الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«1» .
وقوله- سبحانه-: بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً بيان للسبب الذي جعلهم لا يعتبرون ولا يتعظون.
أى: أنهم كانوا يرون عاقبة أهل تلك القرية التي جعلنا عاليها سافلها، ولكن تكذيبهم بالبعث والنشور، والثواب والعقاب يوم القيامة، حال بينهم وبين الاعتبار والاتعاظ والإيمان بالحق، وجعلهم يمرون بما يدعو إلى التدبر والتفكر، ولكنهم لعدم توقعهم للقاء الله، ولعدم إيمانهم بالجزاء يوم القيامة قست قلوبهم وانطمست بصائرهم، وصاروا كما قال- تعالى-:
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ «2» .
وبعد هذا العرض لأحوال بعض الأمم الماضية، عادت السورة الكريمة إلى بيان ما كان المشركون يقولونه عند رؤيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإلى بيان سوء عاقبتهم، وفرط جهالاتهم، قال- تعالى-:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
(1) سورة الصافات الآيتان 137، 138.
(2)
سورة يوسف الآيتان 105، 106.
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله: يخبر- تعالى- عن استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأوه، كما قال- تعالى-: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ
…
يعنونه بالعيب والنقص.. «1» .
ومن عجب أن هؤلاء المشركين الذين كانوا يستهزئون بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد بعثته إليهم، هم أنفسهم الذين كانوا يلقبونه قبل بعثته بالصادق الأمين، وما حملهم على هذا الكذب والجحود إلا الحسد والعناد.
وقوله- تعالى-: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا مقول لقول محذوف وعائد الموصول محذوف- أيضا-. أى: كلما وقعت أبصار أعدائك عليك- أيها الرسول الكريم- سخروا منك، واستنكروا نبوتك، وقالوا على سبيل الاستبعاد والتهكم: أهذا هو الإنسان الذي بعثه الله- تعالى- ليكون رسولا إلينا. وقولهم هذا الذي حكاه القرآن عنهم، يدل على أنهم بلغوا أقصى درجات الجهالة وسوء الأدب.
ثم يشير القرآن إلى كذبهم فيما قالوه، لأنهم مع إظهارهم للسخرية منه صلى الله عليه وسلم كانوا في واقع أمرهم، وحقيقة حالهم يعترفون له بقوة الحجة، وهذا ما حكاه القرآن عنهم في قوله:
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها.
أى: أنهم كانوا يقولون فيما بينهم: إن هذا الرسول كاد أن يصرفنا بقوة حجته عن عبادة آلهتنا. لولا أننا قاومنا هذا الشعور وثبتنا على عبادة أصنامنا.
قال الآلوسى: قوله: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أى: يصرفنا عن عبادتها صرفا كليا بحيث يبعدنا عنها لا عن عبادتها فقط. لولا أن صبرنا عليها واستمسكنا بعبادتها
…
وهذا اعتراف منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد.. ما شارفوا معه أن يتركوا دينهم لولا فرط جهالاتهم ولجاجهم وغاية عنادهم «2» .
وقوله- تعالى-: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا تهديد لهم على سوء أدبهم، وعلى جحودهم للحق بعد أن تبين لهم.
أى: وسوف يعلم هؤلاء الكافرون حين يرون العذاب ماثلا أمام أعينهم، من أبعد طريقا عن الحق، أهم أم المؤمنون.
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 121.
(2)
تفسير الآلوسى ج 19 ص 22.
فالجملة الكريمة وعيد شديد لهم على استهزائهم بالرسول الكريم الذي جاءهم ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
ثم يهملهم القرآن ويتركهم في طغيانهم يعمهون، ويلتفت بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسرى عن نفسه، وليسليه عما لحقه منهم، وليبين له حقيقة حالهم فيقول: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا
…
والاستفهام في قوله- سبحانه- أَرَأَيْتَ للتعجب من شناعة أحوالهم، ومن قبح تفكيرهم.
والمراد ب هَواهُ ما يستحسنه من تصرفات حتى ولو كانت في نهاية القبح والسخف.
قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول.
والمعنى: انظر وتأمل- أيها الرسول الكريم- في أحوال هؤلاء الكافرين فإنك لن ترى جهالة كجهالاتهم، لأنهم إذا حسن لهم هواهم شيئا اتخذوه إلها لهم. مهما كان قبح تصرفهم.
وانحطاط تفكيرهم..
فهل مثل هؤلاء يصلحون لأن تهتم بأمرهم، أو تحزن لاستهزائهم؟ كلا إنهم لا يصلحون لذلك، وعليك أن تمضى في طريقك فأنت لا تقدر على حفظهم أو كفالتهم أو هدايتهم، وإنما نحن الذين نقدر على ذلك، وسنتصرف معهم بما تقضتيه حكمتنا ومشيئتنا.
فقوله- تعالى-: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا استئناف مسوق لاستبعاد كونه صلى الله عليه وسلم وكيلا أو حفيظا لهذا الذي اتخذ إلهه هواه، والاستفهام للنفي والإنكار. أى: إنك- أيها الرسول الكريم- لا قدرة لك على حفظه من الوقوع في الكفر والضلال.
ثم أضاف- سبحانه- إلى توبيخهم السابق توبيخا أشد وأنكى فقال- تعالى-:
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ..
و «أم» هنا: هي المنقطعة، وهي تجمع في معناها بين الإضراب الانتقالى، والاستفهام الإنكارى.
أى: بل أتحسب أن أكثر هؤلاء الكافرين يسمعون ما ترشدهم إليه سماع تدبر وتعقل، أو يعقلون ما تأمرهم به أو تنهاهم عنه بانفتاح بصيرة، وباستعداد لقبول الحق..
كلا إنهم ليسوا كذلك، لاستيلاء الجحود والحسد على قلوبهم.