الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إستعماري كان هدفه الأول الغزو الثقافي والفكري للمسلمين؟
ثم إن من يطلع على ما كتبه علماء الإسلام في الرد على النصارى، ربيان تحريفهم وكذبهم- وفي مقدمتهم شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم- يدرك أن تأثير النصارى على المسلمين سواء كان ذلك إبان الحملات الصليبية أو فيما بعد؛ كان محل خطر يشعر به ذوو الغيرة على هذا الدين (1) .
ثانيا: ظهور التتار
(2) .
اذا كان العالم الاسلامي قد مني بتلك الحملات الصليبية- على بلاد الشام - في أواخر القرن الخامس الهجري [490 هـ] ، فإن هذه الحروب لم تكد تنتهي حتى فجع العالم الإسلامي بمصيبة أخرى أشد وأفظع وأعظم خطرا. فقد اكتسح التتار (المغول) العالم الإسلامى من الشرق، وساروا في بلاد الاسلام يقتلون ويأسرون ويحرقون ويدمرون بطريقة همجية لم يشهد لها التاريخ مثيلا. وقد عبر عن ذلك المؤرخون المسلمون، وكان أصدقهم تعبيرا ابن الأثير- صاحب التاريخ- الذي عاصر بداية هجومهم ولم يعاصر سقوط بغداد [فقد توفي سنة 630 هـ] فقد قال- عن خروج التتر- في حوادث سنة 617 هـ: " لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها،
(1) من الكتب في ذلك قبل ابن تيمية: الفصل لابن حزم ت 456 هـ- الفصل المتعلق بالنصارى- وكتاب الرد الجميل للغزالى ت 505 هـ- وكتاب مقامع الصلبان لابن أبي عبيدة- أحمد بن عبد الصمد الخزرجي ت 582 هـ (ط في تونس، وطبع في مصر- مكتبة وهبة- بعنوان: بين الإسلام والمسيحية) أما المعاصرون لابن تيمية فمنها الأعلام للقرطبي (إن كان المفسر فقد توفي سنة 671 هـ) ، وكتاب الأجوبة الفاخرة للقرافي ت 674 هـ، ومنظومة الأبوصيري في الرد على النصارى مع شرحها- للأبوصيري- ت 696 هـ ومنها كتاب على التوراة للباجي ت 714 هـ- وضمنه الرد على النصارى. أما الكتب التي ألفت بعد ابن تيمية فكثيرة.
(2)
ويسمونا "المغول" أو " المغل" وهم قبائل من الجنس الأصفر، كانوا يسكنون منغوليا جنوب شرق سيبيريا على حدود الصين، وقد اختلطوا بالقبائل التركية حتى أن البعض صار يجعلهم من قبائل الترك. ويقول مؤرخ المغول رشيد الدين فضل الله الهمذاني (وزير قازان)"ومع أن الأتراك والمغول وشعبهم يتشابهون، وأطلق عليهم في الأصل لقب واحد، فإن المغول صنف من الأتراك، وبينهم تفاوت واختلاف شاسع" جامع التواريخ المجلد الثاني. الجزء الأول (ص: 2 1 2) ، وانظر الكامل (2 1/ 361) ، ودائرة المعارف الإسلامية (4/576) ، ودائرة معارف وجدى (2/538) .
فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا " (1) . أما السيوطي فقد نقل قائلا:" هو حديث يأكل الأحاديث وخبر يطوي الأخبار، وتاريخ ينسى التواريخ، ونازلة تصغر كل نازلة، وفادحة تطبق الأرض وتملؤها ما بين الطول والعرض "(2) .
وقد كان هؤلاء التتار قبائل متفرقة لا تستقر في مكان محدد، بل كانت ظروف البلاد التي يعيشون فيها [ما بين الأراضي الصينية الحارة والباردة في سيبيريا] ، تجعلهم يتنقلون كما يتنقل الرعاة. وفي أواخر القرن السادس الهجري برز فيهم أحد شبابهم الذي استطاع أن يجذب إليه ثقة كبار رجال المغول من عشيرته، ثم القبائل من حوله، فوحد بينها وتوج عليهم ملكا، وكان اسمه " تموجين" فتسمى بعد اختياره امبراطوراً ب- (جنكيزخان) وكان ذلك سنة 602 هـ. وبدأ يرسم لنفسه سياسة التوسع، فاتجه إلى الجنوب لإخضاع الصين، وإلى الغرب لاخضاع دولة الخطا (3)، وكذا ما حول ذلك من البلاد حتى أصبحت دولة المغول متاخمة للدولة الخوارزمية في إيران (4) . وحتى- نتجنب التوسع الذي ربما تفرضه أحداث هذه الفترة- نوضح الكلام حول المغول بما يلي:-
أ- بلغت الدولة الخوارزمية (5) التي قامت وتوسعت بعد السلاجقة- أوج اتساعها في عهدعلاء الدين خوارزم شاه وابنه جلال الدين منكبرتي، وقدكان لهؤلاء
(1) الكامل (12/358) .
(2)
تاريخ الخلفاء (ص: 741) .
(3)
الخطا بكسر الخاء وفتح الطاء مجموعة من القبائل المغولية وغيرها كونوا لهم دولة في تركستان سنة: 519 هـ قضى عليهم جنكيزخان سنة: 615 هـ وكانت دولة وثنية. انظر صبح الأعشى (4/483)، وكتاب الدولة الخوارزمية والمغول (ص: 46) وما بعدها.
(4)
انظر: تاريخ الخميس (2/367-368) ، الكامل (2 1/ 1 36) وما بعدها، سيرة السلطان جلال الدين للنسوى (ص: 38) وما بعدها، والدولة الخوارزمية والمغول (ص: 108-114) .
(5)
تنسب الدولة الخوارزمية إلى نوشتكين أحد الأتراك في بلاط ملكشاه السلجوقي، ثم اشتهر ولده محمد الذي عين حاكم على خوارزم ولقب خوارزم شاة، وبدأت هذه الدولة في التوسع، وصار صراع بينها وبين السلاجقة الذين تفرقوا وانهارت دولتهم بمقتل طغرلبك بعد معركة قرب الري سنة 590 هـ =
دور عظيم في مقاومة المغول، وإلحاق الهزائم بهم أحيانا، مما كان سببا في تأخير هجوم المغول على بغداد، ثم بلاد الشام. وهؤلاء وإن كان مؤرخو الإسلام ينتقدون ما كانوا يقومون به من القتل والسبى إلا أنهم يذكرون لهم ما قاموا به وبذلوه في حرب التتار (1) . حتى إنه لما قتل السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سنة 628 هـ دخل جماعة على الملك الأشرف موسى- صاحب دمشق (2) فهنأوه بموتهـ لما كان بينهما من العداوة- فقال الأشرف: تهنئوني بموته وتفرحون، سوف ترون غبه، واللة لتكونن هذه الكسرة سببا لدخول التتار إلى بلاد الإسلام. ما كان الخوارزمي إلا مثل السد الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج " (3) . وكان كما قال، فإنه لما قضى على الدولة الخوارزمية تهيأ التتار لاجتياح بغداد.
ب- قضى التتار- بقيادة هولاكو الذي عهد إليه أخوه قيادة الحملة إلى إيران- على الاسماعيلية المتمركزين في حصونهم في إيران وكان ذلك سنة 654 هـ، وقد كان هؤلاء الباطنيون يراسلون المغول ويحضونهم على القضاء على الخوارزميين ويدلونهم على عوراتهم. ولكن المغول يعرفون حقيقة هذه الطائفة وفسادها وأساليبها في حرب أعدائها، فلم يعبأوا بتلك العلاقات، بل سارعوا إلى القضاء عليهم حتى لا يكونوا شوكة في ظهورهم وهم سائرون إلى بغداد (4) . ومما تجدر ملاحظته أن نصير الدين الطوسى كان مقيما عند الاسماعيلية لما هاجمهم هولاكو، لكنه خرج سالما لممالأته له بل أدخله في خدمته واستوزره
= فسيطروا على العراق العجمى، وتقلدوا الحكم رسميا من الخليفة العباسي. انظر الكامل (12/106) ، والعبر لابن خلدون (5/94)، وزبدة التواريخ للحسيني (ص: 311-314) ، وانظر: الدولة الخوارزمية والمغول (ص: 17-33) .
(1)
انظر: سير أعلام النبلاء (22/328) ، والعبر (3/198، 202-203) .
(2)
ترجمته في سير أعلام النبلاء (22/122) .
(3)
النجوم الزاهرة (6/277) .
(4)
دول الاسلام للذهبي (2/158) ، وسير أعلام النبلاء (23/ 180) ، وجامع التواريخ، المجلد الثاني، الجزء الأول (ص: 250-257) ، وانظر كتاب " مؤرخ المغول الكبير: رشيد الدين الهمذاني، تأليف: فؤاد الصياد (ص: 28- 31) ، وانظر الحركة الصليبية (12/062 1) .
لما علم هولاكو اخلاصه ونصحه (1) .
ب- لما قضى التتار على الدولة الخوارزمية، وعلى الإسماعيلية اتجهوا إلى بغداد. وقد وقعت في سنة 655 هـ فتنة مهولة ببغداد بين أهل السنة والرافضة وقتل عدد من الفريقين، ونهب الكرخ- موطن الرافضة وذوي ابن العلقمى- فحنق ابن العلقمي (2) وزير المستعصم وكاتب التتار وأطمعهم في العراق، وعمل على تهيئة الأجواء فسرح جند الخلافة فلم يبق منهم إلا القليل، وحجب عن الخليفة الرسائل التي ترد إليه من صاحب الموصل وغيره، وبذلك تهيأت الأجواء لهؤلاء التتار، فجاءوا وأحاطوا ببغداد سنة 656 هـ فخرج إليهم ابن العلقمى واستوثق لنفسه من هولاكو، فرجع هو ونصير الدين الطوسى- وهما رؤوس الرافضة الخبثاء- إلى بغداد ليكملوا بقية دورهم في تخذيل الناس والخليفة بأساليب خادعة- حتى لا يبقى في وجه التتار مقاومة تذكر، يقول صاحب ذيل مرآة الزمان: " وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي عن دجلة وهو البر الذي فيه مدينة بغداد ودور الخلافة، وضرب سورا على عسكره، وأحاط ببغداد، فحينئذ أشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة بمصانعة ملك التتر ومصالحته، وسأله أن يخرج إليه في تقرير ذلك، فخرج وتوثق منه لنفسه ثم رجع إلى الخليفة وقال له: إنه قد رغب أن يزوج ابنته من ابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى سلطان الروم في سلطنة الروم، لا يؤثر إلا أن يكون الطاعة له، كما كان أجدادك [مع] السلاطين السلجوقية، وينصرف بعساكره عنك فتجيبه إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد، وحسن له الخروج إليه
(1) جامع التواريخ (م 2 ج 1ص: 257) ، وانظر حول علاقته ووزارته لهولاكو الوافي (1/179) ، وفوات الوفيات (3/246) ، والبداية والنهاية (13/ 1 20) ، وذيل مرآة الزمان (1/85-86) ، وانظر مجمرع الفتاوى لابن تيمية (35/142) .
(2)
هو: محمد بن محمد بن علي العلقمي، كان وزيرا للمستعصم، وكان رافضيا خبيثا، وكان من نيته لما اتصل بالتتار أن يقيم دولة رافضية في بغداد، فلم يتحقق له ما أراد، بل لقى أشد الاهانة من التتار فهلك غما وهما وكمدا في نفس هذا العام 656 هـ. انظر الوافي (1/184) ، وشذرات الذهب (5/272) ، والبداية والنهاية (13/ 212) .
فخرج في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا عقد النكاح فيما أظهره، فخرجوا فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة " (1) وقتل المستعصم قيل: إنه رفس حتى مات، "وبقى السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوما، فأقل ماقيل: قتل فيها ثمانمائة ألف نفس، واكثر ما قيل بلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف، وجرت السيول من الدماء فإنا لله وإنا إليه راجعون"(2) ولم ينج من بطشهم في بغداد إلا الرافضة وأهل الذمة (3) ، كا لم ينج من بطش النصارى لما فتحوا بيت المقدس إلا أتباع الدولة الفاطمية وولاتها على بيت المقدس.
وهكذا فضي على الخلافة العباسية، وأصبح العالم الإسلامي بلا خلافة - وكان للأساليب الوحشية التي قام بها التتار في قتل المسلمين آثار نفسية شديدة على بقية المسلمين بحيث أصبح ذكر التتار يثير الرعب في النفوس، وغلب على الناس مقولة: إن التتار لا يغلبون. وسارع الأمراء في الشام كصاحب الموصل وصاحب حلب وكذا سلاطين سلاجقة الروم- إلى إعلان الولاء لهولاكو وتهنئته بفوزه على الخليفة في بغداد (4) .
د- اتجه المغول بعد ذلك إلى الشام لاحتلاله، وكان يقتسمه النصارى من الفرنج، والأرمن، والأمراء الأيوبيون. وكان أول عمل عمله التتار عقد التحالف مع النصارى في أرمينية وأنطاكيا ضد الأمراء الأيوبيين وضد المماليك فيما بعد (5) . ثم ساروا إلى الشام والجزيرة فاحتلوا ميافارقين ثم ماردين (6) ،
(1) ذيل مرآة الزمان لليونيني (1/88-89) .
(2)
سير أعلام النبلاء (23/181) .
(3)
انظر: البداية والنهاية (13/2 0 1) ، والحركة الصليبية (2/067 1) .
(4)
انظر: في سقوط بغداد- وأحداثها المروعة- غير ما سبق: العبر للذهبي (3/277) ، ودول الإسلام (2/159) وشذرات الذهب (5/ 270) ، والنجوم الزاهرة (7/47) وما بعدها، والسلوك (ج 1 ق 2 ص:409) .
(5)
كان لهولاكو زوجة مسيحية، وكان لها دور في الصلات بين التتار والنصارى، وقد اشترك عدد كبير من الأرمن والنساطرة في جيش هولاكو لما هاجم بغداد ولم يكونوا أقل قسوة ووحشية من التتار أنفسهم. انظر الحركة الصليبية (2/1060،1067،1075) وما بعدها.
(6)
انظر: الامارات الأرتقية في الجزيرة والشام- عماد الدين خليل (ص: 327-332) .
كمااحتلوا نصيبين وحران والرها، وفي سنة 658هـ هاجموا حلب وقتلوا فيهاخلقا كثيراحتى امتلأت الطرقات بالقتلى وأسروا النساء ونهبوا الأموال. وأحرق النصارى الجامع الكبير فيها (1) ثم في نفس هذه السنة أخذ التتار دمشق، وصار لحلفائهم النصارى صولة وجولة، وتقدموا بالهدايا لهولاكو وعملوا أعمالا منكرة، من ذلك أنهم حملوا الصليب فوق الرؤوس وهم ينادون بشعارهم: ظهر الدين الصحيح دين المسيح ويذمون دين الإسلام وأهله، بل ألزموا المسلمين بالقيام في دكاكينهم للصليب وأهين القضاة والفقهاء لما جاءوا يشكون إلى متسلمها النصراني (2) .
ثم رجع هولاكو إلى الشرق لما علم بوفاة أخيه وكان ذلك سنة 658 هـ بعد أن أقام له نائبا معه جيش قوامه عشرة آلاف من التتار وكان ذلك بضغط من النصارى الذين كانوا يأملون في استرداد بيت المقدس من المسلمين (3) .
وقد واصل التتار زحفهم إلى بقية بلاد الشام فاحتلوا الخليل وغزة وبذلك أصبحوا على مشارف مصر.
هـ- في هذه الأجواء التى عاشها العالم الإسلامي انقرضت دولة الأيوبيين ونشأت دولة المماليك، وكان السلطان وقت سقوط بغداد: المنصور نور الدين على بن المعز أيبك، وكان صبيا صغيرا، فلما ظهر الخطر المغولي خاصة بعد احتلالهم الشام رأى المماليك أن السلطان صبى لا يستطيع تدبير المملكة، ومن ثم أعلن السلطان قطز (4) سلطانا سنة 657 هـ، وقد أرسل هولاكو - قبل رجوعهـ رسالة إلى الملك المظفر ملؤها التهديد والوعيد والغطرسة وفيها يطلب منه
(1) انظر: البداية والنهاية (13/218) ، والنجوم الزاهرة (7/74-76)، والسلوك (ج 1 ق 2 ص: 422) ، وذيل مراة الزمان (1/349) .
(2)
انظر: البداية والنهاية (9/13 21) ، والنجوم الزاهرة (7/76)، والسلوك (ج 1ق 2ص: 423- 425) .
(3)
السلوك (ج 1 ق 2 ص: 427)، مؤرخ المغول (ص: 51) .
(4)
هو: الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزى، يقال: أنه بن أخت خوارزم شاه، جلال الدين- آخر ملوك الدولة الخوارزمية الذين قاوموا التتار في المشرق- قتل الملك المظفر بعد وقعة عين جالوت في 16 ذو القعدة سنة: 658 هـ. ذيل الروضتين (ص: 210) ، وسير أعلام النبلاء (23/ 200) ، والدليل الشافي (2/544) .
الخضوع لسلطة المغول الذين لا تقف أمام قوتهم وسيوفهم أية قوة- كما يزعم-. وقد عقد السلطان مجلسا استشار فيه الأمراء، وبعد مداولات قرروا أنه لا مفر من الجهاد في سبيل الله ومقاومة التتار، وكان للملك المظفر دور في الخروج بهذه النتيجة، وأعلن الجهاد في سبيل الله في القاهرة وبقية أقاليم مصر، وأخذ يجمع المال اللازم للجهاد (1) . ولما تكامل العسكر طلب من الأمراء الرحيل فتلكأوا. ولكن الملك المظفر قال لهم:" وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين "(2) . وسار السلطان وقال: أنا ألقى التتار بنفسي فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا معه وسار الجيش إلى غزة ثم تقدم عن طريق الساحل فمر على عكا- وقد أوقع الله الخلف بين المغول والنصارى (3) - فلم يتعرض النصارى للمسلمين بل استقبلوهم وفرحوا بمقدمهم- وتجمعت الجيوش في عين جالوت (4) ،
وجرت تلك المعركة المشهورة، التى انتصر فيها المسلمون على التتار انتصارا ساحقا، وهزم التتار شر هزيمة، وقتل قائدهم، وطاردهم المسلمون يقتلونهم في كل مكان إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وفر منهم من كان بدمشق فتبعهم المسلمون يطاردون فلولهم، ودقت بشائر النصر في قلعة دمشق وغيرها وفرح المسلمون فرحا شديدا وكبت الله اليهود والنصارى ومن مالأ التتار من المنافقين. ودخل الملك المظفر قطز دمشق في موكب عظيم ثم أخضع بقية الشام الذي كان بأيدي الأيوبيين، فصفا الشام لحكم المماليك.
(1) كان للعز بن عبد السلام موقف عظيم، إذ أنه عارض أن يجبى شىء من المال من عامة الناس إلا بعد أن يحضر السلطان والأمراء ما عندهم وما عند حريمهم من المال والحلى، وإذا لم تكف جاز أن يقترض من أموال التجار وأن يفرض ضرائب على الرعية. النجوم الزاهرة (7/72) ، وطبقات السبكى (8/215)، وكتاب العز بن عبد السلام: رضوان الندوى (ص: 49 ا- 151) .
(2)
السلوك (ج1 ق 2 ص: 429) .
(3)
انظر: أسباب ذلك وظروفه في كتاب الحركة الصليبية (2/1075) وما بعدها.
(4)
بلدة من أعمال فلسطين تقع في الشمال الغربي من بيسان، فهى بينها وبين نابلس، معحم البلدان (4/177) ، الموسوعة الفلسطنية (3/368) ..
كان لهذه المعركة أثر عظيم في نفوس المسلمين في كل مكان، وقد عبر عن مدى الفرح والتأثر بنتائجها مؤرخو الإسلام الذين ذكروا هذه المعركة حتى قال صاحب المختصر:" وتضاعف! شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الاسلام ولأنهم ما قصدوا إقليما إلا فتحوه ولا عسكرا إلا هزموه فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم "(1) . كما كانت هذه المعركة بداية تحول في التاريخ الإسلامي فبرزت سلطة المماليك كدولة كبرى، كما مهدت للقضاء على الصليبيين، ولعل من أهم آثارها ظهور تغير عند التتار أنفسهم وتحول بعضهم إلى الإسلام.
و مسألة تأثر التتار واعتناق بعضهم الإسلام تحتاج إلى تفصيل، لأن بعض التتار- من أبناء عم هولاكو- دخلوا في الإسلام قبل معركة عين جالوت ولذلك يمكن توضيح هذا الأمر كما يلي:
أ- قسم جنكزخان مملكته بين أولاده، فكان من نصيب أحدهم وهو جوشى أكبر أبنائه؛ البلاد الواقعة بين نهر أرتش والسواحل الجنوبية لبحر قزوين، وكانت تلك البلاد تسمى القبشان، ويطلق عليها اسم القبيلة الذهبية- نسبة إلى خيام معسكراتها ذات اللون الذهبي- فلما مات جوشى خلفه أحد أولاده الذي تلقب بخان القبائل الذهبية ثم تولى بعده ولده، ثم تولى بعده بركة خان سنة 654 هـ (2) ، وكان بركة هذا مسلما لذلك عمل على نشر الاسلام بين قبيلته وأتباعه، وأظهر شعائر الإسلام واتخذ المدارس وأكرم الفقهاء وكان يميل إلى المسلمين ميلا شديدا. وقد بدا هذا في ظاهرتين:
أولاهما: محاربته لابن عمه هولاكو، خاصة بعد استيلائه على بغداد وقتله
(1) المختصر لأبي الفداء (3/205)، وانظر في هذه المعركة: الروض الزاهر (64)، وبدائع الزهور (ج 1 ق اص: 306) ، وذيل مراة الزمان (1/360) ، والبداية والنهاية (13/ 0 22) ، والعبر للذهبي (3/288) ، وحسن المحاضرة (2/39) ، والنجوم الزاهرة (7/78)، وانظر قيام دولة المماليك: أحمد مختار العبادي (ص: 158) وما بعدها.
(2)
انظر: السلوك (1/394-395)،- حاشية- ودولة بني قلاوون في مصر (ص: 217) .
للخليفة، وقد ظهرت بينهما خصومات ومعارك. وقد أقلق موقفه وإسلامه الطاغية هولاكو الذي اتجه إلى محالفة المسيحين ضد بركة وحلفائه.
ثانيهما: دخوله ومن جاء بعده في حلف سلاطين المماليك، الظاهر بيبرس، والناصر قلاوون وغيرهما، وقد توطدت العلاقة بين هاتين الدولتين، خاصة بعد المصاهرة التي تمت بينهم، وتبادل الرسل والهدايا، ومواجهتهم لعدو مشترك هم التتار الكفار (1) .
2-
أما دولة المغول الكبرى في إيران وما جاورها والتي منها انطلقت جحافلهم لغزو العراق والشام فقد حدث في عام 680 هـ أن أسلم أحد أولاد هولاكو وهو السلطان تكودار بن هولاكو الذي تسمى بعد إسلامه باسم أحمد، فصار اسمه: أحمد بن هولاكو، وقد أعلن إسلامه في منشور أصدره لما جلس على العرش ووجهه إلى أهل بغداد، كما أرسل رسالة إلى السلطان المنصور قلاوون يعلن اهتداءه إلى الإسلام، ويدعو إلى المصالحة ونبذ الحرب، ولم يتخل- كما هو واضح من رسالته هذهـ عن افتخاره واستعلائه على سلطان المماليك، وقد رد عليه السلطان قلاوون، ثم تبودلت الرسائل بينهم، ولكن لم تكن العلاقات بينهم جيدة كما يظهر من صيغة الرسائل المتبادلة. ومما يجدر ذكره أن السلطان أحمد دخل لوحده في الإسلام، ولم يستطع أن يفرضه على أتباعه ولا على أمراء المغول من حوله، فصار دخوله في الإسلام فرديا، وهذا ما يفسر سرعة القضاء عليه وقتله من جانب منافسيه من أمراء المغول الذين تآمروا عليه فقتلوه سنة 683 هـ (2) .
(1) انظر إضافة إلى المصدرين السابقين: المنهل الصافي (3/349) ، والبداية والنهاية (13/249) ، والنجوم الزاهرة (7/222) ، وذلك في ترجمة بركة خان وإسلامه، وقد وقع خلاف في تاريخ (سلام بركة، هل كان بعد توليه الملك سنة: 654 هـ، أو قبل ذلك بكثير. ولعل الثاني أرجح، وقد توفي سنة 665 هـ، وانظر الوافي (10/117) ، والعبر (3/312) .
(2)
انظر تذكرة النبيه (1/90)، تشريف الأيام والعصور (ص: 4- 71) وفيه نص المراسلات بين السلطان أحمد والسلطان قلاوون، وانظر جامع التواريخ (2/86-92) ، والوافي (8/227) ، والمنهل الصافي (2/254)، ومؤرخ المغول (ص: 60) ، ومما ينبغي ملاحظته أن محيي الدين ابن عبد الظاهر ذكر أن الشيخ عبد الرحمن الذى أرسله السلطان أحمد رسولا من قبله كان هو المشير على السلطان أحمد بالإسلام وإن ذلك كان خديعة ومكرا حتى يطمئن إلى هذه الجهة ويكتفي أمر السلطان ويتفرغ =
3 -
في سنة 693 هـ تولى محمود قازان عرش المغول، ثم في سنة 694هـ دخل في الإسلام، يقول الذهبي عن هذه السنة:" وفيها دخل ملك التتار غازان ابن أرغون في الإسلام وتلفظ بالشهادتين بإشارة نائبه نوروز، ونشر الذهب واللؤلؤ على رأسه، وكان يوما مشهودا، ثم لقنه نوروز شيئا من القرآن، ودخل رمضان فصامه، وفشا الإسلام في التتار "(1) ، وقد أعلن غازان الإسلام دينا رسميا للدولة المغولية في إيران، كما غير المغول زيهم فلبسوا العمامة، كما أمر بتدمير الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، والأصنام البوذية، كما أمر أهل الذمة بأن يتميزوا بلباس خاص بهم. وهكذا اختلف إسلام قازان عن إسلام السلطان أحمد بأن إسلامه لم يكن فرديا وإنما حوله إلى دين رسمي للدولة.
لكن هذه الصورة التي قد تبدو جميلة سرعان ما تتغير حين يتابع المرء الأحداث التي تمت في عهد هذا السلطان، فقد هاجم وجيشه الشام مرات ودارت بينهم وبين أله الشام - ومعه سلاطين مصر- معارك كبيرة، وانتصر المغول في أولاها وهزموا فيما تلاها، وقد عاث الجيش التتري فسادا في الأرض وفعلوا - كما قال ابن تيمية لقازان نفسه لما التقى بهـ ما لم يفعله أسلافه من حكام التتار الوثنيين. وقد بقيت الأمور على هذه الحال إلى ما بعد وفاة غازان سنة703هـ (2) .
وقد كان التتار يقدسون دستورهم الذي وضعه لهم جنكيز خان، وكان يسمى إلياسا أو اليساق وكانوا يتحاكمون إليه - وسيأتي عرض هذا الموضوع إن شاء الله - وبعد إسلامهم لم يتركوا التحاكم إلى هذا الدستور، فأوقع إسلامهم ونطقهم بالشهادتين شبهة لدى كثير من الناس - وفيهم بعض العلماء - حول جواز قتالهم وهم على هذه الحال. وقد حسم ذلك ابن تيمية - كما سيأتي.
(1) = لقتال قومه. انظر تشريف الأيام (ص: 48) ، والسلطان أحمد قتل ولم يجر بينه وبين المسلمين قتال. فالله أعلم بحقيقة الحال. انظر العبر (3/ 352) .
(1)
دول الإسلام (2/ 196) .
(2)
انظر فيما سبق وفي ترجمة قازان: شذرات الذهب (6/9)، وذيول العبر (ص:9) ، والنجوم الزاهرة (8/212) ، والبداية والنهاية (14/29)، وانظر مؤرخ المغول (ص: 70) وما بعدها. ووثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي (ص: 83) .
4-
بعد وفاة قازان تولى من بعده أخوه أولجاتيو، خدابنده، وصار اسمه محمد بن أرغون، وقد تولى عرش المغول سنة 703 هـ إلى سنة 716 هـ، وقد بدأ عهده بتحسين العلاقة مع سلطان المماليك، فأرسل إليه هدية وكتابا خاطب فيه السلطان بالأخوة " وسأله إخماد الفتن، وطلب الصلح، وقال في آخر كلامه: عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه، فأجيب، وجهزت له الهدية، وأكرم رسوله "(1) .
ولكن لم يكد يمضي سنة من توليه سلطة المغول حتى حدث تحول خطير عند محمد بن أرغون هذا، فقد اعتنق مذهب الشيعة، وعمل على نشره في الجهات الغربية من دولته حتى إنه غير الخطة وأسقط اسم الخلفاء سوى علي رضي الله عنه، وأظهر عداءه للمماليك السنيين، وطلب من النصارى أن يساعدوه ضدهم، ثم هاجم الشام سنة 712 هـ (2) .
ومما ينبغي ملاحظته أن تشيع هذا السلطان كان بتأثير من أحد كبار الرافضة وهو ابن المطهر الحلي الذي صارت له منزلة كبيرة في عهده، وقد أقطعه عدة بلاد (3)، ولعل نفوذ وشهرة هذا الرافضي- وهو صاحب كتاب منهاج الكرامة- دعا ابن تيمية-رحمه الله إلى إفراد الرد على كتابه هذا بكتابه العظيم:" منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ".
وقد استمر سلطان المغول على تشيعه حتى مات، ثم تولى ابنه أبو سعيد- وهو صغير- الذي لعب كثير ممن حوله به، ثم لما كبر مال إلى العدل وإقامة السنة وإعادة الخطبة بالترضي عن الشيخين ثم عثمان ثم علي- وفرح الناس بذلك (4) .
هذه خلاصة تاريخ المغول، وما يتعلق منه بأحوال العصر الذي عاش فيه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد كانت له جهود عظيمة في صد هذا الخطر الزاحف، كما كانت له مواقف عظيمة منهم.
(1) السلوك (خ 2 ق اص: 6) .
(2)
انظر: الوافي (2/85) ، وتاريخ ابن الوردي (2/377) ، والسلوك (2/159) ، والنجوم الزاهرة (9/238) ، والدرر الكامنة (3/468)، ودولة بنى قلاوون في مصر (ص: 03 2-4 0 2) .
(3)
البداية والنهاية (14 / 77) .
(4)
البداية والنهاية (14 / 77) .