الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمراد بنطق الكتاب بالحق: أن كل ما فيه حق وصدق. أى: ولدينا صحائف أعمالكم، التي سجلها عليكم الكرام الكاتبون، وفيها جميع أقوالكم وأفعالكم في الدنيا، بدون زيادة أو نقصان، بل هي مشتملة على كل حق وصدق فقد اقتضت حكمتنا وعدالتنا أننا لا نظلم أحدا وإنما نعطى كل إنسان ما يستحقه من خير، ونعفو عن كثير من الهفوات.
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد مدحت المؤمنين الصادقين، ووصفتهم بما هم أهله من صفات كريمة.
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن أحوال الكافرين، فتوبخهم على استمرارهم في غفلتهم، وتصور جزعهم وجؤارهم عند ما ينزل بهم العذاب فتقول:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 67]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
قال الجمل: قوله- تعالى-: بَلْ قُلُوبُهُمْ
…
هذا رجوع لأحوال الكفار المحكية فيما سبق بقوله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ
…
والجمل التي بينهما وهي قوله: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ إلى قوله وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ اعتراض في خلال الكلام المتعلق بالكفار «1» .
أى: هذه هي أوصاف المؤمنين الصادقين، أما الكافرون فقلوبهم في غَمْرَةٍ مِنْ هذا أى: في جهالة وغفلة مما عليه هؤلاء المؤمنون من صفات حميدة، ومن إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وهؤلاء الكافرون لَهُمْ أَعْمالٌ سيئة كثيرة مِنْ دُونِ ذلِكَ أى من غير ما ذكرناه عنهم من كون قلوبهم في غمرة وجهالة عن الحق هُمْ لَها عامِلُونَ أى: هم مستمرون عليها، ومعتادون لفعلها مندفعون في ارتكابها بدون وعى أو تدبر.
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 196.
ثم بين- سبحانه- عند ما ينزل بهم العذاب فقال: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ.
وحتى هنا: ابتدائية، أى: حرف تبتدئ بعده الجمل، وجملة إِذا أَخَذْنا شرطية.
وجوابها إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ.
والجؤار: الصراخ مطلقا، أو باستغاثة. يقال: جأر الثور يجأر إذا صاح.
وجأر الداعي إلى الله، إذا ضج ورفع صوته بالتضرع إلى الله عز وجل.
أى: حتى إذا عاقبنا هؤلاء المترفين الذين أبطرتهم النعمة. بالعذاب الذي يردعهم ويخزيهم ويذلهم، إذا هم يجأرون إلينا بالصراخ وبالاستغاثة.
وعبر عن عقابهم، بالأخذ، للإشعار بسرعة هذا العقاب وشدته، كما في قوله- تعالى-
…
أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ «1» .
وخص المترفين بالذكر، للإشارة إلى أن ما كانوا فيه من التنعم والتمتع والتطاول في الدنيا، لن ينفعهم شيئا عند نزول هذا العذاب بهم.
وقوله- سبحانه- لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ تأنيب وزجر لهم على جؤارهم وصراخهم. والمراد باليوم. الوقت الذي فيه نزل العذاب بهم.
أى: عند ما أخذناهم بالعذاب المباغت المفاجئ، وضجوا بالاستغاثة والجؤار، قلنا لهم على سبيل التقريع والزجر: لا تجأروا ولا تصرخوا في هذا الوقت الذي أصابكم ما أصابكم فيه من عذاب. فإنكم لن تجدوا من ينجيكم من عذابنا، أو من يدفع عنكم هذا العذاب..
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أفضت بهم إلى هذا العذاب المهين، فقال- تعالى-:
قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ....
والأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخر القدم وتَنْكِصُونَ من النكوص، وهو الرجوع إلى الخلف. يقال: فلان نكص على عقبيه، إذا رجع إلى الوراء، وهو هنا كناية عن الإعراض عن الآيات.
أى: لا تجأروا ولا تصرخوا، فإن ذلك لن يفيدكم شيئا، بسبب إصراركم على كفركم في حياتكم الدنيا، فقد كانت آياتي الدالة على وحدانيتي تتلى على مسامعكم من نبينا صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين به، فكنتم تعرضون عن سماعها أشد الإعراض، وكنتم تستهزءون بها، وتكادون تسطون بالذين يتلونها عليكم.
(1) سورة الأنعام آية 44.
وقوله- تعالى- مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ مقرر لمضمون ما قبله، من إعراضهم عن آيات الله. ونكوصهم على أعقابهم عند سماعها.
والضمير في بِهِ يرى جمهور المفسرين أنه يعود إلى البيت الحرام، والباء للسببية.
وقوله: «سامرا» اسم جمع كحاج وحاضر وراكب، مأخوذ من السمر وأصله ظل القمر وسمى بذلك لسمرته، ثم أطلق على الحديث بالليل. يقال: سمر فلان يسمر- ككرم يكرم- إذا تحدث ليلا مع غيره بقصد المسامرة والتسلية.
وقوله: تَهْجُرُونَ قرأه الجمهور- بفتح التاء وضم الجيم- مأخوذ من الهجر- بإسكان الجيم- بمعنى الصد والقطيعة، أو من الهجر- بفتح الجيم- بمعنى الهذيان والنطق بالكلام الساقط، بسبب المرض أو الجنون.
وقرأ نافع تَهْجُرُونَ بضم التاء وكسر الجيم- مأخوذ من هجر هجارا إذا نطق بالكلام القبيح.
والمعنى: قد كانت آياتي تتلى عليكم- أيها المستغيثون من العذاب- فكنتم تعرضون عنها، ولم تكتفوا بهذا الإعراض، بل كنتم متكبرين على المسلمين بالبيت الحرام، وكنتم تتسامرون بالليل حوله، فتستهزئون بالقرآن، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبتعاليم الإسلام وتنطقون خلال سمركم بالقول الباطل، الذي يدل على مرض قلوبكم، وفساد عقولكم، وسوء أدبكم.
وقوله: مُسْتَكْبِرِينَ وسامِراً وتَهْجُرُونَ أحوال ثلاثة مترادفة على واو الفاعل في تَنْكِصُونَ أو متداخلة، بمعنى أن كل كلمة منها حال مما قبلها.
قال القرطبي: مُسْتَكْبِرِينَ حال، والضمير في بِهِ قال الجمهور: هو عائد على الحرم، أو المسجد، أو البلد الذي هو مكة. وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر.
أى: يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف. وقيل: المعنى أنهم يعتقدون في نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل فيستكبرون لذلك.
وقالت فرقة: الضمير عائد على القرآن، من حيث ذكرت الآيات.
والمعنى: يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا فلا تؤمنوا بي
…
» «1» .
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة، يراها تصور حسرة المشركين وجؤارهم يوم ينزل بهم
(1) تفسير القرطبي ج 12 ص 136.