الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسول صلى الله عليه وسلم أى: أنه في زعمهم يقول كلاما ليسحرهم به، وليصرفهم عما كان عليه آباؤهم وأجدادهم.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك لونا من ألوان غرور المشركين، كما بين أحوال بعض الناس في حالتي السراء والضراء فقال- تعالى-:
[سورة هود (11) : الآيات 8 الى 11]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
قال القرطبي ما ملخصه: الأمة: اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه: فالأمة تكون الجماعة، كقوله- تعالى-: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ
…
والأمة: أيضا أتباع الأنبياء عليهم السلام، والأمة: الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به، كقوله- تعالى- إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً والأمة: الدين والملة، كقوله- تعالى-: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ والأمة: الحين والزمان كقوله- تعالى-: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ والأمة:
القامة وهو طول الإنسان وارتفاعه، يقال من ذلك: فلان حسن الأمة، أى القامة، والأمة:
الرجل المنفرد بدينه وحده، لا يشركه فيه أحد. قال صلى الله عليه وسلم يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده» والأمة: الأم. يقال: «هذه أمة زيد، أى أم زيد
…
» «1» والمراد بالأمة هنا: الحين والزمان والمدة.
والمعنى: ولئن أخرنا- بفضلنا وكرمنا- عن هؤلاء المشركين «العذاب» المقتضى
(1) تفسير القرطبي ج 9 ص 10.
لجحودهم لآياتنا، وتكذيبهم لرسلنا «إلى أمة معدودة» أى: إلى وقت معين من الزمان على حساب إرادتنا وحكمتنا: «ليقولن» على سبيل التهكم والاستهزاء، واستعجال العذاب، «ما يحبسه» أى: ما الذي جعل هذا العذاب الذي حذرنا منه محمد صلى الله عليه وسلم محبوسا عنا، وغير نازل بنا
…
ولا شك أن قولهم هذا، يدل على بلوغهم أقصى درجات الجهالة والطغيان، حيث قابلوا رحمة الله- تعالى- المتمثلة هنا في تأخير العذاب عنهم، بالاستهزاء والاستعجال، ولذا رد الله- تعالى- عليهم بقوله: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أى: ألا إن ذلك العذاب الذي استعجلوه واستخفوا به، يوم ينزل بهم، لن يصرفه عنهم صارف، ولن يدفعه عنهم دافع، بل سيحيط بهم من كل جانب، بسبب استهزائهم به وإعراضهم عمن حذرهم منه.
واللام في قوله وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ موطئة للقسم، وجواب القسم قوله «ليقولن ما يحبسه» .
والأقرب إلى سياق الآية أن يكون المراد بالعذاب هنا: عذاب الاستئصال الدنيوي، إذ هو الذي استعجلوا نزوله، أما عذاب الآخرة فقد كانوا منكرين له أصلا، كما حكى عنهم- سبحانه- في الآية السابقة في قوله: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
قال الآلوسى: والظاهر بأن المراد العذاب الشامل للكفرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة قال: لما نزل اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا، فتناهى القوم قليلا، ثم عادوا إلى أعمالهم السوء: فأنزل الله- تعالى- أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فقال أناس من أهل الضلالة: هذا أمر الله- تعالى- قد أتى، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم مكر السوء، فأنزل الله هذه الآية» «1» .
وفي قوله- سبحانه- إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ إيماء إلى أن تأخير العذاب عنهم ليس لمدة طويلة، لأن ما يحصره العد: جرت العادة في أساليب العرب أن يكون قليلا، ويؤيد ذلك أنه بعد فترة قليلة من الزمان نزل بهم في غزوة بدر القتل الذي أهلك صناديدهم، والأسر الذي أذل كبرياءهم.
وافتتحت جملة أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ بأداة الاستفتاح أَلا للاهتمام
(1) تفسير الآلوسى ج 12 ص 14.
بمضمون الخبر، وللإشارة الى تحقيقه، وإدخال الروع في قلوبهم.
وعبر بالماضي حاقَ مع أنه لم ينزل بهم بعد، للإشارة، إلى أنه آت لا ريب فيه، عند ما يأذن الله- تعالى- بذلك.
ثم بين- سبحانه- جانبا من طبيعة بنى آدم إلا من عصم الله فقال- تعالى- وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ....
والمراد بالإنسان هنا الجنس على أرجح الأقوال، فيشمل المسلم وغيره، بدليل الاستثناء الآتي بعد ذلك في قوله إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: المراد بالإنسان هنا مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه- تعالى- استثنى منه قوله إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر.
الثاني: أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله- سبحانه-: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ....
الثالث: أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز. قال ابن جريج في تفسير هذه الآية: «يا ابن آدم إذا نزلت بك نعمة من الله فأنت كفور، فإذا نزعت منك فيؤوس قنوط» «1» .
وقيل المراد بالإنسان هنا جنس الكفار فقط، لأن هذه الأوصاف تناسبهم وحدهم.
والمراد بالرحمة هنا: رحمة الدنيا، وأطلقت على أثرها وهو النعمة كالصحة والغنى والأمان وما يشبه ذلك من ألوان النعم.
واليؤوس والكفور: صيغتا مبالغة للشخص الكثير اليأس، والكفر، والقنوط: الشديد الجحود لنعم الله- تعالى- يقال: يئس من الشيء ييأس، إذا قنط منه.
والمعنى: ولئن منحنا الإنسان- بفضلنا وكرمنا- بعض نعمنا، كالصحة والغنى والسلطان والأمان ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ أى: ثم سلبناها منه، لأن حكمتنا تقتضي ذلك.
إِنَّهُ في هذه الحالة لَيَؤُسٌ كَفُورٌ أى: لشديد اليأس والقنوط من أن يرجع اليه ما سلب منه أو مثله، ولكثير الكفران والجحود لما سبق أن تقلب فيه من نعم ومنن.
قال الشوكانى: وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة
(1) تفسير الفخر الرازي ج 17 ص 190 طبعة عبد الرحمن محمد.
ينعم الله بها عليه: لأن الإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم» «1» .
وفي قوله «ثم نزعناها منه» إشارة إلى شدة تعلقه بهذه النعم، وحرصه على بقائها معه.
وجملة إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ جواب القسم، وأكدت بإن وباللام، لقصد تحقيق مضمونها، وأنه حقيقة ثابتة.
وهي تصوير بليغ صادق لما يعترى نفس هذا الإنسان عند ما تسلب منه النعمة بعد أن ذاقها، فهو- لقلة إيمانه وضعف ثقته بربه- قد فقد كل أمل في عودة هذه النعمة إليه، ولكأن هذه النعمة التي سلبت منه لم يرها قبل ذلك.
ثم بين- سبحانه- حالة هذا الإنسان اليؤوس الكفور، عند ما تأتيه السراء بعد الضراء فقال: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ.
والنعماء: النعمة التي يظهر أثرها على صاحبها، واختير لفظ النعماء لمقابلته للضراء.
والضراء: ما يصيب الإنسان من مصائب يظهر أثرها السيئ عليه.
والمراد بالسيئات: الاضرار التي لحقته كالفقر والمرض.
والمعنى: ولئن أذقنا هذا الإنسان اليؤوس الكفور نَعْماءَ بعد ضراء مسته كصحة بعد مرض، وغنى بعد فقر، وأمن بعد خوف، ونجاح بعد فشل..
لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أى: ليقولن في هذه الحالة الجديدة ببطر وأشر، وغرور وتكبر، لقد ولت المصائب عنى الأدبار، ولن تعود إلى.
وعبر- سبحانه- في جانب الضراء بالمس، للإشارة إلى أن الإصابة بها أخف مما تذوقه من نعماء، وأن لطف الله شامل لعباده في كل الأحوال.
وجملة إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ جواب القسم.
أى: إنه لشديد الفرح والبطر بالنعمة: كثير التباهي والتفاخر بما أعطى منها، مشغول بذلك عن القيام بما يجب عليه نحو خالقه من شكر وثناء عليه- سبحانه-.
وإنها- أيضا- لصورة صادقة لهذا الإنسان العجول القاصر، الذي يعيش في لحظته الحاضرة، فلا يتذكر فيما مضى، ولا يتفكر فيما سيكون عليه حاله بعد الموت، ولا يعتبر بتقلبات الأيام، فهو يؤوس كفور إذا نزعت منه النعمة، وهو بطر فخور إذا عادت إليه، وهذا من أسوأ ما تصاب به النفس الإنسانية من أخلاق مرذولة.
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 2 ص 485.