الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستجاب الأبناء لنصيحة أبيهم، فأعدوا عدتهم للرحيل إلى مصر للمرة الثالثة، ثم ساروا في طريقهم حتى دخلوها، والتقوا بعزيز مصر الذي احتجز أخاهم بنيامين، وتحكى السورة الكريمة ما دار بينهم وبينه فتقول:
[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 98]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
وقوله- تعالى- فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا
…
حكاية لما قاله إخوة يوسف له، بعد أن امتثلوا أمر أبيهم، فخرجوا إلى مصر للمرة الثالثة، ليتحسسوا من يوسف وأخيه، وليشتروا من عزيزها ما هم في حاجة إليه من طعام.
والبضاعة: هي القطعة من المال، يقصد بها شراء شيء.
والمزجاة: هي القليلة الرديئة التي ينصرف عنها التجار إهمالا لها.
قالوا: وكانت بضاعتهم دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة- أى: بأقل قيمة- وقيل غير ذلك.
وأصل الإزجاء: السوق والدفع قليلا قليلا، ومنه قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.... أى: يرسله رويدا رويدا
…
وسميت البضاعة الرديئة القليلة مزجاة، لأنها ترد وتدفع ولا يقبلها التجار إلا بأبخس الأثمان.
والمعنى: وقال إخوة يوسف له بأدب واستعطاف، بعد أن دخلوا عليه للمرة الثالثة «يا أيها العزيز» أى: الملك صاحب الجاه والسلطان والسعة في الرزق، «مسنا وأهلنا الضر» أى:
أصابنا وأصاب أهلنا معنا الفقر والجدب والهزل من شدة الجوع.
وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أى: وجئنا معنا من بلادنا ببضاعة قليلة رديئة يردها وينصرف عنها كل من يراها من التجار، إهمالا لها، واحتقارا لشأنها.
وإنما قالوا له ذلك: استدرارا لعطفه، وتحريكا لمروءته وسخائه، قبل أن يخبروه بمطلبهم الذي حكاه القرآن في قوله:
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا
…
أى: هذا هو حالنا شرحناه لك، وهو يدعو إلى الشفقة والرحمة، ما دام أمرنا كذلك، فأتمم لنا كيلنا ولا تنقص منه شيئا، وتصدق علينا فوق حقنا بما أنت أهل له من كرم ورحمة إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ على غيرهم جزاء كريما حسنا
ويبدو أن يوسف- عليه السلام قد تأثر بما أصابهم من ضر وضيق حال، تأثرا جعله لا يستطيع أن يخفى حقيقته عنهم أكثر من ذلك، فبادرهم بقوله: قالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ.
أى: قال لهم يوسف- عليه السلام على سبيل التعريض بهم، والتذكير بأخطائهم:
هل علمتم ما فعلتموه بيوسف وأخيه من أذى وعدوان عليهما، وقت أن كنتم تجهلون سوء عاقبة هذا الأذى والعدوان.
قالوا: وقوله هذا يدل على سمو أخلاقه حتى لكأنه يلتمس لهم العذر، لأن ما فعلوه معه ومع أخيه كان في وقت جهلهم وقصور عقولهم، وعدم علمهم بقبح ما أقدموا عليه
…
وقيل: نفى عنهم العلم وأثبت لهم الجهل، لأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم.
والأول أولى وأقرب إلى ما يدل عليه سياق الآيات بعد ذلك، من عفوه عنهم، وطلب المغفرة لهم.
وهنا يعود إلى الإخوة صوابهم، وتلوح لهم سمات أخيهم يوسف، فيقولون له في دهشة وتعجب قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟.
أى: أإنك لأنت أخونا يوسف الذي أكرمنا
…
والذي فارقناه وهو صغير فأصبح الآن عزيز مصر، والمتصرف في شئونها؟ ..
فرد عليهم بقوله قالَ أَنَا يُوسُفُ الذي تتحدثون عنه. والذي فعلتم معه ما فعلتم
…
«وهذا أخى» بنيامين الذي ألهمنى الله الفعل الذي عن طريقه احتجزته عندي، ولم أرسله معكم
…
«قد منّ الله» - تعالى- «علينا» حيث جمعنا بعد فراق طويل، وبدل أحوالنا من عسر إلى يسر ومن ضيق إلى فرج
…
ثم علل ذلك بما حكاه القرآن عنه في قوله إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
أى: إن من شأن الإنسان الذي يتقى الله- تعالى- ويصون نفسه عن كل ما لا يرضاه، ويصبر على قضائه وقدره، فإنه- تعالى- يرحمه برحمته، ويكرمه بكرمه، لأنه- سبحانه- لا يضيع أجر من أحسن عملا، وتلك سنته- سبحانه- التي لا تتخلف
…
وهنا يتجسد في أذهان إخوة يوسف ما فعلوه معه في الماضي، فينتابهم الخزي والخجل،
حيث قابل إساءتهم إليه بالإحسان عليهم، فقالوا له في استعطاف وتذلل: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا، وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ أى: نقسم بالله- تعالى- لقد اختارك الله- تعالى- لرسالته، وفضلك علينا بالتقوى وبالصبر وبكل الصفات الكريمة.
أما نحن فقد كنا خاطئين فيما فعلناه معك، ومتعمدين لما ارتكبناه في حقك من جرائم، ولذلك أعزك الله- تعالى- وأذلنا، وأغناك وأفقرنا، ونرجو منك الصفح والعفو.
فرد عليهم يوسف- عليه السلام بقوله: قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
والتثريب: التعيير والتوبيخ والتأنيب. وأصله كما يقول الآلوسى: من الثرب، وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش
…
فاستعير للتأنيب الذي يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه، لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال، كما أنه بالتأنيب واللوم تظهر العيوب، فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال.
أى: قال يوسف لإخوته على سبيل الصفح والعفو يا إخوتى: لا لوم ولا تأنيب ولا تعيير عليكم اليوم، فقد عفوت عما صدر منكم في حقي وفي حق أخى من أخطاء وآثام وأرجو الله- تعالى- أن يغفر لكم ما فرط منكم من ذنوب وهو- سبحانه- أرحم الراحمين بعباده.
وقوله «لا تثريب» اسم لا النافية للجنس، و «عليكم» متعلق بمحذوف خبر لا، و «اليوم» متعلق بذلك الخبر المحذوف.
أى: لا تقريع ولا تأنيب ثابت أو مستقر عليكم اليوم.
وليس التقييد باليوم لإفادة أن التقريع ثابت في غيره، بل المراد نفيه عنهم في كل ما مضى من الزمان، لأن الإنسان إذا لم يوبخ صاحبه في أول لقاء معه على أخطائه فلأن يترك ذلك بعد أول لقاء أولى.
ثم انتقل يوسف- عليه السلام من الحديث عن الصفح عنهم إلى الحديث عن أبيه الذي ابيضت عيناه عليه من الحزن فقال:
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.
أى. اذهبوا يا إخوتى بقميصي هذا «فألقوه على وجه أبى» الذي طال حزنه بسبب فراقي له «يأت بصيرا» أى يرتد إليه كامل بصره، بعد أن ضعف من شدة الحزن.
«وأتونى» معه إلى هنا ومعكم أهلكم جميعا من رجال ونساء وأطفال.
وقول يوسف هذا إنما هو بوحي من الله- تعالى- فهو- سبحانه- الذي ألهمه أن إلقاء
قميصه على وجه أبيه يؤدى إلى ارتداد بصره إليه كاملا، وهذا من باب خرق العادة بالنسبة لهذين النبيين الكريمين.
واستجاب الإخوة لتوجيه يوسف، فأخذوا قميصه وعادوا إلى أوطانهم ويصور القرآن ما حدث فيقول: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ.
و «فصلت العير» أى خرجت من مكان إلى مكان آخر. يقال: فصل فلان من بلده كذا فصولا، إذا جاوز حدودها إلى حدود بلدة أخرى.
و «تفندون» من الفند وهو ضعف العقل بسبب المرض والتقدم في السن.
والمعنى: وحين غادرت الإبل التي تحمل إخوة يوسف حدود مصر، وأخذت طريقها إلى الأرض التي يسكنها يعقوب وبنوه، قال يعقوب- عليه السلام لمن كان جالسا معه من أهله وأقاربه، استمعوا إلى «إنى لأجد ريح يوسف» .
أى: رائحته التي تدل عليه، وتشير إلى قرب لقائي به.
و «لولا» أن تنسبونى إلى الفند وضعف العقل لصدقتمونى فيما قلت، أو لولا أن تنسبونى إلى ذلك لقلت لكم إنى أشعر أن لقائي بيوسف قد اقترب وقته وحان زمانه.
فجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه.
وقد أشم الله- تعالى- يعقوب- عليه السلام ما عبق من القميص من رائحة يوسف من مسيرة أيام، وهي معجزة ظاهرة له- عليه الصلاة والسلام.
وقال الإمام مالك- رحمه الله أوصل الله- تعالى- ريح قميص يوسف ليعقوب، كما أوصل عرش بلقيس إلى سليمان قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه.
ولكن المحيطين بيعقوب الذين قال لهم هذا القول، لم يشموا ما شمه، ولم يجدوا ما وجده، فردوا عليه بقولهم: قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ.
قالوا له على سبيل التسلية: إنك يا يعقوب ما زلت غارقا في خطئك القديم الذي لا تريد أن يفارقك. وهو حبك ليوسف وأملك في لقائه والإكثار من ذكره.
وتحقق ما وجده يعقوب من رائحة يوسف
…
وحل أوان المفاجأة التي حكاها القرآن في قوله فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً، قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
أى: وحين اقترب أبناء يعقوب من دار أبيهم، تقدم البشير الذي يحمل قميص يوسف إلى