الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة يونس (10) : الآيات 45 الى 49]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَاّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
وقوله- سبحانه-: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ بيان لأحوالهم السيئة عند جمعهم لحساب يوم القيامة.
إذ الحشر- كما يقول الراغب- إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها» «1» .
والمراد به هنا: إخراج الناس من قبورهم وجمعهم في الموقف لحسابهم على أعمالهم الدنيوية.
والمقصود بالساعة هنا: المدة القليلة من الزمان، فقد جرت العادة أن يضرب بها المثل في الوقت القصير.
والمعنى: واذكر أيها الرسول الكريم، وذكر هؤلاء المشركين الذين عموا وصموا عن الحق، يوم يجمعهم الله- في الآخرة للحساب والعقاب، فيشتد كربهم، وينسون تلك الملذات والشهوات.. التي استمتعوا بها في الدنيا، حتى لكأنهم لم يلبثوا فيها وفي قبورهم، إلا ساعة من النهار أى: إلا مدة قصيرة من النهار، يتعارفون بينهم، أى: لا تتسع تلك المدة إلا للتعارف فيما بينهم.
وقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا جملة حالية من ضمير الجمع في يحشرهم.
وخصت الساعة بكونها من النهار، لأنها أعرف لهم من ساعات الليل.
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 119.
والمقصود بالتشبيه: بيان أن هذه السنوات الطويلة التي قضاها هؤلاء المشركون في الدنيا يتمتعون بلهوها ولعبها، ويستبعدون معها أن هناك بعثا وحسابا.. قد زالت عن ذاكرتهم في يوم القيامة، حتى لكأنهم لم يمكثوا فيها سوى وقت قصير لا يتسع لأكثر من التعارف القليل مع الأقارب والجيران والأصدقاء، حتى لكأن ذلك النعيم الذي تقلبوا فيه دهرا طويلا لم يروه من قبل
…
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في سورة الأحقاف: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ «1» وقوله- سبحانه، في سورة الروم وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ «2» .
فإن قيل: إن هناك بعض الآيات ذكرت أنهم عند ما يسألون يحسبون بأنهم لبثوا في الدنيا يوما أو بعض يوم، أو عشية أو ضحاها كما في قوله- تعالى-: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «3» . وكما في قوله- تعالى- كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها «4» فكيف نجمع بين هذه الآيات التي اختلفت إجابتهم فيها؟.
فالجواب: أن أهل الموقف يختلفون في تقدير الزمن الذي لبثوه في الدنيا على حسب اختلاف أحوالهم، وعلى حسب أهوال كل موقف، فإن في يوم القيامة مواقف متعددة بعضها أشد من بعض.
وقوله يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ جملة حالية أيضا من ضمير الجمع في يحشرهم.
قال القرطبي: «وهذا التعارف توبيخ وافتضاح، يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتنى وأغويتنى وحملتني على الكفر، وليس تعارف شفقة ورحمة وعطف
…
والصحيح أنه لا ينقطع هذا التعارف التوبيخي عند مشاهدة أهوال القيامة، لقوله- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ
…
فأما قوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً وأشباهه فمعناه: لا يسأله سؤال رحمة وشفقة..» «5» .
وقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ جملة مستأنفة مسوقة لبيان
(1) الآية 35.
(2)
الآية 55.
(3)
سورة المؤمنون الآية 112، 113.
(4)
سورة المنازعات الآية الأخيرة.
(5)
تفسير القرطبي- يتصرف وتلخيص- ج 8 ص 348.
حكم الله عليهم في آخرتهم بعد أن ضيعوا دنياهم.
والمراد بلقاء الله: مطلق الحساب والجزاء الكائن في يوم القيامة.
أى: أن هؤلاء الأشقياء الذين أعرضوا عن الحق وأنكروا الحشر، قد خسروا سعادتهم الأبدية، وحق عليهم العذاب المهين، بسبب كفرهم وطغيانهم، وعدم اهتدائهم إلى طريق النجاة.
وقوله: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ تأكيد لخسرانهم، ولوقوع العذاب بهم، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم و «إن» شرطية. و «ما» مزيدة لتأكيد معنى الشرط، وجملة فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب للشرط وما عطف عليه.
والمعنى: إن هؤلاء المشركين الذين ناصبوك العداوة أيها الرسول الكريم لا يخفى علينا أمرهم ونحن إما نرينك ببصرك بعض الذي نعدهم به من العذاب الدنيوي، وإما نتوفينك، قبل ذلك، وفي كلتا الحالتين فإن مرجعهم إلينا وحدنا في الآخرة، فنعاقبهم العقوبة التي يستحقونها.
وقال- سبحانه- بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ للإشارة إلى أن ما ينزل بهم من عذاب دنيوى، هو جزء من العذاب المدخر لهم في الآخرة.
وقد أنجز الله- تعالى- وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم فسلط عليهم القحط والمجاعة، حتى كانوا لشدة جوعهم يرون كأن بينهم وبين السماء دخانا. ونصر المسلمين عليهم في غزوتى بدر والفتح، وكل ذلك حدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال- سبحانه- بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ولم يقل بعض الذي وعدناهم، لاستحضار صورة العذاب، والدلالة على تجدده واستمراره.
أى: نعدهم وعدا متجددا على حسب ما تقتضيه حكمتنا ومشيئتنا، من إنذار عقب إنذار، ومن وعيد بعد وعيد.
والمراد من الشهادة في قول ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ لازمها وهو المعاقبة والمجازاة، فكأنه- سبحانه- يقول: ثم الله- تعالى- بعد ذلك معاقب لهم على ما فعلوه من سيئات، وما يرتكبونه من منكرات.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: الله شهيد على ما يفعلون في الدارين فما معنى ثم؟
قلت: ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، فكأنه قال: ثم الله معاقبهم على ما يفعلون. ويجوز أن يراد أن الله مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حين ينطق
جلودهم وألسنتهم وأيديهم فتكون شاهدة عليهم» «1» .
هذا، وفي معنى هذه الآية وردت آيات أخرى منها قوله- تعالى-: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ «2» وقوله- تعالى- فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ «3» ثم بين- سبحانه- أن من مظاهر رحمته بعباده، أن جعل لكل أمة رسولا يهديها إلى الحق وإلى الطريق المستقيم فقال- تعالى-: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
أى: أنه- سبحانه- اقتضت حكمته ورحمته أن يجعل لكل جماعة من الناس، رسولا يبلغهم ما أمره الله بتبليغه، ويشهد عليهم بذلك يوم القيامة، فإذا جاء رسولهم وشهد بأنه قد بلغهم ما أمره الله به، قضى- سبحانه- بينه وبينهم بالعدل، فحكم بنجاة المؤمن وبعقوبة الكافر، ولا يظلم ربك أحدا.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية «فكل أمة تعرض على الله- تعالى- بحضرة رسولها، وكتاب أعمالها من خير أو شر شاهد عليهم، وحفظتهم من الملائكة شهود أيضا أمة بعد أمة، وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة، يفصل بينهم ويقضى لهم كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق، فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها- صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين» «4» .
وقوله: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ حكاية لأقوالهم الدالة على طغيانهم وفجورهم.
أى: أن هؤلاء لم يكتفوا بالإعراض عن دعوة الحق، بل قالوا لرسولهم صلى الله عليه وسلم الذي حذرهم من عذاب الله إذا ما استمروا في كفرهم: متى يقع علينا هذا العذاب الأليم الذي تهددنا؟ إننا نتعجله فأت به إن كنت أنت وأصحابك من الصادقين في دعواكم أن هناك عذابا ينتظرنا.
وهذا القول منهم يدل على توغلهم في الكفر والجحود، وعدم اكتراثهم بما يخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 239.
(2)
سورة الرعد الآية 40.
(3)
سورة غافر الآية 77.
(4)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 419. [.....]