الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعتراف منه بكذبه فيما قال. لأن إقدامه على تكذيب نفسه قرينة على صدق توبته وصلاح حاله.
وهكذا يحمى الإسلام أعراض أتباعه، بهذه التشريعات الحكيمة، التي يؤدى اتباعها إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن حكم القذف بصفة عامة، إلى الحديث عن حكم القذف إذا ما حدث بين الزوجين، فقال- تعالى-:
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة، منها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس، أن هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن السحماء، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:«البينة أو حدّ في ظهرك» . فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول له:«البينة أو حد في ظهرك» .
فقال هلال: والذي بعثك بالحق إنى لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد. فنزل جبريل بهذه الآيات.
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكم كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت زوجته فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة- أى للعذاب ولغضب الله- تعالى-.
قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت.
وفي رواية فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد..» «1» .
والمراد بالرمي في قوله- تعالى- وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الرمي بفاحشة الزنا.
وقوله- تعالى-: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أى: ولم يكن لهؤلاء الأزواج الذين قذفوا زوجاتهم بالزنا من يشهد معهم سوى أنفسهم.
وقوله: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أى: فشهادة أحدهم التي ترفع عنه حد القذف، أن يشهد «أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين» فيما رماها به من الزنا.
قال الجمل ما ملخصه: «قوله- تعالى- وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ في رفع أنفسهم وجهان: أحدهما أنه بدل من شهداء، والثاني، أنه نعت له على أن إلا بمعنى غير، ولا مفهوم لهذا القيد. بل يلاعن ولو كان واجدا للشهود الذين يشهدون بزناها. وقوله:
فَشَهادَةُ مبتدأ، وخبره «أربع شهادات» أى: فشهادتهم المشروعة أربع شهادات
…
» «2» .
وقرأ الجمهور: «أربع شهادات» بالنصب على المصدر، لأن معنى: فشهادة. أن يشهد.
والتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما قاله.
وقوله- سبحانه-: وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ بيان لما يجب على القاذف بعد أن شهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين.
أى: والشهادة الخامسة بعد الأربع المتقدمة، أن يشهد القاذف بأن لعنة الله- تعالى- عليه، إن كان من الكاذبين، في رميه لزوجته بالزنا.
قال الآلوسى: وإفرادها- أى الشهادة الخامسة- بالذكر، مع كونها شهادة- أيضا-، لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادتها ما يقصد بالشهادة من تحقيق الخبر، وإظهار الصدق. وهي مبتدأ، خبره قوله- تعالى- أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ «3» .
ثم بين- سبحانه- ما يجب على المرأة لكي تبرئ نفسها مما رماها به زوجها فقال:
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 12.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 209.
(3)
تفسير الآلوسى ج 18 ص 105.
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ.
وقوله- تعالى- وَيَدْرَؤُا من الدّرء بمعنى الدفع. يقال: درأ فلان التهمة عن نفسه، إذا دفعها عن نفسه، وتبرأ منها.
والمراد بالعذاب هنا: العذاب الدنيوي وهو الحد الذي شرعه الله- تعالى- في هذا الشأن.
أى: أن الزوجة التي رماها زوجها بفاحشة الزنا يدفع عنها الحد ويرفع، إذا شهدت أربع شهادات بالله، إن زوجها لمن الكاذبين فيما قذفها به.
وقوله- سبحانه- وَالْخامِسَةُ بالنصب عطفا على أَرْبَعُ شَهاداتٍ.
أى: يدرأ عنها العذاب إذا شهدت أربع شهادات بالله أن زوجها كاذب فيما رماها به، ثم تشهد بعد ذلك شهادة خامسة مؤداها: أن غضب الله عليها، إن كان زوجها من الصادقين، في اتهامه إياها بفاحشة الزنا.
وجاء من جانب المرأة التعبير بقوله- تعالى-: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها ليكون أشد في زجرها عن الكذب، واعترافها بالحقيقة بدون إنكار، لأن العقوبة الدنيوية أهون من غضب الله- تعالى- عليها في حالة كذبها.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات ببيان جانب من فضله- تعالى- على خلقه فقال:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ.
وجواب «لولا» محذوف. وجاءت الآية بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، للعناية بشأن مقام الامتنان والفضل من الله- تعالى- عليهم بتشريع هذه الأحكام.
أى: ولولا أن الله- تعالى- تفضل عليكم ورحمكم- أيها المؤمنون- بسبب ما شرعه لكم في حكم الذين يرمون أزواجهم بالفاحشة.. لولا ذلك لحصل لكم من الفضيحة ومن الحرج ما لا يحيط به الوصف، ولكنه- سبحانه- شرع هذه الأحكام سترا للزوجين، وتخفيفا عليهما. وحضا لهما على التوبة الصادقة النصوح، وأن الله- تعالى- «تواب» أى: كثير القبول لتوبة التائب متى صدق فيها، «حكيم» أى: في كل ما شرعه لعباده.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات، أن قاذف زوجته بفاحشة الزنا، إذا لم يأت بأربعة شهداء على صحة ما قاله. فإنه يكون مخيرا بين أن يلاعن، وبين أن يقام عليه الحد.
بخلاف من قذف أجنبية محصنة بفاحشة الزنا، فإنه يقام عليه الحد، إذا لم يأت بأربعة
شهداء على أنه صادق في قوله.
قال بعض العلماء: ولعلك تقول: لماذا كان حكم قاذف زوجته، مخالفا لحكم قاذف الأجنبية؟ وما السر في أنه جاء مخففا.؟
والجواب: أنه لا ضرر على الزوج بزنا الأجنبية؟ وأما زنا زوجته فيلحقه به العار. وفساد البيت. فلا يمكنه الصبر عليه، ومن الصعب عليه جدا أن يجد البينة. فتكليفه إياها فيه من العسر والحرج ما لا يخفى. وأيضا فإن الغالب في الرجل أنه لا يرمى زوجته بتلك الفاحشة، إلا عن حقيقة. لأن في هذا الرمي إيذاء له، وهتكا لحرمته، وإساءة لسمعته.. فكان رميه إياها بالقذف دليل صدقه. إلا أن الشارع أراد كمال شهادة الحال. بذكر كلمات اللعان المؤكدة بالأيمان، فجعلها- منضمة إلى قوة جانب الزوج- قائمة مقام الشهود في قذف الأجنبى» «1» .
كذلك أخذ العلماء من هذه الآيات أن كيفية اللعان بين الزوجين، أن يبدأ بالزوج فيقول أمام القاضي: أشهد بالله إنى لمن الصادقين، وفي المرة الخامسة يقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين- أى فيما رمى به زوجته-، وكذلك المرأة تقول في لعانها أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين. وفي المرة الخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين- أى فيما قاله زوجها في حقها-.
فإذا ما قالا ذلك. سقط عنهما الحد، وفرق القاضي بينهما فراقا أبديا.
قال القرطبي: «قال مالك وأصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا. ولا يتوارثان. ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده.
وقال أبو حنيفة وغيره: لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما.
وقال الشافعى: إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان. فقد زال فراش امرأته. التعنت أو لم تلتعن. لأن لعانها إنما هو لدرء الحد عنها لا غير. وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى..» «2» .
وبعد أن بين- سبحانه- حكم القذف بالنسبة للمحصنات. وبالنسبة للزوجات، أتبع- عز وجل ذلك بإيراد مثل لما قاله المنافقون في شأن السيدة عائشة- رضى الله عنها-. ولما كان يجب على المؤمنين أن يفعلوه في مثل هذه الأحوال، فقال- تعالى-:
(1) تفسير آيات الأحكام ج 3 ص 136.
(2)
تفسير القرطبي ج 12 ص 193.