الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- في ضمن مهامهـ على معاملة التجار الواردين إليه بالعدل والرفق، وأن لايسلك بهم حالة تجلب لهم القلق والتظلم (1) .
وكانت تتم أحيانا معاهدات- مع النصارى- تتضمن ما يتعلق بالأمور التجارية، وكان حكام المماليك في موقف الأقوى- خاصة بعد نهاية الحروب الصليبية بالشام-، وفي عهد المنصور قلاوون- في سنة 686 هـ- عقد صلح مع ملك أرغون- حاكم برشلونه في الأندلس، ومع أخيه صاحب صقلية- وكان ضمن هذا الصلح- الذي ينص على حماية كل بلد لتجار ومراكب وسفن البلد الآخر- نص يقول:" وعلى أنه متى كانت بين تجار المسلمين وتجار بلاد الريدراغون [أي ملك أرغون في شرق الأندلس] معاملة في بضائعهم وهم في بلاد مولانا السلطان كان أمرهم محمولا على موجب الشرع الشريف "(2) .
ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وإنما تعداهـ تشجيعا للتجار- إلى إعطائهم كثيرا من الامتيازات، بحيث جعلت لهم فنادق يسكنون فيها، وصار لهم قنصل دائم يتحدث باسم الممالك التي ينتمون إليها، وتطور الأمر إلى ما هو أخطر وذلك بالسماح لهم بإحضار الخمور ليستعملوها هم، وكذلك يتحاكمون إلى قناصلهم حسب قوانينهم لا حسب الشريعة (3) .
سابعا: الجوانب العلمية والعقائدية:
إذا كان هذا العصر- عصر المماليك- قد تميز بأنه عصر جهاد ومقاومة لأعداء الإسلام من المغول والصليبيين، الذين أرادوا أن يحطموا الإسلام وما يحمله من حضارة وعلوم ومعارف كانت محط أنظار العالم أجمع، وإذا كان المماليك
(1) انظر: صبح الأعشى (1 1/ 0 4- 42، 9 1 4-423) ، وأيضا (13/339- 342) .
(2)
تشريف الأيام والعصرر (ص: 161)، وانظر نص الهدنة (ص: 56ا-164) ، وانظر صلحا آخر مابها مع أهل جنوة (ص: 165-169) .
(3)
انظر في هذه القضية: تشريف الأيام والعصور (ص: 51) من مقدمة المحقق، وانظر: بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى (ص: 31 ا- 140)، ودراسات في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب (ص: 02 ا-19 1) ، ودولة بني قلاوون (ص: 339-346) .
قد قاموا بدور عظيم في الجهاد والعناية بكل ما يدعمه وينمى جيوشه وأساطيله، فلا يعنى هذا أن هذه الأمور طغت عليه فلم يتميز بجوانب أخرى.
لقد برزت الناحية العلمية- التى قادها علماء كبار- في شتى التخصصات، في التفسير والحديث والفقه والتاريخ والتراجم واللغة وغيرها، كما عنى علماء هذا العصر بالتأليف الموسوعي، وهذه المؤلفات وإن كان يغلب عليها الجمع والنقل عن السابقين، إلا أنها لا تخلو من بحوث لموضوعات جديدة، كما أنها حفظت لنا كثيرا من كتب السابقين المفقودة.
لقد برز في هذا العصر أعلام أمثال: النووي والعز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وبدر الدين بن جماعة، كما برز الذهبى والصفدي وابن حجر العسقلافي، والبدر العينى، وابن تغري بردي والمقريزي والسيوطي والقلقشندي وغيرهم ممن أصبحت مؤلفاتهم- في العصر الحاضر- من أشهر المؤلفات وأكثرها فائدة للعلماء والباحثين.
ولم يكن العلماء قابعين في بيوتهم للتأليف والجمع فقط وإنما كانوا يقومون بدور كبير في التدريس والقضاء، والأمر بالمعروف والهي عن المنكر، وقد وجد في هذا العصر من كانت له مواقف مشهودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالإمام النووي [توفي سنة 676 هـ] الذي كتب إلى السلطان الظاهر بيبرس من ضمن ما كنب يقول- في جواب على جواب السلطان الذي يحمل التوبيخ والتهديد-:" وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعنى ذلك من نصيحة السلطان فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى.... "(1) ، أما مواقف العز ابن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية فهي مشهورة.
(1) ترجمة النووى للسخاوى (ص: 42) ، وحسن المحاضره (2/ 100)، وانظر: تفاصيل موقف النووي ورسائله في هذا الموضوع في المصدرين السابقين، في ترجمته للسخاوي (ص: 40- هـ ه) ، وحسن المحاضرة (2/97- 5 10) .
أما الناحية العقدية - في هذا العصر- فلتوضيحها نعرض لأحوال أهل الذمة ثم إلى انتشار التصوف والشركيات، وأخيرا نعرض إلى انتشار المذهب الأشعري.
أولا: أهل الذمة:
لأهل الذمة أحكام ذكرها العلماء، وأشهر ما جع في ذلك ما ورد في الشروط العمرية- نسبة الى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه (1) ، ثم لما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز-رحمه الله كانت له مواقف من أهل الذمة (2) ، وقد اهتم العلماء في هذه المسألة وأبرز من اهتم بها وذكر فيها روايات عديدة عبد الرزاق الصنعاني [المتوفي سنة 211 هـ] وذلك ضمن موسوعته الحديثية " المصنف " وسماه " كتاب أهل الكتابين "(3) ، ولعل سر اهتمامه بذلك كونه عاش في اليمن حيث يوجد هناك بعض اليهود والنصارى.
وقد بقى أهل الذمة في العالم الإسلامي غالبا ما يلتزمون هذه الشروط العمرية- سواء منها ما يتعلق باللباس المميز لهم أو غيره -، حتى إذا جاء الفاطميون واحتلوا مصر وهم يحملون معهم المذهب الشيعي الغالي الخالف لمذهب جمهور المسلمين السنيين، ورأوا أنه لا يمكن الاعتماد- كليا- على أهل السنة الموالين للخلافة العباسية، قرب الخلفاء الفاطميون أهل الذمة من اليهود والنصارى وولوهم مناصب كبيرة في الدولة بلغت أحيانا مرتبة الوزارة، وقد عمل هؤلاء - حتى ولو كانوا من اليهود- على التساع مع النصارى وتوظيفهم، وبناء الكنائس، وبلغ من تعاطف! بعض الخلفاء الفاطميين مع النصارى أن صاروا يحتفلون معهم بأعيادهم الخاصة بهم وقد لقى المسلمون من جراء هذه الأمور
(1) انظر: نص هذه الشروط والكلام حول رواياتها ثم شرحها في أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/657) وما بعدها. وانظر الأموال لأبي عبيد (ص: 23 1) وما بعدها، وانظر: معالم القرية (ص: 94)، ونهاية الرتبة (ص: 106) .
(2)
انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (ص: 81) ولابن عبد الحكم (ص: 140) .
(3)
المصنف (0 1/1 1 3-378) .
أذى ومصاعب كثيرة (1) .
وفي عهد المماليك - صارت الدولة تلزم رؤساء الطوائف بعد تعيينهم أن يلتزموا ويلزموا أتباعهم بالشروط المعروفة على أهل الذمة، وأن يلتزموا أيضا بالقيود المفروضة عليهم من تميزهم باللباس، وكانت هذه الأوامر تخف أحيانا بحيث لا يلتزمها أهل الذمة، ثم إذا طالت المدة - ووجد سبب معين - أعيد الأمر بالتزامها وشدد عليهم في ذلك.
وكان من أبرز المراسيم الصارمة الصادرة في حق أهل الذمة المرسوم الصادر سنة 700هـ - في عهد السلطان قلاوون - بالزامهم بأحكام أهل الذمة من لباس ومركوب، وعدم استخدامهم في الوظائف الديوانية، وكان لنائب السلطان: الجاشنكير دور كبير في ذلك (2) .
وفي سنة 709هـ لما عاد السلطان محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة، وأمر بإطلاق ابن تيمية - من السجن - وقدمه - فلما جلس ومعه العلماء والقضاة عرض الوزير (3) على السلطان أن أهل الذمة قد عرضوا أن يدفعوا للديوان سبعمائة ألف في كل سنة زيادة على الحالية، على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض - كالمسلمين - فاستشار السلطان العلماء " فقال لهم: ما تقولون؟ يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم احد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه، وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله ردا عنيفا، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكنه بترفق وتؤدة وتوقير، وبالغ الشيخ في الكلام وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع
(1) انظر: الدولة الفاطمية - سرور - (ص86) وما بعدها، وانظر: أهل الذمة في مصر في العصور الوسطى (ص51)، وانظر أيضا: الفاطميون في مصر - حسن ابراهيم حسن (ص199) وما بعدها.
(2)
انظر صبح الأعشى (13/ 377) ، والبداية والنهاية (14/ 16) ، والنجوم الزاهرة (8/ 132) ، والسلوك (1/909) ، وعلل المقريزي ذلك بزيادة ترف أهل الذمة وركوبهم الخيل المسومة، ثم ذكر قصة قدوم وزير ملك المغرب ودوره في ذلك وقد أشار إلى دوره كال من القلقشندي وابن تغري بردي، كما فصل ذلك المقريزي في الخطط (2/498) .
(3)
هو: ابن الخليل - انظر حسن المحاضرة (2/300) .
على من يوافق فى ذلك، وقال للسلطان: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك وكبت عدوك ونصرك على أعدائك " (1) ، ولما كان للجاشنكير- الذي كان نائبا لقلاوون ثم اغتصب السلطة منه وتولى بدلهـ دور في صدور قرار إلزام أهل الذمة بشروط عمر- رضى الله عنهـ سنة 700 هـ قال السلطان قلاوون لابن تيمية لما كلمه بما سبق: إن الجاشنكير هو الذي جدد عليهم ذلك- والجاشنكير كما أنه آذى السلطان وعزله وتولى بدله فقد آذى ابن تيمية أذى شديدا وسجنهـ لكن ابن تيمية لم ينظر إلى الأمر من هذه الزاوية وإنما قال للسلطان: " والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك لأنه إنما كان نائبا لك، فأعجب السلطان ذلك واستمر بهم على ذلك " (2) . وقد وقعت الفتن بين المسلمين والنصارى الذين ضايقهم هدم بعض كنائسهم مما تسببوا في إشعال الحرائق في القاهرة سنة 702 هـ، وسنة 721 هـ (3) .
ويبدو أن مثل القضايا في مصر والشام كانت سببا في ظهور المناقشات العلمية حول أحكام أهل الذمة، وكيف يعاملون؟، وحكم كنائسهم التي كانت موجودة عند الفتح الإسلامي لمصر والشام، وحكم الكنائس التى أحدثت في أمصار المسلمين ومنها- القاهرة- التي بنيت بعد الفتح الإسلامى بقرون، وقد أجاب العلماء على مثل هذه الأسئلة: ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أجاب بعدة فتاوى حول أهل الذمة وإلزامهم الشروط العمرية، وحكم كنائسهم وهدمها، وقد بين ذلك بكل قوة ووضوح حتى قال، وهو يعرض لحكم سبهم للرسول محمد صلى الله عليه وسلم: " وهنا (4) الشروط على أهل الذمة حق لله، لا يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ويعاهدهم على المقام بدار الإسلام
(1) البداية والنهاية (14/54) .
(2)
المصدر السابق، وانظر العقود الدرية (ص: 281) ، والكواكب الدرية (ص: 137) .
(3)
انظر: السلوك (1/ 941،2/ 222) ، وحسن المحاضرة (2/301) .
(4)
لعل صوابه " وهذه ".
إلا إذا التزموها وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن " (1) ، فبين أن هذا الأمر ليس السلاطين هم الذين يقررون أن يلزموهم أو لا يلزمونهم، وإنما هو حق لله تعالى، كما بين في فتاويه حكم الكنائس التي بنيت في الأمصار التي مصرها المسلمون، وأنه لا يجوز إبقاؤها بحال (2)
…
، كما أن ابن القيم-رحمه الله لما سئل عن حكم أهل الذمة أجاب بجواب طويل جدا- بلغ مجلدين- وأوضح فيه المسألة وبينها بيانا شافيأ ذاكرا الأدلة والنصوص وأقوال العلماء (3) .
ثانيا- انتشار الشركيات والتصوف:
كثرت في هذا العصر مظاهر الشرك، كما انتشر التصوف، وبين الشرك والتصوف المنحرف علاقة وطيدة، إذ غالبا ما يكون أهم مظاهر التصوف الشرك وذلك بالغلو في المشايخ والأولياء- الأحياء منهم والأموات- وقد كان أبرز مظاهر الشرك بناء المشاهد على القبور، وبناء المساجد عليها؛ بحيث تصبح هذه القبور أماكن للعبادة والتقرب إلى الله بشتى أنواع القرب فيأتيها الناس مستشفعين بهؤلاء الأموات، طالبين فهم قضاء الحاجات وكشف الكربات وس جع نشأة بناء المشاهد والأضرحة إلى الرافضة، فمن المعلوم أنه لم يكن في أول الإسلام حتى أوائل العهد العباسي شىء من هذه المظاهر بارزا، فلما جاءت دولة العبيديين - الفاطميين- في المغرب ثم فى مصر، ثم جاءت دولة بنى بويه في العراق - وكلهم رافضة- نشأت هذو الظاهرة الشركية في العراق ومصر وغيرهما، ولما كان هؤلاء الرافضة ليس لهم هم إلا إفساد دين الإسلام وحرب أهلهـ أهل السنة-
(1) الصارم المسلول (ص: 213) .
(2)
انظر فتاوى ابن تيمية في: مجموع الفتاوى (28/632) وما بعدها، وأحكام أهل الذمة (2/677) حيث نقل فتوى له أخرى بنصها كما كان لابن تيمية مناقشات للنصارى، انظر الجواب الصحيح (2/172)، ومجمرع الفتاوى (1/370) وترجمته بقلم خادمه (ص: 23) .
…
(3)
وهو كتاب أحكام أهل الذمة وقد حققه الدكتور صبحي الصالح-رحمه الله وكتب له مقدمة طوبلة- بروح انهزامية غربية- فهل كان متأثرا بالوضع الطائفي في لبنان وهو من أهله، أم كان متأثرا بحضارة العصر- حضارة هيئة الأمم المتحدة- ومع ذلك فمن المحزن المبكي أن الكتاب صدر بمقدمة صبحي الصالح سنة 1 38 1 هـ، ثم أعيدت طباعته سنة 1 0 4 1 هـ، وفي هذا العام 7 0 4 1 هـ اغتيل صبحي الصالح في لبنان في حمى الصراع الطائفي.
عنوا بمثل هذه الأمور فبنوا الأضرحة وضخموها وعظموها ودعوا الناس لزيارتها ودعائها حتى صارت هذه المشاهد تعظم وتزار ويبذل لها أكثر من زيارة بيت الله الحرام وأداء فريضة الحج.
والنصارى- بوثنيتهم وتقديسهم للصور والتماثيل والقبور- لهم أثرهم على من يلقونه من جهال المسلمين ممن يخالطهم ويسمع كلامهم، ولذلك لما ظهرت دولة العبيديين في مصر قدم النصارى إلى الشام واستوطنوا ثغوره وأمصاره. وهكذا تلتقي هذه الطوائف الثلاث: النصارى، والرافضة والمتصوفة، في هذا الإنحراف الخطير المتمثل في أنواع من الشرك بالله - بمظاهره العديدة التي لا تزال أكثر أقطار العالم الإسلامي تعاني منه ومن آثاره (1) .
جاء عهد المماليك وكثير من هذه المشاهد والأضرحة موجودة، قبور بني عبيد، وقبر الشافعي، وقبر الحسن- الذي بناه بنو عبيد- وغيرها، فلم يحرك السلاطين ساكنا، بل الأمر على العكس أخذوا يبنون لأنفسهم ولأقاربهم الأضرحة والقبب وتفننوا فيها بحيث جعلوا عليها مساجد ومدارس، يأتيها العلماء وطلاب العلم وتلقى فيها الدروس المنتظمة، وأوقفوا عليها الأوقاف الكثيرة، فالظاهر بيبرس [توفي سنة 676 هـ] بنى على قبر أبى عبيدة- رضى الله عنه - مشهدا، وجدد قبة الخليل عليه السلام، كما وسع مشهد جعفر الطيار، وعمر تربة لزوجته (2) ، والمنصور قلاوون- ت 689 هـ- بنى في سنة 683 هـ تربة على قبر والدة السلطان الملك الصالح بن المنصور قلاوون (3) .
أما أشهر المدارس فهى المدرسة المنصورية، وقد وضع فيها قبة سميت القبة المنصورية وفيها قبر المنصور قلاوون وابنه الناصر محمد، وهي من أكبر القباب وأشهرها، وصارت معظمة عند المماليك إلى حد أن السلطان إذا أمر أحدا
(1) انظر: مجموع الفتاوى (27/167، 460- 461،466) .
(2)
انظر: فوات الوفيات (1 / 243، 244) ، والبداية والنهاية (13 / 276)، والظاهر بيبرس (ص: 60 ا- ا 16) ، ومملكة صفد (ص: 263) .
(3)
انظر: تشريف الأيام والعصور (ص: 55) .
من أمراء الشام أو مصر، فإن الأمير الجديد ينزل من قلعة الجبل إلى القبة المنصورية ثم يحلف عند القبر المذكور ويحضر تحليفه صاحب الحجاب (1) . وتليها المدرسة الناصرية التى بناها الناصر قلاوون وبنى فيها قبة دفن والدته وأحد أولاده (2) . ولما انتصر قلاوون سنة 702 هـ في وقعة شقحب وقدم إلى مصر كان أول عمل عمله أن زار قبر والدهـ في ضريحهـ والقراء يقرؤون القرآن عند القبر (3) .
أما على المستوى العام فقد انتشر عند الناس تعظيم القبور والسفر لزيارتها، كما شاع عندهم تعظيم بعض الأماكن التي تنسب- كذبا- إلى نبي أو ولي، ففي دمشق كانت هناك صخرة عند مسجد التاريخ يعظمها الناس ويقبلونها، ويزعمون أن فيها أثر قدم النبى صلى الله عليه وسلم، كما كان هناك عند الباب الصغير العمود الخلق يتبرك به الناس وقد هدمهما ابن تيمية-رحمه الله تعالى-- (4) .
أما موقف أكثر العلماء من هذه الشركيات فكان أحسن أحواله السكوت عنها - خاصة وأن كثيرا ممن تولى القضاء كانوا يميلون إلى التصوف- ويرون السفر لزيارة القبور، وهؤلاء هم الذين وقفوا ضد فتاوى ورسائل ابن تيمية حول هذه المسائل حتى سجن ومات فيه.
أما موقف ابن تيمية من هذه الشركيات فقد كان موقفا عظيما، وقد قام على ثلاثة محاور:
الأول: بيان حقيقة هذه المشاهد، وأن الكثير منها كذب، وليست قبورا لمن نسبت إليه (5) .
(1) انظر: الخطط (2/ 0 38- 381) ، والسلوك، ملاحق (1/997- 1 0 0 1)، وكان الأمراء قبل ذلك يحلفون عند القبة فى المدرسة الصالحية. انظر: الخطط (2/374،0 38) .
(2)
انظر: الخطط (2/ 382) ، والسلوك- ملاحق- (1/1040- 0 5 0 1) .
(3)
انظر: السلوك- ملاحق- (1/1038- 39 0 1) .
(4)
انظر: ترجمة ابن تيمية بقلم خادمه (ص:10 - 11) ، والسلوك (2/8-9) ، وبدائع الزهور (1/417) ، والبداية والنهاية (14/ 34) .
(5)
انظر: كتاب رأس الحسين، ومجموع الفتاوى (17/ 0 0 5، 27/ 173) ، وأيضا (27/ 61) حول قبر نوح.
الثاني: البيان العلمى من خلال المناقشات المباشرة، ومن خلال المؤلفات والرسائل، وبيان ما فيها من بدع وشرك ومناقشة أقوال الخالفين.
الثالث: الناحية العملية وذلك بإزالة هذه الأماكن الشركية ومنع المتلبسين بشيء منها (1) .
أما التصوف فيعتبر هذا العصر- القرن السابع والثامن- العصر الذهبي له، ولعل الضعف والتفرق الذي أصاب العالم الاسلامي قبل ذلك، والحروب الصليبية التى صدمت المسلمين نفسيا قبل أن تصدمهم عسكريا، كانت من أسباب انتشاره في هذا العصر.
والتطور الذي حدث للتصوف في هذا العصر تطور خطير، إذ أنه تحول من تصوف فردى في الغالب يقوم على جهود الأفراد واتباعهم الى تصوف منظم، له مدارسه التي يينيها الحكام وغرهم وتهيأ لهذه المدارس والأماكن كل ما يحتاجه ساكنو هذه المدارس ومرتادوها، ولأ تنقطع بموت الشيخ أو الصوفي وإنما يتوارثها من بعده ممن اشتهروا وزعم الناس فيهم الولاية وشاعت لهم الكرامة.
وقد برز التصوف من خلال ممايلي:
أ- بناء الخوانق والربط والزوايا (2) ،
وقد انتشرت انتشارا عظيما في عصر الأيوبيين والمماليك، ومن المحزن حقا ما ذكره بعض الكتاب من أن أول خانقاه بنيت في الشام كانت برملة بيت المقدس بناها أمير النصارى حين استولى
(1) انظر: نماذج من ذلك في ترجمته بقلم خادمه (ص: 6-24) .
(2)
الخانقاه: كلمة فارسية وتنطق أحيانا خانكاه، ومعناها بيت، ثم جعلت علما على المكان الذي يتخلى فيه الصوفية لعبادة الله تعالى، انظر الخطط (2/414)، ومنادمة الأطلال (ص: 272) .
والربط: جمع رباط وأصله المكان الذي يرابط فيه المجاهدون في سبيل الله في الثغور، ثم بعد ذلك استخدم علما على بيت الصوفية ومنزلهم. انظر: عوارف العوارف (1/ 261- 281) ، والخطط (2/427) .
والزوايا: جمع زاوية، وهي المكان الذي يخصصه شخص ما للعبادة ويختلى فيه ويأتيه فيه بعض مريديه. انظر منادمة الأطلال (ص: 299) .
والفرق بينهما: أن الخانقاه على شكل مدرسة يعين لها شيخ رفيها مدرسون فلا يدخلها إلا من قبل فيه، أما الربط: فهى لفقراء الصوفية، أما الزاوية: فهي برسم شخص معين. انظر المجتمع الاسلامي في بلاد الشام (ص: 155) .
الفرنج على القدس، وأنه رأى طائفة من الصوفية فأعجبه ما بينهم من ألفة ومحبة - ولعله لمس أن فيها شبها من رهبنة النصارى - فسألهم عن حالهم فأخبروه، فقال لهم: أبني لكم مكانا لطيفا تتآلفون فيه وتتعبدون، فبنى لهم تلك الخانقاه ثم نتشرت بعد ذلك (1) وفي القرن السادس والسابع كثر بناء الخوانق والربط، فانتشرت في مصر والشام بحيث أصبحت أماكن معروفة ومشهورة يرتادها الصوفية من كل مكان ويتلقون فيها - إضافة إلى دروس العلماء وممارسة العبادات والأوراد الصوفية - وكافة ما يحتاجونه من مطعم ومشرب ومأوى وأموال تصرف لهم أحيانا، حتى أصبحت لها امتيازات ليست لغيرها - بسبب الأموال والأوقاف الكثيرة التي تجلب لها - (2) .
ب - عاش في هذا العصر طائفة من كبار الصوفية الذين كان لهم أتباع ومريدون ولا شك أن وجود هؤلاء في أماكن مختلفة يؤدي إلى أن يصبح التصوف ظاهرة اجتماعية حيثما حل الإنسان في بلد يجد هذه الفئات المتزهدة المظهرة للفقر والحاجة، ومن أهم رجال التصوف المشهورين في هذا العصر:
1 -
ابن عربي محيي الدين محمد بن علي بن محمد، توفي سنة 638هـ.
2 -
ابن الفارض، عمر بن علي بن مرشد الحموي، توفي سنة 632هـ.
3 -
أبو الحسن الشاذلي، علي بن عبد الله بن عبد الجبار، توفي سنة656هـ.
4 -
أبو القاسم بن منصور بن يحيى المالكي الأسكندري المعروف بالقباري، توفي سنة 662هـ.
5 -
خضر بن أبي بكر المهراني، كان الظاهر بيبرس يعتقد فيه ويخضع له، توفي سنة 676هـ.
6-
أحمد البدوي، أحمد بن علي بن إبراهيم القدسي الملثم، توفي سنة675هـ
7-
التلمساني المرسي، محمد بن موسى بن النعمان، توفي سنة 686هـ.
(1) انظر: خطط الشام (6/130) ، والمجتمع الإسلامي في بلاد الشام (ص151) .
(2)
انظر: حصراً بأسماء هذه الخوانق والربط والزوايا في مصر والشام: خطط المقريزي (2/ 414- 436) ، ومنادمة الأطلال (ص272 - 316) ، وحسن المحاضرة (2/265 - 267، 273) ، والمجتمع الإسلامي في بلاد الشام (ص150 - 155) ، خطط الشام (6/130 - 155) .
8-
أبو العباس المرسى، أحمد بن عمر الأنصاري، توفي سنة 686 هـ
9-
نصر بن سلمان المنبجى، أبو الفتح، توفي سنة 719 هـ.
10-
أبو الحسن الشثتري، علي بن عبد الله، توفي سنة 668 هـ.
11 -
ابن عطاء السكندري: أحمد بن محمد بن عبد الكريم، توفي سنة 709هـ (1) .
جـ - ادعاء الكرامة وظهور السحر والشعوذة والأحوال الشيطانية، ونسبتها إلى الأولياء والصلحاء أو من يدعون أنهم منهم، ومذهب أهل السنة في الكرامة معروف وهو إثباتها إذا جاءت على يد الصالح المتمسك بالكتاب والسنة وليست دليلا على الولاية، أما الكثير من الكرامات الذي وجد في هذا العصر فقد كان يأتي على يد الدجالين والمنحرفين، أو أنها تنسب الى الصلحاء ولكنها أحوال شيطانية تقع لمن يعتقد فيهم من عامة الناس اعتقادا قد يؤدى إلى الشرك بالله تعالى.
ولقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية مع كثير من هؤلاء وأتباعهم صولات وجولات فبين الحق في هذه الأمور وفضح أصحابها وبين المداخل الشيطانية لهؤلاء، ووضع أصولا للفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. وقد حكى في مناسبات كثيرة من كتبه قصصا شاهدها أو رواها له الثقات عن كثير ممن يدعي أو يدعى له الولاية والكرامة وبين كيف تجيء الشياطين وتصنع هذه الأمور الخارقة فيظن من شاهدها أو وقعت له أنها كرامة وليست كذلك.
فمما ذكره وقد سئل عن الحلاج- المقتول على الكفر والزندقة سنة 309 هـ- فبين حاله وأحواله الشيطانية ثم قال: " ومثل هذا يحدث كثيرا لغير الحلاج ممن له حال شيطاني، ونحن نعرف كثيرا من هؤلاء في زماننا وغير زماننا مثل شخص هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجىء من الهواء إلى طاقة البيت الذي فيه الناس فيدخل وهم يرونه،
(1) انظر: حسن المحاضرة (1 / 518 - 524)، وانظر: الطرق الصوفية في مصر، عامر النجار (ص: 136-140) .
ويجئ بالليل إلى باب الصغير [أحد أبواب دمشق] فيعبر منه هو ورفيقه، وهو من أفجر الناس. وآخر كان بالشويك (1) من قرية يقال لها الشاهدة يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه، وكان شيطانه يحمله وكان يقطع الطريق، وأكثرهم شيوخ الشر
…
وشيخ آخر أخبرني نفسه أنه كان يزني بالنساء ويتلوط بالصبيان الذين يقال لهم الحوارات، وكان يقول يأتيني كلب أسود بين عيينه نكتتان بيضاوان فيقول لي: فلان ابن فلان نذر لك نذرا وغدا نأتيك به
…
فلما تاب هذا الشيخ وصار يصلي ويصوم ويجتنب المحارم ذهب الكلب الأسود
…
وشيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون منه إبراءه، فيرسل إلى أتباعه فيفارقون ذلك المصروع، ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، وكان أحيانا تأتيه الجن بدراهم وطعام تسرقه من الناس.... وآخر كان مشتغلا بالعلم والقراءة فجاءته الشياطين أغوته وقالوا له: نحن نسقط عنك الصلاة ونحضر لك ما تريد، فكانوا يأتونه بالحلوى والفاكهة، حتى حضر عند بعض الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه، وأعطى أهل الحلاوة ثمن حلاوتهم التي أكلها ذلك المفتون بالشيطان
…
" (2) .
بل إن ابن تيمية نفسه تعرص ر لمثل هذا فتمثلت بشخصه الشياطين وأغاثوا أقواما فجاءوا يخبرونه بما وقع لهم، يقول:" ذكر غير واحد أنه استغاث بي من بلاد بعيدة وأنه رآني قد جئته، ومنهم من قال: رأيتك راكبا بثيابك وصورتك، ومنهم من قال: رأيتك على جبل، ومنهم من قال غير ذلك، فأخبرتهم أني لم أغشهم، وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليضلهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله "(3) . و! قول: " وأعرف من ذ! ك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي، وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به
(1) الشويك، قلعة حصينة في أطراف الشام بين عمان وإيله، قرب الكرك، معجم البلدان (3/375) .
(2)
جامع الرسائل- ت رشاد سالم- (1/92 ا-194) .
(3)
الجواب الصحيح (1/319-320) .
قد جئنا في الهواء ورفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين، وهذا من أكبر الأسباب التى بها أشرك المشركون وعبدة الأوثان " (1) ، وقد ذكر واقعة غريبة له وهو في السجن بمصر، قال: " كما جرى مثل هذا لي، كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا إلى كثير (2) من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين (3) وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولا، وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاءوا إلى دمشق، كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ماتيسر، فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي ليظن ذلك أني أنا الذي فعلت ذلك.
قال لي طائفة من الناس: فلم لا يجوز أن يكون ملكا؟، قلت: لا، إن الملك لا يكذب وهذا قد قال: أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك (4) .
والتصوف لم يقتصر على هذه الأمور، وإنما كان تصوفا يؤول في الغالب إلى الغلو من الوحدة والاتحاد والحلول، والوقوع في الشركيات بأنواعها، وتعظيم الملاحدة وتصحيح أقوالهم وكفرياتهم. وقد واجه ابن تيمية من هؤلاء أعدادا
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 54 ا-155) ، ط المكتب الاسلامي.
(2)
هكذا في طبعة الفرقان الموجودة في مجموع الفتاوى (13/92) ، وطبعة دار البيان المفردة، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط (ص: 61) ، وفي طبعة دار إحياء العلوم، تحقيق: حسين يوسف غزال (ص: 117) كتب الكلمة: "كبير " بدل كثير، وهو لم يعتمد على نسخة خطية، لكن لعله هو الصواب.
(3)
ماردين، بكسر الراء والدال، قلعة مشهورة بعمل الموصل في الجزيرة قريية من دارا، وهي من أحسن القلاع وأعظمها. فتوح البلدان (5/39) ، والروض المعطار (518) ، وملك ماردين المشار إليه هو الملك المنصور نجم الدين غازى الأرتقى تولى ماردين (693 هـ - 712 هـ)، انظر: تاريخ الدولة الإسلامية ومعجم الأسر الحاكمة (2/353)، وانظر: الأمارات الأرتقية: عماد الدين خليل (ص: 352) .
(4)
الفرقان بين الحق والباطل- مجموع الفتاوى (13/ 92-93) ، وان! جامع الرسائل (1/195) .
كثيرة، وتوب بعض زعمائهم، وقتل بعضهم (1) .
وإذا كان وجود مثل هذه النوعيات خطيرا على الأمة وعقائدها، فأخطر منه أن يتبع هؤلاء المتصوفة المنحرفين بعض العلماء والقضاة الذين يقتدى بهم، وهذا يعطى صورة للمستوى الذي وصل إليه التصوف في هذا العصر، يقول ابن تيمية في بيان حكم طلب الحاجات في القبور والاستغاثة بها:" والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبيا أو وليا ليس مشروعا ولا هو من صالح الأعمال، إذ لو كان مشروعا أو حسنا من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق، ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك، فكلام هؤلاء يقتضي جواز سؤال الميت والغائب، وقد وقع دعاء الأموات والغائبين لكثير من جهال الفقهاء والمفتين حتى لأقوام فيهم زهد وعبادة ودين ترى أحدهم يستغيث بمن يحسن به الظن حيا كان أو ميتا، وكثير منهم تتمثل له صورة المستغاث به وتخاطبه وتقضي بعض حوائجه وتخبره ببعض الأمور الغائبة، ويظن الغير أنه المستغاث به أو أن ملكا جاء على صورته وإنما هى شياطين تمثلت له به وخيالات باطلة فتراه يأتي قبر من يحسن به الظن إن كان ميتا فيقول: أنا في حسبك أنا في جوارك أنا في جاهك قد أصابنى كذا وجرى على كذا، ومقصوده قضاء حاجته إما عن الميت أو به، ومنهم من يقول للميت: اقض ديني واغفر ذنبي وتب على، ومنهم من يقول: سل لي ربك، ومنهم من يذكر ذلك في نظمه ونره، ومنهم من يقول: يا سيدي الشيخ فلان أو يا سيدي يا رسول الله نشكو إليك ما أصابنا من العدو وما نزل بنا من المرض وما حل بنا من البلاء، ومنهم من يظن أن الرسول أو الشيخ يعلم ذنوبه وحوائجه وإن لم يذكرها وأنه يقدر على غفرانها وقضاء حوائجه، ويقدر على ما يقدر عليه الله ويعلم ما يعلمه الله، وهؤلاء قد رأيتهم وععت هذا منهم ومن شيوخ يقتدى بهم ومفتين وقضاة ومدرسين "(2) .
ويقول: " وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا جهة الشبخ عبد القادر خطوات معدودات واستغاث به "(3) . ويذكر أنه لما قدم مصر سال
(1) انظر: جامع الرسائل (1/195-196) .
(2)
تلخيص الاستغاثة (1/29-. 3) .
(3)
الاستغاثة- الجزء الثاني من المصدر السابق نص الاستغاثة وليس تلخيصا (2/ 250- 251) .
بعض ولاة الأمر قاضى القضاة عن فرعون " فقال: ما في القرآن ما يدل على أنه كان كافرا، ومعلوم أن دخول فرعون النار معلوم بالاضطرار من المسلمين واليهود والنصارى.... "(1) . ووصل الأمر بكثير من الناس أنه لما هاجم التتار بلاد الشام خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم.... وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر لوذوا بقبرأبى عمر
فصار ابن تيمية يأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل وأن لا يستغيثوا بغيره. " فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا "(2) .
ثالثا: المذهب الأشعري:
انتشر المذهب الأشعري- في تطوره العقدي- في القرن الرابع والخامس، ولما جاء عهد الأيوبيين- وعلى رأسهم صلاح الدين الأيوبي- تبنوا المذهب الأشعري، وقربوا علماء الأشاعرة، وصلاح الدين نشأ على هذا المذهب؛ فقد حفظ " في صباه عقيدة ألفهاله قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري (3) ، وصار يحفظها صغار أولاده فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه فتمادي الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بنى أيوب ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك "(4) ، ولما تولى صلاح الدين حكم مصر ولى على القضاء صاحبه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني (5) ، الذي ألف "رسالة في الذب
(1) نقض التأسيس المخطوط (2/270) .
(2)
1 لاستغاثة (2/ 276-277) .
(3)
ولد سنة: 505 هـ، وتوفي سنة: 578 هـ، رأى أبا نصر القشيري، ودرس بالمدرسة النظامية في نيسابور نيابة عن الجويني، كما درس في دمشق وحلب، انظر: وفيات الأعيان (5/196) ، وطبقات السبكى (7/297) ، والنجوم الزاهرة (6/94) ، وطبقات الأسنوى (2/498) .
(4)
الخطط للمقريزى (2/358) .
(5)
ولد سنة 516 هـ، وتوفي سنة 655 هـ، انظر التكملة للمنذري (2 / 156) ، =
عن أبى الحسن الأشعري " (1) .
ولما جاء عهد المماليك استمر تبنيهم لهذا المذهب من خلال توليه القضاء لأئمة الشافعية والمالكية الذين كانوا يلتزمون المذهب الأشعري، ومما يلاحظ- في هذا العصر- أن المذهب الأشعري صار تبنيه بيد من بيده السلطة من العلماء إلى الحد الذى يستنكر معه أشد الاستنكار أن يقوم أحد بمخالفته ويجاهر في رده ونقض أصوله. ولعل ما حدث لابن تيمية من محن كانت مع الأشاعرة دليل كل ذلك.
وسنعرض- إن شاء اللهـ عند الحديث عن المذهب الأشعري وتطوره تفصيلات أخرى لهذا الموضوع.
وبعد فهذا عرض لعصر ابن تيمية، وأحواله السياسية والعقائدية وهو إن كان فيه نوع من الإطالة إلا أنه سيساعد- بعون اللهـ على إدراك خلفيات هذا العصر الذي هو كالقنطرة بين عصرنا هذا والعصور السابقة، وكثير ممن ترجم لابن تيمية مر عليها مرورا سريعا، ولما كان موقف ابن تيمية من الأشاعرة - وغيرهم ممن كان له انحراف عن طريق السلف- موقفا بارزا وسمة واضحة من سمات هذا العصر، بحيث تحول إلى مدرسة كبرى في العالم الإسلامى لها أتباع ومؤيدون، واستمرت هذه المدرسة تخرج العلماء والمؤلفات والدراسات الداعية إلى العودة إلى مذهب السلف أهل السنة والجماعة ولما كان الأمر بهذا المستوى كان لابد من عرض مركز لأحوال هذا العصر وخلفيته.
* * *
(1) = والبداية والنهاية (13 / 52) ، والعبر (3 / 139) ، وسير أعلام النبلاء (21 / 474) وحسن المحاضرة (1/ 408) .
(1)
طبعت في الهند مع مجموعة الرسائل السبعة قي العقائد، وقد حققها علي ناصر فقيهي وطبعها مع كتاب الأربعين في دلائل التوحيد للهروي، وقد أخطأ المحقق في ترجمة ابن درباس فوضع في حاشية (ص: 107) ترجمة ابنه محمد بن عبد الملك المتوفي سنة: 659 هـ، على أنها ترجمة المؤلف للرسالة، كما وضع تاريخ ميلاده ووفاته على الغلاف، وهو وهم. وعبد الملك بن درباس الأب مؤلف الرسالة في الذب عن الأشعري. كان صاحبا وقاضيا لصلاح الدين الأيوبي، وقد توفي صلاخ الدين سنة 589 هـ.