المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خامسا: الباطنية والرافضة: - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ١

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد: السلف ومنهجهم لب العقيدة

- ‌المبحث الأول: التعريف بالسلف، وأهل السنة والجماعة وأهل الحديث

- ‌المبحث الثاني: من المقصود بالسلف؟ ونشأة التسمية بأهل السنة والجماعة

- ‌المبحث الثالث: منهج السلف في العقيدة

- ‌الباب الأول: ابن تيمية والأشاعرة

- ‌الفصل الأول: حياة ابن تيمية

- ‌تقدمة

- ‌المبحث الأول: عصر ابن تيمية

- ‌أولا: الصليبيون: [

- ‌ثانيا: ظهور التتار

- ‌ثالثا: المماليك:

- ‌ نظام المماليك الإداري:

- ‌رابعا: سقوط الخلافة العباسية في بغداد وإحياؤها في القاهرة:

- ‌خامسا: الباطنية والرافضة:

- ‌سادسا: بداية ظهور التحاكم إلى غير الشريعة:

- ‌سابعا: الجوانب العلمية والعقائدية:

- ‌المبحث الثاني: حياة ابن تيمية وآثاره

- ‌أولا: اسمه ونسبه ومولده:

- ‌ثانيا: حياته الأولى:

- ‌ثالثا: شيوخه:

- ‌رابعا: هل كان مقلدا لشيوخه

- ‌خامسا: جهاده وربطه بالعمل:

- ‌سادسا: مكانته ومنزلته:

- ‌سابعا: محنه وسجنه:

- ‌ثامنا: تلاميذه والمتأثرون به:

- ‌تاسعا: مؤلفاته ورسائله:

- ‌1- العقيدة الحموية:

- ‌2- جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوى الحموية:

- ‌3- نقض أساس التقديس:

- ‌4- درء تعارض العقل والنقل:

- ‌5- القاعدة المراكشية:

- ‌6- الرسالة التدمرية:

- ‌7- شرح الأصفهانية:

- ‌8- المناظرة حول الواسطية:

- ‌9- الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات:

- ‌10- التسعينية:

- ‌11- النبوات:

- ‌12- الإيمان:

- ‌13- شرح أول المحصل للرازي:

- ‌14- مسائل من الأربعين للرازي:

- ‌عاشرا: عبادته وتوكله وذكره لربه:

- ‌حادي عشر: وفاته:

- ‌الفصل الثاني: منهج ابن تيمية في تقرير عقيدة السلف وفي رده على الخصوم

- ‌تمهيد

- ‌أولا: مقدمات في المنهج

- ‌ثانيا: منهجه في المعرفة والاستدلال:

- ‌ نقض أصول ومناهج الاستدلال الفلسفية والكلامية

- ‌ المنهج الصحيح للمعرفة والاستدلال

- ‌ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها:

- ‌أ- منهجه في العقيدة عموما:

- ‌ب- منهجه في الأسماء والصفات:

- ‌رابعا: منهجه في الرد على الخصوم:

- ‌ا: بيان حال الخصوم

- ‌خامسا: الأمانة العلمية:

- ‌الفصل الثالث: أبو الحسن الأشعري

- ‌أولا: عصر الأشعري:

- ‌ثانيا: نسبه ومولده ووفاته:

- ‌ثالثا: ثناء العلماء عليه:

- ‌رابعا: شيوخه:

- ‌خامسا: تلاميذه:

- ‌سادسا: مؤلفاته:

- ‌1- مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين:

- ‌2- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع:

- ‌3- رسالته إلى أهل الثغر:

- ‌4- الإبانة عن أصول الديانة:

- ‌5- رسالة استحسان الخوض في علم الكلام:

- ‌6- رسالة في الايمان

- ‌7- العمد في الرؤية:

- ‌8- كتاب تفسير القرآن:

- ‌سابعا: أطوار حياته العقدية:

- ‌أ- طور الأشعري الأول (مرحلة الاعتزال) :

- ‌ب- رجوعه عن الاعتزال وأسبابه:

- ‌ج- مذهب الأشعري بعد رجوعه [

- ‌ثامنا: عقيدته:

- ‌الفصل الرابع: نشأة الأشعرية وعقيدتهم

- ‌المبحث الأول: أسلاف الأشعرية "الكلابية" وموقف السلف منهم

- ‌أولا: ابن كلاب:

- ‌ثانيا: الحارث المحاسبي:

- ‌ثالثا: أبو العباس القلانسي:

- ‌موقف السلف من الكلابية:

الفصل: ‌خامسا: الباطنية والرافضة:

ولكن عسكر السلطان الظاهر بيبرس أحاطوا بهم وأوثقوهم فأصبحوا مصلوبين. وكان ذلك في أواخر سنة 658 هـ (1) .

ب- تحول أنظار العالم الإسلامى من بغداد إلى القاهرة وما يتبعها من بلاد الشام وبذلك أصبحت حاضرة المسلمين وموئل العلماء وطالبي العلم وصارت مدارسها ومساجدها وشيوخها ذات أثر بالغ، مما لم يبلغه مكان آخر، ولهذا يقول السيوطى معلقا على موضوع انتقال الخلافة إلى مصر: " واعلم أن مصر حين صارت دار الخلافة عظم أمرها، وكثرت شعائر الإسلام فيها وعلت فيها السنة، وعفت منها البدعة، وصارت محل سكن العلماء ومحط رحال الفضلاء

" (2) . إلى غير ذلك من الآثار (3)

‌خامسا: الباطنية والرافضة:

تعتبر الحركات الباطنية من أخطر الحركات في تاريخ العالم الإسلامى، وكذلك الرافضة، والطائفتان متداخلتان في المنهج والاعتقاد والموقف من أهل السنة، ولا عجب، إذ كلها قائمة على مبدأ التشيع ومنطلقة منه، وإن كان التطور في بعضها قد يصل إلى الغلو أو الإباحة كما حدث للإسماعيلية والقرامطة، إلا أن القاسم المشترك بينها هو دعوى موالاة أهل البيت والقيام بالواجب نحوهم، واستخلاص حقوقهم المغتصبة- من الإمامة وغيرها- من أعدائهم.

وهذه الحركات لا تزال- حتى الآن- تقوم بدور خطير في عالمنا الاسلامى وتحظى- كما يحظى من يتبناها من دول وغيرها- بدعم كبير من اليهود والنصارى والملاحدة- من شيوعيين ولا دينيين-؛ إذ أدرك أعداء الإسلام أن حرب المسلمين- ويقصد أهل السنة- لا تتم إلا بإحياء الطائفية بينهم ودعم تلك الفرق والحركات المناهضة للإسلام الحق.

(1) انظر: السلوك (1/ 450)، وقيام دولة المماليك (ص: 178) .

(2)

حسن المحاضرة (2/94) .

(3)

يحسن أن نشير هنا إلى أنه في عام 815 هـ تولى الخليفة العباسى أبو الفضل الملقب بالمستعين بالله السلطنة في مصر، فصار هو الخليفة وهو السلطان. انظر: أنباء العمر لابن حجر (7/53) - هندية وحسن المحاضرة (2/85) .

ص: 115

وقد كتبت دراسات عن الحركات الباطنية، ولكن هذه الدراسات - حسب علمي- قامت على إحدى وجهتين:

1-

إما وجهة تاريخية، تنظر إلى تاريخ هذه الطوائف، ودورها في الأحداث وما لها وما عليها، ولا تعطى الجانب العقائدي الذي قامت به إلا دورا صغيرا لا يتعدى التعريف والنشأة.

2-

وإما وجهة عقائدية بحتة، تنظر إلى عقائد هذه الطوائف وفكرها، وأهم مبادئها، وأما دورها في الأحداث وما قامت في المجال السياسى والاجتماعي فلا تتعرض له بشيء.

وفي رأيي- القاصر- أن مثل هذه الحركات الخطيرة لا تتم معرفة أبعادها والاستفادة من تاريخها السابق- وأبعاده العقائدية والسياسية- إلا بالجمع بين هاتين الوجهتين أثناء الدراسة والتحليل.

والحركات الباطنية- في العصر الحاضر-كما أن لها نشاطا سياسيا ملحوظا فلها أيضا نشاط فكري تنشر من خلاله مذاهبها وعقائدها وكتبها ووثائقها (1) .

والعصر- الذى نحن بصدد الحديث عنهـ كان للباطنية والرافضة فيه دور كبير، وهو وإن كان قد انحسر- بالنسبة للعصر الذي قبلهـ إلا أن بقاياهم قامت بأدوار تكميلية سواء بنشر مذاهبهم أو التعاون مع الصليبيين، ولذا رأينا كيف أن الظاهر بيبرس يهاجم حصونهم ويقضي عليها، والسلطان قلاوون وغيره يقومون بغزو الرافضة في جبل كسروان وما جاوره، ورأينا عالما مثل شيخ الاسلام ابن تيمية يتصدى لجهادهم وغزوهم، كما يتصدى لفضح المذهب الباطني ويبين حكم الشرع فيهم، ويرد على علمائهم في منهاج السنة وغيره.

(1) تأسست في الهند سنة 1946 م " الجمعية الإسماعيلية" ونشرت في الهند ومصر كثيرا من مؤلفاتها ومخطوطاتها. انظر: كتاب الحاكم بأمر اللهـ عنان- (ص: 13-14) ، كا أن كثيرا من الباحثين تفرغوا لنشر التراث الاسماعيلي والباطني وكتابة الدراسات حولهـ حتى أن واحدا منهم نشر قرابة أربعين كتابا حول هذه الحركات، وبعض الباحثين من هؤلاء لا يكتفون بالتحقيق أو الكتابة العلمية فقط، وإنما يبثون الدعاية لها ويدعون إلى الاستفادة من تجاربها، كما يزعمون أنها حركات مظلومة ولذا ينبغى إعادة كتابة تاريخها من خلال حرية الفكر والأديان التى ينادون بها.

ص: 116

ونوجز الكلام حول هذه الحركات بمايلي:

أولا: برز التشيع كظاهرة في وقت مبكر، في عهد علي بن أبي طالب - رضى الله عنهـ بل قبله بقليل حين ظهرت السبئية- أتباع عبد اللة بن سبأ - وكان التشيع في عمومه قد بدا معتدلا إلا أنه في هذه الظواهر بدا غاليا أشد ما يكون الغلو، وليسى تأليه علي بن أبى طالب الذي قال به أناس في عهده إلا نواة لتلك الحركات الباطنية التي أخذت أشكالا مختلفة في الظاهر، وهي متفقة في الحقيقة والباطن.

أما ما قد يتبادر إلى الذهن من تفاوت بينها اعتدالا وغلوا فليس هذا إلا أمر عارض ينشأ في بعض الأحوال حسب ما يقتضيه مبدأ التقية، أو التدرج في المدعوين أو حين التطيق العملى لمبادئهم، إضافة إلى مبدأ السرية والعلنية في عقائدهم التى يجعلون جزءا مهما منها يبقى تحت دائرة الكتمان إلا عن القلة القليلة من أكابرهم وعلمائهم، ولذلك صدقت فيهم مقولة أبي حامد الغزالي:" إنه مذهب ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم "(1) .

ثانيا: حدثت انقسامات داخل هذه المذاهب الرافضية الباطنية:

ومنها: الانقسام الذي وقع حول من يكون الإمام بعد جعفر الصادق رحمه الله.

فطائفة: قالت: الإمام بعده ابنه موسى واستمرت الإمامة بعده إلى الإمام الثاني عشر- المهدي المنتظر عندهم- وهؤلاء هم الرافضة الموسوية، الجعفرية، الاثنى عشرية، ومن يطلع على عقائدهم ومذاهبهم يرى أنه لا يمكن أن يكونوا طائفة معتدلة بحال من الأحوال، إلا حال التقية (2) .

(1) فضائح الباطنية (ص: 37) .

(2)

قدم الأخ العزيز- ناصر القفاري- رسالته للدكتوراه عن أصول الشيعة الاثنى عشرية وعقائدهم بعد دراستهـ الجادة والموفقة- إن شاء الله؛ حول مسألة التقريب بين السنة والشيعة في رسالته للماجستير.

ص: 117

وطائفة: قالت: الإمام بعده أى- بعد جعفر الصادق- ابنه إسماعيل- الذي مات في عهد أبيهـ وهؤلاء هم طائفة الإسماعيلية التي انبثقت منها حركة القرامطة، والدولة الفاطمية في المغرب ومصر، والإسماعيلية في بلاد فارس وغيرها.

ومنها:- أى من الانقسامات التي حدثت- ما حدث سنة 487 هـ- لما مات الخليفة المستنصر باللهـ الفاطمى العبيدى- فقد افترقت الإسماعيلة إلى فرقتين:

إحداهما: قالت بأن الإمام بعده ولده نزار، وأن المستنصر نص على ذلك قبل وفاته، و" الإسماعيلية"، وملاحدة العجم وملاحدة الشام تعتقد إمامته، وتزعم أن المستنصر كان قد عهد اليه وكتب اسمه على الدينار والطرز، وأن المستنصر قال للحسن بن صباح: إنه الخليفة من بعده" (1) وهؤلاء ينكرون إمامة المستعلى الذكط تولى الخلافة- بعد أبيهـ ويرون أن خلافته ومن بعده باطلة.

والأخرى: المستعلية، يرون صحة إمامة المستعلي ومن قام بعده من الخلفاء بمصر، وبسبب ذلك حدثت فتن بين الطائفتين (2) .

ثالثا: لم تكن هذه الحركات الباطنية بعيدة عن الأحداث- خلال تاريخنا الإسلامي- وإنما أخذت تعمل سرا لنشر أفكارها، وتكوين أتباع لها- وذلك خوفا من الخلافة العباسية السنية- وكان بداية ذلك لما ظهرت حماعة من الملاحدة يتزعمهم رجل فارسي مجوسى اسمه: ميمون بن ديصان المعروف بالقداح، وكان قد تظاهر بالإسلام والتشيع، ثم قبض عليه مع جماعة من أصحابه وسجنوا في الكوفة أواخر عهد المنصور العباسى سنة 145 هـ. وفي السجن بدأوا وضع مذهبهم وأسس دعوتهم ثم ظهرت على أثر ذلك حركتان كان لهما دور في التاريخ الإسلامى، إحداهما: ظهور القرامطة، والأخرى: قيام الدولة الفاطمية.

(1) اتعاظ الحنفاء (3/15) .

(2)

انظر: تاريخ الفارقي (ص: 267) ، واتعاظ الحنفاء (3 / 27) ، والبداية والنهاية (12/148)، وتاريخ عطا ملك الجوين- جزء منه ضمن دولة الاسماعيلية في إيران (ص: 79 1) ، وانظر الاسماعيلية - لاحسان الهى ظهير (ص: 58 ا - 59 1، 735) ، وانظر: مذاهب الاسلاميين - بدوي (2 / 352) وما بعدها.

ص: 118

رابعا: ولما جاء عهد المماليك واصلوا حربهم للصليبيين والباطنيين وخاصة بعد القضاء على حصونهم في بلاد فارس الذي تم على يد هولاكو. فالظاهر بيبرس قضى عليهم- حصنا بعد الآخر- سنة 670 هـ، وكانوا قبل ذلك يدفعون له الجزية وكان مسيطرا عليهم يعزل وينصب من يريد من زعمائهم، يقول المقريزي في حوادث سنة 671 هـ " وفي ثاني عشر ذي الحجة استولى السلطان على بقية حصون الدعوة الاسماعيلية وهي المينقة والقدموس والكهف، وأقيمت هناك الجمعة وترضى عن الصحابة بها، وعفيت المنكرات منها، وأظهرت شرائع الإسلام وشعائره "(1) .

لكن هل انتهى دور الباطنين في بلاد الشام (2) بالقضاء على الاسماعيلية (3) ؟

لقد بقى من طوائفهم طائفتان كان لهم نفوذ في ذلك الوقت، واستمر نفوذهم في بلاد الشام إلى العصر الحاضر. وهما:

أ- النصيرية:

وهؤلاء سموا بذلك نسبة إلى محمد بن نصير النميرى (4) الذي عاش في القرن الثالث زمن الأئمة الثلاثة الأخيرين من أئمة الشيعة الاثنى عشرية، وزعم أنه الباب للإمام الحادي عشر " الحسن العسكري " وأنكر إمامة المهدي الثاني عشر، وبذلك انفصل عن الاثنى عشرية، وللنصيرية عقائد غالية مشهورة أهمها تأليه علي ابن أبي طالب- رضي الله عنه وفي عهد المما ليك كانوا يسكنون السواحل الشامية، وبعض الجبال في الكسروان وغيره، وكانوا موالين أتم الموالاة للنصارى وللتتار، وقد حرص الظاهر بيبرس على القضاء عليهم عن طريق إلزامهم ببناء المساجد

(1) السلوك (1/608)، وانظر الروض الزاهر (ص: 413) ، والمختصر لأبي الفداء (7/41) .

(2)

أما في غير بلاد الشام فلا تزال الاسماعيلية باقية إلى اليوم كطائفة مستقلة.

(3)

المطلع على رحلة ابن بطوطة (1/93) ، حين زار الشام سنة 727 هـ يرى أنه يشير إلى قلاع الإسماعيلية والفداوية ويقول أنهم سهام الناصر قلاوون يصيب بهم أعداءه وعلى هذا الأساس يكرن الظاهر إنما قضى عليهم سياسيا، بحيث لم يصبع لهم دور مستقل.

(4)

وبعضهم ينسبهم إلى نصير غلام- رضى الله عنهـ.

ص: 119

في كل قرية، ولكنهم " بنوا بكل قرية مسجدا بعيدا عن العمارة، ولا يدخلونه ولا يعمرونه، وربما أوت إليه مواشيهم ودوابهم وربما وصل الغريب إليهم فينزل بالمسجد، ويؤذن إلى الصلاة فيقولون: لا تنهق علفك يأتيك (1) " استهزاء وسخرية، وفي سنة 717 هـ خرجت النصيرية عن الطاعة، وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله كان تارة يدعى الألوهية لعلى وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله " وخرج يكفر المسلمين وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمة ألف وبلادا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها وخرجوا منها يقولون: لا إله إلا علي ولا حجاب إلا محمد ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد: وا إسلاماه وا سلطاناه وا أميراه، فلم يكن لهم يومئذ نصر ولا منجد.... فجردت لهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا وقتل المهدي "(2) .

وقد حفظ لنا صاحب صبح الأعشى وثيقة تشتمل على مرسوم أصدره الناصر محمد بن قلاوون سنة 717 هـ يلغى فيه بعض المكوس في المملكة الطرابلسية، ويأمر بإبطال بعض المنكرات، ويذكر منكرات النصيرية، ومما ورد فيه عنهم " ومنها: أن بالأطراف القاصية من هذه المملكة قرى سكانها يعرفون بالنصيرية لم يلج الإسلام لهم قلبا، ولا خالط لهم لبا، ولا أظهروا له بينهم شعارا

[ثم يقول] : وأما النصيرية فليعمروا في بلادهم بكل قرية مسجدا

وكذلك رسمنا أيضا بمنع النصيرية من الخطاب (3) وأن لا يمكنوا بعد ورود هذا من الخطاب

(1) رحلة ابن بطوطة المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار (1/96)، وانظر: خطط الشام محمد كرد علي (6/263) ، وذكر أن ذلك في القرن التاسع- وهو خطأ، وتبعه على خطئه صاحب الحركات الباطنية في العالم الاسلامى- محمد أحمد الخطيب (ص: 332) .

(2)

البداية والنهاية (14/83-84) .

(3)

المقصود بالخطاب عندهم أن يحلفوا من يدخل في دينهم- بعد تعليمه وإطلاعه على أسرارهم- أن يكتم دينه، وشيوخه. انظر: مجموع الفتاوى (35/15) - ضمن السؤال الوارد لابن تيمية، وانظر: صبح الأعشى (13/250) .

ص: 120

جملة كافية، وتؤخذ الشهادة على أكابرهم ومشايخ قراهم لئلا يعود أحد منهم إلى التظاهر بالخطاب، ومن تظاهر به قوبل أشد مقابلة " (1) .

ولابن تيمية-رحمه الله فتوى مشهورة في النصيرية وحقيقة مذهبهم وخطرهم وتعاونهم مع النصارى والتتار، والحكم عليهم وواجب ولاة المسلمين نحوهم (2) . وستأتي الإشارة إلى دور ابن تيمية في قتالهم وإخضاعهم- مع غيرهم من دروز وملاحدة ورافضة جبل كسروان- إن شاء الله تعالى.

ب- الدروز:

وهم طائفة يقولون بتأليه الحاكم بأمر الله الفاطمي والتناسخ والحلول. وكان أول من دعا إلى ذلك سنة 408 هـ حمزة بن علي بن أحمد الزوزني، وفي نفس الوقت ظهر عدة دعاة على شاكلته منهم: حسن بن حيدرة الفرغاني المعروف بالأخرم، ومحمد بن إسماعيل الروزي، وفي سنة 411 هـ قتل الحاكم بأمر الله - ويزعم الدروز أنه اختفى- فانتقلت هذه الطائفة إلى مناطق أخرى في بلاد الشام، أما في مصر فلم يبق لهم بعد هلاك الحاكم وجود حقيقى (3) . وقد استجاب لهذه الدعوة من القبائل العربية في الشام: بنو تنوخ وآل بحتر، وآل أرسلان، وبعد اعتناقهم لهذا المذهب الباطني تحركوا في سنة 423 هـ إلى جبل السماق، وجاهروا بمذهبهم وأخربوا المساجد، واعتدوا على المسلمين المجاورين، وكثر شرهم، ولكن أهل أنطاكية خافوا من تفاقم أمرهم، فجاءوهم وتلطفوا لهم حتى قبضوا على دعاتهم وأكابرهم وقتلوهم جميعا (4) .

(1) صبح الأعشى (13/ 33-35)، وانظر: الوثائق السياسية: العهد المملوكى (ص: 5 0 3) وما بعدها.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (35/145- 160) .

(3)

انظر في عقائدهم ونشأتهم: أخبار ملوك بني عبيد (ص: 94) وما بعدها، واتعاظ الحنفاء (2/13 1)، وانظر: الحاكم بأمر الله (ص: 97 1) وما بعدها، و (ص: 4 31) وما بعدها، وتاريخ الدولة الفاطمية (ص:354) وما بعدها.

(4)

انظر: خطط الشام (1/224)، والتنوخيون: نديم نايف حمزة (ص: 71) .

ص: 121

وبعد مجيء الصليبيين ثم التتار كانوا يتعاونون معهم بما يخدم مصالحهم الخاصة (1) .

وكان الدروز متوزعين في أماكن متفرقة من لبنان، ولذلك فقد انضم جزء منهم- من التنوخيين- إلى موالاة المماليك، وصاروا ينخرطون في جنود الحلقة (2) - الذين كانوا فرسانا يأتمرون بأمر السلطان دون أن يكونوا ملكا لهـ وعلى الرغم من سجن ثلاثة من زعمائهم في القاهرة فقد ردت إليهم إقطاعاتهم وصاروا مسؤولين عن الحفاظ على منطقة غرب بيروت (3) .

والعجيب أنه حين هاجم جيش السلطان الناصر قلاوون سنة 705 هـ جبل الكسروان- وكان يسكنه النصيرية والرافضة والدروز- كان من ضمن الجيش الذي هاجمهم: التنوخيون الدروز مما أثار جدلا بين بعض الباحثين (4) .

ج-- إن الرافضة الاثنى عشرية كانت لهم بعض الأدوار الإفسادية ولذلك تحدث عنهم ابن تيمية حينما ذكر غزوه لجبل الكسروان وهذا الجبل كانت تسكنه طوائف مختلفة من النصيرية والدروز والشيعة وأصحاب العقائد الفاسدة- ففي سنة 704 هـ ذهب إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية ومعه نقيب الأشراف زين الدين ابن عدنان وألزموهم شرائع الإسلام، واستتابوا خلقا منهم، كما ذهب إليهم ومعه الأمير قراقوش المنصور وألزموهم بالطاعة وأن يصلحوا ما بينهم وبين التنوخين،

(1) انظر: تاريخ بيروت (ص: 60، 63، 64)، وانظر: التنوخيرن (ص: 03 1- 0 11) .

(2)

انظر: نظم دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر- النظم السياسية- (ص: 149) .

(3)

تاريخ بيروت (ص: 53-54، 70-85)، وانظر: التنوخيون (ص: 125) ،وما بعدها.

(4)

ذكر المقريزى في السلوك (1/902 - 903)، وابن تيمية كما في رسالته إلى السلطان الناصر - العقود الدرية (ص: 193) أن الحملة على أهل كسروان كانت حملة على الدروز- حساهم ابن تيمية الحاكمية- فإذا علم أن الجيش الذي قاتلهم فيه مئات من التنوخية الدروز فكيف يتم هذا؟ كمال الصليبي- وهو ماروني- أنكر ذلك- كا أنه دافع عن الذين كانوا في الجبل. وقد رد عليه زكي النقاش في كتابه: أضواء توضيحية على تاريخ المارونية (ص: 46- 50)، و (ص: 63) وما بعدها. كما رد عليه صاحب كتاب التنوخيون (ص: 130) - ومؤلفه درزي.

ص: 122

ولكنهم رفضوا الطاعة (1) فأخذ ابن تيمية ونائب دمشق في الاستعداد لحربهم، يقول ابن كثير في حوادث سنة 705 هـ: " وفي ثانيه [أي المحرم] خرج نائب السلطة بمن بقى من الجيوش الشامية، وقد كان تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية في ثاني المحرم (2) ، فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة، فخرج نائب السلطنة بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقا كثيرا منهم، ومن فرقتهم الضالة ووطئوا أراضى كثيرة من صنع بلادهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشيخ ابن تيمية والجيش، وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علما وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوب أعدائه حسدا له وغما (3) .

ويقول ابن تيمية بعد هذا النصر المبين عليهم- في كتابه إلى السلطان الناصر قلاوون في مصر- وقد ذكر بعد المقدمات شيئا من عقائدهم: " فأعان الله ويسر بحسن نية السلطان وهمته في إقامة شرائع الاسلام، وعنايته بجهاد المارقين أن غزوا غزوة شرعية كما أمر الله ورسوله، بعد أن كشفت أحوالهم، وأزيحت عللهم، وأزيلت شبههم، وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبين لهم أن غزوهم اقتداء بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضى الله عنهـ في قتال الحرورية المارقين الذين تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم

" (4) . ثم ذكر السبب في أخذ أموالهم وأنه كونهم خارجين عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وسنته، ثم ذكر أنهم شر من التتار من وجوه متعددة، لكن التتر أظهر وأقوى

(1) البداية والنهاية (14/ 35) ، والسلوك (2/ 12)، وتاريخ بيروت (ص: 27) .

(2)

هكذا، ولعل الصواب في ذي الحجة كما أفاده كلام ابن عبد الهادي في العقود، فإن قال (ص: 81 ا-182) " وتوجه نائب السلطنه الأمير جمال الدين الأفرم بمن تأخر من عسكر دمشق إليهم لغزوهم واستئصالهم في ثاني شهر المحرم من سنة خمس وسبعمائة، وكان قد توجه قبله العسكر طائفة بعد طائفة في ذي الحجة ".

(3)

البداية والنهاية (14/35)، وانظر: مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك (ص: 4 31- 9 31) وا نظر: التنو خيون (ص: 28 1- 0 3 1) .

(4)

العقود الدرية (ص: 87 ا-88 1) .

ص: 123

فلذلك يظهر كثرة شرهم، ثم ذكر السبب في قطع أشجارهم وتخريب بلادهم، ثم قال:" وأيضا فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز واليمن والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان ويعز به أهل الإيمان "(1)، ثم قال ابن تيمية:" فصل: تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة أهل الفساد وإقامة الشريعة في البلاد، فإن هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قرى كثيرة من يقتدون بهم وينتصرون لهم، وفي قلوبهم غل عظيم، وإبطان معاداة شديدة، لا يؤمنون معها على ما يمكنهم ولو أنه مباطنة العدو، فإذا أمسك رؤوسهم الذين يضلونهم- مثل بنى العود (2) - زال بذلك من الشر ما لا يعلمه إلا الله، ويتقدم إلى قراهم وهي قرى متعددة بأعمال دمشق، وصفد، وطرابلمس، وحماة، وحمص، وحلب، بأن تقام فيهم شرائع الاسلام، والجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، ويكون لهم خطباء ومؤذنون كسائر قرى المسلمين، وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية وتنشر فيهم المعا لم الإسلامية ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام، فإن هؤلاء الحماربين وأمثالهم قالوا: نحن قوم جبال، وهؤلاء كانوا يعلموننا ويقولون لنا: أننا إذا قاتلنا هؤلاء تكونون مجاهدين، ومن قتل منكم فهو شهيد، وفي هؤلاء خلق كثير لا يقرون بصلاة، ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة والدم، ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنة والنار، من جنس الاسماعيلية والنصيرية، والحاكمية، والباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين "(3) .

وسئل ابن تيمية عن حكم قتالهم فأفتى بجواز ذلك إذا كانوا ممتنعين، وشرح حالهم والحكم عليهم وهى فتوى عظيمة (4) .

(1) المصدر السابق (ص: 191) .

(2)

على رأسهم: أبو القاسم الحسين بن العود، نجيب الدين الأسدى الحلبى، شيخ الشيعة وإمامهم وعالمهم في أنفسهم، ولد سنة 581 هـ، وتوفي سنة 677 هـ. البداية والنهاية (13/287) ، وهؤلاء الموجودون الذين يشير إليهم ابن تيمية من أولاده وأتباعه.

(3)

العقود الدرية (ص: 92 ا-193) .

(4)

انظر: نصها في مجموع الفتاوى (28/468- ا 50) ، بل قال لما بين إنهم شر من اليهود=

ص: 124