الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على المضي في تبليغ دعوته.
أى: سر في طريقك- أيها الرسول الكريم- غير مبال بما يصدر عنهم من مضايقات لك، والله- تعالى- حافظ لأحوالك وأحوالهم، وسيجازيهم بالجزاء الذي يتناسب مع جرائمهم وكفرهم.
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها تعبر أكمل تعبير عن الفترة الحرجة التي نزلت فيها هذه السورة الكريمة، فقد سبق أن قلنا عند التعريف بها، إنها نزلت في الفترة التي أعقبت وفاة النصيرين الكبيرين للرسول صلى الله عليه وسلم وهما أبو طالب وخديجة- رضى الله عنها- وكانت هذه الفترة من أشق الفترات على الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تكاثر فيها إيذاء المشركين له ولأصحابه..
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة تحث النبي صلى الله عليه وسلم على الثبات والصبر، وعلى تبليغ ما يوحى اليه، مع عدم المبالاة بما يضعه المشركون في طرقه من عقبات..
هذا، وقد سبق أن بينا عند التعريف بهذه السورة- أيضا- أن من العلماء من يرى أن هذه الآية مدنية، ولعلك معى- أيها القارئ الكريم- في أنه لا يوجد أى دليل نقلي أو عقلي يؤيد ذلك، بل الذي تؤيده الأدلة ويؤيده سبب النزول أن الآية مكية كبقية السورة.
وهناك آيات أخرى مكية تشبه هذه الآية في أسلوبها وموضوعها، ومن هذه الآيات قوله- تعالى-: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها
…
«1» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك زعما آخر من مزاعمهم الكثيرة، وهو دعواهم أن القرآن مفترى، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من أمثال هذا القرآن المفترى في زعمهم، فقال- تعالى-:
[سورة هود (11) : الآيات 13 الى 14]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
(1) سورة الفرقان الآيتان 7، 8.
وأَمْ هنا منقطعة بمعنى بل التي للإضراب وهو انتقال المتكلم من غرض إلى آخر والافتراء: الكذب المتعمد الذي لا توجد أدنى شبهة لقائله.
والمعنى: إن هؤلاء المشركين لم يكتفوا بما طلبوه منك يا محمد، بل تجاوزوا ذلك إلى ما هو أشد جرما، وهو قولهم إنك افتريت القرآن الكريم، واخترعته من عند نفسك.
وقوله: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
أمر من الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم، ويكبت نفوسهم.
أى: قل لهم يا محمد على سبيل التحدي: إن كان الأمر كما تزعمون من أنى قد افتريت هذا القرآن، فأنا واحد منكم وبشر مثلكم فهاتوا أنتم عشر سور مختلقات من عند أنفسكم، تشبه ما جئت به في حسن النظم، وبراعة الأسلوب، وحكمة المعنى، وادعوا لمعاونتكم في بلوغ هذا الأمر كل من تتوسمون فيه المعاونة غير الله- تعالى- لأنه هو- سبحانه- القادر على أن يأتى بمثله.
وجواب الشرط في قوله- سبحانه- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ محذوف دل عليه ما تقدم.
أى: إن كنتم صادقين في زعمكم أنى افتريت هذا القرآن، فهاتوا أنتم عشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم.
والمتأمل لآيات القرآن الكريم، يرى أن الله- تعالى- قد تحدى المشركين تارة بأن يأتوا بمثله كما في سورتي الإسراء والطور. ففي سورة الإسراء يقول- سبحانه- قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1» وفي سورة الطور يقول- سبحانه- فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ «2» .
وتارة تحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله كما في هذه السورة، وتارة تحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله كما في سورتي البقرة ويونس، ففي سورة البقرة وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
…
«3» وفي سورة يونس يقول- سبحانه-: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «4» . وقد عجزوا عن الإتيان بمثل أقصر سورة، وهم من هم في فصاحتهم، فثبت أن هذا القرآن من عند الله- تعالى-.
وقوله- سبحانه- فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ، وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(1) الآية 88.
(2)
الآية 34.
(3)
الآية 23.
(4)
الآية 38.
إرشاد لهؤلاء المشركين إلى طريق الحق والسعادة لو كانوا يعقلون، إذ الخطاب موجه إليهم لعلهم يثوبون إلى الرشد.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الذين تحديتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن، وأبحت لهم أن يستعينوا في ذلك بمن شاءوا من البشر، قل لهم: فإن لم يستجب لدعوتكم من استعنتم بهم في الإتيان بعشر سور من مثل القرآن.. وهم لن يستجيبوا لكم قطعا- فَاعْلَمُوا أيها الناس أن هذا القرآن أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وحده، وبقدرته وحدها. ولا يقدر على إنزاله بتلك الصورة أحد سواه.
واعلموا- أيضا- أنه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ- سبحانه- فهو الإله الحق، الذي تعنو له الوجوه، وتخضع له القلوب، وتتجه إليه النفوس بالعبادة والطاعة.
فَهَلْ أَنْتُمْ أيها المشركون بعد كل تلك الأدلة الواضحة الدالة على وحدانية الله، وعلى أن هذا القرآن من عنده مُسْلِمُونَ أى: داخلون في الإسلام، متبعون لما جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالعلم في قوله فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ
…
: الاعتقاد الجازم البالغ نهاية اليقين، أى فأيقنوا أن هذا القرآن ما أنزل إلا ملابسا لعلم الله- تعالى- المحيط بكل شيء.
والفاء في قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ للتفريع، والاستفهام هنا المقصود به الحض على الفعل وعدم تأخيره.
أى: فهل أنتم بعد كل هذه الأدلة على صدق ما جاءكم به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تشكون في أن الإسلام هو الدين الحق؟ إن الشك في ذلك لا يكون من عاقل، فبادروا إلى الدخول في الإسلام إن كنتم من ذوى العقول التي تعقل ما يقال لها.
ويرى بعض العلماء أن الخطاب في هذه الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو إليه وحده صلى الله عليه وسلم وعلى سبيل التعظيم وعليه يكون المعنى:
«فإن لم يستجب لكم- أيها المؤمنون- هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوة الحق، بعد أن ثبت عجزهم عن الإتيان بما تحديتموهم به فَاعْلَمُوا أى فازدادوا علما ويقينا وثباتا، بأن هذا القرآن «إنما أنزل بعلم الله» الذي لا يعزب عنه شيء، وازدادوا علما بأنه لا إله إلا هو- سبحانه- مستحق للعبادة والطاعة، فهل أنتم بعد كل ذلك مُسْلِمُونَ أى ثابتون على الإسلام، وملتزمون بكل أوامره ونواهيه.
ومع أننا نرى أن القولين صحيحان من حيث المعنى، إلا أننا نفضل الرأى الأول القائل