الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: الصليبيون: [
490 - 690 هـ] .
الحرب بين المسلمين والنصارى لم تهدأ في يوم من الأيام منذ انتشار الاسلام فالدولة البيزنطية في شمال الشام كانت موجودة وبينها وبين المسلمين حروب ومناوشات كثيرة، وكذلك النصارى في الأندلس كانت بينهم وبين المسلمين حروب مستمرة. ولكن ما اصطلح عليه اسم " الحروب الصليبية " كانت خاصة بتلك الهجمات والحملات من جانب نصارى أوربا على قلب العالم الإسلامى في بلاد الشام، وما حققوه في البداية من انتصارات ثم تلك المقاومة الرائعة من جانب قادة عظام من قواد المسلمين برزوا في ذلك الوقت ليقارعوا الصليبين حتى أجلوهم وطردوهم من بلاد الإسلام.
ولم يكن باستطاعة النصارى أن يفعلوا ما فعلوا لولا الواقع المؤسف الذي كان يعيشه العالم الإسلامي: فالدولة العباسية كانت مقسمة وسلطات الحلفاء كانت شكلية، والدويلات المتفرقة تتقاسم أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي: فالسلاجقة (1) في بغداد، والفاطميون في المغرب ومصر، والشام والجزيرة في كل مدينة إمارة. ولم يقتصر الأمر على هذا التفرق فقط وإنما كان الصراع محتدما بين هؤلاء، فالفتن والحروب فيما بينهم مشتعلة، والتفرق والتباين المذهبي كان يجعل مسألة الوحدة مسألة شبه مستحيلة. أما في الأندلس فيكفي أنها كانت تعيش عهد دول الطوائف (2) .
ومع هذا التفرق والانقسام فقد وقعت معركتان فاصلتان بين المسلمين والنصارى إحداهما في المشرق والأخرى في المغرب، انتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما:
(1) كان السلاجقة سنة، وقد احتلوا بغداد سنة 447 هـ وقضوا على بني بويه الشيعة. انظر تاريخ دولة آل سلجوق للأصفهاني (ص: 12) .
(2)
قدمت عدة دراسات حول هذه الحقبة من تاريخ العالم الإسلامي: ففي أحوال بلاد الشام وما حولها. انظر: بلاد الشام قبل الغزو الصليبي علي محمد الغامدى، والمجتمع الاسلامي في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية أحمد رمضان محمد، والصراع السياسي والعسكري بين القوى الاسلامية زمن الحروب الصليبية، حامد زيان- ومدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية، سهيل زكار. أما الأندلس =
أولاهما: معركة ملازكرد (1) في عام 463 هـ انتصر فيها ألب أرسلان السلجوقي على إمبراطور الروم مما أدى إلى انهزام الروم في الأناضول واستيلاء السلاجقة على غالب تلك المنطقة، حتى أصبحت مدينة القسطنطينية مهددة من جانب السلاجقة (2) .
والأخرى: معركة الزلاقة (3) التي كانت بين يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين وبين النصارى. وكانت عام 479 هـ. وقد كان من نتائج هذه المعركة تأخر إجلاء المسلمين عن الأندلس عدة قرون (4) .
ولكن مع هذا فإن الضعف والتفرق المحيط بالمسلمين كان قد وصل إلى حالة مؤسفة، بحيث لم تكن مثل تلك المعارك الفاصلة التي انتصر فيها المسلمون بداية لتحركهم وزيادة فتوحاتهم واسترداد ما احتله أعداؤهم من بلادهم أو على الأقل إيقاف الخصوم عند حدودهم. لكن الذى حدث هو العكس تماما فبعد سنوات محدودة تجمعت أوربا الصليبية وسارت بحملات رهيبة إلى داخل العالم الإسلامي ليكونوا فيه دويلات لهم ويحتلوا القدس الشريف، وقد بدأت هذه الحملات عام 490 هـ. والذى يلفت الانتباهـ في مسألة نشوء هذه الحملات- ما يذكره ابن الأثير في الكامل من رواية تقول: " إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة
(1) = والمغرب فانظر البيان المغرب (3/153) وما بعدها، والدراسة الشاملة لمحمد عبد اللة عنان في سلسلة دولة الاسلام في الأندلس جزء دول الطوائف.
(1)
تسمى "منازجرد" وهي هكذا في معجم البلدان، وقد تبدل الجيم كافا، بلد مشهور بين خلاط وبلاد الروم، يعد في أرمينية، انظر معجم البلدان (5/202) ، ومختصره مراصد الاطلاع (3/1314) .
(2)
انظر: تاريخ دولة آل سلجوق للأصفهاني (ص 40-44) ، والكامل (10/65-67) ، والبداية والنهاية (12/ 100- 101) .
(3)
بطحاء الزلاقة من اقليم بطليوس من غرب الأندلس- الروض المعطار (ص: 287) .
(4)
انظر: الروض المعطار (ص: 287-292)، الذى علق في نهايتها قائلا:" خالفت بشرح هذه الوقيعة شرط الاختصار لحلاوة الظفر في وقت نزول الهمم ووقوعها في الزمن الخامل" وانظر الكامل (0 1/ 1 5 1) ونفح الطيب (1 / 439، 4 / 354 - 371)، وروض القرطاس (ص: 45 ا - ا 5 1) ، والعجب (ص: 5 9 1) ، والحلل الموشيه (ص: 38- 66) ، ودول الطوائف لعنان (ص: 0 32- 332) .
الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلائها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم، ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها، خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام! لكوه، ويكونوا بينهم وبين المسلمين، واللة أعلم" (1) . وقد ذكر قبل ذلك عزم النصارى على الخروج وكيف عدلوا عن عزمهم من السير إلى افريقية إلى الشام لكون الشام فيه بيت المقدس، وفتحها فخر للنصارى، ولوجود عهود مع أهل إفريقية (2) .
ولا يعني هذا أن العبيديين لم يقاتلوا الصليبيين، بل قاتلوهم ولكن ذلك إنما يكون حين يهاجمهم الصليبيون الذين كانت لهم أطماع في الشام- وفيها ما هو تحت سيطرة العبيديين، كما كانت لهم أطماع في مصر أيضا (3) .
وهكذا غزا الصليبيون بلاد الإسلام واحتلوا بيت المقدس، هدفهم الكبير وذبحوا المسلمين بشكل رهيب (4) وفجع العالم الإسلامي بذلك،
(1) الكامل (10/ 273)، وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 679) ، وهذه القضية بحاجة إلى إبراز، لأن تعاون الدولة العبيدية الباطنية وتعاون الحركات الباطنية بعد ذلك مع النصارى أمر مشهور. ومما يجدر ملاحظته أن معركة ملازكرد التي أشرنا إليها قبل قليل كان من أهم آثارها وقف تعاون قوي بدت معالمه بين العبيديين والبيزنطين ضد السلاجقة السنيين. أما تعاون الدولة العبيدية مع النصارى- زمن الحروب الصليبية- فأحداث تاريخ تلك الحقبة تحمل حقائق مذهلة، حتى أن صاحب النجوم الزاهرة (ج- 5 ص 147) - يأسى لتقاعس صاحب مصر عن مناصرة السلاجقة في مواجهتهم للصليبيين. ولما انشغل السلاجقة في حرب الصليبيين شمال الشام انقض الباطنيون من مصر على بيت المقدس واحتلوه وقد أرسل الأفضل الوزير الفاطمي إلى الصليبيين وهم يحاصرون انطاكية سفارة عرضت التعاون معهم للقضاء على السلاجقة واقتسام الشام بينهم. وما هذه إلا أمثلة، وانظر الحركة الصليبية- عاشور (1/191،227)، وكتاب " الفاطميون والصليبيون (ص: 53) وما بعدها، والحروب الصليبية: سميل (ص: 81) .
(2)
الكامل (0 1/ 272-273) .
(3)
انظر الحركة الصليبية (1/231) ، ومما يلاحظ أن الصليبيين عقدوا في الرملة سنة 492 هـ قبل زحفهم إلى بيت المقدس- اجتماعا ومجلسا للحرب ناقشوا فيه عدة مسائل منها الرأي القائل بأنه لابد من البدء بمهاجمة مصر، لأن استقرارهم في بيت المقدس لن ينعموا به إلا إذا أخضعوا القاهرة لهم. المصدر السابق (1/233) .
(4)
قتل الصليبيون كل مسلم وجدوه في أى مكان حتى أنهم قتلوا من احتمى بالمسجد الأقصى، فقتلوا فيه أكثر من سبعين ألفا، وهذا العدد لم يذكره مؤرخو الإسلام فقط وإنما ذكره مؤرخو النصارى ومنهم - ابن العبري- في كتابه مختصر الد ول (ص: 197) - حيث قال: " ولبث الافرنج في البلد أسبوعا يقتلون =
حتى أن المستنفرين من بلاد الشام توجهوا في رمضان إلى بغداد عاصمة الخلافة "فأوردوا في الديوان كلاما أبكى العيون وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا، وبكوا، وأبكوا، وذكر ما دهم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا "(1) ،
وقد ندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على جهادهم، ولكن ذلك لم يفد شيئا (2) . وقد عبر أحد الشعراء عن أحوال المسلمين وتقاعسهم عن جهاد النصارى حين احتلوا بيت المقدس في ذلك الوقت فقال من قصيدة:
وكيف تنام العين ملء جفونها
…
على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم
…
ظهور المذاكى أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم
…
تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا
…
رماحهم، والدين واهى الدعائم (3)
ولما احتل النصارى. بيت المقدس أغاروا على ما حوله من المدن الساحلية وغيرها وتكونت لديهم عدة إمارات. أما المسلمون فقد قابلوا هذه الحملات بحركة جهاد عظيمة قادها أبطال عظام، كان لهم في إحياء روح الجهاد بين المسلمين، وتوحيد كلمتهم وبعث الغيرة على دين الله ومحارمهـ ما صار فيما بعد- غرة في جبين تاريخ المسلمين، فقاوم السلاجقة أولا ثم بدأ الجهاد آل زنكى
= فيه المسلمين، وقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا" وانظر مصادر أخرى افرنجية في الحركة الصليبية (1/237-238) والعجيب أن افتخار الدولة- حاكم بيت المقدس العبيدى عند احتلال النصارى لهـ خرج هو وجنده وحدهم سالمين- لم يصابوا بأذى- بعد أن أعطاهم الفرنج الأمان! الحركة الصليبية (1/236-237) .
(1)
الكامل (10/284) .
(2)
انظر: المصدر السابق، والبداية والنهاية (12/156) .
(3)
الشاعر هو: أبو المظفر الأبيوردى، والقصيدة في ديوانه (2/156) وذكرها ابن الأثير وابن كثير.
وعلى رأسهم عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي وأولاده (1) ليوجهوا إلى الافرنج ضربات موجعة ويسترجعوا بيت المقدس بعد أن بقى في يد النصارى قرابة تسعين عاما. والذي يعنينا هنا- ونحن نعرض لعصر ابن تيمية ما يلي:-
أ- واصل المماليك- الذين حكموا الشام ومصر بعد الأيوبيين- جهادهم ضد النصارى، فالظاهر بيبرس وجه إليهم حملات متتابعة، واستطاع أن يسترجع كثيرا من المدن التي احتلوها، ومنها أنطاكية - تلك المدينة المهمة بالنسبة للأفرنج وكان ذلك سنة 666 هـ (2) . ثم بعد ذلك جاء المنصور قلاوون - الذي عقد سنة 680 هـ مع النصارى صلحا ليقطع تحالفهم مع المغول الذين كانت قوتهم وخطرهم شديدا (3) -، ولكنه لم يمض على هذا الصلح أربع سنوات حتى نقض النصارى الصلح باعتدائهم على قافلة من تجار المسلمين، وهنا هاجم المنصور قلاوون الصليبيين فاستولى سنة 684 هـ على حصن المرقب الذي كان " في غاية العلو والحصانة، ولم يطمع أحد من الملوك الماضين في فتحه "(4) ثم استولى على مدينة طرابلس سنة 688 هـ (5) . وأخيرا جاء عهد ابنه الأشرف خليل الذي تولى تصفية الوجود الصليبى في بلاد الشام، والذى استهل عهده بفتح عكا سنة 690 هـ والتي شارك في فتحها كثير من العلماء
(1) انظر في الجهود العظيمة التي قام بها هؤلاء في كتب التاريخ وبالأخص: التاريخ الباهر لابن الأثير، والكواكب الدرية في السيرة النورية، لابن قاضي شهبة، والروضتين لأبي شامة، والنوادر السلطانية (سيرة صلاح الدين) لابن شداد.
(2)
الروض الزاهر (ص: 307) ، والمخصر لأبي الفداء (4/4) ، والسلوك للمقريزى (1/567) ، والبداية والنهاية (13/ 251)، وانظر الظاهر بيبرس- عاشور- (ص: 59-74) .
(3)
انظر: السلوك (1/685) ، وتاريخ ابن الفرات- حوادث سنة 680 هـ، عن مقدمة تحقيق كتاب تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور (ص: 82) ، وانظر دولة بني قلاوون في مصر (ص: 232) ، وانظر مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك عاشور (ص: 96 1) .
(4)
المختصر لأبي الفداء (4/ 1 2)، وانظر تشريف الأيام (ص: 77-86) ، والنجوم الزاهرة (7/314) .
(5)
انظر: السلوك (1/747) ، والبداية والنهاية (13/313) ، والنجوم الزاهرة (7/ 320) .
والفقهاء (1) ومنهم شيخ الاسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى- (2) - أما بقية معاقل الصليبيين فقد سقطت في أيدي المسلمين دون مقاومة. وبذلك أسدل الستار على قرنين من الزمان عاشتها بلاد الشام في ظل هذه الحروب والمعارك المتلاحقة فعادت بلاد الشام إلى حكم المسلمين.
2-
بقيت قبرص في يد النصارى، وقد كان حكامها من أشد أعوان الصليبيين حيث كانوا يمدونهم بالمؤن والسلاح والرجال. وقد لجأ إليها من فر من النصارى من بلاد الشام- وقد بقيت في أيديهم إلى ما بعد عهد ابن تيمية، ولذلك رأينا شيخ الإسلام يرسل رسالة إلى ملكها يأمره بالرفق في أسارى المسلمين (3) .
3-
لم تنته الحرب الصليبية بطردهم من بلاد الشام، وإنما انتقلت إلى تطور آخر أكثر خطورة، فقد " كان من الصعب أن يتخلى الغرب الأوربي عن الفكرة الصليبية تخليا تاما مفاجئا، فظلت تلك الفكرة تراود عقول بعض المتحمسين والمتدينين الذين دعوا لاستئناف الحرب ضد المسلمين، وعبروا عن حماستهم وآرائهم بمجموعة من المشاريع الصليبية ذات الأهمية البالغة منذ نهاية القرن الثالث عشر [السابع الهجري] وهنا نلاحظ في ذلك الدور الجديد من أدوار الحركة الصليبية أن الدعاة لم يكونوا خطباء من طراز بطرس الناسك، ولم يعتمدوا على البيان في تحريك عواطف الناس واستثارة شعورهم الدينى، وإنما صاروا كتابا يكتبون الرسائل والكتب ويرفعونها إلى البابوات والملوك والأمراء، شارحين فيها مشاريعهم الصليبية"(4) .
وقد قاموا بهجمات على شمال إفريقية كان هدفها التبشير بالديانة النصراينة. فهل كانت تلك مقدمات لما شهده العالم الإسلامي في العصر الحاضر من هجوم صليبي
(1) انظر البداية والنهاية (13/ 0 32) ، وتذكرة النبيه (1/317) ، والسلوك (1/763، 03 0 1) ، والمختصر لأبي الفداء (4/24-25)، وتاريخ بيروت (ص: 23) .
(2)
الأعلام العلية (ص: 68)، والكواكب الدرية (ص: 92) .
(3)
انظر عن قبرص بعد جلاء الصليبيين من الشام: الحركة الصليبية (2/1162) وما بعدها.
وقد استطاع المماليك استعادة قبرص وأسر ملكها- بعد سنين طويلة- سنة 829 هـ في عهد الملك الأشرف برساي، انظر المنهل الصافي (3/263) ، وبدائع الزهور (2/106-07 1) .
(4)
الحركة الصليبية (2/134) .