الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله- تعالى- فما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم كما قال- تعالى-: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ....
أو المعنى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أى: قائد يهديهم إلى الرشد، وهو الكتاب المنزل عليهم، الداعي بعنوان الهداية إلى ما فيه صلاحهم.
يعنى: أن سر الإرسال وآيته الفريدة إنما هو الدعاء إلى الهدى، وتبصير سبله، والإنذار من الاسترسال في مساقط الردى. وقد أنزل عليك من الهدى أحسنه. فكفى بهدايته آية كبرى وخارقة عظمى. وأما الآيات المقترحة فأمرها إلى الله وحده
…
» «1» .
ثم صور- سبحانه- سعة علمه تصويرا عميقا، تقشعر منه الجلود، وترتجف له المشاعر، وساق سنة من سننه التي لا تتغير ولا تتبدل، فقال- تعالى-:
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
فقوله- سبحانه- اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ كلام مستأنف مسوق لبيان كمال علمه وقدرته- سبحانه-.
(1) تفسير القاسمى ج 9 ص 3648.
وتَغِيضُ من الغيض بمعنى النقص. يقال: غاض الماء إذا نقص.
وما موصولة والعائد محذوف. أى: الله وحده هو الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها من علقة أو مضغة ومن ذكر أو أنثى
…
وهو وحده- سبحانه- الذي يعلم ما يكون في داخل الأرحام من نقص في الخلقة أو زيادة فيها، ومن نقص في مدة الحمل أو زيادة فيها، ومن نقص في العدد أو زيادة فيه
…
وقال العوفى عن ابن عباس وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يعنى السقط وَما تَزْدادُ.
يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص. فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله- تعالى- وكل ذلك بعلمه- سبحانه- «1» .
وقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أى: وكل شيء عنده- سبحانه- بقدر وحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كما قال- تعالى- إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «2» . وكما قال- تعالى- وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «3» . فهو- سبحانه- يعلم كمية كل شيء وكيفيته وزمانه ومكانه وسائر أحواله.
وقوله عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ تأكيد لعموم علمه- سبحانه- ودقته.
والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو: ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل.
والشهادة: مصدر شهد يشهد، وهي هنا بمعنى الأشياء المشهودة.
والمتعال: المستعلى على كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله- سبحانه-.
أى: أنه- سبحانه- هو وحده الذي يعلم أحوال الأشياء الغائبة عن الحواس كما يعلم
(1) تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص 357 طبعة دار الشعب.
(2)
سورة القمر الآية 49.
(3)
سورة الحجر الآية 21.
أحوال المشاهدة منها، وهو العظيم الشأن، المستعلى على كل شيء.
وقوله- سبحانه- سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ تأكيد آخر لشمول- علمه- سبحانه- لأحوال عباده.
وسواء: اسم مصدر بمعنى الاستواء، والمراد به هنا اسم الفاعل. أى: مستو.
قال الجمل: «وفيه وجهان: أحدهما أنه خبر مقدم، ومن أسر ومن جهر هو المبتدأ، وإنما لم يثن الخبر لأنه في الأصل مصدر، وهو هنا بمعنى مستو.
والثاني أنه مبتدأ، وجاز الابتداء به لوصفه بقوله مِنْكُمْ «1» .
وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أى: ظاهر بالنهار. يقال: سرب في الأرض يسرب سربا وسروبا.
أى: ذهب في سربه- بسكون الراء وكسر السين وفتحها- أى طريقه.
والمعنى: أنه- تعالى- مستو في علمه من أسر منكم القول، ومن جهر به بأن أعلنه لغيره.
ومستو في علمه- أيضا- من هو مستتر في الظلمة الكائنة في الليل، ومن هو ذاهب في سربه وطريقه بالنهار بحيث يبصره غيره.
وذكر- سبحانه- الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء، وذكر السروب مع النهار لكونه أشد ظهورا.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر رعايته لعباده فقال- تعالى- لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ....
والضمير في لَهُ يعود إلى مِنْ في قوله مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ باعتبار تأويله بالمذكور.
و «معقبات» صفة لموصوف محذوف أى: ملائكة معقبات.
قال الشوكانى: «والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلا منه.
وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين. قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتى بعضهم بعقب بعض، وإنما قال «معقبات» مع كون الملائكة ذكورا لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة، ثم جمع معقبة على معقبات.
قال الجوهري: والتعقب العود بعد البدء قال الله- تعالى- وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ «2» .
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 494.
(2)
تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 69.
يقال: عقب الفرس في عدوه، أى: جرى بعد جريه. وعقبه تعقيبا. أى: جاء عقبه.
و «من» في قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بمعنى باء السببية.
والمعنى: لكل واحد من هؤلاء المذكورين ممن يسرون القول أو يجهرون به، ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار ويحيطون به من جميع جوانبه لحفظه ورعايته، ولكتابة أقواله وأعماله، وهذا التعقيب والحفظ، إنما هو بسبب أمر الله- تعالى- لهم بذلك.
قال ابن كثير: وفي الحديث الصحيح: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم- سبحانه- وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟. فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون» .
وفي الحديث الآخر: «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم» . أى: فاستحيوا منهم وأكرموهم بالتستر وغيره.
وقال عكرمة عن ابن عباس «يحفظونه من أمر الله، قال ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه» «1» .
ثم ساق- سبحانه- سنة من سننه التي لا تتخلف فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ.
أى: إن الله- تعالى- قد اقتضت سنته، أنه- سبحانه- لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وخير بضده، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة إلى معصية ومن جميل إلى قبيح، ومن صلاح إلى فساد.
وإذا أراد- سبحانه- بقوم سوءا من عذاب أو هلاك أو ما يشبههما بسبب إيثارهم الغي على الرشد، فلا راد لقضائه، ولا دافع لعذابه.
وما لهم من دونه- سبحانه- من وال أى من ناصر ينصرهم منه- سبحانه- ويرفع عنهم عقابه، ويلي أمورهم ويلتجئون إليه عند الشدائد.
فالجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر عدل الله في شئون عباده، وتحذير شديد لهم من الإصرار على الشرك والمعاصي وجحود النعمة، فإنه- سبحانه- لا يعصم الناس من عذابه عاصم. ولا يدفعه دافع.
قال الإمام ابن كثير: «قال ابن أبى حاتم: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بنى إسرائيل أن
(1) تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص 359. [.....]