الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مالك مغفلاً، شارد الذهن، لا يدري ما يُقرأ عليه. وهو أوحد عصره في الاهتمام والتركيز والحفظ، فإذا أخذنا حادثة حبيب كأنها العادة، وليست مصادفة فعلينا أن نعيد النظر في كل ما قيل في الإمام مالك في جلالة مكانته في العلم.
ثم كان هناك ناس آخرون لديهم نسخهم وكانوا يقارنون وقت القراءة، فهل كل هؤلاء كانوا يسكتون دوماً على تصرف حبيب الشنيع، وهم الذين حضروا من الآفاق للتعلم عند مالك، فيستبعد سكوت هؤلاء تماماً.
ولذلك ما قاله الإمام يحيى بن معين: «إن شر السماع من مالك عرض حبيب، كان يقرأ على مالك، وإذا انتهى إلى آخر القراءة صفح أوراقاً، وكتب «بلغ» ، وعامة سماع المصريين عرض حبيب»، ربما هي حادثة فردية لا غير.
وقفة مع نورمان كلدر
مطبعة أوكسفورد الشهيرة أصدرت كتاباً في عام 1993 م للدكتور نورمان كلدر بعنوان studies in early muslim Juriprudence في هذا الكتاب قام الدكتور كلدر بدراسة مدونة سحنون، وموطأ مالك، وكتاب للطحاوي، وكتاب للشافعي، والمختصر للمزني، وكتاب الخراج لأبي يوسف.
أما النتيجة التي توصل إليها الباحث فهي: كافة هذه الكتب نسبتها إلى مؤلفيها غير صحيحة، قد تكون هناك بعض المواد جاءت من الأشخاص الذين تنسب إليهم هذه الكتب، ولكنها كانت مجالاً خصباً للإضافات من قبل الأجيال اللاحقة، وينكر أن تكون هذه الكتب قد ألفها الأشخاص المسمون، بل هذه الكتب تنتمي إلى المدارس الفقهية، ومن ثم ميراث للمدرسة الفقهية وليس لشخص واحد، ولذلك كان من حق أصحاب المدارس الإضافة إليها من المواد التي يرغبون فيها، بناءً على هذا مدونة سحنون ليس من عمل سحنون لكن للجيل أو الأجيال القادمة، والمدونة الموجودة الآن في أيدينا ما وصلت إلى الشكل الذي نراه إلا في حدود سنة 250 هـ، أي بعد وفاة المؤلف المزعوم بجيل.
أما موطأ مالك فقد أخذ وقتاً أطول، والموطأ الذي هو في أيدينا من رواية يحيى بن يحيى الليثي في الواقع ما وصل إلى الشكل النهائي الموجود في أيدينا إلا في حدود عام 270 هـ، نعم، قد يكون فيه بعض المواد من أيام مالك بن أنس، ولكنه تراث مدرسي ملك للمدرسة الفقهية المالكية، وعلى هذا الأساس الأجيال التالية اشتركت في إضافة المواد الضرورية أو الأحاديث التي وضعت في تلك الفترة للدفاع عن الوجهة المالكية أو الرد على خصومها.
بعد هذا «الاكتشاف الخطير» تحدث الأستاذ كلدر عن المصادر اليهودية التي أثرت وأمدت المدارس الفقهية الإسلامية في نشأتها وتطورها.
نظراً لما لهذا الكلام مساس بالموطأ، وأن هذه الدراسة حول الموطأ فأرى لزاماً أن أتطرق إلى ما كتبه كلدر بخصوص ادعائه أن الموطأ الموجود حالياً في أيدينا ليس من تأليف الإمام مالك رحمه الله، أما إعارة المسلمين في فقههم الإسلامي من اليهود والمصادر اليهودية فلا أتطرق إليها الآن.
رفض الأستاذ كلدر منهج البحث الذي يستخدمه علماء المسلمين لصحة إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف، بل ادعى أنه يخضع بحثه هذا لمنهج تاريخي لا ديني أو علماني حسبما يترجم المصطلح للبحث عن القضايا التاريخية، والمسلمون مدعوون للمشاركة في هذا النوع من البحث والحوار.
لإثبات ما توصل إليه من النتائج، بحث كلدر عن الكلب وأثره في طهارة الماء، ولهذا الغرض اختار من المدونة باب «الوضوء بسؤر الدواب والدجاج والكلاب» ثم ترجم النص الآتي إلى اللغة الإنجليزية مع إضافة اسم ابن القاسم بين المعكوفتين:
«قال: وسألت مالكاً عن سؤر الحمار والبغل، فقال: لا بأس به.
قلت أرأيت إن أصاب غيره؟ قال: هو وغيره سواء.
وقال مالك: لا بأس بعرق البرذون والبغل والحمار.
قال، وقال مالك: في الإناء يكون فيه الماء يلغ فيه الكلب؟
قال مالك: إن توضأ به وصلى أجزأه.
قال: ولم يكن يرى الكلب كغيره.
قال، وقال مالك: إن شرب من الإناء ما يأكل الجيف من الطير والسباع لم يتوضأ به.
وقال مالك: إن ولغ الكلب في إناء فيه لبن، فلا بأس بأن يؤكل ذلك اللبن.
قلت: هل كان مالك يقول: يغسل الإناء سبع مرات، إذا ولغ الكلب في الإناء في اللبن وفي الماء؟
قال، قال مالك: قد جاء هذا الحديث وما أدري ما حقيقته؟
قال: وكأنه كان يرى أن الكلب كأنه من أهل البيت، وليس كغيره من السباع.
وكان يقول: إن كان يغسل ففي الماء وحده، وكان يضعفه، وقال: لا يغسل من سمن ولا لبن، ويؤكل ما ولغ فيه من ذلك، وأراه عظيماً أن يعمد إلى رزق من رزق الله فيلقى لكلب ولغ فيه.
قلت: فإن شرب من اللبن ما يأكل الجيف من الطير أو السباع أو الدجاج التي تأكل النتن، أيؤكل اللبن أم لا؟
قال: أما ما تيقنت أن في منقاره قذراً فلا يؤكل، وما لم تره في منقاره فلا بأس به. وليس هو مثل الماء، لأن الماء يطرح ولا يتوضأ به.
ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن يحيى بن سعيد وبكير بن عبد الله أنهما كانا يقولان: لا بأس بأن يتوضأ الرجل بسؤر الحمير والبغال وغيرهما من الدواب.
وقال ابن شهاب في الحمار مثله.
ابن وهب، وقال عطاء بن أبي رباح، وربيعة، وأبو الزناد في الحمار والبغل مثله. وتلا عطاء قول الله تبارك وتعالى:{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً} ، وقاله مالك من حديث ابن وهب.
علي بن زياد عن مالك في الذي يتوضأ بماء قد ولغ فيه الكلب ثم صلى؟
قال: لا أرى عليه إعادة، وإن علم في الوقت.
قال علي وابن وهب عن مالك: ولا يعجبني الوضوء بفضل الكلب إذا كان الماء قليلاً. ولا بأس به إذا كان الماء كثيراً كهيئة الحوض، يكون فيه ماء كثير، أو بعض ما يكون فيه من الماء الكثير.
ابن وهب عن ابن جريج: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد ومعه أبو بكر وعمر على حوض فخرج أهل ذلك الماء، فقالوا: يا رسول الله! إن السباع والكلاب تلغ في هذا الحوض؟ فقال: لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شراباً وطهوراً.
وأخبرني عبد الرحمن بن زيد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال عمر: لا تخبرنا يا صاحب الحوض فإنا نرد على السباع، وترد علينا. فالكلب أيسر مؤنة من السباع، والهر أيسرهما لأنهما مما يتخذ الناس.
قال ابن القاسم، وقال مالك: لا بأس بلعاب الكلب يصيب ثوب الرجل، وقاله ربيعة.
وقال ابن شهاب، لا بأس إذا اضطررت إلى سؤر الكلب أن تتوضأ به.
وقال مالك: يؤكل صيده فكيف يكره لعابه؟».
وسأنقل حديثين من الموطأ.
1 -
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري عن حميدة ابنة أبي عبيدة بن فروة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة - أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت.
قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين! يا ابنة أخي؟
قالت، فقلت: نعم.
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات» .
سنسمي هذا الحديث أثناء البحث «حديث الهرة» .
2 -
مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات».
وسنسمي هذا الحديث أثناء البحث «حديث الكلب» .
هذه هي النصوص الرئيسية التي اختارها كلدر لدراسته في كتابه، ثم عمم نتيجة بحثه على التراث الإسلامي الديني لمدى ثلاثة قرون.
يلاحظ كلدر في هذه النصوص بأنها نمت كأي كائن حي ينشط وينمو ولم يتجمد، يقصد بذلك عندما يؤلف المؤلف كتاباً فقد تتجمد الألفاظ ولا تقبل الزيادة أو النقص إلا منه، وبعد وفاته تنتهي إمكانية الحذف والإضافة. لكن إذا كان النص ينمو ككائن حي فمعناه أنه يغذى على الدوام بإضافة نصوص جديدة.
بدأ كلدر بالبحث عن التطور في التفكير الفقهي أو بالأحرى القانوني عند المسلمين أو المدرسة المالكية في ضوء النصوص المنقولة سابقاً، فلاحظ ظهور التفكير الفقهي بالأمور الفردية، مثل قول مالك: لا بأس بسؤر الحمار والبغل، ثم محاولة التعميم، مثل قوله: الحمار والبغل وغيره سواء.
لكنه عندما بدأ البحث عما يؤثر الماء في طهارته لأجل إيجاد قاعدة كلية، ظهر الكلب معضلة.
في بادئ الأمر بدأ انطلاق التفكير في أن الحيوانات الوحشية تؤثر في طهارة الماء للوضوء. إلى هنا لم يسبب الكلب أية مشكلة لأن الكلب حيوان منزلي أليف.
ولذلك نرى في المدونة يصرح مالك بأن الكلب لا يؤثر في طهارة الماء.
لكنه بعد ذلك ظهر في التفكير الفقهي بأن الحيوانات التي تأكل الجيفة أو الحيوانات المفترسة تؤثر في طهارة الماء.
فإذا أخذ بعين الاعتبار هذه التطورات في الفكر الفقهي فيصبح الكلب مشكلة، وبما أن الكلب يأكل الجيفة فلماذا لا يكون له الأثر في طهارة الماء؟
ظهرت هذه المسألة عند ابن قاسم حيث صرح بأن مالكاً ما كان يعامل الكلب كبقية الحيوانات من نفس الفصيلة.
ويسأل سحنون عن حديث مروي عن النبي [صلى الله عليه وسلم، وهو حديث الكلب].
وجواب مالك لهذا السؤال يدل على أنه كان يعرف الحديث ولكنه قال: «وما أدري ما حقيقته؟» .
يقول كلدر: إذا أمعنَّا في التعليقات العديدة في هذا الموضوع يتبين لنا بكل وضوح أن ظهور نظرية «القيمة التشريعية لحديث النبي» سببت في تمزيق النمو الطبيعي للفكر القانوني.
أولاً: اقترح مالك وجود صنف مميز للحيوانات الذي لا يسبب مشكلة في طهارة المياه.
وكان هذا كافياً لحل مشكلة سؤر الكلب في نمو وتطور الفكر القانوني.
ثم أعطى مالك بعض الأهمية للحديث المنسوب إلى النبي [إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم] ولكنه لم يقبله، وكان يناقش ضد هذا الحديث بناءً على الأسباب الأخلاقية والمشاكل العملية.
وحديث ولوغ الكلب لم يسجله سحنون في المدونة بل اكتفى بالإشارة إليه، وقد كانت هناك مقاومة شديدة لهذا الحديث.
ثم تحدث الأستاذ كلدر بأن مالكاً وقع أخيراً تحت تأثير اللوبي المعادي للكلب «anti-dog lobby» يعلق الأستاذ كلدر على حديث الهرة قائلاً: عندما ننظر في نصوص المدونة، نلاحظ أن هناك مشكلة نشأت عندما أريد التعميم في الحيوانات المفترسة التي تسبب في نجاسة المياه لأنه كان يشمل الكلب والهرة، وللتغلب على هذه المشكلة كان هناك جواب في بداية الأمر وهو نوع من التحايل، وإلقاء الضوء على الكلاب فقط، وذلك بإيجاد صنف مميز من الحيوانات، بأن الحيوانات المنزلية صنف مختلف عن الحيوانات المفترسة.
على كل كان هناك ارتباك بوجود حديث نبوي (يعني حديث ولوغ الكلب) والذي لم يسجل في المدونة إلا أنه قد أشير إليه. وهذا الحديث يدين الكلب بالشدة على تنجيسه الماء.
وحديث الهرة الذي نقلناه آنفاً - هو في الواقع - جواب لهذه المشكلة.
حديث الهرة يبدو بكل بساطة كأنه قضية فردية ثانوية، لا يشير إلى الكلب