الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد أن بين- سبحانه- أن هذا القرآن، قد تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من لدن حكيم عليم أتبع ذلك بجانب من قصة موسى- عليه السلام لتكون بمثابة التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن موقف كفار مكة منه- عليه الصلاة والسلام، فقال- تعالى-:
[سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
هذا جانب من قصّة موسى- عليه السلام كما جاءت في هذه السورة، وقد جاءت في سور أخرى بصورة أوسع، كسور: البقرة، والأعراف، ويونس، والشعراء، والقصص
…
وقد افتتحت هنا بقوله- تعالى-: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً.
والظرف «إذ» متعلق بمحذوف تقديره: اذكر.
و «موسى» عليه السلام هو ابن عمران، وينتهى نسبه إلى يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم- عليه السلام، وكانت بعثته- على الراجح- في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر قبل الميلاد.
والمراد بأهله: زوجته. وهي ابنة الشيخ الكبير الذي قال له- بعد أن سقى لابنتيه غنمهما-: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ
…
«1» .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: «وكان ذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي بينه وبين صهره، في رعاية الغنم، وسار بأهله، قيل: قاصدا بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين، ومعه زوجته فأضل الطريق، وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلا بين شعاب وجبال
…
فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا
…
» «2» .
وقوله: آنَسْتُ من الإيناس، بمعنى الإبصار الواضح الجلى يقال: آنس فلان الشيء إذا أبصره وعلمه وأحس به.
أى: واذكر- أيها الرسول الكريم- وذكر أتباعك ليعتبروا ويتعظوا، وقت أن قال موسى لأهله، وهو في طريقه من جهة مدين إلى مصر.
إنى أبصرت- إبصارا لا شبهة فيه- نارا. فامكثوا في مكانكم، فإنى سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أى: سآتيكم من جهتها بخبر ينفعنا في رحلتنا هذه، ونسترشد به في الوصول إلى أهدى الطرق التي توصلنا إلى المكان الذي نريده.
وأَوْ في قوله- سبحانه-: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ مانعة خلو.
قال القرطبي: ما ملخصه: «قرأ عاصم وحمزة والكسائي: بِشِهابٍ قَبَسٍ بتنوين بِشِهابٍ وقرأ الباقون بدون تنوين على الإضافة، أى: بشعلة نار، من إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة. والشهاب: كل ذي نور، نحو الكواكب، والعود الموقد. والقبس:
اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه، فالمعنى بشهاب من قبس
…
ومن قرأ بِشِهابٍ قَبَسٍ، بالتنوين جعله بدلا منه، أو صفة له. على تأويله بمعنى المقبوس
…
» «3» .
وقوله: تَصْطَلُونَ أى: تستدفئون، والاصطلاء: الدنو من النار لتدفئة البدن عند الشعور بالبرد. قال الشاعر.
النار فاكهة الشتاء فمن يرد
…
أكل الفواكه شاتيا فليصطل
والمعنى: قال موسى- عليه السلام لأهله عند ما شاهد النار: امكثوا في مكانكم، فإنى
(1) سورة القصص الآية 27.
(2)
تفسير ابن كثير ج 5 ص 270.
(3)
تفسير القرطبي ج 13 ص 157.
ذاهب إليها، لكي آتيكم من جهتها بخبر في رحلتنا فإن لم يكن ذلك، فإنى آتيكم بشعلة مقتطعة منها ومقتبسة من أصلها، لعلكم تستدفئون بها في تلك الليلة الشديدة البرودة.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: - قوله- تعالى-: هنا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ مع قوله- تعالى- في سورة القصص «1» لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ كالمتدافعين. لأن أحدهما ترج، والآخر تيقن. قلت: قد يقول الراجي إذا قوى رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا، مع تجويزه الخيبة.
فإن قلت: كيف جاء بسين التسويف- هنا-؟ قلت: عدة لأهله أنه يأتيهم وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة.
فإن قلت: فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت: بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما: إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده
…
» «2» .
ثم بين- سبحانه- ما حدث لموسى عند ما اقترب من النار فقال: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها
…
وأَنْ هنا مفسرة، لما في النداء من معنى القول.
وقوله: بُورِكَ من البركة، بمعنى ثبوت الخير وكثرته. والخير هنا يتمثل في تكليم الله- تعالى- لنبيه موسى. وفي ندائه له. وتشريفه برسالته، وتأييده بالمعجزات.
والمراد بمن في النار: من هو قريب منها، وهو موسى- عليه السلام.
والمراد بمن حولها: الملائكة الحاضرون لهذا النداء، أو الأماكن المجاورة لها.
أى: فلما وصل موسى- عليه السلام إلى القرب من مكان النار، نودي موسى من قبل الله- عز وجل على سبيل التكريم والتحية: أن قدس وطهر واختير للرسالة من هو بالقرب منها وهو موسى- عليه السلام ومن حولها من الملائكة، أو الأماكن القريبة منها.
قال الآلوسى: «قوله: مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ذهب جماعة إلى أن في الكلام مضافا مقدرا في موضعين. أى: من في مكان النار، ومن حول مكانها قالوا: ومكانها البقعة التي حصلت فيها، وهي البقعة المباركة، المذكورة في قوله- تعالى-: فَلَمَّا أَتاها أى النار- نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ
…
«3» .
(1) الآية 29.
(2)
تفسير الكشاف ج 3 ص 349.
(3)
سورة القصص الآية 30.
وقيل: من في النار: موسى- عليه السلام، ومن حولها: الملائكة الحاضرون
…
وقيل الأول الملائكة، والثاني موسى، واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازا عن القرب التام
…
وأيا ما كان فالمراد بذلك بشارة موسى- عليه السلام» «1» .
وقال الشوكانى: «ومذهب المفسرين أن المراد بالنار- هنا- النور» «2» .
وقوله- تعالى-: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من تتمة النداء، وخبر منه- تعالى- لموسى بالتنزيه. لئلا يتوهم من سماع كلامه- تعالى- التشبيه بما للبشر من كلام.
أى: وتنزه الله- عز وجل وتقدس رب العالمين عن كل سوء ونقص ومماثلة للحوادث.
وقوله- سبحانه-: يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إعلام منه- عز وجل لعبده موسى بأن المخاطب له، إنما هو الله- تعالى- الذي عز كل شيء وقهره وغلبه.
والذي أحكم كل شيء خلقه.
والضمير في قوله إِنَّهُ للشأن. وجملة أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر والعزيز الحكيم صفتان لذاته- عز وجل.
أى: يا موسى إن الحال والشأن إنى أنا الله العزيز الحكيم، الذي أخاطبك وأناجيك. فتنبه لما سآمرك به. ونفذ ما سأكلفك بفعله.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك بعض ما أمر به موسى- عليه السلام فقال: وَأَلْقِ عَصاكَ.
والجملة الكريمة معطوفة على ما تضمنه النداء.
أى: نودي أن بورك من في النار ومن حولها
…
ونودي أن ألق عصاك التي بيدك.
وقوله: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ.. معطوف على كلام مقدر.
أى: فاستجاب موسى- عليه السلام لأمر ربه فألقى عصاه فصارت حية، فلما رآها تهتز. أى: تضطرب وتتحرك بسرعة شديدة حتى لكأنها جَانٌّ في شدة حركتها وسرعة تقلبها وَلَّى مُدْبِراً عنها من الخوف وَلَمْ يُعَقِّبْ أى: ولم يرجع على عقبه. بل استمر في إدباره عنها دون أن يفكر في الرجوع إليها. يقال: عقب المقاتل. إذا كر على عدوه بعد الفرار منه.
والجان: الحية الصغيرة السريعة الحركة. أو الحية الكبيرة، والمراد هنا: التشبيه بها في
(1) تفسير الآلوسى ج 19 ص 160. [.....]
(2)
تفسير فتح القدير ج 4 ص 127.
شدة الحركة وسرعتها مع عظم حجمها.
وإنما ولى موسى مدبرا عنها، لأنه لم يخطر بباله أن عصاه التي بيده، يحصل منها ما رآه بعينه، من تحولها إلى حية تسعى وتضطرب وتتحرك بسرعة كأنها جان، ومن طبيعة الإنسان أنه إذا رأى أمرا غريبا اعتراه الخوف منه، فما بالك بعصا تتحول إلى حية تسعى.
ثم بين- سبحانه- ما نادى به موسى على سبيل التثبيت وإدخال الطمأنينة على قلبه، فقال: يا مُوسى لا تَخَفْ.
أى: فلما ولى موسى ولم يعقب عند ما ألقى عصاه فانقلبت حية، ناداه ربه- تعالى- بقوله: يا مُوسى لا تَخَفْ مما رأيت أو من شيء غيرى ما دمت في حضرتى.
وجملة إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ تعليل للنهى عن الخوف، أى إنى لا يخاف عندي من اخترته لحمل رسالتي، وتبليغ دعوتي.
وقوله- سبحانه-: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ استثناء منقطع مما قبله.
أى: إنى يا موسى لا يخاف لدى المرسلون، لكن من ظلم وارتكب فعلا سيئا من عبادي، ثم تاب إلى توبة صادقة، بأن ترك الظلم إلى العدل والشر إلى الخير. والمعصية إلى الطاعة، فإنى أغفر له ما فرط منه، لأنى أنا وحدي الواسع المغفرة والرحمة.
قال ابن كثير: هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على شيء ثم أقلع عنه وتاب وأناب، فإن الله يتوب عليه، كما قال- تعالى- وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى وقال- تعالى- وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
«1» وقيل: إن الاستثناء متصل، فيكون المعنى: لا يخاف لدى المرسلون، إلا من ظلم منهم بأن وقع في الصغائر التي لا يسلم منها أحد، ثم تاب منها وأقلع عنها، فإنى غفور رحيم.
قال الآلوسى: «والظاهر- هنا- انقطاع الاستثناء، والأوفق بشأن المرسلين، أن يراد بمن ظلم: من ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا من غيرهم. وثُمَّ يحتمل أن تكون للتراخي الزمانى فتفيد الآية المغفرة لمن بدل على الفور من باب أولى. ويحتمل أن تكون للتراخي الرتبى، وهو ظاهر بين الظلم والتبديل
…
» «2» .
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 191.
(2)
تفسير الآلوسى ج 19 ص 166.
وعبر- سبحانه- عن ترك الظلم بالتبديل، للإشارة إلى الإقلاع التام عن هذا الظلم، وإلى أن هذا الظلم قد حل محله العدل والطاعة والانقياد لأمره- تعالى-.
ثم أرشد- سبحانه- موسى- عليه السلام إلى معجزة أخرى. لتكون دليلا على صدقه في رسالته إلى من سيرسله إليهم فقال: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.
والمراد بجيبه: فتحة ثوبه أو قميصه عند مدخل رأسه، أو عند جانبه الأيمن، وأصل الجيب: القطع. يقال: جاب الشيء إذا قطعه.
والمعنى: وأدخل يا موسى يدك اليمنى في فتحة ثوبك، ثم أخرجها تراها تخرج بيضاء من غير سوء. أى: تخرج منيرة مشرقة واضحة البياض دون أن يكون بها أى سوء من مرض أو برص أو غيرهما، وإنما يكون بياضها بياضا مشرقا مصحوبا بالسلامة بقدرة الله- تعالى- وإرادته.
قال الحسن البصري: أخرجها- والله- كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقى ربه.
وقوله: تَخْرُجْ جواب الأمر في قوله: وَأَدْخِلْ، وبَيْضاءَ حال من فاعل تخرج، ومِنْ غَيْرِ سُوءٍ يجوز أن يكون حالا أخرى. أو صفة لبيضاء.
والمراد باليد هنا: كف يده اليمنى. والسوء: الرديء والقبيح من كل شيء، وهو هنا كناية عن البرص لشدة قبحه.
وقوله- تعالى-: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ يصح أن يكون حالا ثالثة من فاعل تَخْرُجْ فيكون المعنى: وأدخل يا موسى يدك في جيبك تخرج حالة كونها بيضاء.
وحالة كونها من غير سوء، وحالة كونها مندرجة أو معدودة في ضمن تسع آيات زودناك بها، لتكون معجزات لك أمام فرعون وقومه، على أنك صادق فيما تبلغه عن ربك.
قال الجمل «وقوله: فِي تِسْعِ آياتٍ فيه وجوه: أحدها: أنه حال ثالثة يعنى من فاعل تخرج، أى: آية في تسع آيات. الثاني: أنه متعلق بمحذوف أى: اذهب في تسع آيات
…
» «1» .
والمراد بالآيات التسع التي أعطاها الله- تعالى- لموسى- عليه السلام: العصا، واليد، والسنون، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. كما جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 301.
وقد جاء الحديث عن هذه الآيات في مواضع أخرى من القرآن الكريم منها قوله- تعالى-: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ «2» . وقوله- عز وجل: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «3» .
وقال- تعالى-: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ، وَالْجَرادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ.. «4» .
وتحديد الآيات بالتسع، لا ينفى أن هناك معجزات أخرى، أعطاها الله- تعالى- لموسى- عليه السلام إذ من المعروف عند علماء الأصول أن تحديد العدد بالذكر، لا يدل على نفى الزائد عنه.
وقوله- تعالى-: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ استئناف مسوق لبيان سبب إرسال موسى إلى فرعون وقومه.
أى: هذه الآيات التسع أرسلناك بها يا موسى إلى فرعون وقومه، لأنهم كانوا قوما فاسقين عن أمرنا، وخارجين على شرعنا، وعابدين لغيرنا من مخلوقاتنا.
ثم بين- سبحانه- موقف فرعون وقومه من هذه المعجزات الدالة على صدق موسى فقال:
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.
وقوله مُبْصِرَةً من الإبصار والظهور. وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول، للإشعار
(1) سورة الشعراء الآيتان 32، 33.
(2)
سورة الأعراف الآية 130.
(3)
سورة الشعراء الآية 63.
(4)
سورة الأعراف الآية 133.
(5)
تفسير ابن كثير ج 5 ص 221.
بشدة وضوحها وإنارتها، حتى لكأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر، كما يقال: ماء دافق بمعنى مدفوق.
وقوله: وَجَحَدُوا بِها من الجحود. وهو إنكار الحق مع العلم بأنه حق، يقال: جحد فلان حق غيره، إذا أنكره مع علمه به.
وقوله: وَاسْتَيْقَنَتْها من الإيقان وهو الاعتقاد الجازم الذي لا يطرأ عليه شك وجيء بالسين لزيادة التأكيد.
والمعنى: وذهب موسى- عليه السلام ومعه المعجزات الدالة على صدقه، إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، فلما جاءهم موسى بتلك المعجزات المضيئة الواضحة للدلالة على صدقه، قالوا على سبيل العناد والغرور، هذا الذي نراه منك يا موسى، سحر بين وظاهر في كونه سحرا.
وجحد فرعون وقومه هذه المعجزات التي جاء بها موسى من عند ربه- تعالى-، مع أن أنفسهم قد علمت علما لا شك معه أنها معجزات وليست سحرا، ولكنهم خالفوا علمهم ويقينهم ظُلْماً للآيات حيث أنزلوها عن منزلتها الرفيعة وسموها سحرا وَعُلُوًّا أى: ترفعا واستكبارا عن الإيمان بها.
فَانْظُرْ أيها العاقل كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ؟ لقد كانت عاقبتهم أن أغرقهم الله جميعا، بسبب كفرهم وظلمهم وجحودهم وفسادهم في الأرض.
وفي التعبير بقوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا.. إشعار بأن هذه الآيات الدالة على صدق موسى- عليه السلام قد وصلت إليهم بدون أن يتعبوا أنفسهم في الذهاب إليها، فهي جاءتهم إلى بيوتهم لكي تهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكنهم قابلوا ذلك بالكفر والجحود.
وأسند- سبحانه- المجيء إلى الآيات وأضافها إلى ذاته- تعالى- للإشارة إلى أنها خارجة عن أن تكون من صنع موسى، وإنما هي من صنع الله- تعالى- ومن فعله، وموسى ما هو إلا منفذ لما أمره ربه، ومؤيد بما منحه إياه من معجزات دالة على صدقه فيما يبلغه عنه.
وقوله: ظُلْماً وَعُلُوًّا منصوبان على أنهما مفعولان لأجله، أو على أنهما حالان من فاعل جحدوا.
أى: جحدوا الآيات مع تيقنهم أنها من عند الله، من أجل الظلم لها والتعالي على من جاء بها، أو: جحدوا بها حالة كونهم ظالمين لها، ومستكبرين عنها.
وفي قوله- سبحانه-: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ تسلية عظمى للرسول