الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 89]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
والزينة: اسم لما يتزين به الإنسان من ألوان اللباس وأوانى الطعام والشراب، ووسائل الركوب.. وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في زينته ورفاهيته.
والمال: يشمل أصناف الزينة، ويشمل غير ذلك مما يتملكه الإنسان.
والمعنى: وقال موسى- عليه السلام مخاطبا ربه، بعد أن فقد الأمل في إصلاح فرعون وملئه: يا ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وأصحاب الرياسات منهم، الكثير من مظاهر الزينة والرفاهية والتنعم، كما أعطيتهم الكثير من الأموال في هذه الحياة الدنيا.
وهذا العطاء الجزيل لهم قد يضعف الإيمان في بعض النفوس، إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الناظرين إليها، وإما بالترهيب الذي يملكه هؤلاء المنعمون، بحيث يصيرون قادرين على إذلال غيرهم.
واللام في قوله رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ لام العاقبة والصيرورة أى: أعطيتهم ما أعطيتهم من الزينة والمال، ليخلصوا لك العبادة والطاعة، وليقابلوا هذا العطاء بالشكر، ولكنهم لم يفعلوا بل قابلوا هذه النعم بالجحود والبطر، فكانت عاقبة أمرهم الخسران والضلال، فأزل يا مولانا هذه النعم من بين أيديهم.
قال القرطبي: «اختلف في هذه اللام، وأصح ما قبل فيها- وهو قول الخليل وسيبويه- أنها لام العاقبة والصيرورة، وفي الخبر: «إن لله- تعالى- ملكا ينادى كل يوم:
لدوا للموت وابنوا للخراب» أى: لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال، صار كأنه أعطاهم ليضلوا» «1» .
وقال صاحب المنار: «قوله: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أى: لتكون عاقبة هذا العطاء إضلال عبادك عن سبيلك الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل والعمل الصالح، ذلك لأن الزينة سبب الكبر والخيلاء والطغيان على الناس، وكثرة الأموال تمكنهم من ذلك، وتخضع رقاب الناس لهم، كما قال- تعالى- إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.
فاللام في قوله لِيُضِلُّوا تسمى لام العاقبة والصيرورة، وهي الدالة على أن ما بعدها أثر وغاية فعلية لمتعلقها، يترتب عليه بالفعل لا بالسببية، ولا بقصد فاعل الفعل الذي تتعلق به كقوله- تعالى- فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً
…
«2» .
ومنهم من يرى أن هذه اللام للتعليل، والفعل منصوب بها، فيكون المعنى:
وقال موسى مخاطبا ربه: يا ربنا إنك قد أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، وإنك يا ربنا قد أعطيتهم ذلك على سبيل الاستدراج ليزدادوا طغيانا على طغيانهم، ثم تأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وشبيه بهذه الجملة في هذا المعنى قوله- تعالى-: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «3» .
وقد رجح هذا المعنى الإمام ابن جرير فقال: «والصواب من القول في ذلك عندي أنها لام كي، ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك عبادك عقوبة منك لهم، وهذا كما قال جل ثناؤه لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. «4» .
ومنهم من يرى أن هذه اللام هي لام الدعاء، وأنها للدعاء عليهم بالزيادة من الإضلال والغواية فيكون المعنى:
وقال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا اللهم يا ربنا زدهم ضلالا على ضلالهم.
(1) تفسير القرطبي ج 8 ص 374.
(2)
راجع تفسير المنار ج 11 ص 473.
(3)
سورة آل عمران الآية 178.
(4)
تفسير ابن جرير ج 7 ص 108.
وقد سار على هذا الرأى صاحب الكشاف. فقد قال ما ملخصه: «فإن قلت: ما معنى قوله: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ؟
قلت: هو دعاء بلفظ الأمر كقوله: ربنا اطمس واشدد. وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا، وردد عليهم النصائح والمواعظ زمانا طويلا. وحذرهم من عذاب الله ومن انتقامه، وأنذرهم سوء عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرا وعلى الإنذار إلا استكبارا، وعن النصيحة إلا نبوا، ولم يبق له مطمع فيهم. وعلم بالتجربة وطول الصحبة أو بوحي من الله، أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال.
لما رأى منهم كل ذلك: اشتد غضبه عليهم، وكره حالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره وهو ضلالهم.
فكأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال..» «1» .
وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة، لكل واحد منها اتجاهه في التعبير عن ضيق موسى- عليه السلام لإصرار فرعون وشيعته على الكفر، ولما هم فيه من نعم لم يقابلوها بالشكر، بل قابلوها بالجحود والبطر.
وإن كان الرأى الأول هو أظهرها في الدلالة على ذلك، وأقربها إلى سياق الآية الكريمة.
قال الشوكانى: «وقرأ الكوفيون لِيُضِلُّوا بضم الياء. أى: ليوقعوا الإضلال على غيرهم. وقرأ الباقون بالفتح أى يضلون في أنفسهم» «2» .
وقوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ. فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ دعا عليهم بما يستحقونه من عقوبات بسبب إصرارهم على الكفر والضلال.
والطمس: الإهلاك والإتلاف ومحو أثر الشيء يقال: طمس الشيء ويطمس طموسا إذا زال بحيث لا يرى ولا يعرف لذهاب صورته.
والشد: الربط والطبع على الشيء، بحيث لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخل فيه ما هو خارج منه.
والمعنى: وقال موسى مخاطبا ربه: يا ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، وقد أعطيتهم ذلك ليشكروك، ولكنهم لم يفعلوا، بل قابلوا عطاءك بالجحود، اللهم
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 25.
(2)
تفسير فتح القدير، للإمام الشوكانى ج 2 ص 470. [.....]
يا ربنا اطمس على أموالهم بأن تهلكها وتزيلها وتمحقها من بين أيديهم، حتى ترحم عبادك المؤمنين، من سوء استعمال الكافرين لنعمك في الإفساد والأذى.
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ بأن تزيدها قسوة على قسوتها، وعنادا على عنادها مع استمرارها على ذلك، حتى يأتيهم العذاب الأليم الذي لا ينفع عند إتيانه إيمان، ولا تقبل معه توبة، لأنهما حدثا في غير وقتهما.
قال الجمل: «وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى- عليه السلام «1» .
فقال: قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
أى: قال الله- تعالى- لموسى وهارون- عليهما السلام: أبشرا فقد أجبت دعوتكما في شأن فرعون وملئه فَاسْتَقِيما على أمرى، وامضيا في دعوتكما الناس إلى الحق، وأثبتا على ما أنتما عليه من الإيمان بي والطاعة لأمري.
وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ما جرت به سنتي في خلقي، ولا يدركون طريق الخير من طريق الشر.
وكان الجواب من الله- تعالى- لموسى وهارون، مع أن الداعي موسى فقط كما صرحت الآيات السابقة، لأن هارون كان يؤمن على دعاء أخيه موسى والتأمين لون من الدعاء.
هذا، ومن الحكم والعظات التي نأخذها من هاتين الآيتين الكريمتين: أن من علامات الإيمان الصادق. أن يكون الإنسان غيورا على دين الله، ومن مظاهر هذه الغيرة أن يتمنى زوال النعمة من بين أيدى المصرين على جحودهم وفسوقهم وبطرهم لأن وجود النعم بين أيديهم كثيرا ما يكون سببا في إيذاء المؤمنين، وإدخال القلق والحيرة على نفوس بعضهم.
وأن الداعي متى توجه إلى الله- تعالى- بقلب سليم، ولسان صادق، كان دعاؤه مرجو القبول عنده- سبحانه-.
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 370.
(2)
تفسير ابن كثير ج 4 ص 225.