الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: معتدلو الشيعة يتصدون لحركة الغلاة
هذه حركة من حركات التشكيك والتضليل قام بها غلاة الشيعة الاثني عشرية، وسنعود للحديث عن بعض هؤلاء الغلاة عند تناولنا لكتبهم، ولكن المهم هنا هو أن المعتدلين – إلى حد ما - من إخواننا الجعفرية قد تصدوا لهذه الحركة قديماً وحديثاً، وكشفوا القناع عن هذا الباطل، وفندوا مزاعم القائلين بالتحريف، وبينوا أن ما ذكر من روايات منسوبة لأهل البيت ـ تمسك بها القائلون بالتحريف ـ منها ما يحتمل التأويل ولا يفيد وقوع التحريف، والباقي يضرب به عرض الحائط. وأشهر من تصدى منهم لحركة التضليل في القديم محمد بن بابويه القمي، الملقب بالصدوق صاحب كتاب (من لا يحضره الفقيه)، أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية، والسيد الشريف المرتضى، وتلميذه الشيخ الطوسي: صاحب (تفسير التبيان)، وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة السابقة، وشيخ مفسري الجعفرية أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي (1).ومما ذكره السيد المرتضى قوله:" القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد "(2).وقال: " إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأن كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته "(3).وقال الشيخ الطوسي: " أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى، وهو الظاهر في الروايات. غير أنه رويت روايات كثيرة، من جهة الخاصة والعامة، بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملا، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها. ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته، لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه "(4).وقال الصدوق: " اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين: وهو ما في أيدى الناس، وليس بأكثر من ذلك
…
ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب " (5).
(1) وفاة هؤلاء على الترتيب: (381، 436، 460، 548) هـ.
(2)
((مقدمة مجمع البيان)) (ص 15).
(3)
((مقدمة مجمع البيان)) (ص 15) وانظر رأى الطبرسي في الصفحة ذاتها.
(4)
((التبيان)) (1/ 3).
(5)
((رسالته في الاعتقادات)): (ص 93).
هذا موقف المعتدلين نسبيا في القديم، أما في الحديث فأكثر شيعة اليوم يتفقون في الظاهر مع جمهور المسلمين في أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين بلا زيادة أو نقصان، ومن شذ برأيه منهم، حتى كاد يخرج عن الإسلام، فلا يعتد به، ولذا قال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: يعتقد الشيعة الإمامية " أن الكتاب الموجود في أيدى المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه ـ أي إلى محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والتحدي، ولتعليم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ بنص الكتاب العظيم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد، لا تفيد علماً ولا عملاً، فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار، أو يضرب بها الجدار "(1).وعندما خرج صاحب (فصل الخطاب) بكتابه تصدى له كثير من علماء الشيعة وسفهوا رأيه، وبينوا خطأ ما جاء به جملة وتفصيلاً. منهم ـ على سبيل المثال ـ السيد أبو القاسم الخوئي مرجعهم السابق بالعراق (2) والشيخ محمد جواد البلاغي النجفي (3) والشيخ محمد تقي الحكيم (4). فلسنا في حاجة إذن إلى ذكر شبهات الضالين، وبيان بطلانها، فقد تكفل إخواننا الجعفرية بهذا، بل إن الإخباريين الذين يرون صحة جميع الأخبار الواردة عن أهل البيت، ولذا ذهبوا إلى القول بالتحريف، وجدنا منهم من ينكر هذا التحريف. قال مرجعهم السابق بالكويت:" مذهبنا ـ ومذهب كل مسلم ـ بأن القرآن الكريم المتداول بين أيدينا ليس فيه أي تحريف بزيادة أو نقصان، وما ذكر في بعض الأحاديث بأن فيه تحريفاً ونقصاناً فهو مخالف لعقيدتنا في القرآن الذي هو الذكر المحفوظ، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "(5).
هذا اتجاه طيب، وهداية مرجوة، فلعل الله عزوجل يهدي باقي إخواننا الجعفرية الصراط المستقيم، وإن كان هؤلاء الذين يمثلون جانب الاعتدال إلى حد ما في المذهب الجعفري عز عليهم أن يكون الغلاة الضالون القائلون بالتحريف جعفريين، ولذا حاولوا إبعاد هذه التهمة عمن له مكانة عالية بينهم، وإلصاقها بجمهور المسلمين! ومن المقطوع به أن جمهور المسلمين ليس منهم من يقول بالتحريف.
فلا نعرف أحداً من جمهور المسلمين يقول بأن الصحابة الكرام أسقطوا شيئاً من القرآن الكريم كما قال غلاة الجعفرية، والجعفرية يدركون هذا تماماً ولذا حاولوا نسبة هذا الجرم الشنيع لغيرهم بقولهم بأن القول بنسخ التلاوة قول بالتحريف، ليصلوا من هذا إلى أن أكثر أهل السنة قائلون بالتحريف!
(1)((أصل الشيعة وأصولها)) (ص 133).
(2)
انظر كتابه ((البيان)) (ص 215 ـ 278) وبعد بحثه قال تحت عنوان " النتيجة "(ص 278): " ومما ذكرناه: قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه بحب القول به، والحب يعمى ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته ".
(3)
انظر (مقدمته لتفسير شبر)(ص 16: 19).
(4)
راجع كتابه ((الأصول العامة للفقه المقارن)) (ص 107: 117).
(5)
(تعليق على مقال)(ص 13).
ونسخ التلاوة يعني أن آيات نزلت، ثم أمر الله تعالى برفعها، وقد أتى الله تعالى بمثلها أو بخير منها مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] أي أن الشارع الحكيم هو الذي أمر بهذا الرفع. فهذا النسخ لو سلمنا بوجوده فإنه كما يقول أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور مصطفى زيد: " لا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن في القرآن الكريم الذي تكفل الله ـ عزوجل ـ بحفظه من التغيير والتبديل، وهو الذي جمع بين دفتي المصحف، ولا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن كذلك في الوحي الذي تنزل به جبريل على قلب محمد، ما دام المرفوع منه قد رفع في عهد التنزيل، ولم ترفع منه كلمة واحدة بعد أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. (النسخ في القرآن الكريم 1/ 282: 283).
فما بين الدفتين هو القرآن الكريم الذي أمرنا بتلاوته وتدبره، وتنفيذ أحكامه، بغير زيادة أو نقصان، فكيف يقال بأن النسخ تحريف؟
على أن الجعفرية الذين تصدوا لحركة التضليل في الماضى قائلون بهذا النسخ، بل مدافعون عنه، فكيف غاب هذا عن شيعة اليوم وهم يخلطون بين النسخ والتحريف ليصلوا إلى مأربهم!
ولنذكر مثلاً شيخ الطائفة الطوسي، قال في تفسيره (التبيان) (1/ 13): لا يخلو النسخ في القرآن الكريم من أقسام ثلاثة، أحدها: نسخ حكمه دون لفظه ، الثاني: ما نسخ لفظه دون حكمه كآية الرجم، فإن وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه، والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلا خلاف وهي قوله (والشيخ والشيخة إذا زنيا)، والثالث: ما نسخ لفظه وحكمه، وذلك نحو ما رواه المخالفون عن عائشة أنه كان فيما أنزل الله عشر رضعات ".
وقال في موضع آخر (1/ 394): " وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه دليل على بطلان قولهم، وجاءت أخبار متظافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها ".
والنوع الثالث لأن روايته عن المخالفين ـ أي غير الجعفرية ـ قال عنه الطوسي بأنه:" مجوز وإن لم يقطع بأنه كان "، أما النوع الثاني فإنه يؤيده برواية الشيخ والشيخة، ويقول: بأنها رواية مشهورة، فهذه الرواية من روايات الجعفرية كذلك، ورواها أيضا علي بن إبراهيم القمي الذي ينسب رواياته إلى الإمامين الباقر والصادق انظر (تفسيره)(2/ 95)، وانظر كذلك (مجمع البيان)(1/ 180 ـ 181) لترى اتفاق الطبرسي مع الطوسي في النسخ ".
ولسنا بهذا نؤيد إمكان وقوع هذا النسخ أو عدم إمكانه، ولكنا نبين لإخواننا الجعفرية أن شيخ طائفتهم الذي دافع عن القول بعدم التحريف، دافع عن القول بنسخ التلاوة، لأن النسخ من الشارع الحكيم والتحريف من البشر بعد عصر التنزيل، فالنسخ والتحريف مختلفان تماماً، فكيف إذن يغيب هذا عن مرجع الجعفرية السابق بالعراق فيقول:" غير خفي أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والإسقاط "" (البيان) ص (244) ثم يستمر ليقول: " وعلى ذلك فيمكن أن يدعي أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة! لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة " ثم يقول في ص (225): " قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور، بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم! " ويشير إلى ما ذكره الطبرسي في (مجمع البيان)(1/ 15) من الاستدلال على بطلان القول بالتحريف. ولو استمر مرجع الجعفرية إلى ص (180) لوجد استدلال الطبرسي كذلك على نسخ التلاوة! وما الرأي عند السيد فيمن ذكروا من الضالين القائلين بالتحريف؟ أليسوا من علماء الشيعة؟ أولا يعد أكثرهم عند الشيعة من المحققين؟ كالقمي، والعياشي، والكليني، والنعماني، والمجلسي وغيرهم.
أفلا يذكر السيد الخوئي ما ذهب إليه في كتابه (معجم رجال الحديث)(1/ 3 - 64) من صحة تفسير علي بن إبراهيم القمي، شيخ الكليني، وأن روايات كتاب (التفسير) هذا " ثابتة وصادرة من المعصومين عليهم السلام، وأنها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة "؟ أو لم يقرأ السيد تلك الروايات ليرى فيها النص على القول بتحريف القرآن الكريم؟ وقد حكم هو بصحتها! وإذا صدر هذا منه فماذا تنتظر من غيره؟! وبعد: فقد أوجزت هنا سائلاً الله تعالى ألا أكون تركت ما يجب ذكره، أو ذكرت ما يجب تركه.
المصدر:
مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص471