي: ليس فيهما نتوء؛ ولا ارتفاع، فهو كقول هند:
«سهل الخدين» .
(الكثّ اللّحية) - بفتح الكاف ومثلثة-: غير دقيقها ولا طويلها وفيها كثافة؛ كما في «النهاية» . وفي «التنقيح» : كثير شعرها غير مسبلة. واللّحية- بكسر اللام وفتحها؛ وهو لغة الحجاز-: الشعر النابت على الذقن خاصّة.
(عرقه) - بالتحريك-: ما يرشح من جلده (في وجهه كاللّؤلؤ) في الصفاء والبياض، وفي «شرح الإحياء» : كأنه اللؤلؤ. وللبيهقي؛ عن عائشة رضي الله
وريح المسك ينفح منه، كأنّ عنقه إبريق فضّة» .
قوله: (صلت الجبين) : واضحه.
و (أدعج العينين) : شديد سواد العين.
و (أقنى الأنف) : طويله مع دقّة أرنبته، في وسطه بعض ارتفاع.
قال ابن الأثير:
…
تعالى عنها: كان يخصف نعله وكنت أغزل؛ فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولّد نورا.
(وريح المسك ينفح) - بفتح الفاء- أي: يهبّ (منه) ويظهر رائحته، (كأنّ عنقه) - بضم المهملة والنون وتسكن- (إبريق فضّة) ؛ صفاء وطولا متوسطا لا مفرطا. قال في «شرح الإحياء» : رواه البيهقي في «دلائل النبوة» .
(قوله: صلت الجبين) معناه: (واضحه) . وقوله (أدعج العينين) معناه:
(شديد سواد العين) من الدّعج- بفتحتين- أي: مع اتساعها؛ كما في «الصحاح» وغيره. وفي «النهاية» : الدّعج: السّواد في العين وغيرها. وقيل: شدّة بياض البياض وسواد السواد.
(و) قوله (أقنى الأنف) معناه: (طويله مع دقّة أرنبته) ؛ أي: طرفه، (في وسطه بعض ارتفاع) وهو المعبّر عنه بالاحديداب.
هذا؛ وما وصفه به ابن أبي هالة في الحديث المتقدّم في قوله: «سوابغ من غير قرن» مخالف لما هنا في حديث مقاتل بن حيان من قوله: «المقرون الحاجبين» ، ومخالف لما في حديث أم معبد فإنّها قالت:«أحور أكحل، أزجّ أقرن» أي: مقرون الحاجبين!!.
(قال) العلّامة الحافظ مجد الدين (ابن الأثير) أبو السعادات مبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري.
ولد بجزيرة ابن عمر سنة: - 544- أربع وأربعين وخمسمائة ونشأ بها، ثم
والصّحيح في صفة حواجبه صلى الله عليه وسلم أنّها سوابغ من غير قرن.
انتقل إلى الموصل، وأنشأ رباطا بقرية قرب الموصل تسمى «قصر حرب» . وكان أشهر العلماء ذكرا، وأكثر النبلاء قدرا.
وله المصنفات البديعة منها «جامع الأصول» و «النهاية في غريب الحديث» ، و «الإنصاف في الجمع بين «الكشف» و «الكشاف» » ، و «المصفّى المختار في الأدعية والأذكار» ، و «البديع شرح «الفصول» في النحو» ، و «الشافي» شرح «مسند الشافعي» ، وكتاب لطيف في صنعة الكتابة.
توفي في ذي القعدة سنة: - 606- ست وستمائة هجرية رحمه الله تعالى.
قال في «النهاية» : (والصّحيح في صفة حواجبه صلى الله عليه وسلم أنّها سوابغ من غير قرن) ؛ كما وصفه به ابن أبي هالة. وقال غير ابن الأثير: إنه المشهور، وأن قول الحسن:«سألت خالي هند بن أبي هالة؛ وكان وصّافا» ردّ لما جاء بخلافه.
وجمع على تقدير الصحّة؛ بأنه بحسب ما يبدو للناظرين من بعد، أو بلا تأمّل.
وأما القريب المتأمّل فيرى بين حاجبه فاصلا مستبينا، فهو أبلج في الواقع؛ أقرن بحسب الظاهر للناظر من بعد، أو بلا تأمّل؛ كما في وصف أنفه: يحسبه من لم يتأمّله أشمّ؛ ولم يكن أشمّ. وبأن بينها شعرا خفيفا جدا يظهر إذا وقع عليه الغبار في نحو سفر وحديثها سفري وبأن القرن حدث له بعد، وكان أوّلا بلا قرن، واستبعد.
قال الأنطاكي وغيره: والقرن معدود من معايب الحواجب، والعرب تكرهه، وأهل القيافة تذمّه، ويستحبّون البلج خلاف ما عليه العجم. وإذا دقّقت النظر علمت أنّ نظر العرب أدقّ، وطبعهم أرقّ. انتهى زرقاني على «المواهب» .
قلت: هذا بحسب ما في «المواهب» . والذي في «شرح الإحياء» ؛ في حديث مقاتل بن حيان: «المفروق الحاجبين» ، وعليه؛ فهو يوافق كلام الوصّاف هند بن أبي هالة؛ فلتراجع نسخة «دلائل النبوة» للبيهقي التي هي الأصل. والله أعلم.
(و) روى ابن السّنّيّ في «عمل اليوم والليلة» - كما في المناوي؛ على «الجامع الصغير» - قال: ورواه عنه أيضا الطّبراني في «الأوسط» - قال الحافظ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر وجهه في المرآة..
قال: «الحمد لله الّذي سوّى خلقي فعدّله، وكرّم صورة وجهي فحسّنها، وجعلني من المسلمين» .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا نظر في المرآة.. قال: «الحمد لله الّذي حسّن خلقي وخلقي، وزان منّي ما شان من غيري» .
العراقي: وسنده ضعيف. ورواه عنه البيهقي في «الشّعب» ، وفيه هاشم بن عيسى الحمصي؛ أورده الذهبي في «الضعفاء» ، وقال: لا يعرف- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر وجهه) ؛ أي: صورة وجهه (في المرآة) المعروفة- بالمدّ- (قال: «الحمد لله الّذي سوّى خلقي) - بفتح فسكون- أي: صورة خلقي (فعدّله) - بالتشديد والتخفيف- أي: بسبب كونه كرّم صورته، (وكرّم صورة وجهي فحسّنها) ؛ فيسنّ النظر في المرآة وقول ذلك؛ ولو كانت صورة وجهه ليست حسنة. لأنّ المراد الحسن النسبي بالنسبة لغيره، (وجعلني من المسلمين) ليقوم بواجب شكر ربّه تقدّس.
(و) أخرج أبو يعلى، والطبراني في «الكبير» - بسند فيه متروك؛ كما قال المناوي- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر في المرآة؛ قال: «الحمد لله الّذي حسّن) - بالتشديد: فعّل- (خلقي) بسكون اللام- (وخلقي) - بضمّها- (وزان منّي ما شان) - أي: قبح- (من غيري) . قال الطيبي: فيه معنى قوله «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» فجعل النقص شينا؛ كما قال المتنبي:
ولم أر في عيوب النّاس عيبا
…
كنقص القادرين على التّمام
وعلى نحو هذا الحمد حمد داود وسليمان (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)(15)[النمل] انتهى.
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا مرّة؛ وهذا أخرى. فيندب النظر في المرآة والحمد على حسن الخلق والخلقة، لأنهما نعمتان يجب الشكر عليهما. ويقول:
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أشبه النّاس بآدم صلى الله عليه وسلم، وكان أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أشبه النّاس بي خلقا وخلقا» .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما:
…
الحمد لله الذي حسن خلقي؛ وإن كان سيّىء الخلق، لأن المراد بالنسبة لمن هو أسوأ منه خلقا. وقد كان ابن عمر يكثر النظر في المرآة. فقيل له، فقال: انظر فما كان في وجهي زين؛ فهو في وجه غيري شين أحمد الله عليه. انتهى «مناوي وحفني» .
(و) في «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أشبه النّاس بآدم صلى الله عليه وسلم، وكان أبي إبراهيم) خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم أشبه النّاس بي خلقا) - بفتح الخاء وإسكان اللام- (وخلقا) . بضمتين.
قال في «شرح الإحياء» : رواه البيهقي في «دلائل النبوة» من جملة حديث طويل، ثم ساق الحديث بطوله بسنده إلى «دلائل النبوة» رحمه الله تعالى.
(و) روى مسلم في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام- بالراء- ابن عمرو بن سواد بن سلمة- بكسر اللام- ابن سعد بن علي بن أسد بن ساردة- بالسين المهملة- ابن تزيد- بالتاء المثناة فوق- ابن جشم ابن الخزرج الأنصاري الخزرجي السّلمي- بفتح السين واللام- المدني، الصحابي ابن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) يكنى: أبا عبد الله، وقيل:
أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا محمد.
كان من كبار الصحابة وفضلائهم. غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة.
وهو أحد المكثرين في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عنه ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعين حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ستين حديثا، وانفرد البخاريّ بستة وعشرين. وانفرد مسلم بمائة وستة وعشرين.
وروى عن أبي بكر وعمر وعليّ وأبي عبيدة ومعاذ وخالد بن الوليد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عرض عليّ الأنبياء،
…
وروى عنه جماعات من أئمة التابعين؛ منهم سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، ومحمد الباقر، وعطاء، وسالم بن أبي الجعد، وعمرو بن دينار، ومجاهد، ومحمد بن المنكدر، وأبو الزبير، والشعبي، وخلائق.
واستشهد أبوه يوم أحد؛ فأحياه الله وكلّمه، وقال: يا عبد الله ما تريد؟
فقال: أن أرجع إلى الدنيا مرّة أخرى فأستشهد مرّة أخرى.
والمعنى: أريد زيادة رضاك؛ وهي الشهادة بعد الشهادة، وهذه المرتبة أعلى مقاما من حال أبي يزيد حين قيل له: ما تريد؟ فقال: أريد أن لا أريد. وقال بعض السادة من أهل السعادة: هذه أيضا إرادة. نعم من قال:
«أريد وصاله ويريد هجري
…
فأترك ما أريد لما يريد»
مستحسن جدّا، للحديث القدسي:«تريد وأريد، ولا يكون إلّا ما أريد» .
وكانت وفاة جابر بالمدينة المنورة سنة: ثلاث وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، وقيل: ثمان وستين، وهو ابن أربع وتسعين سنة.
وكان ذهب بصره في آخر عمره؛ وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة المنورة. وحيث أطلق «جابر» في كتب الحديث؛ فهو جابر بن عبد الله. وإذا أريد جابر بن سمرة! قيّد. رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عرض) - بصيغة المجهول- (عليّ) - بتشديد الياء- (الأنبياء) في النوم بأن مثّلت له صورهم على ما كانت عليه حال حياتهم، أو في اليقظة ليلة المعراج، لأنه رآهم ليلته بصورهم الحقيقية التي كانوا عليها حال الحياة، واجتمع بهم حقيقة في السموات، وفي بيت المقدس.
ويقرّب الأوّل رواية البخاري: «أراني اللّيلة عند الكعبة في المنام؛ فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من الرّجال تضرب لمّته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعا يديه على منكبي رجلين؛ وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟
فإذا موسى عليه السلام ضرب من الرّجال كأنّه من رجال شنوءة.
قالوا: المسيح ابن مريم» .
ويؤيّد الثاني رواية البخاري أيضا: «ليلة أسري بي رأيت موسى
…
»
الحديث. وفي ذلك إيماء إلى أفضليته صلى الله عليه وسلم حيث لم يقل (عرضت عليهم) ، فإنّهم كالجنود له، والعسكر تعرض على السلطان؛ دون العكس. ولهذا قال بعض العارفين: إنّه صلى الله عليه وسلم بمنزلة القلب في الجيش، والأنبياء مقدّمته، والأولياء ساقته، والملائكة يمنة ويسرة متظاهرين متعاونين، كما قال تعالى (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)(4)[التحريم] . والشياطين قطّاع الطريق في الدين، والمراد بالأنبياء المعنى الأعمّ الشامل للرسل. (فإذا) - للمفاجأة- (موسى) على نبينا و (عليه) الصلاة و (السّلام)، وهو عطف على محذوف؛ أي: فرأيت موسى؛ فإذا موسى
…
الخ. وموسى معرّب موشى- بشين معجمة- سمّته به آسية بنت مزاحم امرأة فرعون لمّا وجد بالتابوت بين ماء وشجر لمناسبته لحاله، فإنّ «مو» في لغة القبط: الماء، و «شى» في تلك اللغة: الشجر، فعرّب إلى موسى.
(ضرب) - بفتح فسكون- (من الرّجال) ؛ صفة ضرب؛ أي: نوع كائن من بين الرجال؛ وهو الخفيف اللحم المستدقّ، بحيث يكون جسما بين جسمين، لا ناحل ولا مطهّم. (كأنّه) - أي موسى- (من رجال شنوءة) التي هي قبيلة من اليمن؛ أو من قحطان، وهي على وزن فعولة: تهمز وتسهّل. قال ابن السّكّيت:
ربما قالوا شنوة كنبوة. ورجال هذه القبيلة متوسّطون بين الخفّة والسّمن.
والشّنوءة- في الأصل-: التباعد؛ كما في كلام «الصحاح» .
ومن ثمّ قيل لقّبوا به!! لطهارة نسبهم وجميل حسبهم، والمتبادر أنّ التشبيه بهم في خفّة اللحم، فيكون تأكيدا لما قبله، وبيانا له. وقيل: المراد تشبيه صورته بصورتهم؛ لا تأكيد خفّة اللحم، إذا التأسيس خير من التأكيد.
وقال بعضهم: الأولى أن يكون التشبيه باعتبار أصل معنى شنوءة؛ فلا يكون
ورأيت عيسى ابن مريم [عليه السلام] ، فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود.
تأكيدا لما قبله؛ ولا بيانا له، بل هو خبر مستقلّ بالفائدة. وإنما لم يشبهه صلى الله عليه وسلم بفرد معيّن؛ كسيدنا إبراهيم وعيسى!! لعدم تشخّص فرد معيّن في خاطره حال حكايته ذلك لأصحابه. والله أعلم.
(ورأيت) - بصيغة المتكلّم أي: أبصرت- (عيسى ابن مريم) بنت عمران الصدّيقة بنصّ القرآن (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)[75/ المائدة] قيل: من ذرية سليمان بينها وبينه أربعة وعشرون أبا، ورفع عيسى عليه السلام وسنّها ثلاث وخمسون سنة، وبقيت بعده خمس سنين.
(فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة) - بمهملات- (ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه الثقفي؛ لا الهذلي كما وهم. وهو أبو مسعود؛ أو أبو يعفور. وأمه قرشية؛ وهو الذي أرسلته قريش إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فعقد معه الصلح؛ وهو كافر، ثمّ أسلم سنة تسع- بتقديم المثناة على السين المهملة- من الهجرة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، واستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرجوع لأهله؛ فرجع ودعا قومه إلى الإسلام فرماه واحد منهم بسهم؛ وهو يؤذّن للصلاة؛ فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك:«مثل عروة مثل صاحب ياسين؛ دعا قومه إلى الله فقتلوه» انتهى. وهو أحد الرجلين اللذين قالوا فيهما (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(31)[الزخرف]
وحلية عروة لم تضبط! ولعلّه اكتفى بعلم المخاطبين؛ فلم يحصل لنا المعرفة بحلية عيسى عليه السلام، لكن في رواية لمسلم:«فإذا هو ربعة أحمر كأنّه خرج من ديماس» أي: حمّام. وفي رواية أخرى: «فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء» فجمع بين الحديثين بأنّه كان له حمرة وأدمة لم يكن شيء منها في الغاية، فوصفه تارة بالحمرة؛ وتارة بالأدمة، وجمع أيضا بغير ذلك.
ولا يخفى أنّ «أقرب» مبتدأ؛ خبره عروة بن مسعود. و «من» موصولة وعائدها محذوف؛ أي: أقرب الذي رأيته، وبه متعلّق ب «شبها» المنصوب على
ورأيت إبراهيم عليه السلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم؛ يعني نفسه.
ورأيت جبريل عليه السلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية» .
أنّه تمييز للنسبة، وصلة «القرب» محذوفة أي: إليه أو منه.
(ورأيت إبراهيم) الخليل على نبينا و (عليه) الصلاة و (السّلام) قال الماوردي في «الحاوي» : معناه بالسريانية «أب رحيم» ، وفيه خمس لغات بل أكثر: إبراهيم، وإبراهام؛ وهما أشهر لغاته، وبهما قرىء في السّبع، وإبراهم بضم الهاء، وكسرها، وفتحها-.
(فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم) . ولذلك ورد: «أنا أشبه ولد إبراهيم به» . (يعني نفسه) ؛ أي: يقصد النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله «صاحبكم» نفسه الشريفة. وهذا من كلام جابر رضي الله تعالى عنه.
(ورأيت جبريل) - كفعليل. وفيه ثلاثة عشر وجها؛ بسط بعضهم الكلام عليها. وهو سرياني؛ معناه: عبد الرحمن، أو عبد العزيز. و «إيل» : اسم الله عند الجمهور. وقيل غير ذلك.
ثم قوله «رأيت جبريل» معطوف على قوله «عرض عليّ الأنبياء» عطف قصّته على قصّته، فليس داخلا في عرض الأنبياء حتى نحتاج إلى جعله منهم تغليبا.
غاية الأمر: أنّه ذكره في سياق الأنبياء مع كونه غير نبي!! لكثرة مخالطته لهم وتبليغ الوحي إليهم، نظير ما قيل في قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ) [30- 31/ الحجر] انتهى «باجوري ومناوي رحمهما الله تعالى» .
عليه السلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية) - بكسر الدال المهملة وسكون الحاء المهملة وبالتحتانية المفتوحة؛ على ما قاله أكثر أصحاب الحديث وأهل اللغة. وقال ابن ماكولا في «الإكمال» : بفتح الدال-.
وهو ابن خليفة بن فضالة بن فروة الكلبي الصحابي قديما المشهور، بل هو من كبار الصحابة.
ومعنى (ضرب) : نوع.
و (شنوءة) : قبيلة من اليمن رجالها متوسّطون.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واسع الظّهر،
…
شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهده كلّها بعد بدر، وبايع تحت الشجرة.
وفي «الصحيحين» : كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورته غالبا، لأنه كان بارعا في الجمال؛ بحيث تضرب به الأمثال. وكان إذا دخل بلدا برز لرؤيته العواتق من خدورهن.
نزل الشام وسكن المزّة، وبقي إلى أيام معاوية رضي الله عنه. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث. وحديثه في «الصحيحين» . وكانت وفاته في سنة:
خمس وأربعين تقريبا.
قال جمع من العلماء: وحكمة إتيان جبريل في صورته أنّ القرآن عربيّ نزل بلسان عربي مبين، وعادة العرب قبل الإسلام لا يرسلون إلى ملك رسولا؛ إلّا مثل دحية في الجمال والفصاحة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم من الملوك؛ فكان يأتيه في صورته جريا على عادتهم.
ودحية هو رسول نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، فلقيه بحمص، ثم عاد إليه رضي الله تعالى عنه.
(ومعنى ضرب) - بفتح المعجمة وسكون الراء وآخره باء موحدة-: (نوع) ؛ كما في «حاشية الباجوري» . (وشنوءة) - بفتح الشين المعجمة وضمّ النون؛ ثم واو ساكنة ثم همزة مفتوحة بعدها تاء؛ على زنة: فعولة-: (قبيلة) معروفة (من اليمن) - ومنه أزد شنوءة- (رجالها متوسّطون) بين الخفّة والسّمن، سمّيت به لشناءة بينهم، أو لتشنّئهم: أي: بعدهم إمّا من الناس، أو من الأدناس، ويرجّحه قول «الصحاح» : الشنوءة على وزن فعولة: التعزّز وهو التباعد، ومن ثمّ قيل:
لقّبوا به لطهارة نسبهم وجميل حسبهم. انتهى «مناوي» .
(و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واسع الظّهر) ، وبه فسّر «بعيد
ما بين كتفيه خاتم النّبوّة، وهو ممّا يلي منكبه الأيمن، فيه شامة سوداء
…
ما بين المنكبين» ؛ أي: عريض أعلى الظهر- كما تقدّم-، وقد روي «بعيد ما بين المنكبين» في عدّة أحاديث.
روى الشيخان: البخاريّ، ومسلم؛ من حديث البراء رضي الله تعالى عنه:
كان مربوعا بعيد ما بين المنكبين
…
الحديث. وروى البيهقي، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:«كان بعيد ما بين المنكبين» ، وفي لفظ لمسلم:
«له شعر يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين» .
(ما بين كتفيه خاتم النّبوّة) - بفتح التاء وكسرها-، والمراد به هنا الأثر الحاصل له بين كتفيه لمشابهته للخاتم الذي يختم به؛ وهو الطابع. وإضافته للنبوة للدّلالة عليها. (وهو ممّا يلي منكبه الأيمن) ، فالبينيّة المذكورة تقريبية. هذا قول، والصحيح أنّه كان عند أعلى كتفه الأيسر؛ قاله السّهيلي.
وقد وقع التصريح به عند مسلم، قال: حدّثنا حامد بن عمر البكراوي، وأبو كامل الجحدري؛ قالا: حدّثنا حمّاد بن زيد؛ عن عاصم الأحول؛ عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزا ولحما. وساق الحديث. وفيه: ثمّ درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوّة بين كتفيه عند نفض كتفه اليسرى
…
الحديث.
والسّر في جعله على الجانب الأيسر: أنّ القلب في تلك الجهة، فجعل الخاتم في المحلّ المحاذي للقلب. وهل 1- ولد به، أو 2- وضع حين ولد، أو 3- عند شقّ صدره، أو 4- حين نبّىء!؟ أقوال. قال الحافظ ابن حجر: أثبتها الثالث.
وبه جزم القاضي عياض.
(فيه شامة سوداء)، والشامة: علامة تخالف لون البدن التي هي فيه، جمعه شام وشامات؛ قاله في «القاموس» . وقال الجوهري: الشام جمع شامة؛ وهي
تضرب إلى الصّفرة، حولها شعرات متواليات كأنّها من عرف فرس.
وكان خاتمه صلى الله عليه وسلم غدّة حمراء مثل بيضة الحمامة.
الخال؛ وهي من الياء «1» .
(تضرب إلى الصّفرة، حولها شعرات متواليات كأنّها من عرف) - بضم العين وإسكان الراء- (فرس) ؛ وهو الشعر النابت في محدّب رقبتها. هكذا رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» ، إلّا أنّه قال: متركّبات، بدل: متواليات؛ قاله في «شرح الإحياء» . وسيأتي عن الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ردّ هذه الرواية في صفة خاتم النبوة.
(وكان خاتمه صلى الله عليه وسلم ؛ أي: خاتم النبوة الذي بين كتفيه (غدّة) - بضم الغين المعجمة وتشديد الدال المهملة- وهي؛ كما في «المصباح» : لحم يحدث بين الجلد واللحم، يتحرّك بالتحريم. (حمراء) ؛ أي: مائلة للحمرة، لئلا ينافي ما ورد في رواية مسلم: أنّه كان على لون جسده صلى الله عليه وسلم؛ قاله في «جمع الوسائل» .
وفي الباجوري: قوله حمراء
…
وفي رواية: أنّها سوداء، وفي رواية: أنّها خضراء، وفي رواية: كلون جسده، ولا تدافع بين هذه الروايات، لأنّه كان يتفاوت باختلاف الأوقات؛ فكانت كلون جسده تارة، وكانت حمراء تارة
…
وهكذا بحسب الأوقات.
(مثل بيضة الحمامة) . رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «رأيت الخاتم بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم غدّة حمراء مثل بيضة الحمامة» انتهى.
وفي تحديد خاتم النبوّة أقوال كثيرة؛ منها:
جمع عليه خيلان؛ كأنها الثآليل السود عند نفض كتفه. رواه مسلم؛ من
(1) احتراز عن الألف: شأم، وعن الميم: شمم؛ إذ هي من: شيم.
.........
حديث عبد الله بن سرجس.
وقيل: مثل زر الحجلة. رواه البخاري؛ من حديث السائب بن يزيد، وزاد:
وينمّ مسكا. ورواه مسلم بلا زيادة.
وقيل: كبيضة الحمام. رواه مسلم؛ من حديث جابر بن سمرة.
وقيل: مثل السلعة. رواه البيهقي؛ من حديث معاوية بن قرّة عن أبيه.
وقيل: شعر مجتمع. رواه الحاكم في «المستدرك» .
وقيل: مثل التفاحة. رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث إياد بن لقيط.
وقيل: مثل بعرة البعير. رواه أيضا؛ من حديث أبي رمثة؛ عن أبيه.
وقيل: مثل السلعة. رواه أيضا؛ من حديثه؛ عن أبيه.
وقيل: لحمة ناتئة. رواه أيضا؛ من حديث أبي سعيد.
وقيل: بضعة ناشزة. رواه الترمذي في «الشمائل» .
وقيل: كالبندقة. رواه ابن عساكر في «التاريخ» . زاد الحاكم في «تاريخ نيسابور» : مكتوب فيه باللحم «محمد رسول الله» .
وقيل: كالمحجمة الضخمة. رواه البيهقي؛ من حديث التنوخي رسول هرقل.
وللسهيلي في «الروض» : كأثر المحجم النابضة على اللحم.
وقيل: شامة خضراء محتفرة في اللحم. رواه ابن أبي خيثمة في «التاريخ» .
وقيل: ثلاث شعرات مجتمعات؛ نقله القاضي.
وقيل: كبيضة حمام مكتوب بباطنها «الله وحده لا شريك له» ، وبظاهرها «توجّه حيث كنت فإنّك منصور» رواه الحكيم الترمذي؛ في «نوادر الأصول» .
وقيل: كان نورا يتلألأ. رواه ابن عائذ.
قال بعض العلماء: وليست هذه الروايات مختلفة حقيقة، بل كلّ شبّه بما سنح
وعن بريدة بن الحصيب
…
له. وتلك الألفاظ كلّها مؤدّاها واحد، وهو: قطعة لحم. ومن قال: شعر، فلأن الشعر حوله متراكب عليه. كما في الرواية الأخرى. وقال القرطبي: الأحاديث الثابتة تدلّ على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلّل جعل كبيضة الحمامة، وإذا كثّر جعل كجمع اليد. وقال القاضي: رواية «جمع الكفّ» تخالف «بيض الحمام» ، و «زر الحجلة» فتتأوّل على وفق الروايات الكثيرة، أي: كهيئة الجمع؛ لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة.
وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : وأمّا ما ورد أنها كانت كأثر محجم، أو كشامة خضراء؛ أو سوداء، أو مكتوب عليها:«محمد رسول الله» ، أو «سر فأنت منصور» ، أو تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متواليات كأنها عرف فرس بمنكبه الأيمن، إلى غير ذلك!! فلم يثبت منه شيء. وتصحيح ابن حبان ذلك وهم.
قال الحافظ الهيثمي: من روى أنه كان على خاتم النبوة كتابة: «محمد رسول الله» !! فقد اشتبه عليه خاتم النبوة بخاتم اليد، إذ الكتابة المذكورة إنما كانت على خاتم اليد؛ دون خاتم النبوة. انتهى ملخصا «من شرح الإحياء» ، والمناوي، والباجوري.
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن بريدة) - مصغّر- (ابن الحصيب) بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة؛ مصغرا- ابن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح الأسلمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو سهل. ويقال:
أبو الحصيب. كان من أكابر الصحابة، أسلم قبل بدر؛ ولم يشهدها، وشهد خيبر وفتح مكة. واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه، وسكن المدينة. وانتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو؛ فمات بها سنة: اثنتين- أو ثلاث- وستين هجرية، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بخراسان.
روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وسبعة وستون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على
رضي الله تعالى عنه قال: جاء سلمان الفارسيّ
…
حديث منها، وانفرد البخاريّ بحديثين، وانفرد مسلم بأحد عشر حديثا.
وروى عنه ابناه عبد الله وسليمان (رضي الله تعالى عنه؛ قال:
جاء سلمان الفارسيّ) الصحابي الكبير، أحد الذين اشتاقت لهم الجنة- نسبة لفارس- إما لكونه منها، أو من «أصفهان» ؛ والعرب يسمّون ما تحت ملوك العجم كلّه «فارس» ، و «أصبهان» كان منها. ولم يعلم اسم أبي سلمان، وسئل عن نسبه فقال: أنا سلمان ابن الإسلام:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا انتسبوا لقيس أو تميم
ويقال: سلمان الحبر- بالمهملة فالموحدة، وقيل: بالمعجمة والتحتية [الخير]- وهو صحابيّ كبير؛
قيل: عاش مائتين وخمسين سنة، وقيل: ثلثمائة وخمسين سنة، والأوّل أصحّ، ومات سنة: ستّ وثلاثين. روي له ستّون حديثا. وكان قوي الجسم، صحيح الرأي، عالما بالشرائع وغيرها، وأدرك حواري عيسى، وقرأ الكتابين، وأصله مجوسيّ. وهو الذي دلّ المسلمين على حفر الخندق في غزوة الأحزاب حتى اختلف عليه المهاجرون والأنصار؛ كلاهما يقول: سلمان منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سلمان منّا أهل البيت» .
وكان عطاؤه خمسة آلاف؛ يفرّقه ويأكل من كسب يده يعمل الخوص، وله مزيد اجتهاد في الزهد، فإنه مع طول عمره المستلزم لزيادة الحرص لم يزدد إلّا زهدا.
وسئل علي كرّم الله وجهه عنه؛ فقال: علم العلم الأوّل والعلم الآخر، وهو بحر لا ينزف، وهو منّا أهل البيت.
قيل: هرب من أخيه؛ وكان مجوسيا فلحق براهب، ثم بجماعة من الرهبان
رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة بمائدة عليها رطب،
…
في القدس الشريف؛ وكان في صحبتهم إلى وفاة آخرهم، فدلّه الحبر إلى الحجاز، وأخبره بظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فقصد الحجاز مع جمع من الأعراب، فباعوه في وادي القرى من يهودي، ثم اشتراه منه يهوديّ آخر من قريظة؛ فقدم به المدينة، فأقام بها حتى قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الراهب قد وصف له بالعلامات الدالّة على النبوة، فجاء رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: في السّنة الأولى من الهجرة (حين) - ظرف ل «جاء» - (قدم) - بكسر الدال- أي: فجاء حين أوقات قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة) المنوّرة (بمائدة) - الباء للتعدية؛ أو للمصاحبة- أي:
ومعه مائدة. والمشهور عند أرباب اللغة: أنّ المائدة خوان عليه طعام، فإذا لم يكن عليه طعام فلا يسمى «مائدة» ، بل يقال له «خوان» .
فالمائدة من الأشياء التي تختلف أسماؤها باختلاف أوصافها،
كالبستان؛ فإنه لا يقال له «حديقة» إلّا إذا كان عليه حائط.
وكالقدح؛ فإنّه لا يقال له «كأس» إلّا إذا كان فيه شراب.
وكالدلو؛ فإنه لا يقال له «سجل» إلّا إذا كان فيه ماء.
وكالمجلس؛ فإنه لا يقال له «ناد» إلّا وفيه أهله.
وكالمرأة؛ فإنّه لا يقال لها «ظعينة» إلّا ما دامت راكبة الهودج.
وكالقدح؛ فإنه لا يقال له «سهم» إلّا إذا كان فيه نصل وريش.
وكالشجاع؛ فإنّه لا يقال له «كميّ» إلّا إذا كان شاكي السلاح.
وكالخيط؛ فإنه لا يقال له «سمط» إلّا إذا كان فيه نظم. وهكذا
…
وحينئذ فقوله (عليها رطب) لتعيين ما عليها من الطعام؛ بناء على القول بأن الرّطب طعام. وعلى القول بأنه من الفواكه؛ وليس بطعام!! تكون المائدة هنا
فوضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:
مستعارة للظرف، وإنما سمّيت «مائدة» لأنها تميد بما عليها؛ أي: تتحرّك. وقيل:
لأنها تميد من حولها مما عليها، أي: تعطيهم. فهي على الأول من ماد؛ إذا تحرك، وعلى الثاني من ماد؛ إذا أعطى. وربما قيل فيها: ميدة؛ كقول الراجز:
وميدة كثيرة الألوان
…
تصنع للجيران والإخوان
(فوضعت) - بالبناء للمفعول- أي: المائدة (بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العراقي في «شرح تقريب المسانيد» : اعلم أنّ ظاهر هذه الرواية أنّ ما أحضره سلمان كان رطبا فقط. وروى أحمد، والطبراني بإسناد جيد؛ من حديث سلمان نفسه أنه قال: فاحتطبت حطبا فبعته، فصنعت طعاما؛ فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني أيضا بإسناد جيّد: فاشتريت لحم جزور بدرهم؛ ثم طبخته، فجعلت قصعة ثريد فاحتملتها على عاتقي، ثم أتيت بها ووضعتها بين يديه. فلعل المائدة كان فيها طعام ورطب!!.
وأما ما رواه الطبراني؛ من حديث سلمان أيضا: أنّها تمر، فضعيف.
ولا مانع من الجمع بين الثلاثة لو صحّت الرواية، فتكون المائدة مشتملة على الرطب، وعلى الثريد، وعلى اللحم.
وخصّ الرطب؛ لكونه المعظم. والله أعلم.
(فقال: «يا سلمان) - ناداه بقوله «يا سلمان» جبرا لخاطره. ولعله صلى الله عليه وسلم علم اسمه بنور النبوة، أو بإخبار من حضر، أو أنّه لقيه قبل ذلك وعرف اسمه (ما هذا؟» ) الذي وضعته بين يديّ، يعني: أي نوع من الأنواع التي نوّع الشرع الأشياء عليها وقسمها إليها: أهو صدقة، أم هدية؟! فليس السؤال عن حقيقة المائدة ومفهومها؛ كما هو المتبادر من التعبير ب «ما» ، لأنها يسأل بها عن الحقيقة، إذ ليس الغرض من بيان حقائق الأشياء في هذا المقام إلّا ما يدور عليه الاعتبار الشرعي، والشيء بدونه كأنّه لا حقيقة له.
فقال: صدقة عليك وعلى أصحابك. فقال: «ارفعها؛ فإنّا لا نأكل الصّدقة» . قال: فرفعها. فجاء الغد بمثله فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «ما هذا يا سلمان؟» .
فقال: هديّة لك.
(فقال: صدقة عليك وعلى أصحابك) عبّر هنا ب «على» ؛ وباللام فيما يأتي!! لأنّ المقصود من الصدقة معنى الترحّم، ومن الهدية معنى الإكرام، وشرّك هنا بينه صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه، واقتصر فيما يأتي عليه صلى الله عليه وسلم!! إشارة إلى أن الأصحاب يشاركونه في المقصود من الصدقة، وأنّه مختصّ بالمقصود من الهدية.
(فقال: «ارفعها) - أي: المائدة، أو الصدقة من بين يديّ، أو: عني.
لرواية أحمد، والطبراني وغيرهما من طرق عديدة؛ أنّه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
«كلوا» . وأمسك يده فلم يأكل. قال العراقي: فيه تحريم صدقة التطوّع على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح المشهور- (فإنّا لا نأكل الصّدقة» ) . الظاهر اللائق بالمقام أنّه أراد نفسه فقط، وأتى بالنون الدالّة على التعظيم اللائق بمقامه الشريف!! تحدثا بالنعمة. أي: أن الصدقة لا تليق بجنابه صلى الله عليه وسلم لما فيها من معنى التراحم.
(قال) ؛ أي: بريدة بن الحصيب الراوي للحديث: (فرفعها) - أي- سلمان من عنده صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه؛ لا مطلقا- كما تقدّم- أو فرفعها بعد فراغهم من أكلها.
(فجاء) - أي- سلمان (الغد) - بنصب «الغد» - (بمثله) ؛ أي: فجاء سلمان في الغد بمثل ما جاء به أولا. أو المراد «من الغد» وقت آخر؛ وإن لم يكن هو اليوم الذي بعد اليوم الأول.
(فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «ما هذا يا سلمان؟» ) أي: أهو صدقة أم هدية!؟ كما تقدّم، وخاطبه باسمه ثانيا تلطّفا على مقتضى رسمه.
(فقال: هديّة لك) . تقدّم حكمة تعبيره هنا باللام وحكمة الاقتصار عليه صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أبسطوا»
…
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه) - أي: بطريق الانبساط؛ دفها لوهمهم أنّ هذه مختصّة له؛ فليس لهم أن يأكلوا منها، وإشارة إالى حسن الأدب مع الخدم والأصحاب؛ إظهارا لما أعطيه من الخلق العظيم والكرم العميم- (:«أبسطوا» ) بهمزة مضمومة فموحّدة فمهملة-: أمر من البسط- بالموحدة والمهملتين-؛ من حدّ «نصر» . وفي رواية: «انشطوا» - بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الشين المعجمة-: أمر من النشاط. وفي أخرى: «انشقّوا» بالقاف المشددة. ومعنى هذه الرواية: انفرجوا ليتّسع المجلس. ومعنى الرواية التي قبلها: ميلوا للأكل معي، وكلّ ما مال الشخص لفعله وآثره؛ فقد نشط له. وأما الرواية الأولى فيحتمل أن معناها: انشروا الطعام ليصله كلّ منكم؛ فيكون من «بسطه» بمعنى «نشره» ، ويحتمل أن معناها: مدّوا أيديكم للطعام. فيكون من بسط يده؛ أي: مدّها.
ويحتمل أن معناها: سرّوا سلمان بأكل طعامه، فيكون من بسط فلان فلانا: سرّه.
ويحتمل أن معناها: وسّعوا المجلس ليدخل بينكم سلمان. فيكون من «بسط الله الرزق لفلان» : وسّعه. وعلى كلّ من هذه الروايات والاحتمالات؛ فقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من هذه الهدية.
ويؤخذ من ذلك أنه يستحبّ للمهدى له يعطي الحاضرين مما أهدي له، وهذا المعنى مؤيّد لحديث:«من أهدي له هديّة؛ فجلساؤه شركاؤه فيها» ؛ وإن كان ضعيفا. والمراد بالجلساء؛ كما قال الترمذي في «نوادر الأصول» : الذين يداومون مجلسه، لا كلّ من كان جالسا إذ ذاك.
وحكي أن بعض الأولياء أهدي له هدية من الدراهم والدنانير، فقال له بعض جلسائه: يا مولانا؛ الهدية مشتركة. فقال: نحن لا نحبّ الاشتراك. فتغيّر ذلك القائل لظنّه أنّ الشيخ يريد أن يختصّ بالهدية. فقال الشيخ: خذها لك وحدك، فأخذها فعجز عن حملها، فأمر الشيخ بعض تلامذته فأعانوه.
وحكي أنّه أهدي لأبي يوسف هدية من الدراهم والدنانير؛ فقال له بعض
ثمّ نظر إلى الخاتم على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فآمن به.
وكان لليهود، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا درهما
…
جلسائه: يا مولانا؛ الهدية مشتركة. فقال: «أل» في «الهدية» للعهد، والمعهود هديّة الطعام. فانظر الفرق بين مسلك الأولياء ومسلك الفقهاء!!.
(ثمّ نظر إلى الخاتم) - بالفتح ويكسر- (على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى ب «ثم» لتراخي زمان النظر عن هذا المجلس، لما في كتب السّير: أنّ سلمان لبث بعد ذلك ينتظر رؤية الآية الثالثة التي أخبره عنها آخر مشايخه أنّه سيظهر حبيب عن قريب؛ ومن علاماته القاطعة على أنّه هو النبي الموعود الذي ختم به النبوة: أنّه لا يأكل الصدقة؛ ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة. فلما شاهد سلمان العلامتين المتقدمتين انتظر الآية الثالثة، إلى أن مات واحد من نقباء الأنصار؛ فشيّع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازته؛ وذهب معها إلى بقيع الغرقد، وجلس مع أصحابه في ذلك المكان ينتظر دفنه، فجاء سلمان واستدار خلفه لينظر إلى خاتم النبوة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم استدباره عرف أنّه يريد أن يستثبت شيئا وصف له، فألقى الرداء عن ظهره؛ فنظر سلمان إلى الخاتم (فآمن به) ؛ بلا تراخ ولا مهلة، لتمام العلامات وتكامل الآيات، فالفاء متفرّع على مجموع ما سبق من الآيات الثلاث. أي: فلما تمّت الآيات وكملت العلامات آمن به.
(و) الحال أنّه (كان) رقيقا (لليهود) ؛ أي: يهود بني قريظة، ولعلّه كان مشتركا بين جمع منهم، أو كان لواحد منهم. (فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني:
كان سببا في كتابة سيّده اليهودي له لأمره بذلك، أو لإعانته على وفاء ما لو كوتب عليه، فتجوّز ب «الشراء» عن إعانته في الأداء- (بكذا وكذا درهما)، أي: بعدد يشتمل على العطف، ولم يبيّنه في هذا الحديث. وفي بعض الروايات أنّه: أربعون أوقية. قيل: من فضة، وقيل: من ذهب. والأوقية: كانت إذ ذاك أربعين درهما، وقد بقي عليه ذلك حتّى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب، فقال:«ما فعل الفارسيّ المكاتب» فدعي له. فقال: «خذها فأدّها ممّا
على أن يغرس لهم نخلا فيعمل سلمان فيه حتّى يطعم، فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النّخيل
…
عليك» . قال سلمان: فأين تقع هذه مما عليّ!؟ قال صلى الله عليه وسلم: «خذها؛ فإنّ الله سيؤدّي عنك بها» . قال سلمان: فأخذتها؛ فوزنت لهم منها أربعين أوقية؛ فأوفيتهم حقّهم. فعتق سلمان رضي الله تعالى عنه. وقصّته مشهورة.
(على أن يغرس) - بفتح الياء وكسر الراء- (لهم) ؛ أي: لمن يملك سلمان (نخلا) ، وفي رواية «نخيلا» وهو والنخل بمعنى واحد، والواحدة النخلة.
و «على» بمعنى «مع» ؛ أي: مع أن يغرس. ويؤيده: ما في رواية «وعلى» بالواو العاطفة؛ أي: فكاتبوه على شيئين: الأواقي المذكورة، وغرس النخل مع العمل فيه حتّى يطلع. ولم يبين في هذا الحديث عدد النخل!! وفي بعض الروايات أنّه كان ثلثمائة. فقال صلى الله عليه وسلم:«أعينوا أخاكم» ، فأعانوه فبعضهم بثلاثين وديّة «1» ، وبعضهم بخمس عشرة، وبعضهم بما عنده حتى جمعوا ثلثمائة وديّة.
(فيعمل) - بالنصب معطوف على «يغرس» - (سلمان) - ليفيد أنّ عمله من جملة عوض الكتابة- (فيه)، وفي بعض نسخ «الشمائل» : فيها. وكلّ صحيح، لأنّ النخل والنخيل يذكّران ويؤنّثان؛ كما في كتب اللغة.
(حتّى يطعم) - بالمثناة التحتية، أو الفوقية- وعلى كلّ فهو بالبناء للفاعل؛ أو المفعول، ففيه أربعة أوجه، لكن أنكر الحافظ ابن حجر بناءه للمجهول. وقال:
ليس في روايتنا وأصول مشايخنا!!. والمعنى على بنائه للفاعل؛ حتّى يثمر، وعلى بنائه للمفعول حتّى تؤكل ثمرته.
(فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النّخيل) جميعها بيديه الكريمتين، لأنّه صلى الله عليه وسلم خرج مع سلمان؛ فصار سلمان يقرّب له صلى الله عليه وسلم الوديّ، فيضعه بين يديه.
قال سلمان: فو الذي نفسي بيده؛ ما مات منها وديّة، فأدّيت النخل؛ وبقي
(1) فسيلة النخل.
إلّا نخلة واحدة غرسها عمر، فحملت النّخل من عامها، ولم تحمل النّخلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما شأن هذه النّخلة؟» . فقال عمر: يا رسول الله؛ أنا غرستها، فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغرسها، فحملت من عامها.
عليّ المال حتّى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة
…
إلى آخر ما تقدّم.
(إلّا نخلة) - بالنصب على الاستثناء- (واحدة) للتأكيد (غرسها عمر) بن الخطّاب، وفي بعض الشروح أنّ حكاية غرس عمر رضي الله تعالى عنه نخلة وعدم حملها من عامها غير منقولة إلّا في حديث الترمذي، وليس فيما سواه من أخبار سلمان رضي الله تعالى عنه.
(فحملت) - أي: أثمرت- (النّخل من عامها) الذي غرست فيه- على خلاف المعتاد- استعجالا لتخليص سلمان من الرقّ ليزداد رغبة في الإسلام.
(ولم تحمل النّخلة) ؛ وفي رواية: ولم تحمل نخلة عمر، أي: لم تثمر من عامها وعدم حملها واقع على سنن ما هو المتعارف؛ إفادة لكمال امتياز رتبة النبي صلى الله عليه وسلم عن رتبة غيره، ومقدّمة لمعجزتين من معجزاته، لأن غرس النخل له ميقات معلوم؛ (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما شأن هذه النّخلة؟» ) أي: ما حالها وما بالها. لم تحمل؛ مع أنّ صواحباتها قد حملت جميعا!.
(فقال عمر) رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله؛ أنا غرستها) ، ولم تغرسها أنت؛ فلم تثمر كصواحباتها، ليظهر كمال تميّزك على غيرك. وكأنّ عمر رضي الله تعالى عنه ما عرف أنّه صلى الله عليه وسلم أراد بالغرس إظهار المعجزة؛ بل مجرّد المعاونة.
(فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغرسها) ثانيا بيديه في غير الوقت المعلوم لغرس النخل.
(فحملت من عامها) ؛ أي: من عام غرسها، وفي رواية «من عامه» ؛ أي:
الغرس. والحكمة من ذلك: أن يظهر المعجزة بإطعام الكلّ سوى ما لم يغرسه كل الظهور، ويتسبّب لظهوره معجزة أخرى؛ وهي غرس نخلة عمر ثانيا وإطعامها في عامها، ففيه معجزتان غير ما سبق: الغرس في غير أوان الغرس، والإثمار من عامه. والله أعلم.