الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بأن الخطاب للمشركين، لأن سياق الآيات السابقة في شأنهم فلأن يكون الخطاب لهم هنا أولى.
ثم بين- سبحانه- سوء مصير الذين لا يريدون بأقوالهم وأعمالهم وجه الله- تعالى- فقال:
[سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
أى: من كان يريد بأقواله الحسنة وبأعماله الطيبة على حسب الظاهر، الحصول على (الحياة الدنيا وزينتها) من مال وجاه ومنصب وغير ذلك من المتع الدنيوية، بدون التفات إلى ما يقربه من ثواب الآخرة.
من كانوا يريدون ذلك نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أى: نوصل إليهم- بإرادتنا ومشيئتنا- ثمار جهودهم وأعمالهم في هذه الدنيا.
والتعبير بكان في قوله مَنْ كانَ يُرِيدُ
…
يفيد أنهم مستمرون على إرادة الدنيا بأعمالهم، بدون تطلع إلى خير الآخرة.
وعدى الفعل نُوَفِّ بإلى، مع أنه يتعدى بنفسه، لتضمينه معنى نوصل.
وقوله- سبحانه- وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ تذييل قصد به تأكيد ما سبقه، وتبيين مظهر من مظاهر عدل الله- تعالى- مع عباده في دنياهم.
والبخس: نقص الحق ظلما. يقال: بخس فلان فلانا حقه إذا ظلمه ونقصه.
أى: وهم في هذه الدنيا لا ينقصون شيئا من نتائج جهودهم وأعمالهم، حتى ولو كانت جهودا لا إخلاص معها ولا إيمان.
ثم بين- سبحانه- سوء مصيرهم في الآخرة فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
أى: أولئك الذين أرادوا بأقوالهم وأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها، ليس لهم في الآخرة إلا النار، لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة في الدنيا وبقيت عليهم أوزار نياتهم السيئة في الآخرة.
وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أى: وفسد ما صنعوه في الدنيا من أعمال الخير، لأنهم لم يقصدوا بها وجه الله- تعالى- وإنما قصدوا بها الرياء ورضى الناس
…
وقوله وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى: وباطل في نفسه ما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال ظاهرها البر والصلاح، لأنه لا ثمرة له ولا ثواب في الآخرة لأن الأعمال بالنيات، ونيات هؤلاء المرائين، لم تكن تلتفت إلى ثواب الله، وإنما كانت متجهة اتجاها كليا إلى الحياة الدنيا وزينتها، إلى إرضاء المخلوق لا الخالق.
وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى-: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ «1» .
وقوله- تعالى-: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا «2» .
هذا ومن العلماء من يرى أن هاتين الآيتين مسوقتان في شأن الكفار ومن على شاكلتهم من الضالة كاليهود والنصارى والمنافقين
…
لأن قوله- تعالى- أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ
…
لا يليق إلا بهم.
والذي نراه أن هاتين الآيتين تتناولان الكفار ومن على شاكلتهم تناولا أوليا، ولكن هذا لا يمنع من أنهما يندرج تحت وعيدهما كل من قصد بأقواله وأعماله الحياة الدنيا وزينتها، ونبذ كل معاني الإخلاص والطاعة لله رب العالمين.
ومما يشهد لذلك أن هناك أحاديث كثيرة، حذرت من الرياء، وتوعدت مقترفه بأشد أنواع العقوبات ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو داود عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» - أى رائحتها- «3» .
وصفوة القول: أن الآيتين الكريمتين تسوقان سنة من سنن الله مع عباده في هذه الدنيا، هي أن الله- تعالى- لا ينقص الناس شيئا من ثمار جهودهم وأعمالهم في هذه الدنيا، إلا أن هذه الجهود وتلك الأعمال التي ظاهرها الصلاح، إن كان المقصود بها الحياة الدنيا وزينتها
(1) سورة الشورى الآية 20.
(2)
سورة الإسراء الآيات من 17- 20. [.....]
(3)
من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي من باب «تحريم الرياء» ص 619.