الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَنْ شَكَرَ الله- تعالى- على نعمه فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ حيث يزيده- سبحانه- منها.
وَمَنْ كَفَرَ نعم الله- تعالى- وجحدها فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن خلقه كَرِيمٌ في معاملته لهم، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، بل يعفو ويصفح عن كثير من ذنوبهم.
ثم ختم- سبحانه- هذه القصة البديعة، ببيان ما فعله سليمان بالعرش، وبما قاله لملكة سبأ بعد أن قدمت إليه، وبما انتهى إليه أمرها، فقال- تعالى-:
[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
وقوله: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها من التنكير الذي هو ضد التعريف، وهو جعل الشيء على هيئة تخالف هيئته السابقة حتى لا يعرف.
أى: قال سليمان لجنوده، بعد أن استقر عنده عرش بلقيس: غيروا لهذه الملكة عرشها، كأن تجعلوا مؤخرته في مقدمته، وأعلاه أسفله..
وافعلوا ذلك لكي نَنْظُرْ ونعرف أَتَهْتَدِي إليه بعد هذا التغيير، أو إلى الجواب اللائق بالمقام عند ما تسأل أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى معرفة الشيء بعد تغيير معالمه المميزة له. أو إلى الجواب الصحيح عند ما تسأل عنه.
فالمقصود بتغيير هيئة عرشها: اختبار ذكائها وفطنتها، وحسن تصرفها، عند مفاجأتها
باطلاعها على عرشها الذي خلفته وراءها في بلادها. وإيقافها على مظاهر قدرة الله- تعالى- وعلى ما وهبه لسليمان- عليه السلام من معجزات.
وقوله- تعالى-: فَلَمَّا جاءَتْ
…
شروع في بيان ما قالته عند ما عرض عليها سليمان عرشها.
أى: فلما وصلت بلقيس إلى سليمان- عليه السلام عرض عليها عرشها بعد تغيير معالمه. ثم قيل لها من جهته- عليه السلام: أَهكَذا عَرْشُكِ أى: أمثل هذا العرش الذي ترينه الآن، عرشك الذي خلفته وراءك في بلادك.
فالهمزة للاستفهام والهاء للتنبيه- والكاف حرف جر، وذا اسم إشارة مجرور بها، والجار والمجرور خبر مقدم، وعرشك مبتدأ مؤخر.
ولم يقل لها: أهذا عرشك، لئلا يكون إرشادا لها إلى الجواب، فيفوت المقصود من اختبار ذكائها وحسن تصرفها.
ولا شك أن هذا القول يدعوها للدهشة والمفاجأة بما لم يكن في حسبانها، وإلا فأين هي من عرشها الذي تركته خلفها على مسافة بعيدة، بينها وبين مملكة سليمان عشرات الآلاف من الأميال.
ولكن الملكة الأريبة العاقلة، هداها تفكيرها إلى جواب ذكى، فقالت- كما حكى القرآن عنها-: كَأَنَّهُ هُوَ أى: هذا العرش- الذي غيرت هيئته- كأنه عرشي الذي تركته في بلادي، فهي لم تثبت أنه هو، ولم تنف أنه غيره، وإنما تركت الأمر مبنيا على الظن والتشبيه، لكي يناسب الجواب السؤال.
وقوله- سبحانه-: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ يرى بعض المفسرين أنه من تتمة كلام بلقيس، وكأنها عند ما استشعرت مما شاهدته اختبار عقلها قالت: وأوتينا العلم من قبلها، أى: من قبل تلك الحالة التي شاهدناها، بصحة نبوة سليمان وكنا مسلمين، طائعين لأمره.
ومنهم من يرى أنه من سليمان، وتكون الجملة معطوفة على كلام مقدر وجيء بها من قبيل التحدث بنعمة الله- تعالى-.
والمعنى: قال سليمان: لقد أصابت بلقيس في الجواب، وعرفت الحق، ولكننا نحن الذين أوتينا العلم من قبلها- أى من قبل حضور ملكة سبأ- وكنا مسلمين لله- تعالى- وجوهنا.
ويبدو لنا أن كون هذه الجملة، حكاها القرآن على أنها من تتمة كلامها أقرب إلى
الصواب، لأنه هو الظاهر من سياق الكلام.
قال الآلوسي ما ملخصه: قوله: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ من تتمة كلامها على ما اختاره جمع من المفسرين. كأنها استشعرت مما شاهدته اختبارها، وإظهار معجزة لها. ولما كان الظاهر من السؤال هو الأول، سارعت إلى الجواب بما أنبأ عن كمال عقلها، ولما كان إظهار المعجزة دون ذلك في الظهور، ذكرت ما يتعلق به آخرا وهو قولها:
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ وفيه دلالة على كمال عقلها- أيضا-.
والمعنى: وأوتينا العلم بكمال قدرة الله، وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، بما شاهدناه من أمر الهدهد. وما سمعناه من رسلنا إليك، وكنا مؤمنين من ذلك الوقت، فلا حاجة إلى إظهار هذه المعجزة «1» .
وقوله- سبحانه- وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
بيان للأسباب التي منعتها من الدخول في الإسلام قبل ذلك. وما موصولة على أنها فاعل «صد» .
أى: وصدها ومنعها الذي كانت تعبده من دون الله- تعالى- وهو الشمس- عن عبادة الله- تعالى- وحده، وعن المسارعة إلى الدخول في الإسلام.
ويصح أن تكون ما مصدرية، والمصدر هو الفاعل. أى. وصدها عبادة الشمس، عن المسارعة إلى الدخول في الإسلام.
وجملة إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ تعليل لسببية عبادتها لغير الله- تعالى-.
أى: إن هذه المرأة كانت من قوم كافرين بالله- تعالى-، جاحدين لنعمه، عابدين لغيره، منذ أزمان متطاولة، فلم يكن في مقدورها إظهار إسلامها بسرعة وهي بينهم.
فالجملة الكريمة كأنها اعتذار لها عن سبب تأخرها في الدخول في الإسلام.
ثم ختم- سبحانه- هذه القصة ببيان ما فاجأها به سليمان، لتزداد يقينا بوحدانية الله- تعالى-، وبعظم النعم التي أعطاها- سبحانه- له فقال: يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها.
والصرح: القصر ويطلق على كل بناء مرتفع. ومنه قوله- تعالى-: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ «2» .
(1) تفسير الآلوسى 19، ص 207.
(2)
سورة غافر الآية 36.
ويطلق- أيضا- على صحن الدار وساحته. يقال: هذه صرحة الدار. أى: ساحتها وعرصتها.
وكان سليمان- عليه السلام قد بنى هذا الصرح، وجعل بلاطه من زجاج نقى صاف كالبلور. بحيث يرى الناظر ما يجرى تحته من ماء.
أى: قال سليمان لملكة سبأ بعد أن سألها: أهكذا عرشك، وبعد أن أجابته بما سبق بيانه.
قال لها: ادخلى هذا القصر، فلما رأت هذا الصرح وما عليه من جمال وفخامة، حسبته لجة.
أى: ظنته ماء غزيرا كالبحر.
كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لئلا تبتل بالماء أذيال ثيابها.
وهنا قال سليمان مزيلا لما اعتراها من دهشة: نَّهُ
أى: ما حسبته لجةرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
أى: قصر مملس من زجاج لا يحجب ما وراءه.
فقوله مَرَّدٌ
بمعنى مملس، مأخوذ من قولهم: شجرة مرداء إذا كانت عارية من الورق، وغلام أمرد، إذا لم يكن في وجهه شعر والتمريد في البناء، معناه: التمليس والتسوية والنعومة.
والقوارير: جمع قارورة، وهي إناء من زجاج، وتطلق القارورة على المرأة، لأن الولد يقر في رحمها، أو تشبيها لها بآنية الزجاج من حيث ضعفها، ومنه الحديث الشريف:«رفقا بالقوارير» . والمراد بالقوارير هنا. المعنى الأول.
ثم حكى- سبحانه- ما قالته بلقيس بعد أن رأت جانبا من عجائب صنع الله فقال:
لَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
أى: بسبب عبادتي لغيرك قبل هذا الوقت.. أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
طائعة مختارة، وإسلامى إنما هولَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
وليس لأحد سواه.
وبعد، فهذا تفسير محرر لتلك القصة، وقد أعرضنا عن كثير من الإسرائيليات التي حشا بها بعض المفسرين تفاسيرهم، عند حديثهم عن الآيات التي وردت في هذه القصة، ومن ذلك ما يتعلق بسليمان- عليه السلام وبجنوده من الطير. وبمحاورة النملة له، وبالهدية التي أرسلتها ملكة سبأ إليه، وبما قالته الشياطين لسليمان عن هذه المرأة.. إلخ وقد اشتملت هذه القصة على عبر وعظات وأحكام وآداب، من أهمها ما يأتى:
1-
أن الله- تعالى- قد أعطى- بفضله وإحسانه- داود وسليمان عليهما السلام نعما عظيمة، على رأسها نعمة النبوة، والملك، والعلم النافع.
وأنهما قد قابلا هذه النعم بالشكر لله- تعالى- واستعمالها فيما خلقت له.
ونرى ذلك في قوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وفي قوله- تعالى-: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ.
وفي قوله- سبحانه-: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ.
2-
أن سليمان- عليه السلام قد أقام دولته على الإيمان بالله- تعالى- وعلى العلم النافع، وعلى القوة العادلة.
أما الإيمان بالله- تعالى- وإخلاص العبادة له- سبحانه-، فهو كائن له- عليه السلام بمقتضى نبوته التي اختاره الله لها، وبمقتضى دعوته غيره إلى وحدانية الله- عز وجل فقد حكى القرآن عنه أنه قال في رسالته إلى ملكة سبأ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
وأما العلم النافع، فيكفى أن القصة الكريمة قد افتتحت بقوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً
…
واشتملت على قوله- سبحانه-: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ....
وعلى قوله- عز وجل: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.
وأما القوة، فنراها في قوله- تعالى-: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ.
وفي قوله- سبحانه- ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ.
3-
أن سليمان عليه السلام كانت رسالته الأولى نشر الإيمان بالله- تعالى- في الأرض، وتطهيرها من كل معبود سواه.
والدليل على ذلك أن الهدهد عند ما أخبره بحال الملكة التي كانت هي وقومها يعبدون الشمس من دون الله..
ما كان من سليمان- عليه السلام إلا أن حمله كتابا قويا بليغا يأمرهم فيه بترك التكبر
والغرور، وبإسلام وجوههم لله وحده: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
4-
أن سليمان- عليه السلام كان يمثل الحاكم اليقظ المتنبه لأحوال رعيته، حيث يعرف شئونها الصغيرة والكبيرة، ويعرف الحاضر من أفرادها والغائب، حتى ولو كان الغائب طيرا صغيرا، من بين آلاف الخلائق الذين هم تحت قيادته.
ولقد صور القرآن ما كان عليه سليمان- عليه السلام من يقظة ودراية بأفراد رعيته أبدع تصوير فقال: وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين.
قال الإمام القرطبي- رحمه الله: في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته، والمحافظة عليهم، فانظر إلى الهدهد مع صغره، كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك..
ثم يقول- رحمه الله على سبيل التفجع والشكوى عن حال الولاة في عهده: فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان.. ورحم الله القائل:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
…
وأحبار سوء ورهبانها «1»
5-
أن سليمان- عليه السلام كان بجانب تعهده لشئون رعيته، يمثل الحاكم الحازم العادل، الذي يحاسب المهمل، ويتوعد المقصر، ويعاقب من يستحق العقاب، وفي الوقت نفسه يقبل عذر المعتذر متى اعتذر عذرا مشروعا ومقنعا.
انظر إليه وهو يقول- كما حكى القرآن عنه- عند ما تفقد الهدهد فلم يجده: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.
إن الجيوش الجرارة التي تحت قيادة سليمان- عليه السلام لا تؤثر فيها غياب هدهد منها.. ولكن سليمان القائد الحازم، كأنه يريد أن يعلم جنوده، أن لكل جندي رسالته التي يجب عليه أن يؤديها على الوجه الأكمل سواء أكان هذا الجندي صغيرا أم كبيرا، وأن من فرط في الأمور الصغيرة، لا يستبعد منه أن يفرط في الأمور الكبيرة.
6-
أن الجندي الصغير في الأمة التي يظلها العدل والحرية والأمان.. لا يمنعه صغره من أن يرد على الحاكم الكبير، بشجاعة وقوة..
انظر إلى الهدهد- مع صغره- يحكى عنه القرآن، أنه رد على نبي الله سليمان الذي آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده بقوله: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
…
(1) تفسير القرطبي ج 13 ص 178.
ونجد سليمان- عليه السلام لا يؤاخذه على هذا القول، بل يضع قوله موضع التحقيق والاختبار فيقول له: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ.
وهكذا الأمم العاقلة الرشيدة، لا يهان فيها الصغير، ولا يظلم فيها الكبير.
7-
أن حكمة الله- تعالى- قد اقتضت أن تتألف الأمم من حاكمين ومحكومين، وأن كل فريق له حقوق وعليه واجبات، وأن الأمم لا تصلح بدون حاكم يحكمها ويرعى شئونها، ويحق الحق ويبطل الباطل.
قال القرطبي عند تفسيره لقوله- تعالى-: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ: في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة- أى ولاة، أو قضاة- يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض
…
قال ابن عون: سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه: والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة «1» .
ومن الأقوال الحكيمة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان- رضى الله عنه- «إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن» .
8-
أن الحاكم العاقل هو الذي يستشير من هو أهل للاستشارة في الأمور التي تهم الأمة.
فها هي ذي ملكة سبأ عند ما جاءها كتاب سليمان- عليه السلام جمعت وجوه قومها، وقالت لهم- كما حكى القرآن عنها: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ....
قال القرطبي: وفي هذه الآية دليل على صحة المشاورة.. وقد قال الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وقد مدح الله الفضلاء بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس من دون الله قالت: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي
…
لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم.
وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من شوكتهم، وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ.. «2» .
(1) تفسير القرطبي ج 13 ص 168. [.....]
(2)
تفسير القرطبي ج 13 ص 194.