الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أ- موقف الغلاة منهم:
يذكر الأشعري أن الخوارج مجمعون على أن مخالفيهم يستحقون السيف حلال دماؤهم، إلا فرقة الإباضية فإنها لا ترى ذلك إلا مع السلطان كما عبر عن هذا بقوله:"وأما السيف فإن الخوارج جميعا تقول به وتراه، إلا أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف، ولكن يرون إزالة أئمة الجور ومنعهم من أن يكونوا أئمة بأي شيء قدروا عليه، بالسيف أو بغير السيف"(1).ويقول الشاطبي في كلامه عن الاختلافات الضالة التي أدت بالمسلمين إلى تكفير بعضهم بعضا وسفكوا بسببها دماءهم - قال: "ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)) (2).وقد اختلف علماء الفرق في تحديد أول من حكم بتشريك أهل القبلة وتكفيرهم، هل هم الأزارقة أم هم المحكمة الأولى؟، فهناك من يرى أن الأزارقة هم الذين ابتدعوا القول بإكفار المسلمين، يقول الأشعري: "وأول من أحدث الخلاف بينهم نافع بن الأزرق الحنفي، والذي أحدثه البراءة من القعدة والمحنة لمن قصد عسكره وإكفار من لم يهاجر إليه" (3).ويرى البغدادي أن الأزارقة هم الذين ابتدعوا القول بتشريك المسلمين، أما المحكمة فلم يحكموا عليهم إلا بالكفر، وذلك حسب قوله: "ومنها - أي من بدع الأزارقة - قولهم بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون، وكانت المحكمة الأولى يقولون إنهم كفرة لا مشركون" (4).ومثل ما ذكره البغدادي في هذا المقام نجده عند صاحب كتاب (الأديان الإباضي)، فإنه يرى أن نافعا لم يسبقه أحد بالقول بتشريك المخالفين واستحلال دماء أطفال مخالفيه، ويرى أن الخوارج كلهم على حق وصواب أحربهم في الخروج، لولا زلة الخوارج نافع بن الأزرق وخروجه على أهل الحق، كما يرى المؤلف (5).
(1)((المقالات)) (1/ 204).
(2)
((الاعتصام)) (2/ 233) والحديث رواه البخاري (3344) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد.
(3)
((المقالات)) (1/ 169).
(4)
((الفرق بين الفرق)) (ص83).
(5)
((كتاب الأديان)) (ص97).
والواقع أنه سيتبين لنا فيما يأتي من دراستنا لما صدر عن المحكمة الأولى من أقوال وأفعال، وما دار بينهم وبين مخالفيهم من محاورات ومناظرات، أنهم كانوا سابقين إلى تكفير مخالفيهم من المسلمين وتشريكهم ومعاملتهم على هذا الأساس، وأن الأزارقة لم يكونوا في ذلك إلا تبعا لهم، وإن كانوا قد غالوا في هذا الموقف غلوا شديدا كما سنرى فيما بعد. وأول ما نستشهد به على موقف المحكمة الأولى من مخالفيهم من المسلمين هو ما ذكره قيس بن سعد بن عبادة في محاورته لهم ليرجعوا إلى الطاعة والجماعة، ويخطئهم في موقفهم تجاه المسلمين حين اعتبروهم مشركين؛ فسفكوا دماءهم واستحلوا حرماتهم ومنه قوله يقرر عليهم أفعالهم:"فإنكم ركبتم عظيما من الأمر تشهدون علينا بالشرك، والشرك ظلم عظيم، وتسفكون دماء المسلمين وتعدونهم مشركين"(1). فهذه شهادة من شاهد عيان بأن المحكمة الأولى كانوا يعدون مخالفيهم مشركين، هذا ما رواه عنه الطبري. ويذكر نصر بن مزاحم المنقري أن المحكمة قالوا بتشريك مخالفيهم وعلى رأسهم الإمام علي، فبرئ علي منهم وبرئوا منه وافترقوا على هذا، وذلك في قوله عنهم:"فبرئوا من علي وشهدوا عليه بالشرك وبرئ علي منهم"(2)، وكما أشرك - في نظرهم- الإمام علي أشرك كذلك ابنه الحسن رضي الله عنهما؛ فقد أقبل عليه الجراح بن سنان - وذلك بعد مصالحته معاوية - وقال له:"أشركت كما أشرك أبوك، ثم طعنه في أصل فخده"(3).فالمحكمة كما ظهر مما سبق قد حكمت بالشرك على مخالفيهم، وقد حكموا أيضا عليهم بالكفر كما يرويه عنهم الملطي بقوله:"والفرقة السابعة: الحرورية، يقولون بتكفير الأمة"(4). ومن الحوادث التي تثبت تكفيرهم لمخالفيهم وبالتالي استحلالهم لدمائهم ما هو معروف مشهور من قتلهم عبدالله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من المسلمين. فقد ورد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "بعث إلى أهل النهروان أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم بهم ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل الشام، فلعل الله يقلب قلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم، فبعثوا إليه: كلنا قتلهم وكنا نستحل دماءهم ودماءكم"(5). فلو لم يكونوا معتقدين كفرهم وخروجهم عن الإسلام في زعمهم لما استحلوا دماءهم. وقد كان رجل يسمى الخريت بن راشد من أشد الخارجين على علي وعلى المسلمين عموما، فقد كان في طريقه يقتل كل من يقول إنه مسلم ويخلي سبيل من لا يعتقد الإسلام، وكان هذا الفعل منه مصداقا للحديث القائل:((يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان))، أو كما قال عليه السلام (6).هذا الرجل خرج على الإمام علي فيمن أطاعه من قومه وغيرهم، وفي أثناء سيرهم نحو قرية يقال لها نفر- حدث ما بينه كتاب أحد عمال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ويسمى قرظة بن كعب الأنصاري يخبره فيه بمسير الخوارج، قال فيه:"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أن خيلا مرت بنا من قبل الكوفة متوجهة نحو نفر وأن رجلا من دهاقين أسفل الفرات قد صلى يقال له: زاذان فروخ أقبل من قبل أخواله بناحية نفر فعرضوا له، فقالوا: أمسلم أنت أم كافر؟ فقال: بل أنا مسلم قالوا: فما قولك في علي؟ قال: أقول فيه خيرا، أقول: إنه أمير المؤمنين وسيد البشر، فقالوا له: كفرت يا عدو الله. ثم حملت عليه عصابة منهم فقطعوه"(7).
(1)((تاريخ الطبري)) (5/ 83).
(2)
((وقعة صفين)) (ص518).
(3)
((تلبيس إبليس)) (ص95).
(4)
((التنبيه والرد)) (ص56).
(5)
((تاريخ الطبري)) (5/ 83).
(6)
رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. بلفظ: (
…
يقتلون أهل الإسلام. ويدعون أهل الأوثان
…
).
(7)
((تاريخ الطبري)) (5/ 117) ..
بل إنهم قالوا في تكفير الناس لأقل سبب حتى حكموا على أنفسهم بالكفر حين قبلوا التحكيم أول الأمر، ففي أثناء محاورتهم مع علي أقروا على أنفسهم أنهم قد كفروا ثم تابوا، وأن هذا الحكم عام على الجميع حتى على نفسه، فإن عليه إذا أراد الإسلام أن يعلن كفره وتوبته، هكذا بلغ بهم العناد والجهل فقالوا له:"إنا حكمنا، فلما حكمنا أثمنا وكنا بذلك كافرين وقد تبنا، فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين"، فأجابهم علي رضي الله عنه بقوله:"أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر - أي أحد -! أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟! لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين"(1).
وهكذا يتبين لنا مما سبق ومن غيره مما لم نرد إطالة القول بذكره ثبوت تكفير المحكمة وتشريكهم لأهل القبلة، ومعاملتهم لهم على هذا الأساس، وقد تابعهم على ذلك الخوارج فيما بعد ولا سيما نافع بن الأزرق. ويذكر المبرد أن نافعا كان لا يرى أول الأمر أن مخالفيه مشركون، ولا يرى أيضا قتل الأطفال حتى جاء مولى لبني هاشم فقال له تلك المقالة، فانتهره بادي الأمر ولكنه ما زال به حتى أقنعه بذلك الرأي الخاطئ، ومن هنا أخذ في تطبيقه بكل قسوة وعنف، يقول المبرد:"ولم يزالوا على رأي واحد يتولون أهل النهر ومرداسا ومن خرج معه، حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع فقال له: إن أطفال المشركين في النار وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأدللت على نفسك، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني: وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَاّ فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26، 27]، فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم، فشهد نافع أنهم جميعا في النار ورأى قتلهم"(2).
(1)((تاريخ الطبري)) (5/ 84).
(2)
((الكامل)) للمبرد (2/ 176).
وأيا كان الأمر، فإن كون هذا الموقف لنافع ابتداء أو بعد تلك المحاورة، فالمهم أنه اقتنع به، بل وغالى فيه حتى أصبح الأزارقة هم أكبر من تزعم القول بتشريك المخالفين وإخراجهم عن الملة واستباحة كل شيء منهم، وقد أتبعوا قولهم بالفعل فسفكوا الدماء، وانتهكوا المحرمات، وقتلوا مخالفيهم كبارهم وصغارهم، لم يراعوا في ذلك فيهم إلا ولا ذمة، وقد تواترت أقوال العلماء في ذلك يؤيد بعضهم بعضا على أن الأزارقة هم شر الفرق وأشدهم على أهل الإسلام. وقد ذكر موقفهم من مخالفيهم علماء الإسلام، ومنهم الأشعري حيث قال في معرض بيانه لأقوال الأزارقة: وإنهم يقولون: "إن الدار دار كفر، يعنون دار مخالفيهم"(1). وما دام مخالفوهم بهذه الصفة، فلا بأس في حقهم حتى في ارتكاب ما ينافي الأخلاق والعرف بين الناس، فيجوز خيانة الأمانة، وعدم أدائها إليهم، "واستحلوا خفر الأمانات التي أمر الله بأدائها، وقالوا: قوم مشركون لا ينبغي أن تؤدى الأمانة إليهم"(2).ويقول البغدادي: "وزعم نافع وأتباعه أن دار مخالفيهم دار كفر"(3).ويقول الملطي: "فصنف منهم يقال لهم الأزارقة وهم أصعب الخوارج وأشرهم فعلا وأسوأهم حالا"(4)؛ وذلك بما اعتقدوه في الناس وما فعلوه بهم، بل إنهم يعتبرون حتى أنفسهم مشركين بمخالطتهم مخالفيهم والإقامة معهم حتى يخرجوا عنهم فيثبت إسلامهم عند ذاك، وإلا فهم مثلهم مشركون، كما يقول ابن الجوزي مبينا ذلك:"وكان أصحاب نافع بن الأزرق يقولون: نحن مشركون ما دمنا في دار الشرك، فإذا خرجنا فنحن مسلمون، قالوا: ومخالفونا في المذهب مشركون"(5) وهذا يدل على غاية جهلهم وتعصبهم لرأيهم، فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان في مكة قبل الهجرة بين المشركين مشركا بسبب مقامه؟! هذا منهم ضلال إضافة إلى ضلالتهم في اعتبارهم المسلمين المخالطين لهم مشركين، ولكن الله قد جعل بأسهم بينهم يقتل بعضهم بعضا ويغنم بعضهم مال بعض شأن أهل الأهواء والبدع، بقول صاحب كتاب (الأديان):"واجمعوا على تشريك أهل القبلة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم، ومنهم من يستحل قتل السريرة والعلانية، واعترضوا الناس بالسيف على غير دعوة ومنهم من لا يستحل قتل السريرة وهم مختلفون فيما بينهم، يقتل بعضهم بعضا، ويغنم بعضهم مال بعض، ويبرأ بعضهم من بعض"(6).
(1)((مقالات الإسلاميين)) (1/ 170).
(2)
((مقالات الإسلاميين)) (1/ 174).
(3)
((الفرق بين الفرق)) (ص84).
(4)
((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (ص167).
(5)
((تلبيس إبليس)) (ص95).
(6)
من ((كتاب الأديان والفرق)) (ص97).
وقد استدل نافع بالآيات التي وردت في المشركين زاعما أنها تشمل مخالفيه من المسلمين، وذلك حين قام خطيبا في أصحابه يذكرهم بنعمة الله عليهم حيث عرفهم من الحق ما لم يعرفه غيرهم، وأنه لا ينبغي لهم ولاية أحد من مخالفيهم، فلا يجوز التزوج منهم، أو موارثتهم، أو حتى الإقامة معهم، ومن قوله في ذلك:"فقد أنزل الله تبارك وتعالى: بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1]، وقال: وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، فقد حرم الله ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، وإجازة شهادتهم وأكل ذبائحهم، وقبول علم الدين عنهم، ومناكحتهم وموارثتهم، وقد احتج الله علينا بمعرفة هذا وحق علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم ولا نكتم ما أنزل الله، والله عز وجل يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ [البقرة:174] ".قال الطبري: "فاستجاب له إلى هذا الرأي جميع أصحابه"(1) وقد أورد الشاطبي رحمه الله قصة عجيبة لهم تدل على فساد اعتقادهم وخروجهم عن الجادة بقتلهم من يقول إنه مسلم دون التحقيق من صدقه أو كذبه، وكأنما قول المخالف لهم: أنا مسلم يساوي قوله أنه كافر، كما سنراهم حين يأخذون عبادة بن قرط الذي رجع من غزو الكفار الحقيقيين، والذي جاءهم حين سمع الأذان لا ليشاهد كيفية الصلاة ولكن ليدخل في الصلاة مسلما مؤمنا بربه ونبيه، هذه القصة عبر عنها الشاطبي بقوله:"روي في حديث خرجه البغوي في معجمه عن حميد بن هلال أن عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ثم رجع مع المسلمين منذ زمان، فقصد نحو الأذان يريد الصلاة، فإذا هو بالأزارقة - صنف من الخوارج - فلما رأوه قالوا: ما جاء بك يا عدو الله؟ قال: ما أنتم يا إخوتي، قالوا: أنت أخو الشيطان لنقتلنك، قال: أما ترضون مني بما رضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: وأي شيء رضي منك؟ قال: أتيته وأنا كافر، فشهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى عني. قال: فأخذوه فقتلوه"(2).
(1)((تاريخ الطبري)) (5/ 567).
(2)
((الاعتصام)) (2/ 226).
فهل بعد فعلتهم هذه حماقة أو جهالة؟! رجل يحدثهم بموقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشد من موقفه معهم، فيقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامه بغض النظر عما سلف منه وهم لا يقبلونه، فهل كانوا أحرص على الإسلام وأغير من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام؟! ويذكر ابن حزم تفرقتهم بين المسلمين والذميين في المعاملة فيقول:"وقالوا باستعراض كل من لقوه من غير أهل عسكرهم ويقتلونه إذا قال: أنا مسلم، ويحرمون قتل من انتمى إلى اليهود أو إلى النصارى أو المجوس، وبهذا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بالمروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، إذ قال عليه السلام إنهم يقتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إذ أنذر بذلك، وهو من جزئيات الغيب فخرج كما قال"(1).ويقول ابن عبد ربه كذلك: "فقال نافع باستعراض الناس والبراءة من عثمان وعلي وطلحة والزبير، واستحلال الأمانة وقتل الأطفال"(2).وقد عاب نجدة بن عامر على نافع ما ذهب إليه من تكفيره للقعدة واستحلاله قتل الأطفال، ثم رأيه في عدم أداء الأمانة إلى من ائتمنه من مخالفيه، واستدل عليه في كل ما تقدم بأدلة من القرآن (3)، وذلك في كتاب أرسله نجدة إليه. وقد أجاب نافع عن كتاب نجدة بكلام جاء فيه بالنسبة لمخالفيهم قوله:"وأما استحلال الأمانات، فمن خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق، وأموالهم فيء للمسلمين"(4). وفي هذا تبرير منه لأمر باطل بأمر باطل مثله، فما أحل الله له دماء المسلمين حتى يبني عليه استحلاله لأموالهم. وقد وصف سليمان مظهر معاملتهم لمخالفيهم بأنهم "كانوا يأتون بأفظع المنكرات، كأنهم لا يدينون بإله ولا يعرفون شفقة ولا رحمة"(5).ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم يستحلون من مخالفيهم المسلمين ما لا يستحلون من الكافر الأصلي (6).ومثل تشدد الأزارقة تجاه مخالفيهم في حكمهم عليهم بالشرك واستحلال دمائهم وأموالهم - ما نجده عند طائفة من فرقة البيهسية فهي تقول بأن مخالفيهم مشركون حلال دماؤهم وأموالهم، وهي لا تقل في ذلك عنفا عن الأزارقة، يقول الأشعري مبينا أقوال هذه الطائفة:"وقالت: الدار دار شرك وأهلها جميعا مشركون، وتركت الصلاة إلا خلف من تعرف، وذهبت إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال، واستحلت القتل والسبي على كل حال"(7).ثم زاد هذا تأكيدا في موضع آخر عن حاك لم يعينه يذكر أن هذا الحكم هو ما يعتقده جميع البيهسية، فهو يقول:"وحكي أن البيهسية تقول بقتل أهل القبلة وأخذ الأموال، وترك الصلاة إلا خلف من تعرف، والشهادة على الدار بالكفر"(8).ومثل هذه الطائفة من البيهسية التي استحلت قتل مخالفيهم وغنيمة أموالهم مثلها طائفة من الصفرية إلا أن هذه الطائفة تفوق تلك بتعمقها بدرجة أكبر في الفوضوية والجهل، فهي تعتبر القتل مقصودا لذاته من أي ملة كان، سواء كان مؤمنا في ميزانهم أم كافر، من غير تمييز، وذلك فيما يذكره ابن حزم بقوله:"وقالت طائفة من الصفرية بوجوب قتل كل من أمكن قتله من مؤمن عندهم أو كافر، وكانوا يؤولون الحق بالباطل"(9). فإذا كانوا بهذه المثابة فكيف يمكن أن يتعايشوا مع الناس، بل كيف يمكن تعايشهم أيضا فيما بينهم؟! اللهم إلا كتعايش الحيوانات المتوحشة في الغابات. ونضيف إلى هؤلاء الغلاة المتشددين من الخوارج مع غيرهم بل مع الخوارج أنفسهم حمزة بن أكرك، فمع أنه كان لا يرى قتل مخالفيه إلا بعد إعلان الحرب؛ إلا أنه بلغت به الشدة على من لا يوافقه على آرائه أن يعتبره كافرا مشركا وإن كان من الخوارج القعدة الذين يواليهم، وكان مفسدا متجاوزا حد الرحمة مع مخالفيه، وهو ما يذكره عنه البغدادي في قوله:"ثم إنه والى القعدة من الخوارج مع قوله بتكفير من لا يوافقه على قتال مخالفيه من فرق هذه الأمة مع قوله بأنهم مشركون، وكان إذا قاتل قوما وهزمهم أمر بإحراق وعقر دوابهم، وكان مع ذلك يقتل الأسرى من مخالفيهم"(10).
وله مواقف عديدة وحروب عنيفة مع فرق الخوارج الذين أبوا من موافقته والدخول في طاعته، فقد تابع عليهم الحملات حتى أباد كثيرا منهم في معارك رهيبة تمثلت فيها غاية القسوة والبطش.
المصدر:
الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي- ص481
(1)((الفصل)) (4/ 189، وانظر: ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 167).
(2)
((العقد الفريد)) (1/ 223).
(3)
((العقد الفريد)) (2/ 396).
(4)
((العقد الفريد)) (ص397).
(5)
((قصة الديانات)) (ص551).
(6)
((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (3/ 355).
(7)
((المقالات)) (1/ 194).
(8)
((المقالات)) (ص205).
(9)
((الفصل)) (4/ 190).
(10)
((الفرق بين الفرق)) (ص98).