الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن موسى- عليه السلام لم يخفه هذا التهديد والوعيد. بل رد عليه ردا حكيما فقال له: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ.
والاستفهام للإنكار، والواو للعطف على كلام مقدر يستدعيه المقام، والمعنى. أتفعل ذلك بي بأن تجعلني من المسجونين، ولو جئتك بشيء مبين، يدل دلالة واضحة على صدقى في رسالتي وعلى أنى رسول من رب العالمين؟
وعبر عن المعجزة التي أيده الله بها بأنها بِشَيْءٍ مُبِينٍ للتهويل من شأنها، والتفخيم من أمرها، ولعل مقصد موسى- عليه السلام بهذا الكلام، أن يجر فرعون مرة أخرى إلى الحديث في شأن الرسالة التي جاءه من أجلها بعد أن رآه يريد أن يحول مجرى الحديث عنها إلى التهديد والوعيد، وأن يسد منافذ الهروب عليه أمام قومه. ولذا نجد فرعون لا يملك أمام موسى إلا أن يقول له: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
أى: فأت بهذا الشيء المبين، إن كنت- يا موسى- من الصادقين في كلامك السابق..
وهنا كشف موسى- عليه السلام عما أيده الله- تعالى- به من معجزات حسية خارقة فَأَلْقى عَصاهُ على الأرض أمام فرعون وقومه فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ.
أى: فإذا هي حية عظيمة في غاية الجلاء والوضوح على أنها حية حقيقية، لا شائبة معها للتخييل أو التمويه كما يفعل السحرة..
ولم يكتف موسى بذلك في الدلالة على صدقه. وَنَزَعَ يَدَهُ أى: من جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أى: فإذا هي بيضاء بياضا يخالف لون جسمه- عليه السلام، فهي تتلألأ كأنها قطعة من القمر، ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار، وليس فيها ما يشير إلى أن بها سوءا أو مرضا.
وهنا أحس فرعون بالرعب يسرى في أوصاله، وبأن ألوهيته المزعومة قد أوشكت على الانكشاف. وبأن معجزة موسى توشك أن تجعل الناس يؤمنون به، فالتفت إليهم وكأنه يحاول جذبهم إليه، واستطلاع رأيهم فيما شاهدوه، ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فيقول:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 34 الى 42]
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
أى: قال فرعون للملأ المحيطين به- بعد أن زلزلته معجزة موسى- إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ.
أى: لساحر بارع في فن السحر، فهو مع اعترافه بضخامة ما أتى به موسى، يسميه سحرا.
ثم يضيف إلى ذلك قوله لهم: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ هذا الساحر مِنْ أَرْضِكُمْ التي نشأتم عليها فَماذا تَأْمُرُونَ أى: فبأى شيء تشيرون على وأنتم حاشيتى ومحل ثقتي؟
وفي هذه الجملة الكريمة تصوير بديع لنفس هذا الطاغية وأمثاله..
إنه منذ قليل كان يرغى ويزبد. وإذا به بعد أن فاجأه موسى بمعجزته، يصاب بالذعر ويقول لمن زعم أنه ربهم الأعلى فَماذا تَأْمُرُونَ.
وهكذا الطغاة عند ما يضيق الخناق حول رقابهم يتذللون ويتباكون.. فإذا ما انفك الخناق من حول رقابهم، عادوا إلى طغيانهم وفجورهم.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: «ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين، وبقي لا يدرى أى طرفيه أطول، حتى زل عنه ذكر دعوى الألوهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية. وارتعدت فرائصه، وانتفخ سحره- أى رئته- خوفا وفرقا، وبلغت به الاستكانة لقومه الذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم: أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه وتوقعه وأحس به من جهة موسى- عليه السلام» «1» .
ورد الملأ من قوم فرعون عليه بقولهم: أَرْجِهْ وَأَخاهُ أى: أخر أمرهما، يقال:
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 310.
أرجأت هذا الأمر وأرجيته. إذا أخرته. ومنه أخذ لفظ المرجئة لتلك الفرقة التي تؤخر العمل وتقول: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أى: وابعث في مدن مملكتك رجالا من شرطتك يحشرون السحرة، أى: يجمعونهم عندك لتختار منهم من تشاء.
وقوله: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ مجزوم في جواب الأمر. أى: إن تبعثهم يأتوك بكل سحار فائق في سحره، عليم بفنونه ومداخله.
ولبى فرعون طلب مستشاريه، فأرسل في المدائن من يجمع له السحرة فَجُمِعَ السَّحَرَةُ أى المعروفون ببراعتهم فيه لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أى: جمعوا وطلب منهم الاستعداد لمنازلة موسى- عليه السلام في وقت معين هو «يوم الزينة» أى: يوم العيد.
كما قال- تعالى- في آية أخرى: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.
ثم حكى- سبحانه- ما فعله أعوان فرعون من حض الناس على حضور تلك المباراة فقال: وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أى: في ذلك اليوم المعلوم الذي ينازل فيه السحرة موسى فالمقصود بالاستفهام الحض على الحضور والحث على عدم التخلف.
والترجي في قولهم لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ المقصود به- أيضا- حض السحرة على بذل أقصى جهدهم ليتغلبوا على موسى- عليه السلام، فكأنهم يقولون لهم: ابذلوا قصارى جهدكم في حسن إعداد سحركم فنحن نرجو أن تكون الغلبة لكم، فنكون معكم لا مع موسى- عليه السلام.
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما قاله السحرة لفرعون عند التقائهم به فيقول: فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ بعد أن التقى بهم ليشجعهم على الفوز، أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً مجزيا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لموسى- عليه السلام.
وهنا يرد عليهم فرعون، فيعدهم. ويمنيهم قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. أى:
نعم لكم الأجر العظيم الذي يرضيكم، وفضلا عن ذلك فستكونون عندي من الرجال المقربين إلى نفسي، والذين سأخصهم برعايتي ومشورتي.
وهكذا يعد فرعون السحرة ويمنيهم وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما قاله موسى للسحرة، وما قال فرعون لهم بعد أن أعلنوا إيمانهم، فقال- تعالى-: