الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله- تعالى- ثناء يليق بجلاله وكماله.
ولفظ «تبارك» فعل ماض لا يتصرف. أى: لم يجئ منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل:
وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير. وأصلها النماء والزيادة. أى: كثر خيره وإحسانه، وتزايدت بركاته.
أو مأخوذ من البركة بمعنى الثبوت. يقال: برك البعير، إذا أناخ في موضعه فلزمه وثبت فيه. وكل شيء ثبت ودام فقد برك. أى: ثبت ودام خيره على خلقه.
والفرقان: القرآن. وسمى بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل.
ونذيرا: من الإنذار، وهو الإعلام المقترن بتهديد وتخويف.
أى: جل شأن الله- تعالى- وتكاثرت ودامت خيراته وبركاته، لأنه- سبحانه- هو الذي نزل القرآن الكريم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليكون «للعالمين» أى: للإنس وللجن «نذيرا» أى: منذرا إياهم بسوء المصير إن هم استمروا على كفرهم وشركهم.
وفي التعبير بقوله- تعالى- تَبارَكَ إشعار بكثرة ما يفيضه- سبحانه- من
خيرات وبركات على عباده، وأن هذا العطاء ثابت مستقر، وذلك يستلزم عظمته وتقدسه عن كل ما لا يليق بجلاله- عز وجل.
ولم يذكر- سبحانه- لفظ الجلالة، واكتفى بالاسم الموصول الذي نزل الفرقان، لإبراز صلته- سبحانه- وإظهارها في هذا المقام، الذي هو مقام إثبات صدق رسالته التي أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعبر- سبحانه- ب نَزَّلَ بالتضعيف، لنزول القرآن الكريم مفرقا في أوقات متعددة، لتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم.
ووصف الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية، وأضافها لذاته، للتشريف والتكريم والتعظيم. وأن هذه العبودية لله- تعالى- هي ما يتطلع إليه البشر.
واختير الإنذار على التبشير. لأن المقام يقتضى ذلك، إذ أن المشركين قد لجوا في طغيانهم وتمادوا في كفرهم وضلالهم، فكان من المناسب تخويفهم من سوء عاقبة ما هم عليه من عناد.
وهذه الآية الكريمة تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس جميعا. حيث قال- سبحانه-: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً أى: لعالم الإنس وعالم الجن، وشبيه بها قوله- تعالى-: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» . وقوله- سبحانه-: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً
…
«2» .
ثم وصف- سبحانه- ذاته بجملة من الصفات التي توجب له العبادة والطاعة فقال:
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو الخالق لهما. وهو المالك لأمرهما، لا يشاركه في ذلك مشارك.
والجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف. أو بدل من قوله: الَّذِي نَزَّلَ.
وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فهو- سبحانه- منزه عن ذلك وعن كل ما من شأنه أن يشبه الحوادث.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ بل هو المالك وحده لكل شيء في هذا الوجود.
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أى: وهو- سبحانه- الذي خلق كل شيء في هذا الوجود خلقا متقنا حكيما بديعا في هيئته، وفي زمانه، وفي مكانه، وفي وظيفته، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته. وصدق الله إذ يقول: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «3» .
(1) سورة الأنبياء الآية 107.
(2)
سورة الأعراف الآية 158. [.....]
(3)
سورة القمر الآية 49.
فجملة «فقدره تقديرا» بيان لما اشتمل عليه هذا الخلق من إحسان وإتقان فهو- سبحانه- لم يكتف بمجرد إيجاد الشيء من العدم، وإنما أوجده في تلك الصورة البديعة التي عبر عنها في آية أخرى بقوله:
…
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ
…
«1» .
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: في الخلق معنى التقدير. فما معنى قوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً.
قلت: معناه أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية، فقدره وهيأه لما يصلح له. مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابى الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد، جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير.. «2» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن المشركين لم يفطنوا إلى ما اشتمل عليه هذا الكون من تنظيم دقيق، ومن صنع حكيم يدل على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، بل إنهم- لانطماس بصائرهم- عبدوا مخلوقا مثلهم فقال- تعالى-: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ....
والضمير في قوله وَاتَّخَذُوا.. يعود على المشركين المفهوم من قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أو من المقام.
أى: واتخذ هؤلاء المشركون معبودات باطلة يعبدونها من دون الله- عز وجل، وهذه المعبودات لا تقدر على خلق شيء من الأشياء، بل هي من مخلوقات الله- تعالى-.
وعبر عن هذه الآية بضمير العقلاء في قوله لا يَخْلُقُونَ جريا على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع، أو لأن من بين من اتخذوهم آلهة بعض العقلاء كالمسيح والعزير والملائكة..
وأيضا هؤلاء الذين اتخذهم المشركون آلهة: لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فضلا عن غيرهم ضَرًّا وَلا نَفْعاً فهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم، ولا جلب النفع لذواتهم وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً أى: ولا يقدرون على إماتة الأحياء. ولا على إحياء الموتى في الدنيا، ولا على بعثهم ونشرهم في الآخرة.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف تلك الآلهة المزعومة بسبع صفات، كل صفة منها كفيلة بسلب صفة الألوهية عنها، فكيف وقد اجتمعت هذه الصفات السبع فيها؟!!.
(1) سورة النمل الآية 88.
(2)
تفسير الكشاف ج 3 ص 263.