الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر، والاغترار بظاهر الحال، كما هو عادة الأطفال «1» .
ثم أضاف نوح- عليه السلام إلى تهديدهم تهديدا آخر فقال: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ.
أى: فسوف تعلمون عما قريب، من منا الذي سينزل عليه العذاب المخزى المهين في الدنيا، ومن منا الذي سيحل عليه العذاب الدائم الخالد في الآخرة.
وبهذا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد قررت حكم الله الفاصل في شأن قوم نوح- عليه السلام بعد أن لبث فيهم زمنا طويلا يدعوهم إلى الحق، ولكنهم صموا آذانهم عنه فماذا كان من أمره وأمرهم بعد ذلك.
كان من أمره وأمرهم بعد ذلك أن أمر الله- تعالى- نوحا- عليه السلام أن يحمل في السفينة بعد أن أتم صنعها من كل نوع من أنواع الحيوانات ذكرا وأنثى، ثم نزل الطوفان، وسارت السفينة بمن فيها، وأغرق الله- تعالى- الظالمين، وقد حكى- سبحانه- كل ذلك فقال- تعالى.
[سورة هود (11) : الآيات 40 الى 44]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَاّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
(1) تفسير الفخر الرازي ج 17 ص 124.
فقوله- سبحانه- حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
…
بيان لمرحلة جديدة من مراحل قصة نوح- عليه السلام مع قومه.
وحَتَّى هنا حرف غاية لقوله- تعالى- قبل ذلك وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ.. إلخ.
والمراد بالأمر في قوله- سبحانه- حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا
…
حلول وقت نزول العذاب بهم، فهو مفرد الأمور، أى: حتى إذا حل بهم وقت عذابنا.. قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين.
ويصح أن يكون المراد به الأمر بالشيء على أنه مفرد الأوامر، فيكون المعنى: حتى إذا جاء أمرنا لنوح بركوب السفينة، وللأرض بتفجير عيونها، وللسماء بإنزال أمطارها
…
قلنا احمل فيها
…
وجملة، وفار التنور، معطوفة على جاءَ أَمْرُنا، وكلمة فارَ من الفور والفوران، وهو شدة الغليان للماء وغيره.
قال صاحب المنار ما ملخصه: «والفور والفوران ضرب من الحركة والارتفاع القوى، يقال في الماء إذا غلا وارتفع
…
ويقال في النار إذا هاجت قال- تعالى- إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ
…
ومن المجاز: فار الغضب، إذا اشتد
…
» «1» .
وللمفسرين في المراد بلفظ التَّنُّورُ أقوال منها: أن المراد به الشيء الذي يخبز فيه الخبز، وهو ما يسمى بالموقد أو الكانون
…
ومنها أن المراد به وجه الأرض
…
ومنها: أن المراد به موضع اجتماع الماء في السفينة
…
ومنها: أن المراد به طلوع الفجر من قولهم: تنور الفجر
…
(1) تفسير المنار ج 12 ص 75.
ومنها: أن المراد به أعالى الأرض والمواضع المرتفعة فيها..
وقيل: إن الكلام على سبيل المجاز، والمراد بقوله- سبحانه- فارَ التَّنُّورُ التمثيل بحضور العذاب، كقولهم، حمى الوطيس، إذا اشتد القتال «1» .
وأرجح هذه الأقوال أولها، لأن التنور في اللغة يطلق على الشيء الذي يخبز فيه، وفورانه معناه: نبع الماء منه بشدة مع الارتفاع والغليان، كما يفور الماء في القدر عند الغليان، ولعل ذلك كان علامة لنوح- عليه السلام على اقتراب وقت الطوفان.
وقد رجح هذا القول المحققون من المفسرين، فقد قال الإمام ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال في معنى التنور: «وأولى الأقوال عندنا بتأويل قوله التَّنُّورُ قول من قال:
هو التنور الذي يخبز فيه، لأن هذا هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك، فيسلم لها.
وذلك لأنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به.
أى: قلنا لنوح حين جاء عذابنا قومه
…
وفار التنور الذي جعلنا فورانه بالماء آية مجيء عذابنا.. احمل فيها- أى السفينة من كل زوجين اثنين..» «2» .
وقال الإمام الرازي ما ملخصه: فإن قيل: فما الأصح من هذه الأقوال- في معنى التنور..؟.
قلنا: الأصل حمل الكلام على حقيقته، ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه، فوجب حمل اللفظ عليه
…
ثم قال: والذي روى من أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة، وقد وعد الله- تعالى- المؤمنين النجاة فلا بد أن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين «فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة» «3» .
وجملة قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ جواب إذا ولفظ زَوْجَيْنِ تثنية زوج، والمراد به هنا الذكر والأنثى من كل نوع.
قراءة الجمهور: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بدون تنوين للفظ كل، وإضافته إلى زوجين.
(1) راجع تفسير القرطبي ج 9 ص 23.
(2)
تفسير ابن جرير ج 12 ص 25.
(3)
تفسير الفخر الرازي ج 17 ص 226. [.....]
وقرأ حفص: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بتنوين لفظ كل وهو تنوين عوض عن مضاف إليه، والتقدير: احمل فيها من كل نوع من أنواع المخلوقات التي أنت في حاجة إليها ذكرا وأنثى.
ويكون لفظ زَوْجَيْنِ مفعولا لقوله احْمِلْ واثنين صفة له.
والمراد بأهله: أهل بيته كزوجته وأولاده، وأكثر ما يطلق لفظ الأهل على الزوجة، كما في قوله- فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً، قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً
…
«1» .
والمراد بأهله: من كان مؤمنا منهم.
وجملة إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ استثناء من الأهل.
أى: احمل فيها أهلك إلا من سبق عليه قضاؤنا بكفره منهم فلا تحمله.
والمراد بمن سبق عليه القول: زوجته التي جاء ذكرها في سورة التحريم في قوله- تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما.. وابنه الذي أبى أن يركب معه السفينة.
قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الجملة: والمراد زوجة له أخرى تسمى (واعلة) بالعين المهملة، وفي رواية (والقه) وابنه منها واسمه (كنعان) .. وكانا كافرين» «2» .
وجملة وَمَنْ آمَنَ معطوفة على قوله وَأَهْلَكَ أى: واحمل معك من آمن بك من قومك.
والمعنى للآية الكريمة: لقد امتثل نوح أمر ربه له بصنع السفينة، حتى إذا ما تم صنعها، وحان وقت نزول العذاب بالكافرين من قومه، وتحققت العلامات الدالة على ذلك، قال الله- تعالى- لنوح: احمل فيها من كل نوع من أنواع المخلوقات التي أنت في حاجة إليها ذكرا وأنثى، واحمل فيها أيضا من آمن بك من أهل بيتك دون من لم يؤمن، واحمل فيها كذلك جميع المؤمنين الذين اتبعوا دعوتك من غير أهل بيتك.
وقد ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على قلة عدد من آمن به فقال: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ.
(1) سورة القصص الآية 29.
(2)
تفسير الآلوسى ج 12 ص 50.
أى: وما آمن معه إلا عدد قليل من قومه بعد أن لبث فيهم قرونا متطاولة يدعوهم إلى الدين الحق ليلا ونهارا، وسرا وعلانية.
قال الآلوسى بعد أن ساق أقوالا في عدد من آمن بنوح- عليه السلام من قومه:
…
والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين: زوجته، وبنوه الثلاثة ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم
…
» «1» .
ثم حكى- سبحانه- ما قاله نوح للمؤمنين عند ركوبهم السفينة فقال: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
ومجريها ومرساها، قرأهما الجمهور بضم الميمين فيهما، وهما مصدران من جرى وأرسى.
والباء في باسم الله للملابسة، والآية الكريمة معطوفة على جملة، قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين.
أى: قلنا له ذلك فامتثل أمرنا، وقال لمن معه من المؤمنين: سلموا أمركم لمشيئة الله- تعالى- وقولوا عند ركوب السفينة: باسم الله جريها في هذا الطوفان العظيم، وباسم الله إرساءها في المكان الذي يريد الله- تعالى- إرساءها فيه.
قال الشيخ الفاضل ابن عاشور: وعدى فعل ارْكَبُوا بفي، جريا على الأسلوب الفصيح، فإنه يقال: ركب الدابة إذا علاها. وأما ركوب الفلك فيعدى بفي، لأن إطلاق الركوب عليه مجاز، وإنما هو جلوس واستقرار، فلا يقال: ركب السفينة فأرادوا التفرقة بين الركوب الحقيقي والركوب المشابه له، وهي تفرقة حسنة» «2» .
وجملة إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر بالركوب المصاحب لذكر الله- تعالى-:
أى: إن ربي لعظيم المغفرة ولعظيم الرحمة لمن كان مطيعا له مخلصا في عبادته.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: يقول الله- تعالى- إخبارا عن نوح أنه قال للذين أمر بحملهم معه في السفينة ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها
…
وقال- سبحانه- في موضع آخر: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.
ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور: عند الركوب في السفينة وعلى الدابة.
فقد روى الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمان أمتى من الغرق إذا
(1) تفسير الآلوسى ج 12 ص 50.
(2)
تفسير سورة هود ص 73.
ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم الله الملك.. بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم» «1» .
ثم بين- سبحانه- حال السفينة وهي تمخر بهم عباب الماء فقال:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ.
والموج: ما ارتفع من ماء البحر عند اضطرابه. وأصله من ماج الشيء يموج إذا اضطرب ومنه قوله- تعالى- وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت. بم اتصل قوله- تعالى- وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ؟
قلت: اتصل بمحذوف دل عليه اركبوا فيها باسم الله، كأنه قيل: فركبوا فيها وهم يقولون: باسم الله، وهي تجرى بهم. أى تجرى بهم وهم فيها في موج كالجبال، يريد موج الطوفان، شبه كل موجة بالجبل في تراكمها وارتفاعها.. «2» .
وقوله- سبحانه-: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ تصوير لتلك اللحظة الرهيبة الحاسمة التي أبصر فيها نوح- عليه السلام ابنه الكافر وهو منعزل عنه وعن جماعة المؤمنين.
والمعزل: مكان العزلة، أى: الانفراد.
أى: وقبل أن يشتد الطوفان وترتفع أمواجه، رأى نوح ابنه كنعان، وكان هذا الابن في مكان منعزل، فقال له نوح بعاطفة الأبوة الناصحة الملهوفة يا بنى اركب معنا في السفينة، ولا تكن مع القوم الكافرين الذين سيلفهم الطوفان بين أمواجه عما قريب. ولكن هذه النصيحة الغالية من الأب الحزين على مصير ابنه، لم تجد أذنا واعية من هذا الابن العاق المغرور، بل رد على أبيه: قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ
…
أى: قال: سألتجئ إلى جبل من الجبال الشاهقة، لكي أتحصن به من وصول الماء إلى.
وهنا يرد عليه أبوه الرد الأخير فيقول- كما حكى القرآن عنه-: قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ
…
أى: قال نوح لابنه: لا معصوم اليوم من عذاب الله إلا من رحمه- سبحانه- بلطفه وإحسانه، وأما الجبال وأما الحصون.. وأما غيرهما من وسائل النجاة، فسيعلوها الطوفان، ولن تغنى عن المحتمى بها شيئا.
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 155.
(2)
تفسير الكشاف ج 2 ص 270.
وعبر عن العذاب بأمر الله، تهويلا لشأنه.
وقوله: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ بيان للعاقبة السيئة التي آل إليها أمر الابن الكافر.
أى: وحال وفصل الموج بهديره وسرعته بين الابن وأبيه، فكانت النتيجة أن صار الابن الكافر من بين الكافرين المغرقين.
والتعبير بقوله: وَحالَ
…
يشعر بسرعة فيضان الماء واشتداده، حتى لكأن هذه السرعة لم تمهلهما ليكملا حديثهما.
والتعبير بقوله: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ يشير إلى أنه لم يغرق وحده، وإنما غرق هو وغرق معه كل من كان على شاكلته في الكفر.
وهكذا تصور لنا هذه الآية الكريمة ما دار بين نوح وابنه من محاورات في تلك اللحظات الحاسمة المؤثرة، التي يبذل فيها كل أب ما يستطيع بذله من جهود لنجاة ابنه من هذا المصير المؤلم.
وبعد أن غرق الكافرون، ونجا نوح ومن معه من المؤمنين، وجه الله- تعالى- أمره إلى الأرض وإلى السماء.. فقال: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
أى: وبعد أن أدى الطوفان وظيفته فأغرق بأمر الله- تعالى- الكافرين، قال الله- تعالى- للأرض: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ.
أى: اشربى أيتها الأرض ما على وجهك من ماء، وابتلعيه بسرعة في باطنك كما يبتلع الإنسان طعامه في بطنه بدون استقرار في الفم.
وقال- سبحانه- للسماء وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أى: أمسكى عن إرسال المطر يقال:
أقلع فلان عن فعله إقلاعا، إذا كف عنه وترك فعله. ويقال: أقلعت الحمى عن فلان، إذا تركته.
فامتثلتا- أى الأرض والسماء- لأمر الله- تعالى- في الحال، فهو القائل وقوله الحق:
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» .
وقوله وَغِيضَ الْماءُ أى: نقص ونضب. يقال: غاض الماء يغيض، إذا قل ونقص.
(1) سورة يس الآية 82.
والمراد به هنا: الماء الذي نشأ عن الطرفان.
وقوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ أى: تم ونفذ ما وعد الله- تعالى- به نبيه نوحا- عليه السلام من إهلاكه للقوم الظالمين.
والضمير في قوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ للسفينة، والجودي، جيل بشمال العراق بالقرب من مدينة الموصل. وقيل هو جبل بالشام.
أى: واستقرت السفينة التي تحمل نوحا والمؤمنين بدعوته، على الجبل المعروف بهذا الاسم، بعد أن أهلك الله أعداءهم.
قال ابن كثير ما ملخصه: وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم، فقد روى الإمام أحمد عن أبى هريرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود، وقد صاموا يوم عاشوراء، فقال لهم: ما هذا الصوم؟ قالوا، هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبنى إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون. وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي. فصامه نوح وموسى- عليه السلام شكرا لله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أنا أحق بموسى، وأحق بصوم هذا اليوم» . فصامه، وقال لأصحابه: من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه، ومن كان قد أصاب من غذاء أهله، فليتم بقية يومه» «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وقيل بعدا للقوم الظالمين.
أى: هلاكا وسحقا وطردا من رحمة الله- تعالى- للقوم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإيمان، والضلالة على الهداية.
قال الجمل: وبُعْداً مصدر بعد- بكسر العين-، يقال بعد بعدا- بضم فسكون- وبعدا- بفتحتين- إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك، وخص بدعاء السوء، وهو منصوب على المصدر بفعل مقدر. أى: وقيل بعدا بعدا
…
» «2» .
هذا وقد تكلم بعض العلماء عن أوجه البلاغة والفصاحة في هذه الآية كلاما طويلا، نكتفي بذكر جانب مما قاله في ذلك الشيخ القاسمى في تفسيره.
قال- رحمه الله ما ملخصه: «هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفوائد نهايتها. وقد اهتم علماء البيان بإبراز ذلك، ومن أوسعهم مجالا في مضمار معارفها
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 257.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 400.
الإمام «السكاكي» فقد أطال وأطنب في كتابه «المفتاح» في الحديث عنها.
فقد قال- عليه الرحمة- في بحث البلاغة والفصاحة:
وإذ قد وقفت على البلاغة، وعثرت على الفصاحة، فأذكر لك على سبيل الأنموذج، آية أكشف لك فيها من وجوههما ما عسى أن يكون مستورا عنك، وهذه الآية هي قوله- تعالى- وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ....
والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية.
أما النظر فيها من جهة علم البيان.. فتقول: إنه- عز سلطانه- لما أراد أن يبين معنى هو: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض لما أراد ذلك: بنى الكلام على التشبيه، بأن شبه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه أن يعصى أمره.. وكأنهما عقلاء مميزون فقال:
يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي
…
ثم قال: ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيها لاتصال الماء بالأرض، باتصال الملك بالمالك.
ثم اختار لاحتباس المطر لفظ الإقلاع الذي هو ترك الفاعل للفعل.
وأما النظر فيها من حيث علم المعاني
…
فذلك أنه اختير يا دون سائر أخواتها، لكونها أكثر في الاستعمال
…
واختير لفظ «ابلعي» على «ابتلعى» لكونه أخصر. ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع منه، حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى. نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها، وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية: فألفاظها على ما ترى عربية، مستعملة جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة.
ولا تظن الآية مقصورة على ما ذكرت، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت «1» .
(1) راجع تفسير القاسمى ج 9 ص 3446 وتفسير المنار ج 12 ص 90.