المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ب- موقف المعتدلين منهم: - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ج- القول بجواز التقية القولية دون العملية

- ‌د- أدلة المانعين للتقية

- ‌هـ - أدلة القائلين بجواز التقية

- ‌المطلب الثاني: موقف الخوارج من القعدة

- ‌تمهيد في الولاية والبراءة عند الخوارج

- ‌1 - موقفهم من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم

- ‌ب- موقفهم من بعض كبار الصحابة

- ‌المطلب الثاني: موقف الخوارج من عامة المسلمين المخالفين لهم

- ‌أ- موقف الغلاة منهم:

- ‌ب- موقف المعتدلين منهم:

- ‌المطلب الثالث: موقف الخوارج من أهل الذمة

- ‌المطلب الرابع: حكم الخوارج في أطفال مخالفيهم

- ‌المبحث الأول: الحوار والمناقشة وإزالة الشبه

- ‌المبحث الثاني: الوعظ والنصيحة

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: ذم الخوارج وذم صنيعهم، ونشر النصوص النبوية الواردة في حقهم

- ‌المبحث الخامس: تحذير الناس من مسلكهم ببيان سوء فعلتهم، وإنزال نصوص قرآنية فيهم حتى لا يغتر بهم

- ‌المبحث السادس: هجرهم

- ‌المبحث السابع: الإجابة عن أسئلتهم، وعدم صدهم، ومراسلتهم إن دعت الحاجة

- ‌المبحث الثامن: عدم الاعتداء عليهم بل السير فيهم السيرة العادلة

- ‌المبحث التاسع: إعطاء الأمان لمن رجع منهم ومحاولة استصلاحه، وإعلان الكف عمن كف منهم ورجع

- ‌المبحث العاشر: قتالهم

- ‌الفصل الحادي عشر: محاورات علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: دولة الإباضية في عُمان

- ‌المطلب الثاني: دولة الإباضية في المغرب

- ‌أولا: موقف الإباضية من سائر المخالفين

- ‌ثانيا: موقف الإباضية من الصحابة

- ‌المطلب الرابع: عقائد الإباضية

- ‌المطلب الخامس: فقه الإباضية

- ‌المبحث الثاني: جماعة التكفير والهجرة (جماعة المسلمين)

- ‌المطلب الأول: التعريف

- ‌أولا: التأسيس

- ‌ثانيا: من أبرز الشخصيات

- ‌المطلب الثالث: الأفكار والمعتقدات

- ‌المطلب الرابع: مبادئهم وأصولهم

- ‌أولا: مبدأ الحد الأدنى من الإسلام

- ‌ثانيا: مبدأ قاعدة التبين

- ‌ثالثا: مبدأ قاعدة تعارض الفرائض

- ‌رابعا: تكفيرهم لمرتكبي الكبائر:

- ‌خامسا: زعمهم أنهم جماعة آخر الزمان

- ‌سادسا: دعواهم أن زعيمهم هو المهدي المنتظر

- ‌سابعا: زعمهم بتميز جماعتهم

- ‌ثامنا: دعواتهم إلى الأمية ومحاربة التعليم

- ‌تاسعا: دعوتهم إلى اعتزال المجتمع

- ‌المطلب الخامس: أخطاؤهم في المنهج

- ‌أولا: أقوالهم في فهم الكتاب والسنة

- ‌ثانيا: ردهم للإجماع

- ‌ثالثا: طعنهم في الصحابة وردهم لأقوالهم

- ‌رابعا: آراؤهم في التقليد

- ‌المطلب السادس: أماكن الانتشار

- ‌مراجع للتوسع:

- ‌المبحث الأول: الحكم بتكفير الخوارج

- ‌المبحث الثاني: الحكم بعدم تكفير الخوارج

- ‌المبحث الثالث: تعقيب على إطلاق الحكم بالتكفير

- ‌مراجع للتوسع

- ‌المبحث الأول: الشيعة لغة

- ‌المبحث الثاني: الشيعة اصطلاحاً

- ‌الفصل الثاني: متى ظهر التشيع

- ‌الفصل الثالث: المراحل التي مر بها مفهوم التشيع

- ‌الفصل الرابع: أسماء الشيعة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: السبب في تفرق الشيعة

- ‌المبحث الثاني: عدد فرقهم

- ‌المبحث الثالث: السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرق الشيعة

- ‌المطلب الأول: التعريف بالسبئية ومؤسسها

- ‌المطلب الثاني: الأفكار اليهودية المدسوسة

- ‌المطلب الثالث: منكروا ابن سبأ والرد عليهم

- ‌المطلب الرابع: عقيدة ابن سبأ وضلالاته

- ‌المطلب الخامس: موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأهل بيته من ابن سبأ

- ‌المطلب السادس: موقف أتباع عبد الله بن سبأ لما سمعوا بمقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

- ‌المطلب السابع: موقف أهل بيت النبي الكريم من ابن سبأ

- ‌المبحث الثاني: الكيسانية

- ‌المطلب الأول: كيف صارت الكيسانية مختارية

- ‌المطلب الثاني: مؤسس المختارية (المختار بن أبي عبيد الثقفي)

- ‌المطلب الثالث: التعريف بمحمد بن الحنفية واختلاف الشيعة بعده

- ‌المبحث الرابع: الزيدية

- ‌المطلب الأول: التعريف

- ‌المطلب الثاني: نشأة الزيدية

- ‌المطلب الثالث: موقف زيد من حكام بني أمية

- ‌المطلب الرابع: الأفكار والمعتقدات

- ‌المطلب الخامس: الجذور الفكرية والعقائدية

- ‌المطلب السادس: موقفهم من الإمامة

- ‌المطلب السابع: آراء زيد والزيدية

- ‌الجارودية:

- ‌البترية:

- ‌زيدية الجيل والديلم:

- ‌زيدية اليمن:

- ‌المطلب التاسع: فرق جارودية اليمن

- ‌1 - الحُسَيْنية:

- ‌2 - المُطَّرِّفية:

- ‌3 - المخترعة:

- ‌المطلب العاشر: أئمة الزيدية ودورهم في نشر القبورية في اليمن

- ‌المطلب الحادي عشر: الانتشار ومواقع النفوذ

- ‌المطلب الأول: معنى الرافضة لغة واصطلاحاً

- ‌المطلب الثاني: سبب تسميتهم بالرافضة

- ‌المطلب الثالث: وقت وجودهم قبل اتصالهم بزيد

- ‌المطلب الرابع: أسماؤهم قبل اتصالهم بزيد

- ‌المطلب الخامس: فرق الروافض

- ‌المطلب السادس: أسماء الاثنا عشرية وسبب تلك التسميات

- ‌المطلب السابع: سبب انتشار مذهب الرافضة (الاثنا عشرية) وأماكن انتشارهم

- ‌المطلب الثامن: أهم الأماكن التي انتشر فيها هذا المذهب

- ‌المطلب التاسع: فرق الاثني عشرية وانقسامها

- ‌الفصل السابع: دول الشيعة والتأثير في المذهب

- ‌الفصل الثامن: أثر الفلسفة القديمة في الشيعة

- ‌المبحث الأول: معنى نزعة التشيع

- ‌المبحث الثاني: نشأة التشيع

- ‌المبحث الثالث: أثر النزعة المذهبية

- ‌المبحث الرابع: نزعة التشيع

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: الرواة الشيعة:

- ‌المطلب الثاني: المصنفات الشيعية

- ‌المبحث السادس: تناقض كتب الشيعة الإمامية الاثني عشرية

- ‌المبحث الأول: أقسام أخبار الشيعة

- ‌المبحث الثاني: الأدلة عند الشيعة

- ‌المبحث الثالث: طبقات الشيعة

- ‌المبحث الأول: بداية وضع الأخبار

- ‌المبحث الثاني: الأصول الأربعمائة

- ‌المبحث الثالث: الجرح والتعديل عند الشيعة والرافضة

- ‌المبحث الرابع: مفهوم السنة عندهم

- ‌المبحث الخامس: مراتب الحديث

- ‌المبحث السادس: التعارض والترجيح

- ‌المبحث السابع: الكتب الأربعة

- ‌الفصل الثاني عشر: التفسير وأصوله عند الشيعة الاثني عشرية

- ‌المبحث الأول: القرآن الصامت والقرآن الناطق

- ‌المطلب الأول: الإمام كالنبي

- ‌المطلب الثاني: مذهب الإخباريين

- ‌المطلب الثالث: قول الأصوليين

- ‌المطلب الرابع: النسخ بعد عصر النبوة

- ‌المطلب الخامس: التخصيص

- ‌المطلب السادس: كتمان الحكم تقية أو للتدرج

- ‌المطلب الأول: حجية الظواهر

- ‌المطلب الثاني: الباطن

- ‌المطلب الأول: لماذا قالوا بالتحريف

- ‌المطلب الثاني: أشهر كتب الغلاة

- ‌المطلب الثالث: سورة الولاية في كتاب دبستان المذاهب

- ‌المطلب الرابع: من القائلون بالتحريف

- ‌المطلب الخامس: معتدلو الشيعة يتصدون لحركة الغلاة

- ‌المطلب السادس: كتب التفسير الشيعي في القرن الثالث

- ‌الكتاب الأول: تفسير الحسن العسكري

- ‌الكتاب الثاني: تفسير القمي

- ‌الكتاب الثالث: تفسير العياشي

- ‌المطلب الأول: أصول التفسير عند الطوسي والطبرسي

- ‌المطلب الثاني: الفرق بينهما وبين الجمهور

- ‌المطلب الأول: تفسير الصافي

- ‌المطلب الثاني: (البرهان في تفسير القرآن)

- ‌المطلب الثالث: بحار الأنوار

- ‌المطلب الرابع: تأويل الآيات الباهرة

- ‌المطلب الخامس: تفسير شبر:

- ‌المطلب السادس: كنز العرفان

- ‌المطلب السابع: زبدة البيان

- ‌المطلب الثامن: الميزان

- ‌المطلب التاسع: التفسير الكاشف

- ‌المطلب العاشر: البيان

- ‌المبحث السادس: نظرة عامة لباقي كتب التفسير

- ‌الفصل الثالث عشر: الشيعة ومخالفتهم أهل البيت

- ‌الفصل الرابع عشر: موقف الشيعة من الصحابة

- ‌المطلب الأول: موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الصديق

- ‌المطلب الثاني: موقف ابن عباس من الصديق

- ‌المطلب الثالث: موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما من الصديق

- ‌المطلب الرابع: موقف الإمام الرابع علي بن الحسن بن علي من الصديق

- ‌المطلب الخامس: موقف محمد بن علي بن الحسين الملقب بالباقر من الصديق

- ‌المطلب السادس: موقف جعفر بن محمد بن علي من الصديق

- ‌المطلب السابع: موقف الحسن العسكري

- ‌المطلب الثامن: موقف زيد بن علي بن الحسين

- ‌المطلب التاسع: موقف سلمان الفارسي الصحابي الجليل

- ‌المطلب العاشر: خلافة الصديق

- ‌المطلب الحادي عشر: اقتداء علي بالصديق في الصلوات وقبوله الهدايا منه

- ‌المطلب الثاني عشر: مساعدة الصديق في تزويج علي من فاطمة

- ‌المطلب الثالث عشر: المصاهرات بين الصديق وآل البيت

- ‌المطلب الرابع عشر: قضية فدك

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الفاروق عمر رضي الله عنه

- ‌المطلب الثاني: مدح أهل البيت الفاروق

- ‌المطلب الثالث: تزويج المرتضى أم كلثوم من الفاروق

- ‌المطلب الرابع: إكرام الفاروق أهل البيت واحترامه إياهم

- ‌المطلب الخامس: حب آل البيت ومبايعتهم إياه

- ‌المبحث الثالث: موقف أهل البيت من ذي النورين

- ‌الفصل السادس عشر: موقف الشيعة من الخلفاء الراشدين الثلاثة

- ‌الفصل السابع عشر: موقف أهل البيت من أعداء الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث الأول: موقف علي رضي الله عنه من الشيعة

- ‌المطلب الأول: رفض التشيع المطلق، وتقييده بالكتاب والسنة

- ‌المطلب الثاني: التصريح بقول من يُكذب عليه حتى لا تنتشر الشائعات

- ‌المطلب الثالث: الإعلام والإعلان بالحق لدحض الشبهات

- ‌المطلب الرابع: الرد على الشبهات، وتوضيح المشكلات التي يروج لها حال ظهورها

- ‌المطلب الخامس: المناقشة والاحتجاج

- ‌المطلب السادس: البيان والإيضاح قبل إيقاع العقوبة

- ‌المطلب السابع: إيقاع العقوبة على من جاء بالبدعة ولو ادعى التشيع

- ‌المطلب الثامن: التحذير منهم ومن كلامهم، وزجر من ينقل أقوالهم

- ‌المطلب التاسع: التحذير من غدر الشيعة بأئمتها، وبيان أنه لا يوثق بهم ولا بتشيعهم

- ‌المطلب العاشر: إعلان البراءة ممن يتخذ التشيع له ستارا لنشر البدع وهدم الدين

- ‌المطلب الحادي عشر: الوصية بالاعتدال في الحب، وبيان معنى التشيع الحق المطلوب لآل البيت

- ‌المطلب الثاني عشر: حكمهم

- ‌الفصل الثامن عشر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة:

- ‌المبحث الأول: عداء الشيعة الاثني عشرية للأئمة الأربعة:

- ‌المبحث الثاني: اتهام الأئمة الأربعة بإحداث مذاهب مخالفة للكتاب والسنة

- ‌المبحث الثالث: دعوى الإمامية أن المذاهب الأربعة تجري وفق هوى السلطات:

الفصل: ‌ب- موقف المعتدلين منهم:

‌ب- موقف المعتدلين منهم:

ورغم ما تقدم من تشدد الخوارج تجاه مخالفيهم إلا أننا نجد بعض الفرق منهم قد خففت من وطأتها وإن كان تخفيفا لا يكاد يذكر، فنجد مثلا الأخنسية منهم يحرمون الغدر وشبهه بمخالفهم، أو قتله قبل الدعوة ما دام شخصا مجهول الحال، أما إذا عرف بما يوجب قتله عندهم فإنه يقتل كيف ما كان، وهذا ما يقوله الأشعري عنهم:"ويحرمون الاغتيال والقتل في السر، وإن يبدأ بأحد من أهل البغي من أهل القبلة بقتال حتى يدعى إلا من عرفوه بعينه"(1).بل وصل بهم التسامح إلى أن جوزوا تزويج المسلمات من مخالفيهم المشركين أهل الكبائر والذنوب، وهذا ما يرويه الشهرستاني عنهم بقوله:"وقيل إنهم جوزوا تزويج المسلمات من مشركي قومهم أصحاب الكبائر"(2).ويؤيد ما قاله الشهرستاني عنهم ما جاء في كتاب (الأديان) لمؤلفه الإباضي؛ حيث يذكر أنهم في حكمهم المتقدم يوافقون الإباضية إلا في مسألة سبي وغنيمة مخالفيهم، فإنهم على مذهب الخوارج كما قال عن رئيسهم الأخنس:"وجوز تزويج نساء أهل الكبائر من قومهم على أصول أهل الاستقامة، إلا أنه خالفهم في السبي والغنيمة من أهل القبلة على مذهب الخوارج"(3).

ومثل هذا التسامح الضئيل من الأخنسية نجده عند الحمزية من العجاردة أو العجاردة كلهم على ما جاء في تعبيرات بعض علماء الفرق عنهم، نجد هذه الفرقة لا تبيح قتل مخالفيهم من أهل القبلة أو استحلال أموالهم، إلا بعد إعلان الحرب وخوضها، فإذا قامت الحرب فإن الأموال لا تباح حتى يقتل أصحابها، فيعتبر قتل صاحب المال تحليلا ورفعا للإثم في أخذ ماله، أي أن ارتكاب جريمة القتل تبيح جريمة استحلال ماله في ميزانهم المعكوس. يقول الأشعري فيما يحكيه عن أحد الرواة المسمى زرقان:"وحكى زرقان أن العجاردة أصحاب حمزة لا يرون قتل أهل القبلة ولا أخذ المال في السر حتى يبعث الحرب"(4).أما البغدادي فيعمم الحكم على جميع العجاردة بقوله: "والعجاردة لا يرون أموال مخالفيهم فيئا إلا بعد قتل صاحبه"(5).وأما الشهرستاني فيجعل الحكم ليس للعجاردة ولا للحمزية ولكنه من أقوال عبدالكريم بن عجرد رئيس العجاردة، وأنه مما تفرد به عبدالكريم كما هو الظاهر من قوله عنه:"ولا يرى المال فيئا حتى يقتل صاحبه"(6).

(1)((مقالات الإسلاميين)) (1/ 180، ((الفرق بين الفرق)) (ص101)، ((الملل والنحل)) (1/ 132).

(2)

((الملل والنحل)) (1/ 132).

(3)

من ((كتاب الأديان)) (ص105).

(4)

((المقالات)) (1/ 177).

(5)

((الفرق بين الفرق)) (ص94).

(6)

((الملل والنحل)) (1/ 128).

ص: 27

ولعل أكثر الخوارج اعتدالا تجاه مخالفيهم وأكثر تسامحا معهم والشخصية المثالية لدى الخوارج بل والشيعة أيضا هو أبو بلال مرداس بن أدية، فقد كان معتدلا زاهدا مجتهدا في العبادة معظما عند كل الخوارج، وكان مسالما، فعندما خرج بأصحابه فارا بدينه من أحكام الظلمة – يعني حكام بني أمية – لقيه أحد أصدقائه فأشار عليه بعدم الخروج خوفا عليه من بطش زياد، فطمأنه بأنه سوف لا يخيف آمنا ولا يجرد سيفا إلا على من قاتله. وكان مما أثار هيجانه وجعله يخرج أن زيادا ذات يوم خطب على المنبر وكان مرداس يسمعه، فكان من قوله:"والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم". وهذا بالطبع ما لا تحتمله الخوارج، إذ يعلن جوره في أحكامه علانية غير مبال بالخوف من الله أو على الأقل من فتنة الناس، فثارت ثائرة مرداس "فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام إذ يقول: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى [النجم: 37 - 41] وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج عقب هذا اليوم" (1).ويثبت المبرد هنا أن المعتزلة والشيعة تنتحله، وأنه حينما أراد الخروج بعدما عيل صبره وانتهى أمله في صلاح حكامه – قال: "والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظلمة تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفصل، والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفا ولا نقاتل إلا من قاتلنا" (2).

(1)((الكامل)) للمبرد (2/ 136).

(2)

((الكامل)) للمبرد (2/ 155، 156).

ص: 28

فهو يرى أنه بين خيارين: إما أن يستكين لظلم الولاة وهذا عظيم أو يجرد السيف في وجوههم وهذا عظيم أيضا لما يترتب عليه من سفك الدماء، ولكنه أراد حلا وسطا وهو الهرب بدينه وعدم تجريد السيف، ولكن هذا الحل لا يمكن أن يقبله الحكام الأمويون بالبداهة. ومن المعتدلين من الخوارج أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، ولكنه اعتدال غير كامل، فقد أحل المقام بين مخالفيه وجوز مناكحتهم وموارثتهم ولكنه اعتبرهم في الأحكام الدنيوية منافقين يظهرون الإسلام ويخفون النفاق، وأما حكمهم عند الله، فقد زعم بأنه حكم المشركين (1).وكذلك صالح بن مسرح، فقد كان يرى أنه يجب دعوة مخالفيه قبل قتالهم؛ لأنه أقطع للعذر وأبلغ في الحجة عليهم، بينما كان شبيب وهو الزعيم الثاني بعد صالح يحبذه على القول بالفتك بمخالفيهم قبل الدعوة، فحينما اجتمع شبيب بصالح بعد المكاتبة بينهما واتفاقهما على الخروج – يروي بنفسه ما جرى بينه وبين صالح بن مسرح فيقول:"لما هممنا بالخروج، اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت يا أمير المؤمنين: كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؛ أنقتلهم قبل الدعاء أو ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك، أما أنا فأر أن نقتل كل من لا يرى رأينا قريبا كان أو بعيدا، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله واستحوذ عليهم الشيطان، فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يرزي عليك والدعاء أقطع لحجتهم وأبلغ في الحجة عليهم، قال: فقلت له: فكيف تر فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا ولنا. قال: فأحسن القول وأصاب رحمة الله عليه وعلينا"(2).

فهذه المحاورة الفقهية السياسية في شأن مخالفيهم تعلقت بأمور هي: هل عليهم دعوة مخالفيهم قبل القتال أو لا؟ وهل الأسرى يجب قتلهم أو استبقاؤهم؟ ثم الحكم في الأموال ثم الغنائم، وهكذا. وهذا يفيد أنهم نوعا ما كانوا أخف وطأة من الأزارقة وإن كانوا قد عقدوا العزم على قتال مخالفيهم أو يذعنوا لطاعتهم؛ لأنهم في نظرهم خارجون عن تطبيق الإسلام الصحيح، فيجب أن توضع الحلول لتلك المسائل التي تعلقت بمخالفيهم، ولهذا فقد أنكر صالح على نافع بن الأزرق غلوه وعلى ابن إباض في تقصيره في الحكم على مخالفيهم، فقال لابن إباض:"برئ الله منك فقد قصرت، وبرئ من ابن الأزرق فقد غلا"(3).

ونحب أن نذكر هنا موقف الإباضية من مخالفيهم، سواء ما قاله علماء الفرق أو ما قالوه هم عن أنفسهم، لنرى مدى التقارب أو التباعد بينهم وبين غيرهم من فرق الخوارج في هذه المسألة.

والواقع أن حكم الإباضية في مخالفيهم قد تميز بنوع من الاعتدال وحب التقارب مع غيرهم، فهم لا يحكمون عليهم بالشرك، وإن كانوا لا يعتبرونهم كاملي الإسلام بل هم كفار.

(1) انظر: ((العقد الفريد)) (1/ 223).

(2)

((تاريخ الطبري)) (6/ 219).

(3)

((الكامل)) لابن الأثير (4/ 168).

ص: 29

وهذا التعبير هو ما يستعمله الأشعري والبغدادي والشهرستاني. يقول الأشعري: "وجمهور الإباضية يتولى المحكمة كلها إلا من خرج، ويزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين"(1).وهكذا عند البغدادي، فقد ذكر أنهم يرون أن مخالفيهم "براء من الشرك والإيمان وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار"(2). وكذا عند الشهرستاني (3).وقد زاد البغدادي حكما آخر عن الإباضية وهو أنهم يعتبرون مخالفيهم محاربين لله ولرسوله، فيكون قد تميز بذكر حكمين لمخالفيهم، أي أنهم كفار وأنهم محاربون، وذلك في قوله:"وزعموا أنهم – يعني مخالفي الإباضية – في ذلك محاربين لله ولرسوله لا يدينون دين الحق"(4).

ولكن هل يطبقون حكم المحاربين عليهم؟ سنرى فيما بعد ما يقوله الإباضية عن أنفسهم. وقد انتقد على معمر هذا الأسلوب في حكم الإباضية على مخالفيهم ووصفه بأنه أسلوب موهم غامض، وأن كثيرا مما قيل عن الإباضية في هذا الباب "إنما هو – كما يقول معمر – تشنيعات وتلفيقات من ناس يريدون أن يوقدوا نار الفتنة ضد الإباضية، وأن يجعلوهم مكروهين من بقية إخوانهم المسلمين فينسبون إليهم عقائد ومقالات يبرأون منها وممن يقول بها، ويسوقون عنهم أقوالا في غاية الغموض والإبهام؛ لإثارة الرأي العام ضدهم

إلخ" (5).

ومن هذه الإيهامات – كما يرى – ذلك التعبير الذي تقدم عند الأشعري ومن أخذ عنه، حيث لم يبينوا ما إذا كان المسلمون في نظر الإباضية كفار ملة أو كفار نعمة.

وقد تقدم أن الإباضية يرون أن مخالفيهم من المسلمين كفار نعمة لا كفار ملة، ولا ندري كيف جمع الأشعري والبغدادي بين القول بتكفير الإباضية لمخالفيهم تكفيرا مطلقا، والقول باعتبار دارهم دار توحيد إلا معسكر السلطان؟! يقول الأشعري في هذا:"وزعموا أن الدار – يعنون دار مخالفيهم – دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر، يعني عندهم"(6). وهكذا عند البغدادي إلا أنه قصر الدار على مكة، فهي دار التوحيد عندهم إلا معسكر السلطان، فالأشعري يذكر أنهم عمموا الحكم على جميع دور مخالفيهم، والبغدادي خصصها بدور مكة والتناقض في هذه الرواية عن الإباضية ظاهر إذا كانا يقصدان هنا بتكفير الإباضية لمخالفيهم أنه كفر ملة، وإلا كان تساهلا منهم في التعبير عن مذهب الخوارج.

أما رأي الإباضية في الدار فإنهم يقسمونها إلى قسمين: دار إسلام ودار كفر، ودار الكفر لا تنطبق بأي حال على دور مخالفيهم من المسلمين، سواء في ذلك عامة الناس أو معسكر السلطان، خلافا لما ذكره الأشعري وغيره من اعتبارمعسكر السلطان دار كفر عند الإباضية، ودار الإسلام لا تخلو عندهم عن أربع صور هي:

1 -

أن يكون أهل الوطن كلهم مسلمين والسلطان عادل ملتزم بالمنهج الإسلامي، وفي هذه الصورة تكون الدار دار إسلام ومعسكر السلطان معسكر إسلام.

2 -

أن يكون أهل الموطن مسلمين ولكن حاكمهم وصل إلى الحكم بطرق غير مستكملة للشروط، ولكن بعد أن تسلم زمان الحكم التزم المنهج الإسلامي، وهذه الصورة في الحكم كسابقتها.

(1)((المقالات)) (1/ 184).

(2)

((الفرق بين الفرق)) (ص103).

(3)

((الملل والنحل)) (1/ 134).

(4)

((الفرق بين الفرق)) (ص103).

(5)

((الإباضية بين الفرق)) (ص33، 43).

(6)

انظر: ((المقالات)) (1/ 185) ، و ((الفرق بين الفرق)) (ص106).

ص: 30

3 -

أن يكون أهل الوطن مسلمين ويصل حاكمهم إلى الحكم بطرق شرعية، ولكنه بعد أن يتم له الأمر ينحرف، وفي هذه الصورة تكون الدار دار إسلام ومعسكر السلطان معسكر إسلام إلا أنه معسكر بغي وظلم.4 - أن يكون أهل الوطن مسلمين ويصل حاكمهم إلى الحكم بطرق غير شرعية ولم يلتزم المنهج الإسلامي، ففي هذه الحال "تعتبر الدار دار إسلام، ومعسكر السلطان معسكر إسلام، إلا أنه معسكر بغي وظلم وعدوان"(1).

فالإباضية إذا لا يرون في هذه الصور من صور الحكم في بلاد الإسلام صورة يعتبرون فيها دار المسلمين من غيرهم دار كفر ولا معسكر سلطانهم كذلك، وأقصى ما وصفوا به معسكر السلطان هو البغي والظلم والعدوان.

أما ما يذكره أهل الفرق عن معاملة الإباضية لغيرهم فهو القول بأن الإباضية يعتبرون أن مخالفيهم حلال مناكحتهم وموارثتهم

وحرام قتلهم وسبيهم في السر إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به

وأنهم أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم وحرموا الاستعراض إذا خرجوا وحرموا دماء مخالفيهم حتى يدعوهم إلى دينهم.

هكذا قيل عن سماحة الإباضية في حالة السلم، أما في حالة الحرب فيوصفون بأنهم لا يستحلون من أموال مخالفيهم بعد المعركة غير عدة الحرب وما يتقوى به عليه من السلاح والخيل ونحوهما.

(1) انظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص295).

ص: 31

كذلك من عاداتهم أنهم لا يتبعون المنهزمين في الحرب إذا كانوا من أهل القبلة، إلا أن يكونوا من المشبهة، فهم عندهم كأهل الردة يجوز قتلهم وسبيهم وغنيمة أموالهم واتباع المنهزم منهم. وفي المعركة لا يقتلون النساء ولا الأطفال على عكس ما يفعله الأزارقة (1).ومع هذا التسامح الذي ذكره الأشعري وغيره عن الإباضية إلا أنه يقول عنهم:"وقالوا جميعا أن الواجب أن يستتيبوا من خالفهم في تنزيل أو تأويل، فإن تاب وإلا قتل، كان ذلك الخلاف فيما يسع جهله أو فيما لا يسع جهله"(2). ويبقى هنا إشكال في هذا التعبير وهو: هل يستتيبون جميع المخالفين لهم عندما يكونون في دارهم أو في غير دارهم؟ أم أن هذا خاص بالأسرى؟ ومهما كان فكيف يبلغ بهم التشدد والتعصب حتى إنهم يقتلون من خالفهم، ولو كان هذا الخلاف فيما يسعه جهله، فإن هذا تشدد ظاهر. والواقع أن كتاب الإباضية ينفون هذه المعاملة لمخالفيهم عن أنفسهم، فيرى علي يحيى معمر – وهو أكبر من تزعم الدفاع عن الإباضية – أن الأشعري لم يلتزم بتحري الحقيقة في آراء الإباضية وإنما أخذها عن أناس مغرضين كانوا يهدفون إلى تشويه الإباضية عند مخالفيهم والتشنيع عليهم، واعتبر أن قول الأشعري:"وقالوا جميعا أن الواجب أن يستتيبوا من خالفهم في تنزيل أو تأويل، فإن تاب وإلا قتل"، وبين قوله عنهم:"ويزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين، حلال مناكحتهم وموارثتهم، حرام قتلهم وسبيهم" – اعتبر ذلك من أمثلة تناقض أهل المقالات والمؤرخين – وبالذات الأشعري – في شأن الإباضية، إلا أنه لم يجعل المسئولية كاملة على الأشعري، وإنما على من ألقى إليه هذه المعلومات الخاطئة حسب زعمه (3).ويشهد لما تقدم من رأي علي يحيى معمر ما رد به صاحب كتاب (الأديان والفرق) الإباضي على الأزارقة؛ من تخطئتهم في تشريكهم أهل القبلة ثم معاملتهم لهم على هذا الأساس الذي لا يقره الإباضية الذين أجازوا التعامل مع مخالفيهم في كل المجالات، وأن الإباضية لا يستحلون من مخالفيهم غير دمائهم في الحرب إذا وقعت بينهم – فقال:"وأما نقض ما احتجوا به – يعني الأزارقة – من تشريك أهل القبلة واستعراضهم بالسيف، فإن الله سبحانه حكم في أهل القبلة خلاف ما حكم به في المشركين، وأنه لم يحكم في أهل البغي بالسبي والغنيمة، وإنما حكم فيهم بدمائهم وحلها، ولم يحل منهم غير دمائهم، ولما قتل المسلمون عثمان لم يستحلوا منه غير دمه ولم يسبوا له عيالا ولا غنموا له مالا"(4).ونحو ما تقدم نجده عند عالم آخر من علمائهم هو أبو زكريا يحى بن الخير الجناوني، فقد أجاز معاملة المخالفين معاملة حسنة غير أنه ينبغي أن يدعوا إلى ترك ما به ضلوا، فإن أصروا ناصبهم إمام المسلمين الحرب حتى يذعنوا للطاعة ولا يحل منهم غير دمائهم (5).

(1) انظر: ((المقالات)) (1/ 285، و (ص188) وانظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص103).

(2)

((المقالات)) (1/ 186) ومثله البغدادي (ص107).

(3)

انظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص27،28).

(4)

قطعة من ((كتاب في الأديان)) (ص99).

(5)

كتاب ((الوضع)) للجناوني.

ص: 32

ولعل هذا الاستثناء يؤيد ما قاله الأشعري من ضرورة استتابة المخالفين وإلا قتلوا، وإن جعله معمر من التهم التي قيلت في الإباضية. ويوضح السالمي أيضا موقف الإباضية من مخالفيهم بإيضاح بين، وذلك في قوله:"لا نرى الفتك بقومنا - يعني مخالفيهم - ولا قتلهم غيلة في السر؛ لأن الله لم يأمر به في كتابه ولم يفعله أحد من المسلمين". ويقول أيضا: "نرى أن مناكحة قومنا وموارثتهم لا تحرم علينا ما داموا يستقبلون قبلتنا". ويقول عن الاستعراض الذي تدين به الأزارقة: "ولا نرى استعراض الناس بالسيف ما داموا يستقبلون القبلة"(1).ويقول الورجلاني عن مخالفيهم وما يكون عليه الإباضية في ساحة الحرب تجاههم: "وإن حاربناهم فإنا لا نتبع مدبرا ولا نجهز على جريح، وأموالهم مردودة عليهم إلا ما كان لبيت المال، فإنا نحوزه على وجهه ولا نتورع عن جميع ما في أيديهم من المظاليم عندنا إذا كان جائزا في مذهبهم وما كان في أيديهم من بيت مال المسلمين فإنا نأخذه ولا نرده إليهم، ونصرفه في وجوهه، وإن كان مظلمة رددناها إلى أهلها". ويرى الثعاريتي - وهو أحد علماء الإباضية - أن ما قيل عن الإباضية من تحليلهم لغنيمة أموال مخالفيهم من سلاحهم وكراعهم عند الحرب غير صحيح، "إذ تآليف أصحابنا - كما يقول - كلها ناطقة بتحريم أموال أهل القبلة في الحرب وغيرها للغني والفقير"(2).

وأما ما حكاه الأشعري وغيره عنهم من استباحتهم قتل المشبهة وسبيهم وغنيمة أموالهم واتباع موليهم باعتبار أنهم مرتدون، فإن الإباضية لا تقر هذا التعبير على عمومه، بل يرون أنه صيغ بهذا الالتواء بقصد التشنيع على الإباضية كما يرى معمر، وذلك لأنه يشمل بعض من يعاملهم الإباضية معاملة المسلمين وإن اعتبروهم من المشبهة بسبب خطئهم في التعبير عن ذات الله تعالى، ذلك أن المشبهة عندهم ثلاثة أقسام: مجسمة وهم الذين يصفون الله بأنه جسم كالأجسام ثم يحددونه، وشبه مجسمة وهم كالمجسمة يحددونه، ولكن يحتجزون بقولهم "ونحن لا نعرف ذلك" كما عبر علي معمر، فأهل هذين القسمين هم عند الإباضية مشركون مرتدون، يقول معمر عن رأي الإباضية فيهم:"فالمجسمة يعتبرهم الإباضية مشركين لا فرق بينهم وبين عبدة الأوثان بسبب تصورهم وتصويرهم لإلههم بصورة المخلوق المحدود".أما القسم الثالث فهم الذين "يثبتون المعاني الحرفية لبعض الكلمات التي وردت في القرآن تثبت له الحركة أو الجوارح كاليد والعين والساق والمجيء والنزول والاستواء والمسرة والضحك، فيمسكون عن تأويلها بالمعنى المناسب ويقولون: كما أراد الله". وأهل هذا القسم يعتبرهم الإباضية مشبهة بسبب خطئهم في التأويل ولكنهم يعاملونهم معاملة المسلمين، ولا يطلقون عليهم اسم المشبهة إلا في مواطن الجدل العنيف (3).

وهكذا يتضح لنا ما قلناه سابقا من تسامح الإباضية في حكمهم على مخالفيهم ومعاملتهم لهم، حتى كانو بذلك أقرب فرق الخوارج إلى الجماعة الإسلامية.

ولقد اعتبر هذا الموقف المتسامح عند الإباضية بمثابة تغير في موقف قدماء الخوارج المتشدد من مخالفيهم.

ولقد علل الغرابي رحمه الله تساهل الإباضية فأرجعه إلى سببين:

الأول: هو أنهم ضعفوا لكثرة حروبهم، فهم يريدون أن يتقربوا من مخالفيهم شيئا فشيئا حتى لا تقوم بينهم الحرب.

(1) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص311).

(2)

نقلا عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص285).

(3)

انظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص335 - 337).

ص: 33

الثاني: هو "أنهم لما اتسعت مداركهم وعرفوا ما لم يكن يعرفه سلفهم الذين كانوا من عرب البادية وفيهم سذاجة وعدم عمق في التفكير؛ كانوا أكثر تسامحا مع مخالفيهم من سلفهم".ولكنه لم يجزم بواحد من هذين السببين بل قال: "ولا مانع من أن يكون قد اجتمع لديهم السببان معا"(1).

والمهم هنا هو أن نعرف موقف الإباضية من هذا التحليل السابق الذكر هل يعترفون بأنهم أكثر تساهلا من خلفهم؟ وهل فعلا أضعفتهم الحروب الدموية مع مخالفيهم؛ فأحبوا التقرب إليهم اتقاء شرهم؟ وهل يعترفون بأن سلفهم كانوا على جانب من البداوة التي كانت تظهر في سذاجتهم وعدم عمق في تفكيرهم الذي كان سطحيا يأخذ الأمور ببراءة البدوي وطباعه أم أنهم كانوا ضد ذلك وضد تلك الصفات؟ سنجد أن المدافع الأكبر عن الإباضية – علي يحيى معمر – يتصدى للرد على هذه التهم كلها ويصفها بأنها افتراضات غير صحيحة، وأن القول بسلف متشدد وخلف متساهل كان من جزاء ربط الإباضية بالخوارج، وهو ربط يصفه المؤلف بأنه انسياق مع كتاب المقالات من غير رجوع إلى كتب الإباضية ومصادرها.

ثم يذكر أنه لا مانع من تغير الاجتهادات في غير القطعيات، بل هو من محاسن الشريعة، ولم يخل منها مذهب من المذاهب الإسلامية، إلى أن يقول عن الغرابي بخصوصه:"ومع هذا فأنا أؤكد للأستاذ الغرابي أن المسائل التي أوردها لم يتغير فيها رأي خلف الإباضية عن سلفهم، فيما عدا مسألة واحدة هي مسألة أطفال المشركين، فقد كانت عند السلف خلافية، ورجح الخلف أنهم من أهل الجنة خدما للمسلمين طبقا للأحاديث الواردة في الموضوع". وقد استشهد بعدة أمثلة تبين اجتهاد الخلف وتيسيرهم في بعض المسائل. أما القول بأن الحروب أضعفتهم فأحبوا مسالمة الناس، فقد نفى معمر صحة هذا، ولم يثبت من حروبهم غير الحركة التي قام بها طالب الحق في الجزيرة العربية طيلة عهد الدولة الأموية، ثم جاء ببيان لدول الإباضية التي قامت في الشرق والغرب أثبت من خلاله أن الإباضية كانوا لا يعتدون على أحد من مجاوريهم (2)، ومن ثم فلم يكن تسامحهم عن غيرهم ناشئا عن ضعف. ويجدر بنا أن نقرر هنا أن الإباضية لم يكونوا جميعا على هذا القدر الذي تقدم من التسامح في الحكم على مخالفيهم في معاملتهم لهم، بل كان منهم المغالون في التشدد تجاه مخالفيهم، ومن الشواهد على ذلك ما رواه الجيطالي الإباضي عن الإمام عبدالوهاب:"أنه قال: سبعون وجها تحل بها الدماء، فأخبرت منها لأبي مرداس بوجهين فقال: من أين هذا، من أين هذا؟ وفي كتاب سير المشائخ أن الإمام كان يقول: عندي أربعة وعشرون وجها تحل بها دماء أهل القبلة، ولم تكن منهم عند أبي مرداس رحمه الله إلا أربعة أوجه، وقد شدد علي فيهم"(3).وقد اعتبر علي معمر معرفة الإمام عبدالوهاب بهذه الأوجه الكثيرة التي تحل بها دماء المسلمين أهل القبلة من باب السعة في العلم – كما يرى (4).

(1)((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص281، 282).

(2)

انظر لهذا ((الفصل)): كتاب ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص70 إلى ص82).

(3)

((قواعد الإسلام)) (ص105).

(4)

((الإباضية في موكب التاريخ)) (2/ 39).

ص: 34

أما المارغيني فإنه يحكم على مخالفيهم بالهلاك والنار في الدار الآخرة وأن الشخص ليس على شيء ما دام غير متمسك بالمذهب الإباضي قولا وعملا حتى يلقى الله به سعيدا مقبول العمل. يقول المارغيني في رسالته عن مشائخهم: "وقالت المشائخ: إن هذا الدين الذي دان به الوهبية من الإباضية من المحكمة دين المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الحق عند الله، وهو دين الإسلام، من مات مستقيما عليه فهو مسلم عند الله، ومن شك فيه فليس على شيء منه، ومن مات على خلافه أو مات على كبيرة موبقة فهو عند الله من الهالكين أصحاب النار"(1).فقد قصر الإسلام عند الله على المذهب الإباضي ومن جاء بغيره فهو على هلاك وتبار؛ بل ويتبرأون ممن لا يدين بالقول بخلق القرآن من أهل السنة، كما في قول ابن جميع الإباضي: "وليس منا من قال إن القرآن غير مخلوق

ولا من قال إن جميع من يحل دمه يحل ماله" (2).ومما جاء في تزكية مذهبهم وإبطال ما خالفه قول العيزابي الإباضي: "الحمد لله الذي جعل الحق مع واحد في الديانات، فنقول معشر الإباضية الوهبية: الحق ما نحن عليه، والباطل ما عليه خصومنا؛ لأن الحق عند الله واحد، ومذهبنا في الفروع صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفينا خطأ يحتمل الصدق" (3).

(1)((رسالة في فرق الإباضية المغرب)) (ص13).

(2)

((مقدمة التوحيد)) لابن جميع (ص19).

(3)

((الحجة في بيان المحجة)) (ص37).

ص: 35

أما الوارجلاني من علمائهم المشهورين فقد قضى على أمة أحمد بالهلاك والثبور، ولم ينج منهم إلا من كان على المذهب الإباضي، ويورد أدلة على ذلك واستشكالات، ثم يذكر جوابها مدعيا أن حديث افتراق الأمم قد نص على هلاك من عدا الإباضية، وأن السبب في بقاء الإباضية على الحق هو أنهم لم يقلدوا الآباء دون محاسبتهم كما كان الحال عند غيرهم، بل اتبعوهم تقييدا لا تقليدا. ومن تساؤلاته قوله:"فإن قال قائل: هذه أمة أحمد صلى الله عليه وسلم قد قضيتم عليها بالهلاك وبالبدعة والضلال، وحكمتم عليها بدخول النار ما خلا أهل مذهبكم. قلنا: إنما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نحن بقوله حيث يقول: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهن في النار ما خلا واحدة ناجية، كلهم يدعي تلك الواحدة)) (1).ولئلا يستعظم المستمع هذا الكلام جاء بما يجول في خاطره من أسئلة وأهمها ما ذكره بقوله: "فإن قال قائل: هذه أمة أحمد قد أصيبت باتباع أوائلها وما يدريكم لعلكم أنتم أيضا ممن أصيب باتباع أوائله، ولم قضيتم أن أوائلكم على الهدى وأوائل غيركم على الردى، وأوائلكم غير معصومين كأوائل غيركم؟ ". هذا سؤال ولا شك مهم، ولكن المؤلف قد أجاب بما لا مقنع فيه، أجاب بما حاصله أن الإباضية اتبعوا أوائلهم بعد المحاسبة لهم، وأن أوائلهم عولت على الوزن بالقسطاس المستقيم والبرهان القويم وهو الكتاب والسنة ورأي المسلمين، وذلك أنهم كانوا دائما مع الفرقة المحقة، ولا شك أن هذه الدعوى بطبيعة الحال تدعيها كل فرقة، وهذا ديدن أصحاب المذاهب، ولهم أن يفخروا بما يرون أنه من مفاخرهم، ولكن ماذا معهم من الفخر حين يفخرون بأنهم كانوا في جانب الجيش الذين قتلوا عثمان، ثم في جانب الجيش الذين خرجوا على علي؟! كما ذكر المؤلف (2).وقد أورد صاحب (العقود الفضية) كثيرا من النصوص عن علمائهم تشهد بأن المذهب الإباضي هو خير المذاهب وأصوبها، لا يقبل الله من غيره أي مذهب، وأن من خالفه فليس له إلا النار وبئس المصير، ومن تلك النصوص ما جاء عن أبي الحسن علي بن محمد البسياني قوله: "فَحصْتُ الأديان ظهرا وبطنا فلم أجد دينا أصفى من ديننا، ولو علمنا غيره خيرا منه لما سمحنا لجهنم بأنفسنا"، إلى أن يقول: "فعلمنا أنه هو الدين الذي لا يرضى الله إلا به، لأنه مذهب منزه صريح صحيح واضح من طريق الشريعة لا من طريق اللغة" (3).ومنها قول السالمي:"والله الذي لا إله إلا هو إن الحق لمع هذه العصابة"(4). ومنها قول جاعد بن خميس بن مبارك الخروصي: "إني لأقسم بالله قسم من بر في يمينه فلا حنث، أن من مات على الدين الإباضي الصحيح غير ناكث لما عاهد الله عليه من قبل ولا مغير حقيقته، كلا ولا مبدل طريقته – أنه من السعداء، ومن أهل الجنة مع الأنبياء والأولياء، وأن من مات على خلافه فليس له في الآخرة إلا النار وبئس المصير"(5).

(1) رواه ابن ماجه (3993) وأحمد (3/ 120)(12229) والطبراني في ((الأوسط)) (8/ 22) وأبو يعلى (7/ 32) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، بلفظ:(ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة) قال العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (16): إسناده صحيح، وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 27): إسناده جيد قوي على شرط الصحيح، وقال السخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 569): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

(2)

انظر: كتاب ((الدليل لأهل العقول)) (ص35 إلى 37).

(3)

((العقود الفضية)) (ص169).

(4)

((العقود الفضية)) (ص172).

(5)

((العقود الفضية)) (ص172).

ص: 36

ويقول مؤلف (كشف الغمة) في تشنيعه على مخالفيهم: "ووجدنا من خالفنا يجمع بين الأضداد، ويساوي بين أهل الصلاح والفساد، ويجمع بين القاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، فيتولونهم ويستغفرون لهم

فهذا من أوضح السبل وأبين الأدلة وأقوى حجة على من خالفنا" (1).

ومن أجل كتبهم الفقهية عندهم وأكبرها كتاب (النيل وشفاء العليل)، هذا الكتاب يذكر فيه مؤلفه عن معاملة الإباضية لمخالفيهم بأنهم يعاملونهم على حسب ظاهر الفرق ومعتقداتها:"ويحكم فيهم بحكم التوحيد من دعاء إلى ترك ما به ضلوا، وما هم عليه من إظهار بدعتهم، ومن جواز مناكحتهم ومؤاكلة لذبائحهم والحج معهم".

أما الأئمة فإنهم يقفون منهم موقفا صلبا لا هوادة فيه، فالحكم فيهم أن "يبرأ من إمامهم وقائدهم وعسكرهم ومقويهم على خلافهم، وإن مؤذنا أو قاضيا؛ لما في ذلك من الآثار والأحاديث فيمن كثر سواد قوم فهو منهم، ومن ثم كره الغزو والجهاد معهم وحضور جوامعهم ومجالسهم".ثم يتطرق إلى مسائل فرعية لا ترتفع إلى درجة البراءة أو عدمها لتفاهة الخلاف فيها فيقول: "وهل يبرأ منهم بعلامات انفردوا بها كرفع اليدين وترك التسمية في الصلاة والقنوت فيها ونحو ذلك أو لا؟ قولان"(2).ويذكر في موضع آخر بعض المسائل في الأسماء والصفات، وبعض المسائل الكلامية التي دانوا بها، وأن من خالفهم فيها "حل قتله"، وقد يستغرب السامع حينما تمر عليه تلك الخلافات الكلامية التي أحل المؤلف بها سفك دماء مخالفيهم، وذلك في قوله الآتي:"ومن قصد لخصلة مما دانوا به وخالفوا فيه غيرهم، كقدم الأسماء والصفات ونفي زيادتها على الذات، والرؤية، وحدوث الكلام، وإثبات الخلود والكسب للعبد، والخلق والأمر لله تعالى، وخطئها، أو ما اجتمعت عليه الأمة – حل قتله"(3). ولكن يكون في دور الظهور والغلبة لهم لا في دور الكتمان.

وهكذا نجد بعض أصوات الإباضية ترتفع بمثل هذا التشدد في الحكم على مخالفيهم واستحلال دمائهم، والتبرؤ منهم مما لا يتفق مع ما هو معروف عن المذهب الإباضي من أنه أكثر مذاهب الخوارج تسامحا مع غيرهم من المسلمين، وهذا يدل على أن في الإباضية من قد خرج عن تلك التعاليم التي توحي إليهم بالتسامح مع مخالفيهم، ولين جانبهم معهم.

ومما تجدر الإشارة إليه أن أولئك العلماء الذين قدمنا ذكرهم، من أفاضل العلماء عند الإباضية ومن المعتبرين عندهم في المذهب من قدماء علمائهم، ولكن يبدو أن هذا الاتجاه المتشدد عندهم لم يكن هو السائد في الأوساط الإباضية، بل كان السائد هو التسامح، ولهذا اعتبر المذهب الإباضي – كما قلنا- أقرب المذاهب إلى الجماعة الإسلامية، وكان ذلك سببا في بقائه وبقاء أتباعه حتى الآن دون فرق الخوارج الأخرى.

‌المصدر:

الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص491

(1)((كشف الغمة)) (ص306).

(2)

((النيل وشفاء العليل)) (3/ 1061 – 1062).

(3)

((النيل وشفاء العليل)) (3/ 1067).

ص: 37