الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الرعد (13) : الآيات 16 الى 18]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)
قال الفخر الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما بين أن كل من في السموات والأرض ساجد له، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ.
ولما كان هذا الجواب جوابا يقر به المسئول ويعترف به ولا ينكره، أمر- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيها على أنهم لا ينكرونه ألبتة
…
» «1» .
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين، من رب هذه الأجرام العظيمة العلوية والسفلية؟
(1) تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 31 طبعة عبد الرحمن محمد.
فإذا ما أبوا الرد عليك عنادا وصلفا، فجابههم بالحقيقة التي لا يستطيعون إنكارها، وهي أن الله وحده هو رب هذه الأجرام، لأنه هو خالقها وموجدها على غير مثال سابق.
وقوله- سبحانه- قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أمر ثالث منه- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم لإفحامهم وتبكيتهم.
فالهمزة للاستفهام التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزة.
والمعنى: أعلمتم حق العلم أن الله- تعالى- هو الخالق للسموات والأرض، فتركتم عبادته- سبحانه- واتخذتم من دونه «أولياء» أى نصراء عاجزين، لا يملكون لأنفسهم- فضلا عن أن يملكوا لغيرهم- نفعا يجلبونه لها، ولا ضرا يدفعونه عنها.
وجملة «لا يملكون» صفة لأولياء، والمقصود بها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة، فإنهم إن أحسنوا التفكير في هؤلاء الأولياء، أيقنوا أنهم أحقر من أن يلتفت إليهم، فضلا عن أن يطلبوا منهم شيئا.
ثم أمره- سبحانه- للمرة الرابعة أن يبرهن لهم على بطلان معتقداتهم عن طريق ما هو مشاهد بالحواس فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ.
أى: قل لهم- أيضا- أيها الرسول الكريم: كما أنه لا يستوي في عرف كل عاقل الأعمى والبصير، والظلمات والنور، فكذلك لا يستوي الكفر والإيمان، فإن الكفر انطماس في البصيرة، وظلمات في القلب، أما الإيمان فهو نور في القلب وإشراق في النفس.
فالمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن، كما أن المراد بالظلمات الكفر وبالنور الإيمان.
وعبر القرآن الكريم في جانب الظلمات بصيغة الجمع، وفي جانب النور بصيغة الإفراد، لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور. وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته.
أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها، فهناك ظلمة الليل، وهناك ظلمة السجون، وهناك ظلمة القبور، وهناك ظلمة العقول التي كان من نتائجها تعدد أنواع الكفر والضلال، كما هو الحال في شأن اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الذين انحرفوا عن طريق الحق.
ثم انتقل- سبحانه- إلى التهكم بهم عن طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم، وإهمالا لشأنهم فقال- تعالى-: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ....
وأم هنا بمعنى بل، والاستفهام للإنكار.
أى: إنهم ما اتخذوا لله- تعالى- شركاء يخلقون مثل خلق الله- تعالى- حتى نقول إن ما خلقوه تشابه مع خلقه- تعالى- فنلتمس لهم شيئا من العذر، ولكنهم اتخذوا معه- سبحانه آلهة أخرى «لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه
…
» .
فالجملة الكريمة تنعى عليهم جهلهم. حيث عبدوا من دون الله مخلوقا مثلهم، وتنفى أى عذر يعتذرون به يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
وقوله: «كخلقه» في معنى المفعول المطلق. أى: خلقوا خلقا شبيها بما خلقه الله- تعالى-. وجملة «فتشابه» معطوفة على جملة «خلقوا» .
ثم أمر- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم للمرة الخامسة بأن يقذفهم بالحق الذي يدفع باطلهم فقال- تعالى- قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم-: الله- تعالى- هو الخالق لكل شيء في هذا الكون، وهو- سبحانه- الواحد الأحد الفرد الصمد، القهار لكل ما سواه، والغالب لكل من غالبه.
ثم ضرب- سبحانه- مثلين للحق هما الماء الصافي والجوهر النقي اللذان ينتفع بهما، ومثلين للباطل هما زبد الماء وزبد الجوهر اللذان لا نفع فيهما فقال- تعالى- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً.
والأودية: جمع واد وهو الموضع المتسع الممتد من الأرض الذي يسيل فيه الماء بكثرة.
والسيل: الماء الجاري في تلك الأودية.
والزبد: هو الغثاء الذي يعلو على وجه الماء عند اشتداد حركته واضطرابه أو ما يعلو القدر عند الغليان ويسمى بالرغوة والوضر والخبث لعدم فائدته، ورابيا: من الربو بمعنى العلو والارتفاع.
والمعنى: أنزل الله- تعالى- من السماء ماء كثيرا، ومطرا مدرارا، فسالت أودية بقدرها، أى: فسالت المياه في الأودية بسبب هذا الإنزال، بمقدارها الذي حدده الله- تعالى- واقتضته حكمته في نفع الناس.
أو بمقدارها قلة وكثرة، بحسب صغر الأودية وكبرها، واتساعها وضيقها «فاحتمل السيل زبدا رابيا» أى فحمل الماء السائل في الأودية بكثرة وقوة، غثاء عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا
عليه، لا نفع فيه ولا فائدة منه.
وإلى هنا يكون قد انتهى المثل الأول، حيث شبه- سبحانه- الحق وأهله في الثبات والنفع بالماء الصافي الذي ينزل من السماء فتمتلئ به الأودية ويبقى محل انتفاع الناس به إلى الوقت المحدد في علم الله- تعالى-.
وشبه الباطل وشيعته في الاضمحلال وعدم النفع، بزبد السيل المنتفخ المرتفع فوق سطح الماء، فإنه مهما علا وارتفع فإنه سرعان ما يضمحل ويفنى وينسلخ عن المنفعة والفائدة.
ثم ابتدأ- سبحانه- في ضرب المثل الثاني فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ.
و «من» في قوله «ومما يوقدون» لابتداء الغاية، وما موصولة، ويوقدون من الإيقاد وهو جعل الحطب وما يشبهه في النار ليزيد اشتعالها.
والجملة في محل رفع خبر مقدم، وقوله «زبد» مبتدأ مؤخر.
والحلية: ما يتحلى به الإنسان من الذهب والفضة وغيرهما.
والمتاع: ما يتمتع به في حياته من الأوانى والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وأشباههما.
والضمير في قوله «مثله» يعود إلى الزبد في قوله- تعالى- زَبَداً رابِياً.
وقد قرأ حمزة والكسائي وحفص «يوقدون» وقرأ الباقون توقدون بالتاء.
والضمير للناس، وأضمر مع عدم سبق ذكره لظهوره.
والمعنى: وشبيه بالمثل السابق في خروج الزبد والخبث وطرحه بعيدا عن الأشياء النافعة، ما توقدون عليه النار من المعادن والجواهر، لكي تستخرجوا منها ما ينفعكم من الحلي والأمتعة المتنوعة، فإنكم في مثل هذه الحالة، تبقون على النقي النافع منها، وتطرحون الزبد والخبث الذي يلفظه الكير، والذي هو مثل زبد السيل في عدم النفع.
فقد شبه- سبحانه- في هذا المثل الثاني الحق وأهله في البقاء والنفع بالمعادن النافعة الباقية، وشبه الباطل وحزبه في الفناء وعدم النفع بخبث الحديد الذي يطرحه كير الحداد، ويهمله الناس.
ثم بين- سبحانه- المقصود من ضرب هذه الأمثال فقال: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ.
أى: مثل ذلك البيان البديع، يضرب الله الأمثلة للحق وللباطل إذا اجتمعا بأن يبين بأنه
لا ثبات للباطل- مهما علا وانتفخ- مع وجود الحق، كما أنه لا ثبات للزبد مع الماء الصافي، ولا مع المعادن النقية.
والكلام على حذف مضاف والتقدير: يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل.
وسر الحذف: الإنباء عن كمال التماثل بين الممثل والممثل به، حتى لكأن المثل المضروب هو عين الحق وعين الباطل.
ثم شرع- سبحانه- في تقسيم المثل فقال: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
أى: فأما الزبد الذي لفظه السيل والحديد فيذهب «جفاء» مرميا به، مطروحا بعيدا، لأنه لا نفع فيه.
يقال: جفأ الماء بالزبد، إذا قذفه ورمى به، وجفأت الريح الغيم، إذا مزقته وفرقته، والجفاء بمعنى الغثاء.
وأما ما ينفع الناس من الماء الصافي، والمعدن النقي الخالي من الخبث «فيمكث في الأرض» أى فيبقى فيها لينتفع الناس به.
وبدأ- سبحانه- بالزبد في البيان فقال فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ مع أنه متأخر في الكلام السابق لأن الزبد هو الظاهر المنظور أولا لأعين الناس، أما الجوهر فهو مستتر خلفه لأنه هو الباقي النافع.
أو لأنه جرت العادة في التقسيم أن يبدأ بالمتأخر كما في قوله- تعالى- يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «1» .
وقوله كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ تفخيم لشأن هذا التمثيل الذي اشتملت عليه الآية الكريمة.
أى: مثل ذلك البيان البديع الذي اشتملت عليه الآية الكريمة يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون، فيحملهم هذا التفكير على الإيمان الحق، وحسن التمييز بين الخير والشر، والمعروف والمنكر، والحق والباطل.
قال الإمام الشوكانى: «هذان مثلان ضربهما الله- تعالى- في هذه الآية للحق وللباطل
(1) سورة آل عمران الآية 106.
يقول: إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله- تعالى- سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله.
كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء، وكخبث هذه الأجسام، فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه، فهذا مثل الباطل.
وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعى فيمكث في الأرض، وكذلك الصافي من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصا لا شوب فيه، وهو مثل الحق.
وقال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعا بها.
ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به» «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك عاقبة أهل الحق، وعاقبة أهل الباطل فقال- تعالى-:
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ....
أى: للمؤمنين الصادقين، الذين أطاعوا ربهم في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه، المثوبة الحسنى، وهي الجنة.
فالحسنى يصح أن تكون صفة لموصوف محذوف، ويصح أن تكون مبتدأ مؤخرا، وخبره «للذين استجابوا لربهم» .
«والذين لم يستجيبوا له» - سبحانه- ولم ينقادوا لأمره أو نهيه وهم الكفار «لو أن لهم ما في الأرض جميعا» من أصناف الأموال، ولهم أيضا «مثله معه لافتدوا به» أى لهان عليهم- مع نفاسته وكثرته- أن يقدموه فداء لأنفسهم من عذاب يوم القيامة.
فالضمير في قوله «ومثله معه» يعود إلى ما في الأرض جميعا من أصناف الأموال وفي ذلك ما فيه من تهويل ما يلقونه من عذاب أليم جزاء كفرهم وجحودهم.
ثم بين- سبحانه- سوء مصيرهم فقال: «أولئك لهم سوء الحساب» أى: أولئك الذين لم يستجيبوا لربهم لهم الحساب السيئ الذي لا رحمة معه، ولا تساهل فيه.
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 85.