الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرسل به- أى: لأنهما ذهبا برسالة واحدة وفي مهمة واحدة» «1» .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد قصت علينا، ما أمر الله- تعالى- به نبيه موسى- عليه السلام وما زوده به- سبحانه- من إرشاد وتعليم، بعد أن التمس منه- سبحانه- العون والتأييد.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما دار بين موسى وفرعون من محاورات فقال- تعالى-
[سورة الشعراء (26) : الآيات 18 الى 33]
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
(1) تفسير الآلوسى ج 19 ص 66.
أى: قال فرعون لموسى بعد أن عرفه، وبعد أن طلب منه موسى أن يرسل معه بنو إسرائيل. قال له يا موسى أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أى: ألم يسبق لك أنك عشت في منزلنا، ورعيناك وأنت طفل صغير عند ما قالت امرأتى لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً
…
وَلَبِثْتَ فِينا أى: في كنفنا وتحت سقف بيتنا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ عددا.
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وهي قتلك لرجل من شيعتي وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ.
أى: وأنت من الجاحدين بعد ذلك لنعمتي التي أنعمتها عليك، في حال طفولتك، وفي حال صباك، وفي حال شبابك.
لأنك جئتني أنت وأخوك بما يخالف ديننا، وطلبتما منا أن نرسل معكما بنى إسرائيل. فهل هذا جزاء إحسانى إليك؟.
وهكذا نرى فرعون يوجه إلى موسى- عليه السلام تلك الأسئلة على سبيل الإنكار عليه لما جاء به، متوهما أنه قد قطع عليه طريق الإجابة.
ولكن موسى- عليه السلام وقد استجاب الله- تعالى- دعاءه، وأزال عقدة لسانه، رد عليه ردا حكيما، فقال- كما حكى القرآن عنه: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ.
أى قال موسى في جوابه على فرعون: أنا لا أنكر أنى قد فعلت هذه الفعلة التي تذكرني بها، ولكني فعلتها وأنا في ذلك الوقت من الضالين، أى: فعلت ذلك قبل أن يشرفنى الله بوحيه، ويكلفني بحمل رسالته، وفضلا عن ذلك فأنا كنت أجهل أن هذه الوكزة تؤدى إلى قتل ذلك الرجل من شيعتك، لأنى ما قصدت قتله، وإنما قصدت تأديبه ومنعه من الظلم لغيره.
فالمراد بالضلال هنا: الجهل بالشيء، والذهاب عن معرفة حقيقيته.
وقوله: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ بيان لما ترتب على فعلته التي فعلها.
أى: وبعد هذه الفعلة التي فعلتها وأنا من الضالين، توقعت الشر منكم، ففررت من وجوهكم حين خشيت منكم على نفسي فكانت النتيجة أن وهبنى رَبِّي حُكْماً أى: علما نافعا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين اصطفاهم الله- تعالى- لحمل رسالته والتشرف بنبوته.
ثم أضاف موسى- عليه السلام إلى هذا الرد الملزم لفرعون. ردا آخر أشد إلزاما وتوبيخا فقال: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ.
واسم الإشارة تِلْكَ يعود إلى التربية المفهومة من قوله- تعالى- قبل ذلك: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً
…
إلخ.
وقوله تَمُنُّها من المن بمعنى الإنعام يقال: منّ فلان على فلان منة إذا أنعم عليه بنعمة.
وعبدت: أى: اتخذتهم عبيدا لك تسخرهم لخدمتك.
قال الجمل: وتِلْكَ مبتدأ، ونِعْمَةٌ خبر. وتَمُنُّها صفة للخير وأَنْ عَبَّدْتَ عطف بيان للمبتدأ موضح له.
وهذا الكلام من موسى- عليه السلام يرى بعضهم أنه قاله على وجهة الاعتراف له بالنعمة، فكأنه يقول له: تلك التربية التي ربيتها لي نعمة منك على، ولكن ذلك لا يمنع من أن أكون رسولا من الله- تعالى- إليك، لكي تقلع عن كفرك، ولكي ترسل معنا بنى إسرائيل.
ويرى آخرون أن هذا الكلام من موسى لفرعون، إنما قاله على سبيل التهكم به، والإنكار عليه فيما امتن به عليه، فكأنه يقول له: إن ما تمنّ به على هو في الحقيقة نقمة، وإلا فأية منة لك علىّ في استعبادك لقومي وأنا واحد منهم، إن خوف أمى من قتلك لي هو الذي حملها على أن تلقى بي في البحر، وتربيتي في بيتك كانت لأسباب خارجة عن قدرتك
…
ويبدو لنا أن هذا الرأى أقرب إلى الصواب، لأنه هو المناسب لسياق القصة، ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية: «ثم كر موسى على امتنان فرعون عليه بالتربية فأبطله من أصله، واستأصله من سنخه- أى: من أساسه-، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل، لأن تعبيدهم وقصدهم بالذبح لأبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه، وتذليلهم واتخاذهم خدما له
…
» «1» .
وبهذا الجواب التوبيخي أفحم موسى- عليه السلام فرعون. وجعله يحول الحديث عن هذه المسألة التي تتعلق بتربيته لموسى إلى الحديث عن شيء آخر حكاه القرآن في قوله:
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أى قال فرعون لموسى: أى شيء رب العالمين الذي أنت وأخوك جئتما لتبلغا رسالته لي، وما صفته؟
وهذا السؤال يدل على طغيان فرعون- قبحه الله- وتجاوزه كل حد في الفجور، فإن هذا السؤال يحمل في طياته استنكار أن يكون هناك إله سواه، كما حكى عنه القرآن في آية أخرى
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 306.
قوله: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي.. «1» .
فهو ينكر رسالة موسى- عليه السلام من أساسها..
وهنا يرد موسى. بقوله: قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ.
أى: قال موسى: ربنا- يا فرعون- هو رب السموات ورب الأرض، ورب ما بينهما من أجرام وهواء. وإن كنتم موقنين بشيء من الأشياء، فإيمانكم بهذا الخالق العظيم وإخلاصكم العبادة له أولى من كل يقين سواه.
وفي هذا الجواب استصغار لشأن فرعون. وتحقير لمزاعمه، فكأنه يقول له: إن ربنا هو رب هذا الكون الهائل العظيم، أما ربوبيتك أنت- فمع بطلانها- هي ربوبية لقوم معينين خدعتهم بدعواك الألوهية، فأطاعوك لسفاهتهم وفسقهم..
وهنا يلتفت فرعون إلى من حوله ليشاركوه التعجيب مما قاله موسى وليصرفهم عن التأثر بما سمعوه منه، فيقول لهم: أَلا تَسْتَمِعُونَ أى: ألا تستمعون إلى هذا القول الغريب الذي يقوله موسى. والذي لا عهد لنا به، ولا قبول عندنا له ولا صبر لنا عليه
…
ولكن موسى- عليه السلام لم يمهلهم حتى يردوا على فرعون بل أكد لهم وحدانية الله- تعالى- وهيمنته على هذا الكون قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ.
أى: ربنا الذي هو رب السموات والأرض وما بينهما، هو ربكم أنتم- أيضا- وهو رب آبائكم الأولين، فكيف تتركون عبادته، وتعبدون عبدا من عباده ومخلوقا من مخلوقاته هو فرعون؟
وهنا لم يملك فرعون إلا الرد الدال على إفلاسه وعجزه، فقال ملتفتا إلى من حوله: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ.
أى: قال فرعون- على سبيل السخرية بموسى- مخاطبا أشراف قومه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم بما سمعتم لَمَجْنُونٌ لأنه يتكلم بكلام لا تقبله عقولنا، ولا تصدقه آذاننا وسماه رسولا على سبيل الاستهزاء، وجعل رسالته إليهم لا إليه، لأنه- في زعم نفسه- أكبر من أن يرسل إليه رسول، ولكي يهيجهم حتى ينكروا على موسى قوله..
ولكن موسى- عليه السلام لم يؤثر ما قاله فرعون في نفسه، بل رد عليه وعليهم بكل شجاعة وحزم فقال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.
أى: قال موسى: ربنا رب السموات والأرض وما بينهما. وربكم ورب آبائكم الأولين.
(1) سورة القصص الآية 38.
ورب المشرق الذي هو جهة طلوع الشمس وطلوع النهار. ورب المغرب الذي هو غروب الشمس وغروب النهار.
وخصهما بالذكر. لأنهما من أوضح الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته ولأن فرعون أو غيره من الطغاة لا يجرأ ولا يملك ادعاء تصريفهما أو التحكم فيهما على تلك الصورة البديعة المطردة. والتي لا اختلال فيها ولا اضطراب..
كما قال إبراهيم للذي حاجه في ربه: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
…
وجملة إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ حض لهم على التعقل والتدبر، وتحذير لهم من التمادي في الجحود والعناد.
أى: ربنا وربكم هو رب هذه الكائنات كلها، فأخلصوا العبادة له، إن كانت لكم عقول تعقل ما قلته لكم، وتفهم ما أرشدتكم إليه.
وهكذا انتقل بهم موسى من دليل إلى دليل على وحدانية الله وقدرته، ومن حجة إلى حجة، ومن أسلوب إلى أسلوب لكي لا يترك مجالا في عقولهم للتردد في قبول دعوته..
ولكن فرعون- وقد شعر بأن حجة موسى قد ألقمته حجرا انتقل من أسلوب المحاورة في شأن رسالة موسى إلى التهديد والوعيد- شأن الطغاة عند ما يعجزون عن دفع الحجة بالحجة- فقال لموسى عليه السلام: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ.
أى: قال فرعون لموسى بثورة وغضب: لئن اتخذت إلها غيرى يا موسى ليكون معبودا لك من دوني، لأجعلنك واحدا من جملة المسجونين في سجنى فهذا شأنى مع كل من يتمرد على عبادتي، ويخالف أمرى..
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ألم يكن لأسجننك أخصر من لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ومؤديا مؤداه؟
قلت: أما كونه أخصر فنعم. وأما كونه مؤديا مؤداه فلا، لأن معناه:«لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجونى وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض، بعيدة العمق. لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل» «1» ..
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 308.