الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» «1» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد زخرت بالتوجيهات القرآنية الحكيمة، التي ساقها الله- تعالى- على لسان موسى- عليه السلام وهو يعظ قومه، ويذكرهم بأيام الله، وبسننه في خلقه، وبغناه عنهم
…
ثم حكى- سبحانه- جانبا من أحوال بعض الرسل مع أقوامهم، ومن المحاورات التي دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم فقال- تعالى-:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلَاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
(1) صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم.
وقوله- سبحانه-: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ....
يرى بعض المفسرين أنه من تتمة كلام موسى- عليه السلام فيكون المعنى:
أن موسى- عليه السلام بعد أن ذكر قومه بأيام الله- تعالى-، وبنعمه عليهم، وبسننه- سبحانه- في خلقه
…
بعد كل ذلك شرع في تذكيرهم وتخويفهم عن طريق ما حل بالمكذبين من قبلهم، فقال لهم- كما حكى القرآن عنه-: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ....
ومنهم من يرى أن الآية الكريمة كلام مستأنف، والخطاب فيه لأمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون المعنى: أن الله- تعالى- بعد أن بين للناس أنه قد أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وبين- سبحانه- أن له ما في السموات وما في الأرض، وهدد الكافرين بالعذاب الشديد، وحكى ما قاله موسى لقومه
…
بعد كل ذلك وجه- سبحانه- الخطاب إلى مشركي مكة وإلى كل من كان على شاكلتهم فقال: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ....
قال الفخر الرازي ما ملخصه: «يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه، والمقصود منه أنه- عليه السلام كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم.
ويجوز أن يكون مخاطبة من الله- تعالى- على لسان موسى لقومه، يذكرهم أمر القرون الأولى. والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا المقصود حاصل على
التقديرين، إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم «1» .
ومع أننا نؤيد الإمام الرازي في أن المقصود إنما حصول العبرة بأحوال المتقدمين إلا أننا نميل مع الأكثرين إلى الرأى الثاني، لأن قوم الرسول صلى الله عليه وسلم هم المقصودون قصدا أوليا بالخطاب القرآنى، ولأن الإمام ابن كثير- رحمه الله يرى أنه لم يرد ذكر في التوراة لقوم عاد وثمود، فقد قال:
قال ابن جرير: «هذا من تمام قول موسى لقومه
…
وفيما قال ابن جرير نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله- تعالى- لهذه الأمة، فإنه قد قيل إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصه عليهم، فلا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة «2» .
والاستفهام في قوله أَلَمْ يَأْتِكُمْ
…
للتقرير لأنهم قد بلغتهم أخبارهم، فقوم نوح بلغتهم أخبارهم بسبب خبر الطوفان الذي كان مشهورا بينهم، وقوم عاد وثمود بلغتهم أخبارهم لأنهم من العرب، ومساكنهم في بلادهم، وهم يمرون على ديار قوم صالح في أسفارهم إلى بلاد الشام للتجارة. والمراد بالذين من بعدهم: أولئك الأقوام الذين جاءوا من بعد قوم نوح وعاد وثمود، كقوم إبراهيم وقم لوط وغيرهم.
وقوله: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أى: لا يعلم عدد الأقوام الذين جاءوا بعد قوم نوح وعاد وثمود ولا يعلم ذواتهم وأحوالهم إلا الله تعالى.
وقوله وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مبتدأ، وقوله لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ خبره، والجملة اعتراض بين المفسر- بفتح السين- وهو نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وتفسيره وهو جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ.
والمعنى: لقد علمتم يا أهل مكة ما حل بقوم نوح وعاد وثمود، كما علمتم ما حل بالمكذبين من بعدهم كقوم لوط وقوم شعيب، وكغيرهم ممن لا يعلم أحوالهم وعددهم إلا الله- تعالى- وما دام الأمر كذلك فاعتبروا واتعظوا واتبعوا هذا الرسول الكريم الذي جاء لسعادتكم، لكي تنجوا من العذاب الأليم الذي حل بالظالمين من قبلكم.
وجملة جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ مستأنفة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل ما قصة هؤلاء الأقوام وما خبرهم؟
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 88 طبعة دار الكتب العلمية- طهران.
(2)
تفسير ابن كثير ج 4 ص 400.
فكان الجواب: جاء كل رسول إلى قومه بالحجج الواضحات، وبالمعجزات الظاهرات، الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.
وقوله فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ....
بيان لموقف الأقوام المكذبين من رسلهم الذين أرسلهم الله لهدايتهم.
والضمائر في «ردوا» و «أيديهم» و «أفواههم» تعود على الأقوام الذين جاءتهم رسلهم بالبينات. وهذه الجملة الكريمة ذكر المفسرون في معناها وجوها متعددة أوصلها بعضهم إلى عشرة أقوال:
منها: أن الكفار وضعوا أناملهم في أفواههم فعضوها غيظا وبغضا مما جاء به الرسل، وقالوا لهم بغضب وضجر: إنا كفرنا بما أرسلتم به وبما جئتمونا به من معجزات، فاغربوا عن وجوهنا، واتركونا وشأننا.
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا الوجه الإمام ابن جرير، فقد قال: «وقوله: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ
…
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك، فعضوا على أصابعهم تغيظا عليهم في دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه
…
روى ذلك عن ابن مسعود وغيره.
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال الأخرى: وأشبه هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل هذه الآية، القول الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود أنهم ردوا أيديهم في أفواههم، فعضوا عليها غيظا على الرسل، كما وصف الله عز وجل به إخوانهم من المنافقين فقال:
وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فهذا هو الكلام المعروف، والمعنى المفهوم من رد الأيدى إلى الأفواه «1» .
ومنها: أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواههم إشارة منهم إلى أنفسهم وإلى ما يصدر عنها، وقالوا للرسل على سبيل التحدي والتكذيب. «إنا كفرنا بما أرسلتم به» أى: لا جواب لكم عندنا سوى ما قلناه لكم بألسنتنا هذه.
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا القول الإمام الآلوسى، فقد صدر الأقوال التي ذكرها به، فقال ما ملخصه: قوله فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أى: أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به، وقالوا لهم إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أى: على زعمكم، وهي البينات التي
(1) تفسير ابن جرير ج 13 ص 127.
أظهروها حجة على صحة رسالتهم، ومرادهم بالكفر بها: الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم
…
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال: والذي يطابق المقام، وتشهد له البلاغة: هو الوجه الأول، ونص غير واحد على أنه الوجه القوى، لأنهم حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار، حيث جمعوا في الإنكارين: الفعل والقول، ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يتمهلوا، بل عقدوا دعوتهم بالتكذيب
…
» «1» .
ومنها: أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم، وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجبا.
وقد رجح هذا الوجه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فقال: «وهذا التركيب لا أعهد مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن: ومعنى فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ.
يحتمل عدة وجوه أنهاها في الكشاف إلى سبعة، وفي بعضها بعد، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل، كراهية أن تظهر دواخل أفواههم، وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل «2» .
ومنها: أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم، لم يردوا عليهم، بل تركوهم إهمالا لشأنهم.
وقد رجح الشوكانى هذا الاتجاه فقال ما ملخصه: «وقال أبو عبيدة- ونعم ما قال- هو ضرب مثل. أى: لم يؤمنوا ولم يجيبوا. والعرب تقول الرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت:
قد رد يده في فيه. وهكذا قال الأخفش، واعترض على ذلك القتيبي فقال: لم يسمع أحد من العرب يقول: رد يده في فيه، إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى عضوا على الأيدى حنقا وغيظا
…
فإن صح ما ذكره أبو عبيدة والأخفش فتفسير الآية به أقرب
…
«3» .
وهذه الأقوال جميعها وإن كانت تتفق في أن الآية الكريمة، قد أخبرت بأبلغ عبارة عما قابل به الأقوام المكذبون رسلهم من سوء أدب
…
إلا أننا نميل إلى ما ذهب إليه الإمام ابن جرير، لأنه أظهر الأقوال في معناها، وقد استشهد له بعضهم بأشعار العرب، ومنها قول الشاعر:
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 173.
(2)
تفسير التحرير والتنوير ج 13 ص 196.
(3)
راجع تفسير الشوكانى ج 3 ص 97 ففيه ما يقرب من عشرة أقوال في معنى الآية.
ترون في فيه غش الحسو
…
د حتى يعض على الأكفا
يعنى أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه «1» .
وقوله- سبحانه- وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ معطوف على قوله إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ.
ومريب: اسم فاعل من أراب. تقول: أربت فلانا فأنا أريبه، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة، فمعنى مريب: موقع في الريبة أى: في القلق والاضطراب.
أى: قال المكذبون لرسلهم إنا كفرنا بما جئتم به من المعجزات والبينات.
وإنا لفي شك كبير موقع في الريبة مما تدعوننا إليه من الإيمان بوحدانية الله، وبإخلاص العبادة له
…
قال الجمل ما ملخصه: «فإن قيل: إنهم أكدوا كفرهم بما أرسل به الرسل.
ثم ذكروا بعد ذلك أنهم شاكون مرتابون في صحة قولهم فكيف ذلك؟
فالجواب: كأنهم قالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به أيها الرسل فإن لم نكن كذلك، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم.
أو يقال: المراد بقولهم «إنا كفرنا بما أرسلتم به» أى بالمعجزات والبينات، وبقولهم:
وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ وهو الإيمان والتوحيد.
أو يقال: إنهم كانوا فرقتين إحداهما جزمت بالكفر، والأخرى شكت
…
«2» .
ثم بين- سبحانه- ما رد به الرسل على المكذبين من أقوامهم فقال: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى....
والاستفهام في قوله أَفِي اللَّهِ شَكٌّ للتوبيخ والإنكار، ومحل الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله- تعالى- وفي وحدانيته.
وقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الفطر بمعنى الخلق والإبداع من غير سبق مثال وأصله: الشق وفصل شيء عن شيء، ومنه فطر ناب البعير أى: طلع وظهر، واستعمل في
(1) تفسير القرطبي ج 9 ص 346.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 516.
الإيجاد والإبداع والخلق لاقتضائه التركيب الذي سبيله الشق والتأليف، أو لما فيه من الإخراج من العدم إلى الوجود.
والمعنى: قال الرسل لأقوامهم على سبيل الإنكار والتعجب من أقوالهم الباطلة: أفي وجود الله- تعالى- وفي وجوب إخلاص العبادة له شك، مع أنه- سبحانه- هو فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى خالقهما ومبدعهما ومبدع ما فيهما على أحكم نظام، وعلى غير مثال سابق
…
وهو- سبحانه- فضلا منه وكرما «يدعوكم» إلى الإيمان بما جئناكم به من لدنه «ليغفر لكم» بسبب هذا الإيمان «من ذنوبكم ويؤخركم» في هذه الدنيا «إلى أجل مسمى» أى: إلى وقت معلوم عنده تنتهي بانتهائه أعماركم، دون أن يعاجلكم خلال حياتكم بعذاب الاستئصال «رحمة بكم» وأملا في هدايتكم.
فأنت ترى أن الرسل الكرام قد أنكروا على أقوامهم أن يصل بهم انطماس البصيرة إلى الدرجة التي تجعلهم ينكرون وجود الله مع أن الفطر شاهدة بوجوده، وينكرون وحدانيته مع أنه وحده الخالق لكل شيء، ويشركون معه في العبادة آلهة أخرى، مع أن هذه الآلهة لا تضر ولا تنفع.
وجملة فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جيء بها كدليل على نفى الشك في وجوده- سبحانه- وفي وجوب إخلاص العبادة له، لأن وجودهما على هذا النسق البديع يدل دلالة قاطعة على أن لهما خالقا قادرا حكيما، لاستحالة صدور تلك المخلوقات من غير فاعل مختار.
وجملة «يدعوكم
…
» حال من اسم الجلالة، واللام في قوله «ليغفر لكم من ذنوبكم» متعلقة بالدعاء.
أى: يدعوكم إلى الإيمان بنا لكي يغفر لكم.
قال الشوكانى ما ملخصه: «ومن» في قوله «من ذنوبكم» قال أبو عبيدة: إنها زائدة، ووجه ذلك قوله- تعالى- في موضع آخر: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وقال سيبويه:
هي للتبعيض، ويجوز أن يذكر البعض ويراد منه الجميع، وقيل التبعيض على حقيقته ولا يلزم من غفران الذنوب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غفران جميعها لغيرهم
…
وقيل هي للبدل، أى: لتكون المغفرة بدلا من الذنوب
…
«1» .
وقال الجمل: «ويحتمل أن يضمن «ويغفر» معنى يخلص أى: يخلصكم من ذنوبكم،
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 98.
ويكون مقتضاه غفران جميع الذنوب، وهو أولى من دعوى زيادتها» «1» .
وقوله- سبحانه- قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حكاية لرد آخر من الردود السيئة التي قابل بها المكذبون رسلهم.
أى: قال الظالمون لرسلهم الذين جاءوا لهدايتهم، ما أنتم إلا بشر مثلنا في الهيئة والصورة والمأكل والمشرب، تريدون بما جئتمونا به أن تصرفونا وتمنعونا عن عبادة الآلهة التي ورثنا عبادتها عن آبائنا
…
فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أى بحجة ظاهرة تدل على صدقكم وتتسلط هذه الحجة بقوتها على نفوسنا وتجذبها إلى اليقين، من السلاطة وهي التمكن من القهر.
وكأن هؤلاء الظالمين بقولهم هذا، يرون أن الرسل لا يصح أن يكونوا من البشر، وإنما يكونون من الملائكة.
وكأن ما أتاهم به الرسل من حجج باهرة تدل على صدقهم، ليس كافيا في زعم هؤلاء المكذبين للإيمان بهم، بل عليهم أن يأتوهم بحجج محسوسة أخرى، وهكذا الجحود العقلي، والانطماس النفسي يحمل أصحابه على قلب الحقائق، وإيثار طريق الضلالة على طريق الهداية.
وهنا يحكى القرآن أن الرسل- عليهم السلام قد قابلوا هذا السفه من أقوالهم بالمنطق الحكيم، وبالأسلوب المهذب فيقول: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
…
أى: قال الرسل لمكذبيهم على سبيل الإرشاد والتنبيه: نحن نوافقكم كل الموافقة على أننا بشر مثلكم كما قلتم، ولكن هذه المماثلة بيننا وبينكم في البشرية، لا تمنع من أن يتفضل الله على من يشاء التفضل عليه من عباده، بأن يمنحه النبوة أو غيرها من نعمه التي لا تحصى.
فأنت ترى أن الرسل- عليهم السلام قد سلموا للمكذبين دعواهم المماثلة في البشرية، في أول الأمر، ثم بعد ذلك بينوا لهم جهلهم وسوء تفكيرهم، بأن أفهموهم بطريق الاستدراك، أن المشاركة في الجنس لا تمنع التفاضل، فالبشر كلهم عباد الله، ولكنه- سبحانه- يمن على بعضهم بنعم لم يعطها لسواهم..
فالمقصود بالاستدراك دفع ما توهمه المكذبون، من كون المماثلة في البشرية تمنع اختصاص بعض البشر بالنبوة.
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 517.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ مجاراة لأول مقالتهم إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كما تقولون، وهذا كالقول بالموجب، لأن فيه إطماعا في الموافقة، ثم كروا على قولهم بالإبطال فقالوا: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
أى: إنما اختصنا الله- تعالى- بالرسالة بفضل منه وامتنان، والبشرية غير مانعة لمشيئته- جل وعلا-. وفيه دليل على أن الرسالة عطائية، وأن ترجيح بعض الجائز على بعض بمشيئته- تعالى- ولا يخفى ما في العدول عن «ولكن الله منّ علينا» ، إلى ما في النظم الجليل منهم- عليهم السلام «1» .
وقوله- سبحانه-: وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ حكاية لرد الرسل على قول المكذبين لهم فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.
أى: وقال الرسل للمكذبين من أقوامهم- أيضا-: وما صح وما استقام لنا نحن الرسل أن نأتيكم- أيها الضالون- بحجة من الحجج، أو بخارق من الخوارق التي تقترحونها علينا، إلا بإذن الله وإرادته وأمره لنا بالإتيان بما اقترحتم، فنحن عباده ولا نتصرف إلا بإذنه.
ثم أكد الرسل تمسكهم بالمضي في دعوتهم فقالوا- كما حكى القرآن عنهم- وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
والتوكل على الله معناه: الاعتماد عليه، وتفويض الأمور إليه، مع مباشرة الأسباب التي أمر- سبحانه- بمباشرتها.
أى: وعلى الله وحده دون أحد سواه، فليتوكل المؤمنون، الصادقون، دون أن يعبئوا بعنادكم ولجاجكم، ونحن الرسل على رأس هؤلاء المؤمنين الصادقين.
فالجملة الكريمة أمر من الرسل لمن آمن من قومهم بالتوكل على الله وحده، وقد قصدوا بهذا الأمر أنفسهم قصدا أوليا، بدليل قولهم بعد ذلك- كما حكى القرآن عنهم- وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا.
أى: وما عذرنا إن تركنا التوكل على الله- تعالى- والحال أنه- عز وجل قد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، فقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها، وهي طريق إخلاص العبادة له والاعتماد عليه وحده في كل شئوننا.
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 177. [.....]