الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: من المقصود بالسلف؟ ونشأة التسمية بأهل السنة والجماعة
من المقصود بالسلف؟
لقد تنوعت الآراء والمذاهب حول المقصود بمذهب السلف، وعلى من ينطبق وصف " السلف " الذين يجب اتباع مذهبهم والسير على منهاجهم، والسبب أن كل فئة تنطلق من وضعها الخاص بها وتدعى أن ما معها هو المذهب الحق؟ لذلك نجد هذه الفئة تحدد المقصود بالسلف بما يتم مع ما عندها من أصول عقائدية، أو منهج ارتضته للوصول إلى ما يجب اعتقاده.
أ) فأحيانا يتجه البعض (1) - من المحدثين- إلى حصر مذهب السلف بفترة معينة لا يتعداها، ثم يزعم أن الفكر الإسلامي قد تطور بعد ذلك على يد رجاله، وهذا التطور لا ينحصر عنده في نطاق فئة معينة، وإنما كل ما ظهر من الآراء والفرق منتسبا بعمومه إلى الإسلام فهو جزء منه، ولو خالف ما كان عليه السلف في المنهج والفهم والاعتقاد، وعلى هذا فالمعتزلة والرافضة بل والجهمية والباطنية هم نتاج مذهب السلف بعد تطويره وبعثه، وتجريده من ثوبه التقليدي البسيط إلى لباس العقل الفلسفى والتأويل الكلامي والباطني.
ولذلك فكثيرا ما يزعم بعض هؤلاء أن عقيدتهم هي التعبير الصحيح عن مذهب السلف، وأن مذهب السلف- بشكله المعروف- إنما ناسب الزمن الذي نشأ فيه، وأن رجاله الأوائل لو عاشوا إلى الزمن الذي بعدهم لطوروه إلى المستوى الذي وجد عليه فيما بعد.
ب) وبعضهم يفهم أن السلف نصيون، يعتمدون على النصوص فقط، أما العقل فلا يعتمد عليه في شيء أبدا، فهم يسلمون فقط لظاهر النصوص دون فهم لها، ويكلون علمها- معانيها وكيفيتها- إلى الله تعالى،
(1) أمثال مصطفى غالب وعارف تامر، وغيرهم، ممن يعنون ويميلون الى الأفكار الباطنية والفلسفية.
ولذلك فقد شغلوا أنفسمهم بما يرون أنه أنفع، من العبادة والجهاد في سبيل الله، وإقراء القرآن، ونقل الحديث وروايته.
والعجيب أن مفهوم هؤلاء عن السلف ومنهجهم منتشر بين جمهرة كبيرة من العلماء الذين نحوا منحى كلاميا- في عقائدهم أو في كتبهم حول العقيد ة- وأيضا من الذين كتبوا حول الفلسفة وعلم الكلام، أو أية قضية من قضاياه، ولذلك انتشرت بين هؤلاء-جميعا عبارة: أن مذهب السلف هو التفويض، أو عبارة بعض السلف:" أمروها كا جاءت "، أو أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم (1) .
أما العقل عند السلف- على رأي هؤلاء- فلا يعتمد عليه مطلقا، ولا أدري ما يصنع هؤلاء بالدلائل العقلية التى جاء بها القرآن والسنة، والتى استخدمها علماء السلف في العصر الأول؟.
ويعلل هؤلاء نشوء ما يسمى بمذهب " الخلف " أو " علم الكلام " بأنه لما كثرت الشبهات التي تثار ضد العقيدة الإسلامية، رأى علماء الإسلام أنه لا يكفى للرد عليها وإبطالها وحماية الناس- وخاصة العامة منهم- من شرورها وآثارها لا يكفي في ذلك الاعتماد على مذهب السلف النصي، فنشأ علم الكلام بمباحثه العقلية والكلامية ليرد الشبهات ويثبت العقيدة ويظهر الحجاج لها في أجواء سادت فيها مذاهب الفلاسفة والجهممية والمعتزلة والقرامطة.
فهل فهم هؤلاء لمذهب السلف كان صحيحا؟ حين قصروه على الإيمان بالنصوص والتسليم دون فهم أو اقتناع؟
ج-) وتأتي فئة أخرى تزعم أن ما نشأ من الدراسات العقلية في علم الكلام لم ينشأ من المؤثرات الخارجية والشبهات التى أثارها أعداء العقيدة- وإن كان قد تطور بسببها- وإنما نشأ من مذهب السلف نفسه وأن بواكير الفلسفة الاسلامية وعلم الكلام إنما جاءت من القرآن الكريم، ففيه المجادلة للمخالفين من أهل الديانات الأخرى وغيرهم، وفيه ذكر الحكمة التي كانت
(1) كما هو منتشر في كتب كثير من الأشعرية وغيرهم.
معروفة عند العرب وكان يفتخر بأصحابها، وأن ما نشأ من البحث حول الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وذلك بما يسمى بأصول الفقه إنما هو بداية ظهور الاتجاه العقلي عند المسلمين (1) .
فالذي يفهم من هذا أن السلف- رحمهم الله تعالى- كانوا يحترمون النصوص، ولكن من خلال منظار عقلي استخدموه ونشأ على أثره علم الكلام، فكيف يصح هذا على إطلاقه مع ما هو متواتر عن السلف من الإيمان والتسليم والثقة المطلقة بما جاءت به النصوص، وأن هذه الثقة توجد على أتمها حين ترد على النفس أو يورد بعض الناس- شبهات أو وساوس حولها؟.
د) وإذا كانت الآراء السابقة تنحو منحى خاصا في فهم المقصود بمذهب السلف، فإن هناك اتجاها آخر يزعم أصحابه أن مذهب السلف يشتمل على عدة اتجاهات وتيارات، وأن هذه التيارات وإن تباينت في المنهج- إلأ أنها تلتقى في أنها قامت ونشأت على يد علماء الإسلام ممن هم من أهل الدين والفضل والعلم بالأحكام، يقول ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: " اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل وإن اختلفوا في الطرق والمبادى الموصلة لذلك، وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف:
الأولى: أهل الحديث، ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية: الكتاب والسنة والإجماع.
الثانية: أهل النظر العقلي، وهم الأشعرية والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسمن الأشعري، وشيخ الحنفية: أبو منصور الماتريدي، وهم متفقون في المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط، والعقلية والسمعية في غيرها، واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية إلا في مسائل.
(1) انظر: تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية، مصطفى عبد الرازق، (ص: 15 ا-123) ، وانظر: المدرسة السلفية، حسين نصار، (ص: 624- هـ 62) .
الثالثة: أهل الوجدان والكشف، وهم الصوفية، ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية والكشف والإلهام في النهاية " (1) ، وهكذا يخلط بين اتجاه أهل الحديث، والاتجاه التأويلي للأشعرية والماتريدية، واتجاه الكشف عند المتصوفة ليصبح كل اتجاه منها هو مذهب أهل السنة والجماعة.
* * *
وهذه الاتجاهات والآراء حول تحديد المقصود بالسلف نشأ الخطأ في كل واحد منها من جهة أنه لم ينطلق أصحابها من منطلق شرعي واضح، مبني على الكتاب والسنة اللذين أمرا بالاتباع ونهيا عن الابتداع، وحددا معا لم المنهج والطريق الذي يجب السير فيه، ومن ثم يجب اتباع من سار على هذا الطريق المستقيم.
ومما ينبغي ملاحظته أنا إذا أردنا أن نبين القول الصحيح في تحديد من هم الذين يصدق علهم اسم السلف، تبرز بعض الملاحظات والاعتراضات:
أ) فمثلا: حين نقول: إن السلف هم الصحابة والتابعون والتابعون لهم للحديث الوارد: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم.. "(2) ،
يرد الاعتراض بأن التفرق والاختلاف نشأ في عهد هؤلاء، فالخوارج والشيعة والقدرية وجدوا في عهد الصحابة، وكذا بقية الفرق بعد هؤلاء بقليل، فهل وجود هؤلاء في هذه الفترة الزمنية التى هي خير القرون يعطيهم صفة السلفية المفضلة؟، وإذا كان الجواب قطعا بالنفي فلابد من التقييد لمثل هذا الاطلاق في تحديد من هم السلف بحيث لا يقتصر على التحديد الزمني فقط.
(1) إشارات المرام للبياضي- الحاشية- (ص: 298) .
(2)
رواه البخاري، في الشهادات، ورقمه (2651) ، وانظر أطرافه بعد ذكر الحديث. ورواه مسلم في فضائل الصحابة، وأرقامه (533 2-536 2) .
ب) وكذلك حينما يقال: إن السلف هم الذين يعتمدون في أقوالهم على الكتاب والسنة، يبرز اعتراض خلاصته: من الذي يعتمد عليه في فهم الكتاب والسنة؟ خاصة وأن الفرق كلها تدعي الاعتماد على القرآن والسنة؟، فالإطلاق هكذا يحتاج إلى بيان وإيضاح.
ج-) وكذلك حين يحصر البعض مذهب السلف! بالأئمة الأربعة:
أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فمن كان قبل هؤلاء من الصحابة والتابعين أليسوا أوفى بوصف السلف!؟.
لذلك لابد من التحديد الدقيق للتعريف بالسلف بحيث يشمل:
أولا: التحديد الزمني: ليشمل الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، وهذا لبيان المنطلق والبداية لمذهب السلف، وفائدة هذا التحديد الرجوع إلى أقوال رجال هذا الزمن وإلى فهمهم عند الاختلاف الذي قد ينشأ فيمن بعدهم. وهذه مسألة مهمة جدا؟ إذ الخلاف الحاصل بعد القرون المفضلة بين من يتمسك بمذهب السلف ومن عداهم من أهل الأهواء والبدع لا يمكن حسمه إلا بالاتفاق على مثل هذا التحديد التاريخي ليحتكم إلى إجماعهم- إذا أجمعوا- أو أقوالهم، أو فهمهم للنصوص.
ولا يعني هذا حصر مذهب السلف في هؤلاء، لأن كل من قال بقولهم فهو على السلف وإن تأخر.
ثانيا: ثم يأتي بعد ذلك بيان أن الفهم والمنطلق يجب أن يكون بما يوافق الكتاب والسنة، فمن ابتدع في أمر من الأمور واتخذ لبدعته منهاجا خاصا، لا يكون قوله قولا للسلف، ولو كان هذا في القرون الأولى، لأن وجوده في هذا الزمن لا يكفي للحكم عليه بأنه سائر على مذهب السلف.
ثالثا: بعد ظهور الافتراق يصبح مدلول " السلف " منطبقا على من حافظ " على العقيدة والمنهج الإسلامي، طبقا لفهم الأوائل الذين تلقفوه جيلا
بعد جيل " (1) ، فمن سار على طريقة الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، الذين اتبعوا ولم يبتدعوا فهو سائر على مذهب السلف، وهو أيضا بالنسبة لمن بعده من السلف.
والخلاصة أن مصطلح السلف صار له مدلولان:
* مدلول خاص: وهذا ينطق على مذهب الصحابة والتابعين، والتابعين لهم بإحسان، ممن لم يبتدعوا، وهذا فيه حصر تاريخي.
* ومدلول أعم: يشمل ما بعد هذه القرون المفضلة، وهذا شامل لكل من سار على طريقة ومنهج خير القرون، والتزم النصوص والفهم الذي فهموه (2) .
نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة:
إذا كان مذهب أهل السنة والجماعة هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإطلاق القول بنشأة أهل السنة كا يقال نشأة المعتزلة، الجهمية أو نشأة الرافضة؟ لا معنى له؟ لأنه واضح تمام الوضوح، ولذلك آثرنا أن يكون العنوان: نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة كمصطلح عليهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم، معروف، قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم "(3) .
والمتتبع لنشأة التسمية بأهل السنة يلاحظ أنها ربطت بالإمام أحمد-رحمه الله وليس ذلك لأن الإمام أحمد هو الذي أنشأه، وإنما لأنه هو الإمام الذي امتحن فيه فصبر فصار إماما من أئمة أهل السنة يقول شيخ الاسلام ابن تيمية
(1) قواعد المنهج السلفي، مصطفى حلمي (ص: 23) ط ثانية.
(2)
انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة.
(3)
منهاج السنة (2/482) تحقيق محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى.
بعد الكلام السابق: " وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشهر بإمامة السنة والصبر في المحنة، فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المئة الثالثة- عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق- ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى، وهو المذهب الذى ذهب إليه متأخرو الرافضة، وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور، فلم يوافقهم أهل السنة حتى تهددوا نجعضهم بالقتل، وقيدوا بعضهم، وعاقبوهم، وأخذوهم بالرغبة والرهبة، وثبت الإمام أحمد على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة، ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته، فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم
…
[وذكر المحنة] ثم قال: " ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة، وصنف الناس في ذلك مصنفات، وأحمد وغيره من علماء السنة والحديث ما زالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام، ورفع الله قدر هذا الإمام، فصار إماماً من أئمة السنة، وعلما من أعلامها، لقيامه بإعلامها وإظهارها، واطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لخفي أسرارها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا، ولهذا قال بعض شيوخ المغرب: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد، يعني أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد، وهو كما قال "(1) .
فمن هذا النص يتبين أن مذهب أهل السمنة والجماعة امتداد لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا ما قام إمام من الأئمة في زمن البدع بالدعوة إلى العقت ة السليمة وإلى منهج أهل السنة، ومحاربة ما يخالفها فهذا الإمام لم يأت بجديد، وإنما جدد ما اندرس من مذهب أهل السنة وأحيا ما مات منه، وإلا فالعقيدة لم تتغير، فإذا ما نسب - في بعض الأزمان أو الأمكنة - مذهب
(1) منهاج السنة (2/482 - 486) تحقيق: محمد رشاد سالم.
أهل السنة إلى عا لم من العلماء، أو مجدد من المجددين فلأنه دعا اليه لا لأنه ابتدعه أو اخترعه.
ومما سبق يتبين أن طرح النشأة لمذهب أهل السنة ينبغي أن ينصب على التسمية، أما النشأة ذاتها فواضحة لأنها كانت مع مجيء الإسلام الذي وضح وكمل أتم كمال وأبينه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فمن جاء بعده إذا قيل عنه: إنه إمام أهل السنة- في زمنه أو بعد زمنهـ فلأنه دعا إلى الأصول الأولى لمذهب أهل السنة وجدد ما اندرس منها.
وبدء التسمية مرتبط بنشأة الفرق؟ لأن من الطبيعي أن يتميز أهل السنة عن بقية أهل الأهواء من أهل الفرق الذين انحرفوا عن المنهج السوي والذين ابتدعوا أقوالا وآراء مخالفة لما كان عليه أهل الصدر الأول.
والكلام حول بدء الفتنة ونشوء الفرق يطول، ولكن نشير إلى لمحات في هذا الأمر لنصل إلى حقيقة تميز أهل السنة عن غيرهم:
ا- من المعلوم أن الفتنة وقعت في آخر عهد عثمان بن عفان- رضي الله عنه وكان من آثارها استشهاده، ثم نشأت على أثر ذلك الفرق، وكان أول بدعة نشأت بدعة الخوارج والروافض، فالخوارج كفروا عليا- رضي الله عنه وخرجوا عليه، والروافض ادعوا إمامته وعصمته، أو نبوته أو إلهيته.
ثم بعد ذلك أخذت البدع تتوالى في الظهور ف-" لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان في أول عصر التابعين- في أواخر الخلافة الأموية- حدثت بدعة الجهمية والمشبهة والممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك "(1)
2-
كانت بدعتا الروافض والخوارج- من أول البدع ظهورا- كما سبق- وكانتا من المعالم الرئيسة في تميز أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث:
(1) المنتقى (ص: 387) .
أ) ففي أجواء هذه الفتنة بدأ المسلمون يعنون بالبحث عن الإسناد، والكلام في الرجال، وذلك لأن السلف خافوا من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن دواعي ذلك موجودة في مثل هذه الظروف، فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين أنه قال:" لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم "(1)، وابن سيرين كان يقول:" إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"(2) .
وهنا بدأ التميز لأهل السنة والجماعة، وذلك بتمييز من تقبل روايته ممن لا تقبل؟ فمن كان من أهل السنة والاتباع، ولم يقل بقول طائفة من الطوائف المنحرفة بل ثبت على الهدى الصحيح، هدي الصحابة والتابعين، فهذا له تميز عند علماء الحديث، وروايته مقبولة- مع الاعتراف بتفاوت الرجال الذين لهم هذه الصفة من ناحية الحفظ والضبط- وأما من كان من أهل البدعة فروايته مردودة إلا بشروط دقيقة (3) .
ومما يلاحظ أن الكذب قد اشتهر عند الرافضة، ولذلك قال عنهم الإمام الشافعي-رحمه الله:" لم أر من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة "(4) ، ولما وقعت فتنة المختار - ذى الميول الشيعية (5) - اشتهر في زمنه الكذب ووضع
(1) صحيح مسلم، المقدمة (ص: 15) ، وانظر: الكفاية (ص: 162-163) هندية، وشرح علل الترمذى (1/51) .
(2)
الكفاية (ص: 162) .
(3)
حكم الرواية عن أهل البدع تكلم عنها العلماء: انظر: الكفاية (ص: 159) وما بعدها، وشرح علل الترمذى (1/53) وما بعدها، وتدريب الراوي (1/324) وما بعدها.
(4)
الكفاية (ص: 167)، وقال يزيد بن هارون [توفي سنة: 26 هـ] سير أعلام النبلاء: 9/358: " يكتب عن كل مبتدع- إذا لم يكن داعية- إلا الرافضة فإنهم يكذبون "(المنتقى ص: 22) .
(5)
من العجيب أن هذا الكذاب كان أول أمره ناصبيا، فأبغضته الشيعة، ثم تشيع. انظر ترجمته في: البداية والنهاية (8/289-292) ، وانظر سير أعلام النبلاء (3/538) ، وميزان الاعتدال (4/ 80)، وكان المختار يزعم أنه يوحي إليه. انظر: المسند للإمام أحمد (5/223-224) قتل المختار سنة: 67 هـ.
الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا روى الإمام أحمد عن جابر بن نوح عن الأعمش عن إبراهيم [النخعي] قال:" إنما سئل عن الإسناد أيام المختار "(1) ، والمختار نفسه كان يأمر بأن توضع له الأحاديث المكذوبة، فقد أمر رجلا- من أصحاب الحديث- قائلا:" ضع لي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أني كائن بعده خليفة "، فرفض الرجل (2) ، بل أمر محمد بن عمار بن ياسر أن يحدث عن أبيه بحديث كذب فأبى فقتله (3) . ولذلك فشا الكذب في عهده، كما روى شريك عن أبي إسحاق: سمعت خزيمة بن نصر العبسى- أيام المختار- وهم يقولون ما يقولون من الكذب- وكان من أصحاب علي- قال: " ما لهم قاتلهم الله، أي عصابة شانوا وأي حديث أفسدوا "(4) . وإذا كان الرافضة أهل كذب فقد ضموا إليه الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورميهم بالكفر والردة إلا أعدادا قليلة.
وليس الغرض استقصاء هذه الأمور- فالموضوع فيها طويل- ولكن نشير هنا إلى أن تميز أهل السنة واكب ظهور الرافضة من جهتين:
الأول: انتشار الكذب عندهم (5) ، مما أثار علماء السنة للبحث عن الرجال والأسانيد، فبدأ بتميز أهل الحديث عن غيرهم، وسبق أن ذكرنا أقوال العلماء بأن الفرقة الناجية هم أهل الحديث.
الثانية: طعنهم في الصحابة، ونشوء البدع وكئرتها لديهم، حتى أصبح شعار " أهل السنة " كثيرا ما يستعمل في مقابل الرافضة، وسفيان الثوري-رحمه الله
(1) شرح علل الترمذيا (1/52)، ورواه الخطيب في الجامع عن خثيمة بن عبد الرحمن. (الجا مع: 1/ 130) تحقيق: الطحان.
(2)
التاريخ الكبير للبخاري (8 / 434- 435) ، والصغير (1 / 47) ، والموضوعات لابن الجوزي (1/39) .
(3)
الجامع للخطيب (1/131) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/43) .
(4)
رواه البيهقى في المدخل، رقم (83) ، وانظر علل الترمذى (1/52) .
(5)
بل الكذب أحد أصولهم وذلك بما يسمى " التقية "! عندهم.
فسر موافقة السنة ب- " تقدمة الشيخين أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما "(1) .
ب) وفي مقابل فتنة الروافض جاءت فتنة الخوارج، والذي يلاحظ أن الخوارج اشتهر عنهم الصدق، ولعل مرد ذلك اعتقادهم أن مرتكب الكبيرة كافر، والكذب كبيرة من الكبائر، ولهذا روي عن أبي داود سليمان بن الأشعث أنه قال:" ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج "(2) . ولذلك روى البخاري وغيره عن دعاتهم، ولكن صدقهم وحماستهم لم يكن حائلا دون أن تكون فتنتهم وضلالهم شديدة الوطأة على المسلمين، لأنهم كفروا من عداهم، ولم يكتفوا بذلك، بل ميزوا صفوفهم عن صفوف غيرهم من المسلمين، وحاربوا وقاتلوا، فصارت بدعتهم وانحرافهم أشد من غيرها، ولذلك قاتلهم علي- رضي الله عنه وأجمع الصحابة على قتالهم.
فالخوارج خرجوا على الجماعة الذين لهم إمام شرعي، ومع ظهور فتنة هؤلاء برز أهل السنة بحرصهم على الجماعة وعدم الخروج على الإمام الشرعي - ولو كان جائرا- وصاروا يذكرون هذا الاعتقاد ويدعون إليه ويحذرون من مخالفته، وحرص المسلمون على الجماعة ونبذ الفرقة، ولما اجتمعوا على معاوية - رضى الله عنهـ عام إحدى وأربعين بعد تنازل الحسن- رضى الله عنهـ سموا هذا العام عام الجماعة.
(1) شرح السنة للالكائي (1/152) ، ومما يلاحظ أن سفيان الثورى في اعتقاده هذا الذى سأله عنه شعيب بن حرب- لما ذكر بعض أمور الاعتقاد التى تميز أهل السنة ذكر مسألة المسح على الخفين وعدم الجهر بالبسملة- مع أن مسألة الجهر بالبسملة من المسائل الفرعية التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة. وقد علل ذلك ابن تيمية في منهاج السنة (2/184) ط مكتبة الرياض الحديثة، بقوله:" حتى أن سفيان الثورى وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة، لأنه كان عندهم من شعار الرافضة؟ يذكرون المسح على الخفين لأن تركه عندهم من شعار الرافضة.. ".
(2)
الكفاية (ص:172 - 173) هندية - ولكن وردت روايات أن الخوارج ربما يضعون الأحاديث، فقد روى عن أحد شيوخهم أنه قال:" إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا". (رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص: 415-416) ، =
فظهور بدعة الخوارج ميزت أهل السنة من جانبين:
الأول: خروج الخوارج عن المذهب الحق بالتكفير لمن عداهم من المسلمين، ولا شك أن هذه بدعة شنيعة، وقد حرص المسلمون على الرد على أصحابها، وتحذير الناس أشد التحذير فهم. وصار من معا لم مذهب أهل السنة عدم التكفير لمرتكب الكبيرة.
والثاني: خروجهم على الجماعة وعلى الإمام الشرعي وقتالهم للمسلمين بناء على أصل مذهبهم التكفير، وقد قابل أهل السنة هذا بمقاتلتهم حتى يقضي عليهم أو يكفوا شرهم وبالتحذير منهم وإعلان وجوب اتباع النصوص التي حذرت من الخروج على أئمة المسلمين وإن جاروا وظلموا، ولذا كان أحد المعاني المهمة للجماعة أنها الجماعة الذين اجتمعوا على أمير.
3-
وبعد ظهور فتنة الروافض والخوارج أخذت بقية البدع تظهر بين المسلمين كبدعة القدر، والإرجاء، والتجهم، فقاومها أهل السنة وحذروا فها ومن أصحابها، حتى صار أهل البدع نشازا في المجتمع الإسلامي يأوي إليهم ويسمع أقوالهم إما أهل الزندقة والنفاق، ممن يكيدون لهذا الدين في الخفاء، وإما أصحاب الإيمان الضعيف ممن تؤثر فيهم وتستهويهم هذه البدع وما فيها من آراء وأفكار جديدة على المسلمين، أما السواد الأعظم من المسلمين فإنهم يتبعون علماء الآفاق من أهل السنة في كل مكان.
وحذر علماء أهل السنة من أصحاب الأهواء، حتى كان الحسن يقول:" لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم "(1)، ولما جاءه رجل فقال:" يا أبا سعيد أني أريد أن أخاصمك "، فقال الحسن: " إليك عني
(1) = والخطيب في الكفاية (ص:63 1) هندية، وابن الجوزي في الموضوعات (1/38-39)، وانظر مناقشة الموضوع بشكل موسع في كتاب: " الوضع في الحديث (1/229-238) ، حيث رجح الدكتور عمر فلاتة في رسالته هذه أن الخوارج ليس لهم دور في الوضع في الحديث.
(1)
شرح السنة للالكائي، رقم (240) ، ورواه الدارمى في السنن، رقم (407) - ط اليماني - عن الحسن وابن سرين.
فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه " (1) . واستمر تحذير العلماء من أهل الكلام والبدع، وصار مذهب أهل السنة متميزا بالاتباع والسير على منهاج الصحابة رضي الله عنهم مع البعد عن أهل البدع والإنكار عليهم - فصار لقب أهل السنة مقابل: أهل البدع والأهواء والكلام.
ولما وقعت محنة القول بخلق القرآن - وصار للمعتزلة دولة وصولة امتحن أهل السنة وثبت الله الإمام أحمد رحمه الله فصار وقوفه وثباته مثالاً شامخاً للثبات على مذهب أهل السنة في مقابل أهل البدعة، فصار الإمام أحمد إمام أهل السنة لذلك.
هذه خطوط عريضة لعلها تكون قد أوضحت كيف نشأت التسمية بأهل السنة والجماعة، أو اهل الحديث، وإن ذلك كان مع ظهور البدع ونشوء الفرق، وما صاحب ذلك من الاستهانة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبنقلته من الصحابة، فبدأ أهل السنة يعلنون تميزهم من خلال:
1 -
العناية بالحديث رواية ودراية، والكلام في الرجال، والسبب في ذلك نشوء الكذب مع كثرة أهل الأهواء.
2 -
المحافظة على السنة وعلى ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، من غير ابتداع في الدين أو اتباع لأهل الأهواء والكلام المذموم على اختلاف مذاهبهم وأقوالهم.
3 -
المحافظة على الجماعة التي تعني الاتباع والسير على المنهج الحق، وتعني أيضاً المحافظة على وحدة الأمة وعدم الخروج على الجماعة التي لها إمام شرعي.
أما التحديد الدقيق لنشأة التسمية بأهل السنة والجماعة، وربط ذلك بزمن محدد أو بعلم من أعلام أهل السنة، أو نشوء فرقة من الفرق، فلا أظن أن ذلك ممكن إلا من خلال خطوط عريضة كما أسلفنا - والله أعلم -.
(1) شرح السنة، رقم (215)، والآجري في الشريعة (ص: 57) بلفظ مقارب.