المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ا: بيان حال الخصوم - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ١

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد: السلف ومنهجهم لب العقيدة

- ‌المبحث الأول: التعريف بالسلف، وأهل السنة والجماعة وأهل الحديث

- ‌المبحث الثاني: من المقصود بالسلف؟ ونشأة التسمية بأهل السنة والجماعة

- ‌المبحث الثالث: منهج السلف في العقيدة

- ‌الباب الأول: ابن تيمية والأشاعرة

- ‌الفصل الأول: حياة ابن تيمية

- ‌تقدمة

- ‌المبحث الأول: عصر ابن تيمية

- ‌أولا: الصليبيون: [

- ‌ثانيا: ظهور التتار

- ‌ثالثا: المماليك:

- ‌ نظام المماليك الإداري:

- ‌رابعا: سقوط الخلافة العباسية في بغداد وإحياؤها في القاهرة:

- ‌خامسا: الباطنية والرافضة:

- ‌سادسا: بداية ظهور التحاكم إلى غير الشريعة:

- ‌سابعا: الجوانب العلمية والعقائدية:

- ‌المبحث الثاني: حياة ابن تيمية وآثاره

- ‌أولا: اسمه ونسبه ومولده:

- ‌ثانيا: حياته الأولى:

- ‌ثالثا: شيوخه:

- ‌رابعا: هل كان مقلدا لشيوخه

- ‌خامسا: جهاده وربطه بالعمل:

- ‌سادسا: مكانته ومنزلته:

- ‌سابعا: محنه وسجنه:

- ‌ثامنا: تلاميذه والمتأثرون به:

- ‌تاسعا: مؤلفاته ورسائله:

- ‌1- العقيدة الحموية:

- ‌2- جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوى الحموية:

- ‌3- نقض أساس التقديس:

- ‌4- درء تعارض العقل والنقل:

- ‌5- القاعدة المراكشية:

- ‌6- الرسالة التدمرية:

- ‌7- شرح الأصفهانية:

- ‌8- المناظرة حول الواسطية:

- ‌9- الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات:

- ‌10- التسعينية:

- ‌11- النبوات:

- ‌12- الإيمان:

- ‌13- شرح أول المحصل للرازي:

- ‌14- مسائل من الأربعين للرازي:

- ‌عاشرا: عبادته وتوكله وذكره لربه:

- ‌حادي عشر: وفاته:

- ‌الفصل الثاني: منهج ابن تيمية في تقرير عقيدة السلف وفي رده على الخصوم

- ‌تمهيد

- ‌أولا: مقدمات في المنهج

- ‌ثانيا: منهجه في المعرفة والاستدلال:

- ‌ نقض أصول ومناهج الاستدلال الفلسفية والكلامية

- ‌ المنهج الصحيح للمعرفة والاستدلال

- ‌ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها:

- ‌أ- منهجه في العقيدة عموما:

- ‌ب- منهجه في الأسماء والصفات:

- ‌رابعا: منهجه في الرد على الخصوم:

- ‌ا: بيان حال الخصوم

- ‌خامسا: الأمانة العلمية:

- ‌الفصل الثالث: أبو الحسن الأشعري

- ‌أولا: عصر الأشعري:

- ‌ثانيا: نسبه ومولده ووفاته:

- ‌ثالثا: ثناء العلماء عليه:

- ‌رابعا: شيوخه:

- ‌خامسا: تلاميذه:

- ‌سادسا: مؤلفاته:

- ‌1- مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين:

- ‌2- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع:

- ‌3- رسالته إلى أهل الثغر:

- ‌4- الإبانة عن أصول الديانة:

- ‌5- رسالة استحسان الخوض في علم الكلام:

- ‌6- رسالة في الايمان

- ‌7- العمد في الرؤية:

- ‌8- كتاب تفسير القرآن:

- ‌سابعا: أطوار حياته العقدية:

- ‌أ- طور الأشعري الأول (مرحلة الاعتزال) :

- ‌ب- رجوعه عن الاعتزال وأسبابه:

- ‌ج- مذهب الأشعري بعد رجوعه [

- ‌ثامنا: عقيدته:

- ‌الفصل الرابع: نشأة الأشعرية وعقيدتهم

- ‌المبحث الأول: أسلاف الأشعرية "الكلابية" وموقف السلف منهم

- ‌أولا: ابن كلاب:

- ‌ثانيا: الحارث المحاسبي:

- ‌ثالثا: أبو العباس القلانسي:

- ‌موقف السلف من الكلابية:

الفصل: ‌ا: بيان حال الخصوم

أ - القول في الصفات كالقول في الذات.

ب- القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.

ج- الاشتراك في الاسم والصفة بين الله وخلق لا يقتضي التماثل.

د- حجية خبر للآحاد.

هـ- إثبات السلف للصفات ليس تفويضا للمعنى. وغيرها.

‌رابعا: منهجه في الرد على الخصوم:

واجه شيخ الإسلام خصوما كثيرين، ويجمعهم أنهم المخالفون لمذهب السلف ولذلك تنوعوا حسب الفرق والطوائف المشهورة، فإضافة إلى الأشاعرة كان هناك من هو أشد انحرافا منهم، ولذلك رد شيخ الإسلام على جميع الطوائف تقريبا، ابتداء بملاحدة الفلسفة والتصوف والباطنيين والرافضة إلى أصحاب المقالات المنحرفة في جانب أو جوانب العقيدة.

وكان منهجه في الرد عليهم يقوم على أساسين بارزين:

أحدهم‌

‌ا: بيان حال الخصوم

من أهل البدع والانحراف، وشرح مناهجهم وخلفياتهم لأن الحكم عليهم ونقض أقوالهم لابد أن يكون مبنيا على المعرفة بأحوالهم.

والثاني: رده عليهم، وكان له في ذلك منهج واضح، ولذا سنعرض لمنهجه في الرد على الخصوم من خلال هذين الأمرين:

أ - بيان حال الخصوم:

1-

ينطلق شيخ الإسلام - في البداية - إلى وجوب بيان حال أهل البدع، وإن ذلك لا يعتبر من الغيبة، يقول في بيان ما يباح منها:" وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتعمد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم، وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر من أمور الدين من المسائل العلمية والعملية فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب

ص: 284

بيان أمره للناس فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق" (1) ، وفي موضع آخر يركز على أئمة أهل البدع ووجوب بيان حالهم وإن ذلك ليس بغيبة يقول:" ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فغنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل، فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء" (2) .

ولقد كان إحساس شيخ الإسلام بهذا الواجب عظيما، فقضى جزءا كبيرا من عمره في مجاهدة أصحاب البدع علما وعملا.

2-

كشف أسباب نشأة الفرق والبدع، وهذا ضروري للرد عليها لأن كشف الأسباب التي أدت إلى قيامها يهيئ الأمر ليصبح الرد عليها مبنيا على منهج سليم، والطبيب المعالج لا ينبغي له أن يكتفي بمكافحة المرض فقط وإنما يبحث عن أسبابه لأن معرفتها قد تعين في التشخيص ومن ثم في العلاج، وقد يبين أن علاج المرض بمنع أسبابه، وهكذا أمراض القلوب والعقول.

أ- فشيخ الإسلام في البداية يشير إلى أن الاختلاف من لوازم النشأة الإنسانية لأن الشهوات والشبهات لازمة للنوع الإنساني، لذلك فالاختلاف والتفرق لا بد أن يوجد (3) .

(1) منهاج السنة (3/36) مكتبة الرياض الحديثة.

(2)

مجموع الفتاوى (28/231-232) .

(3)

انظر: نقض أساس التقديس - المخطوط (2/319) .

ص: 285

ب- وكثيرا ما يشير إلى الأسباب الخارجية لنشوء الفرق، ويركز على أثر الفلسفة التي انتشرت في العالم الإسلامي في عهد المأمون ومن جاء بعده (1) . ويخص الترجمة - التي قد تكون دقيقة أو غير دقيقة - يكون من الأسباب المهمة (2) .

ج- أما حين يتحدث عن الأسباب الداخلية - التي نشأت من الداخل مثل الاختلاف في فهم النصوص، أو الاستدلال بأدلة عند الآخرين، فيعرض لها مفصلة، فيتكلم عن أسباب الانحراف عن طريق الأنبياء من اليهود والنصارى والمسلمين، يقول في معرض رده على النصارى:" إن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات (3) وغيرها فهو حجة عليهم لا لهم، وهكذا شأن جميع أهل الضلال، إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم، وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما نطق به أنبياؤه، فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب، لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله: إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه يفهموه. وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض، مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزله الله دون بعض فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به كما قال تعالى عن النصارى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] . وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم.

(1) انظر: نقض أساس التقديس - المطبوع (1/323-324، 374-375) .

(2)

انظر: درء التعارض (1/299) .

(3)

مثل احتجاجهم بقوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} [المائدة:110] قالوا: سماه الله خالقا، وقد رد عليهم شيخ الإسلام بعد هذا النص الذي نقلناه من عشرة أوجه، الجواب الصحيح (2/288-293) .

ص: 286

ومن جهة: ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة، وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده، وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ يجعل كلامه متناقضا، ويترك كلامه على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه، فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم" (1) . فهذه أسباب أربعة بين فيها كيف يضل الضالون عن طريق أنبيائهم، ويجمعها التفريط في اتباع ما جاء به الرسول، يقول شيخ الإسلام:" لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا" (2) .

وفي موضع آخر يذكر أسباب الانحراف والضلال لطوائف خاصة فيقول:" ومما ينبغي أن يعلم أنى سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية كغالية العباد والشيعة وغيرهم ثلاثة أشياء:

أحدها: ألفاظ متشابهة، مجملة، منقولة عن الأنبياء، تمسكوا بها وعدلوا الصريحة المحكمة بها، وهم كلما سمعوا لفظا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لم يكن دليلا على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها وإما أن يتأولوها

".

(1) الجواب الصحيح (2/287-288) .

(2)

مجموع الفتاوى (3/314) .

ص: 287

والثاني: خوارق ظنوها من الآيات وهي من أحوال الشياطين، وهذا مما ضل به كثير من الضلال المشركين وغيرهم، ممثل دخول الشياطين في الأصنام وتكليمهم للناس، ومثل إخبار الشياطين للكهان بأمور غائبة، لابد لهم مع ذلك من كذب، ومثل تصرفات تقع من الشياطين.

والثالث: أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقا وهي كذب

(1)

وكثيرا ما يركز على منشأ البدع واختلاط الحق بالباطل فيها" فإن البدعة لو كان باطلا محضا لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقا محضا لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقا محضا لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل"(2)، وبعد ما يبين شيخ الإسلام لبس الحق بالباطل وكيف يكون (3) يقول:" والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات، وحقائق وغير ذلك، لا بد أن تشتمل (4) على لبس حق بباطل وكتمان، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك"(5)

ومن أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم - كما يرى شيخ الإسلام -" قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين، فإنهم يناظرونهم ويحاجونهم بغير الحق والعدل لينصروا الإسلام - زعموا - بذلك، فيسقط عليهم أولئك لما فيهم من الجهل والظلم ويحاجونهم بممانعات ومعارضات، فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول، والظلم والعدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر عليهم أولئك المشركون، فصار مشتملا على إيمان وكفر،

(1) الجواب الصحيح (1/316-317) .

(2)

درء التعارض (1/209) .

(3)

انظر المصدر السابق (1/209-220) .

(4)

في الأصل: تشمل، والتصويب من طبعة محيى الدين عبد الحميد، والفقي (1/132) .

(5)

درء التعارض (1/221) .

ص: 288

وهدى وضلال، ورشد وغي، وجمع النقيضين، وصاروا مخالفين للكفار والمؤمنين كالذين يقاتلون الكفار والمؤمنين " (1) ، ويمثل حالهم بحال بعض ملوك النواحي والأطراف في عصره الذين استزلهم الشيطان فأصبحوا" يقاتلون العدو قتالا مشتملا على معصية الله من الغدر والمثلة والغلول والعدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم المؤمنين" (2) ، ثم يطبق على مثال من التاريخ الكلامي (3) .

ومن أسباب الانحراف عدم فهم كلام العلماء، وتفريع المسائل على مسألة معينة قد يكون العالم تكلم فيها بكلمة زل فيها، أو قصد الرد على طائفة معينة، فحملت على محامل أخرى لم يقصدها، ويذكر لذلك أمثلة عديدة (4) .

3-

المعرفة التاريخية بنشوء الفرق، وتاريخها، والتسلسل التاريخي لظهور البدع، والمدن التي انتشرت فيها، وهذه المعرفة تفيد في بيان أول البدع ظهورا، وأثر البدع السابقة في ظهور البدع اللاحقة، كما أنها تعين على فهم الخلفيات التاريخية والعقدية لظهورها.

وكثيرا ما يقرن شيخ الإسلام بين الأحداث التاريخية والبدع التي صاحبتها، والشواهد على ذلك من كتابات شيخ الإسلام كثيرة، ففي إحدى رسائله يتحدث بشكل موسع عن ظهور البدع، وتاريخها، فيذكر أنه في آخر خلافة علي رضي الله عنه ظهرت بدعة الخوارج والرافضة لأنها متعلقة بالإمامة والخلافة، ثم حدثت فتنة أهل الحرة، وقصة ابن الزبير بمكة، وظهور المختار بن أبي عبيد بالعراق، وذلك في أواخر عهد الصحابة فحدثت بدعة القدرية والمرجئة، وتكلموا في مسائل القدر ومسائل الإيمان والوعد والوعيد، أما نفي الصفات فلم يحدث

(1) التسعينية (ص32) .

(2)

المصدر السابق (ص32) .

(3)

وهي قصة الجهم بن صفوان لما ناظر نفرا من "السمنية" الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس، وحين احتجوا على الجهم في إنكار وجود الله لأنه غير محسوس، أجابهم بأن الروح نقر بوجودها وإن كنا لا نراها، فأدى هذا بالجهم إلى نفي صفات الله، وأنه يمكن نفي جميع الصفات عنه مع الإقرار بوجوده. انظر التسعينية (ص32-38) .

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (8/422-428) .

ص: 289

إلا في أواخر عصر صغار التابعين، وذلك في أواخر عهد الدولة الأموية، وبداية الدولة العباسية، وكيف أنه لما تولى الأعاجم، وعربت الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم، حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوف. وحدث التجهم ونفي الصفات، وبإزائه التمثيل، وكان جمهور الرأي في الكوفة، وجمهور الكلام والتصوف في البصرة، ويذكر أول دويرة بنيت للصوفية في البصرة. وهكذا - بهذا الأسلوب - يستمر في عرض أحوال البلاد الإسلامية وانتشار البدع فيها (1) . والمعرفة التاريخية أوصلت شيخ الإسلام إلى استنتاجات وتحليلات مهمة، فمثلا: أحاديث السفر لزيارة القبور والمشاهد أول من أحدثها أهل البدع من الروافض (2) ، ونسبة رسائل إخوان الصفا إلى جعفر الصادق ليست صحيحة، ويرى أنها صنفت بعد المئة الثالثة (3) ، وأحيانا ينقد متون بعض الروايات التاريخية من خلال الاستقراء والمعرفة بالتاريخ (4) .

4-

معرفته بأحوال الخصوم، مذاهبهم وعقائدهم، وأدلتهم، وكتبهم، وهذا غير ما سبق من معرفته بتاريخ نشوء الفرق، أو أسباب نشوئها، وقد كان شيخ الإسلام في معرفته بأحوال الخصوم واثقا من نفسه حتى قال في إحدى مناقشاته ومناظراته لهم:" كل من خالفني في شيء مما كتبته، فأنا أعلم بمذهبه منه"(5)، وقال عن نفسه:" وقلت في ضمن كلامي: أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها ومتا كان سبب ابتداعها"(6) .

(1) انظر لما سبق مجموع الفتاوى (10/356-372)، وانظر أيضا: منهاج السنة (1/218-227)، تحقيق: رشاد سالم، والنبوات (ص193-198) .

(2)

انظر: الرد على الأخنائي (ص32) ط السلفية.

(3)

انظر: منهاج السنة (2/370) . تحقيق: رشاد سالم، وأيضا (2/154) ، مكتبة الرياض الحديثة، والتسعينية (ص59) .

(4)

انظر: درء التعارض (7/254-257) .

(5)

الواسطية - مجموع الفتاوى (3/163) .

(6)

نفس المصدر (3/184) .

ص: 290

وبلغ من معرفته بأحوال الخصوم أن قال عن "الاتحادية"":" ولهذا لما بينت لطوائف من اتباعهم ورؤسائهم قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون

" (1) .ولما عرض لمسألة: أفعال العباد، وهل هي قديمة قال:" ولم يقل قط أحد لا من أصحاب أحمد المعروفين، ولا من غيرهم من العلماء المعروفين: إن أفعال العباد قديمة، وإنما رأيت هذا [قولا] لبعض المتأخرين بأرض العجم وأرض مصر من المنتسبين إلى مذهب الشافعي وأحمد فرأيت بعض المصريين يقولون: إن أفعال العباد من خير وشر قديمة، ويقولون: ليس مرادنا بالأفعال نفس الحركات ولكن الثواب الذي يكون عليها" (2) . وكثيرا ما يمحص الأقوال التي تنسب إلى الخوارج (3) ، أو بعض طوائف النصارى (4) ، بل قال عن الزبور:" وقد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم باسمه ورأيت نسخة أخرى "من الزبور"(5) ، فلم أر ذلك فيها، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس في أخرى" (6) . ومن علمه بحال الخصوم معرفته بالبلدان التي يكثر فيها الكفر والشرك والأحوال الشيطانية والتي يقل فيها ذلك (7) .

(1) حقيقة مذهب الاتحاديين، مجموع الفتاوى (2/138)، وانظر: قصته في الإسكندرية لما جاء أحد فضلائهم وطلب منه أن يشرح له مذهبهم، فشرحه، النبوات (ص120) ، دار الكتب العلمية.

(2)

مجموع الفتاوى (8/408) .

(3)

انظر: الصارم المسلول (ص184-185) .

(4)

انظر: مناقشته للطبري وغيره حول طوائف النصارى وعقائدهم في الجواب الصحيح (1/170-171) .

(5)

في الأصل: بالزبور، ولعل الصواب ما ذكرته.

(6)

الجواب الصحيح (2/27) .

(7)

انظر: تلخيص الاستغاثة (1/49-50) .

ص: 291

5-

بيانه لمنهج أهل البدع والكلام، المخالف لمنهج السلف - رحمهم الله تعالى - ولا شك أن بيان منهج الباطل يعين على معرفة منهج أهل الحق، ولذلك أشار في الوصية الكبرى إلى جوامع من أصول أهل الباطل فقال:" وأنا أذكر جوامع من أصول الباطل التي ابتدعها طوائف ممن ينتسب إلى السنة وقد مرق منها وصار من أكابر الظالمين، وهي فصول: الفصل الأول: أحاديث رووها في الصفات زائدة على الأحاديث التي في دواوين الإسلام مما نعلم باليقين القاطع أنها كذب وبهتان، بل كفر شنيع

فصل: وكذلك الغلو في بعض المشايخ

فصل: وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله

" (1) ، ويقول عن أهل البدع: إنهم على عكس منهج الرسل، فالرسل" يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه، ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما هو أقوى وأنفع، وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل، ويذكرون من ذلك ما أضعف وأضر، فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى، ومتبع هؤلاء ضال شقي

" (2) . ومن منهج أهل الباطل أنهم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، وهؤلاء أصناف (3) .

ويذكر شيخ الإسلام أن من منهج أهل الباطل التلبيس على أتباعهم والتدرج بهم، حيث يبدأون بالألفاظ المتشابهة ثم يؤلفون أقوالهم ويعظمونها في النفوس ويهولونها، حتى يستجيب لهم من يدعونه ولو لم يكن مقتنعا بأقوالهم، ويشبه هذا ما تفعله القرامطة من التدرج في دعوتهم، يقول شيخ الإسلام:" ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة، وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم، ثم ركبوها، وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض، وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه،

(1) الوصية الكبرى، مجموع الفتاوى (3/384-385، 395، 415) .

(2)

درء التعارض (8/21) .

(3)

انظر مقدمة في أصول التفسير (ص81-93)، تحقيق: زرزور.

ص: 292

ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته، فأخذ يعترض عليهم قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل، ونقلوا الناس في مخاطبتهم درجات كما ينقل إخوانهم القرامطة المستجيبين لهم درجة بعد درجة

" (1) . ومن منهجهم فرارهم إلى التقليد، فرأس الطائفة إذا قال كلاما بقى ذلك الكلام "دائرا في الاتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه، وكلما كانت العبارات أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما، وهذه حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر ولا وقعوا له على عين ولا أثر، وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة الغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة" (2) ، ثم يقول شيخ الإسلام عن تقليدهم لشيوخهم:" وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة - ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم وممن خاطبتهم، وممن بلغني أخبارهم - إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها، ولم يجد له ما يدفعها به فر إلى التقليد ولجأ إلى قول شيوخه، وقد كان في أول الأمر يدعو إلى النظر والمناظرة، والاعتصام بالعقليات والإعراض عن الشرعيات، ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] " (3) .

ثم يذكر تناقضهم فيقول:" ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر"(4) .

(1) درء التعارض (1/295-296) ، وأيضا (5/61-62) .

(2)

درء التعارض (5/315) .

(3)

درء التعارض (5/317) .

(4)

نفس المصدر (5/318) .

ص: 293

وإذا كان كثيرا ما يتكلم عن المنهج العام للمبتدعة مثل اتباع الهوى والإعراض عن الكتاب والسنة، وتقديم معقولهم عليهما، وغير ذلك - فإنه أحيانا يتكلم عن منهج بعض الطوائف، فيتكلم عن منهج الجهمية وما ارتكبوه من العظائم (1) ويتكلم عن منهج المعتزلة واستدلالهم بدليل حدوث الأجسام وتقديمهم للدليل العقلي على دليل السمع (2) . ولسنا بصدد استقصاء ما كتبه في منهج أهل البدع، وغنما الغرض بيان أن من منهجه في رده على الخصوم شرحه لمناهجهم. ب- الرد على الخصوم ومناقشتهم ومنهجه في ذلك: في الفقرة السابقة كان الحديث عن أن من منهج شيخ الإسلام في الرد على الخصوم شرح أحوالهم ونشأة بدعهم وأسباب ذلك، ومناهجهم، ونذكر هنا منهجه في مناقشتهم ونقض أقوالهم والرد على أدلتهم، والكلام في ذلك طويل، ولكن نعرض لبعض الملامح في ذلك: 1- ثقته المطلقة بما عنده من الحق، حتى قال مرات - في مناظرته حول الواسطية -:" قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم " (3) يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك

(4) ،

وفي موضع ذكر أنه قال:" أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين، إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيء مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت "(5) .

(1) درء التعارض (1/277) .

(2)

انظر: شرح حديث النزول، مجموع الفتاوى (5/541-542) .

(3)

متفق عليه - لكن مع اختلاف يسير عن هذا اللفظ - البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور ورقمه (2652) الفتح (5/259) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ورقمه (2533) وما بعدها.

(4)

المناظرة حول الواسطية، مجموع الفتاوى (3/169) ..

(5)

مجموع الفتاوى (6/15) .

ص: 294

وهذه الثقة بما عنده من الحق المبني على الكتاب والسنة وأقوال السلف بارزة في جميع ما كتب، وخاصة عن مناقشته لخصوم العقيدة، وكانت من عوامل وحدة المنهج عنده، حيث أصبح يتعامل مع جميع من يناقشه - وهم كثر - من خلالها، ولم يمر عليه في وقت من الأوقات أو في مناظرة من المناظرات أن تردد في دلالة الكتاب والسنة، أو في صحة مذهب السلف.

2-

اعتماده في العقيدة على الكتاب والسنة، وتقديمهما على غيرهما، وهذه سمة بارزة في منهجه يجد الإنسان شاهدها في جميع كتبه:

أ- "فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها"(1) .

ب- والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين لأصول الدين وفروعه (2) .

ج- وما صح من السنة - من أخبار الآحاد وغيره - هو حجة في العقائد كما أنه حجة في غيرها (3) .

د- لا تعارض بين العقل والنقل (4) .

3-

كيف تفهم نصوص الكتاب والسنة؟ ، لأن قائلا قد يقول: كل من ينتسب إلى الإسلام يدعي أنه يعتمد في أقواله على الكتاب والسنة، وقليلون هم الذين يجاهرون بنبذها مباشرة، هذه مسألة لا يغفلها شيخ الإسلام بل يرى أنها سبب مهم للاختلاف الواقع بين الناس، ولذلك وضع لها قواعد وضوابط:

أ - فقد كتب رسالة في أصول التفسير، أوضح فيها المنهج الصحيح لتفسير كلام الله تعالى، وهذا المنهج نقله ابن كثير في مقدمة تفسيره، ثم طبقه في تفسيره

(1) درء التعارض (5/56) .

(2)

انظر: نقض أساس التقديس المخطوط (2/321-323) ، والحموية، مجموع الفتاوى (5/6-7) ، ومجموع الفتاوى (3/294-296) ، والقاعدة المراكشية (ص26-28) وغيرها.

(3)

انظر مثلا: الجواب الصحيح (2/12) .

(4)

سيأتي شرح لذلك في موقفه من الأشاعرة.

ص: 295

الذي انتشر بين المسلمين انتشارا عظيما (1) .

ب- كيف يفهم كتاب الله؟ يقول شيخ الإسلام:" دلالة الكلام على المراد تعرف تارة بالضرورة وتارة بالاستدلال، ويستدل على ذلك بما نقله الأئمة، وبما كان يقوله السلف يفسرون به القرآن، وبدلالة السنة، وسائر الآيات وغير ذلك

" (2) .

ج- ويركز على أنه لابد في معرفة لفظ القرآن والحديث من ذكر نظائره يقول" كل من كان له عناية بألفاظ الرسول ومراده بها، عرف عادته في خطابه، وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره، ولهذا ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث أن يذكر نظائر ذلك اللفظ، ماذا عنى الله بها ورسوله، فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث، وسنة الله ورسوله التي خاطب بها عباده، وهي العادة المعروفة من كلامه

" (3) ،ويطبق هذا المنهج في بعض الألفاظ (4) .

د- ولابد أيضا من معرفة اللغة العربية ودلالة الألفاظ، يقول شيخ الإسلام:" ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ وكيف يفهم كلامه، فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك "(5) .

هـ- وليس كل معنى يفسر به لفظ الآية والحديث ويعلل ذلك ب-" أن المعاني تنقسم إلى حق وباطل، فالباطل لا يجوز أن يفسر به كلام الله، والحق

(1) انظر: مقدمة في أصول التفسير (ص93-105)، تحقيق: زرزور، وهناك أكثر من رسالة علمية في منهج ابن تيمية في التفسير.

(2)

نقض التأسيس المخطوط (2/328) .

(3)

الإيمان (ص110) .

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (1/43-44، 67) .

(5)

الإيمان (ص111-112)، وانظر:(ص161) .

ص: 296

إن كان هو الذي دل عليه القرآن فسر به، وإلا فليس كل معنى صحيح يفسر به اللفظ لمجرد مناسبة كالمناسبة التي بين الرؤيا والتعبير، وإن كانت خارجة عن وجوه دلالة اللفظ كما تفعله القرامطة والباطنية" (1) . كما أنه ليس " لأحد أن يقول: إن الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني، ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني هذا من فعل أهل الإلحاد والمفترين" (2) ،ويذكر شيخ الإسلام أمثلة لذلك (3) .

4-

أن السلف أعلم وأحكم من غيرهم، ولذلك يجب الرجوع إلى فهمهم في العقيدة وكلامهم حولها، لأنهم أعلم الناس بالكتاب والسنة ومعانيهما (4) .

5-

ومن منهجه: جواز استعمال المصطلحات الحادثة، ومخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم إذا احتيج إلى ذلك، ويرى مع ذلك أن معرفة لغة العدو واصطلاحه جائز وقد يكون واجبا (5) ، ومثله استخدام المصطلحات والألفاظ الحادثة قد يحتاج إليه وقد يكون مستحبا وقد يكون واجبا (6) . وهذه المسألة شرحها شيخ الإسلام شرحا مستفيضا، وذكر الأحوال المختلفة لذلك، يقول في معرض كلامه عن استخدام أهل الكلام للكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس، وذلك بالألفاظ المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة: مثل لفظ: العقل، والمادة، والصورة، والجوهر، والعرض، والجسم، والتحيز، والجهة، والتركيب، والجزء، والعلة والمعلول، والحدوث، والقدم، والواجب والممكن وغيرها، يقول شيخ الإسلام معقبا على ذلك:" وما من أهل فن إلا وهم معترفون بأنهم يصطلحون على ألفاظ يتفاهمون بها مرادهم،

(1) مجموع الفتاوى (2/27) .

(2)

الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/111) .

(3)

انظر: المصدر السابق (ص111-112) .

(4)

هذه القضية من أسس منهجه العام، وسيأتي إيضاحها - إن شاء الله - عند مناقشته للأشاعرة.

(5)

انظر: السبعينية (ص25)، وانظر أيضا: نقض أساس التقديس المخطوط (2/5-6) .

(6)

انظر: نقض أساس التقديس المطبوع (2/389) ، ومجموع الفتاوى (3/306-308) .

ص: 297

كما لأهل الصناعات العملية ألفاظ يعبرون بها عن صناعتهم، وهذه الألفاظ هي عرفية عرفاً خاصاً، ومرادهم بها غير المفهوم منها في أصل اللغة، سواء كان ذلك المعنى حقاً أو باطلاً، وإذا كان كذلك فهذا مقام يحتاج إلى بيان: وذلك أن هؤلاء المعارضين إذا لم يخاطبوا بلغتهم واصطلاحهم فقد يقولون: إنا لا نفهم ما قيل لنا، أو إن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا، ويلبسون على الناس بأن الذي عنيناه حق معلوم بالعقل أو الذوق، ويقولون أيضاً: إنه موافق للشرع إذا لم يظهروا مخالفة الشرع، كما يفعله الملاحدة من القرامطة والفلاسفة ومن ضاهاهم وإذا خوطبوا بلغتهم واصطلاحهم - مع كونه ليس هو اللغة المعروفة التي نزل بها القرآن - فقد يفضي إلى مخالفة ألفاظ القرآن في الظاهر..وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة كما ذكر فالمخاطب لهم: إما أن يفصل ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت، وإن فسروها بخلاف ذلك ردت، وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً أو إثباتاً، فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع، وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم: أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي يتنزه الله عنها، فحينئذ تختلف المصلحة: فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق. وهذا الطريق تكون اصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه عفي بدعتهم (1)

كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة، وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء،

(1) كذا ولعل العبارة: وأدخلهم في بدعته..

ص: 298

وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أداة إلى علم ضروري، ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة" (1) ،

وذكر شيخ الإسلام مناظرة الإمام أحمد للجهمية، ثم يوضح الحالة الثانية فيقول:" فهذه المناظرة هي التي تصلح إذا كان المناظر داعيان وأما إذا كان المناظر معارضا للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلى الشريعة، مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات، أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك، أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء، فهؤلاء لا بد في مخاطبتهم من كلام على المعاني التي يدعونها: إما بألفاظهم، وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وحينئذ فيقال لهم: الكلام إما أن يكون في الألفاظ، وإما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون فيهما، فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ، كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع، بل يسميه علة وعاشقا ومعشوقا ونحو ذلك، فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبادة الشرعية كان حسنا، وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ، كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفا من التشبه بهم في الثياب. وأما إذا كان الكلام مع من يتقيد بالشريعة فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفيا وإثباتا بدعة، وفي كل منهما تلبيس وإيهام، فلا بد من الاستفسار والاستفصال، أو الامتناع عن إطلاق كل الأمرين في النفي والإثبات (2) ، ويشير هنا شيخ الإسلام إلى ما يظنه بعض الناس من أن السلف ذموا الكلام لأجل الاصطلاحات الحادثة فيه، ويقول:" ليس الأمر كذلك، بل ذمهم للكلام

(1) درء التعارض (1/ 222- 229) ..

(2)

درء التعارض (1/231- 232) .

ص: 299

لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعا، ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله ومنهم من لا يعلم ذلك" (1) .ويوضح شيخ الإسلام ما سبق فيقول:" وبالجملة، فالخطاب له مقامات: فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة، ويدعوه إليها، أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب حقا.... وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له وفي مقام النظر أيضا فعليه أن يعتصم بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة

" (2) ، وضرب شيخ الإسلام أمثلة من الكتاب والسنة ومواقف السلف (3) . " وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها، فإذا أخذ الثاني يذكر ألفاظا مجملة.... فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ " (4) فإن أراد حقا قبل وإن أراد باطلا رد.

ومن هذا الكلام وتفصيل ابن تيمية فيه يتبين لماذا رد شيخ الإسلام على الفلاسفة وأتباعهم وذكر عباراتهم ونقلها من كتبهم، ولماذا رد عليها ردودا طويلة،

(1) درء التعارض (1/ 232 - 233)

(2)

نفس المصدر (1/ 234 - 236) .

(3)

انظر الأمثلة لذلك في المصدر السابق (1/ 236 - 238) ، فقد ضرب أمثلة من القرآن في بيان التوحيد وصدق الرسل والمعاد، ومن السنة في مسألة الرؤية حينما سأله أبو رزين: كيف وهو واحد ونحن كثير فأجابه بمثال القمر، ومن أقوال السلف يقول ابن عباس في مسألة الرؤية وأن السماء ترى ولا يحاط بها، وقول الإمام أحمد في مسألة المعية مع الاستواء والعلو.

(4)

درء التعارض (1/ 238) .

ص: 300

تصل إلى حد أن القارئ لا يستطيع متابعته والاستمرار معه، بل ينقطع حين يقف على نصوص من كلام هؤلاء الفلاسفة المبني على المنطق والعبارات والتراكيب الغامضة، والاصطلاحية.

6-

تناقض أقوال الخصوم، وكون أدلة كل فريق ترد أدلة الفريق المقابل، ويبقى مذهب السلف هو الحق والعدل، يقول شيخ الإسلام: بعد ذكره للنزاع بين المعتزلة والأشعرية حول كلام الله وأفعال العباد:" وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعيا له إلى طلب الحق، ولا تجد الحق إلا موافقا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تجد ما جاء به الرسول إلا موافقا لصريح المعقول"(1)، ويرى شيخ الإسلام أن هناك فوائد من ذكر كلامهم وأدلتهم ومنها:" نقض بعضهم كلام بعض، فلا يعتقد شيء منها، ثم إن عرف الحق الذي جاء به الرسول فهذا الصواب الموافق لصريح المعقول، وإلا استفيد من ذلك السلامة من تلك الاعتقادات الباطلة"(2) .

وكل واحد من أصحاب البدع يقدح في أدلة الآخرين، " ولهذا لا يتفق اثنان رئيسان على جميع مقدمات دليل إلا نادرا، فكل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريقة في الاستدلال تخالف طريقة الرئيس الآخر، بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريقة الآخر، ويعتقد كل منهما أن الله لا يعرف إلا بطريقته وإن كان جمهور أهل الملة بل عامة السلف يخالفونه فيها "(3) .

ويضرب لذلك أمثلة (4) ، وطريقته في ذلك جزء من بيانه لوسطية مذهب السلف.

(1) مجموع الفتاوى (12/ 314) .

(2)

منهاج السنة: المحققة (2/ 197) .

(3)

مجموع الفتاوى (2/ 22) .

(4)

انظر: المصدر السابق (2/ 22-24) ، ومنهاج السنة (3/72، 76، 104) .

ص: 301

وعندما أطال في ذكر مناقشات ونقول عن ابن سينا وابن رشد والطوسي في مسألة علم الله، يقول:" وبيان بطلان أقوالهم النافية للصفات يطول، وإنما القصد هنا إبطال بعضهم لقول بعض، فإن هذا يؤنس نفوسا كثيرة قد تتوهم أنه ليس الأمر كذلك "(1) .وأحيانا يركز شيخ الإسلام على تناقض الشخص نفسه في أقوال، ومن أمثلة ذلك ما ذكره من تناقض ابن سينا (2) ، وبعض أصحاب وحدة الوجود (3) .

7-

ويرى شيخ الإسلام - وهذا جانب من تناقض الخصوم -" أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق، لا تدل على قول المبطل وهذا ظاهر يعرفه كل أحد، فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق، لا على باطل.... والمقصود هنا أن نفس الدليل الذي يحتج به المبطل هو بعينه إذا أعطي حقه وتميز ما فيه من حق وباطل، وبين ما يدل عليه، تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به في نفس ما احتج به عليه. وهذا عجيب قد تأملته فيما شاء الله من الأدلة السمعية فوجدته كذلك"(4) .

ومن منهجه؛ الذي طبقه أن "المناظرة تارة تكون بين الحق والباطل وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد، وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا، لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم

(1) درء التعارض (10/97)

(2)

انظر: درء التعارض (8/ 32، 133، 186، 10/ 98 - 104، 159 - 160)

(3)

انظر: نموذج لتناقض التلمساني في الجواب الصحيح (3/ 201 - 202) .

(4)

مجموع الفتاوى (6/ 288) وانظر: (8/ 29) .

ص: 302

فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ورسوله، فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله" (1) .

8-

إنصافه للخصوم والاعتراف بما عندهم من الحق، وسيأتي - إن شاء الله - بيان إنصافه للأشاعرة، ولكن نقرر هنا أن هذه قاعدة عنده حتى مع من هو أشد انحرافا من الأشاعرة من المعتزلة والجهمية، والفلاسفة، والمتصوفة والرافضة وغيرهم. ولكن ينبغي أن نشير هنا إلى ردوده القوية على الخصوم حين يعارضون الكتاب والسنة وكلام السلف وإجماعهم، أو حين يؤولون النصوص الصريحة تأويلات فاسدة، أو حين يقدمون معقولاتهم على نصوص الشرع أو غير ذلك من مناهج المنحرفين وأدلتهم الباطلة، فإذا ما واجه مثل ذلك تحركت غيرته على هذا الدين وواجه هذه الأقوال الفاسدة نقضا وإبطالا وردا، وأطال النفس في ذلك، وواجه خصومه مواجهة صريحة، يخطئهم ويضلل أقوالهم، ويبين تناقضهم وقلة أدبهم في تعاملهم مع نصوص الشرع. ولسنا بصدد ذكر نماذج لذلك فغالب كتبه شاهد على ذلك، ولكن نشير - ونحن بصدد بيان إنصافه للخصوم - إلى مواقفه وعباراته القوية في مخاطبة بعض خصومه فحين ذكر طرقا عديدة من الأدلة تدل على وجوب قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد التوبة، ذكر في أثناء الطريقة الخامسة والعشرين قول من يقول: إن سب النبي مثل سب غيره، ثم قال:" واعلم أن منشأ الشبهة في هذه المسألة القياس الفاسد، وهو التسوية في الجنس بين المتباينين تباينا لا يكاد يجمعها جامع، وهو التسوية بين النبي وغيره في الدم أو في عرض - إذا فرض عود المنتهك على الإسلام - وهو مما يعلم بطلانه ضرورة، ويقشعر الجلد من التفوه به، فإن من قتله للردة فقط أو للنقض فقط، ولم يجعل لخصوص كونه أذى له أثرا،

(1) درء التعارض (4/ 206) .

ص: 303

وإنما المؤثر عنده عموم وصف الكفر، إما أن يهدر خصوص الأذى، أو يسوي فيه بينه وبين غيره زعما منه أن جعله كفرا أو نقضا هو غاية التعظيم، وهذا كلام من لم ير للرسول حقا يزيد على مجرد تصديقه في الرسالة، وسوى بينه وبين سائر المؤمنين فيما سوى هذا الحق. وهذا كلام خبيث يصدر عن قلة فقه، ثم يجر إلى شعبة نفاق، ثم يخاف أن يخرج إلى النفاق الأكبر، وإنه لخليق

به" (1) . ولما تكلم ابن سينا في أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة ووصفهم بأنهم أهل الوبر، وأنهم لا يستطيعون فهم المعاني الغامضة التي تحتاج من هو أفضل منهم من المبرزين المتفلسفة إلى مزيد إيضاح وشرح لفهمها؛ هجم عليه شيخ الإسلام هجوما شديدا لأن هذا استخفاف بأفضل الخلق بعد الرسل وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن، فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية وعوام الفلاسفة الدهرية، وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعلية وأمثالهم فإنك تجد بين أدنى أولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق، أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد، الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين، حتى اعتقدوا فيمن هو أكفر الناي وأكذبهم أنه أمام معصوم، يعلم علم الأولين والآخرين، بل عوام النصارى مع فرط جهلهم وضلالهم أحذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم، وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤوسها فلاسفة؟ أو لم تكن أئمتكم اليونان - كأرسطو وأمثاله - مشركين يعبدون الأوثان، ويشركون بالرحمن، الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين ويصوم له ويصلي....وأما أئمتكم البارعون - كأرسطو وذويه - فغايته أن يكون مشركا سحارا وزيرا لملك مشرك سحار

" (2) ، ثم يقول شيخ الإسلام:" وهذا الكلام وأمثاله

(1) الصارم المسلول (ص455)

(2)

درء التعارض (5/ 64 -65) .

ص: 304

إنما قيل للمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء، وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة -، كفضلاء الصحابة مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عباس، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بقوم كانوا أتم عقولا، وأكمل أذهانا، وأصح معرفة، وأحسن علما من هؤلاء؟ " (1) ، ثم يقول:" ثم يقال لهذا الأحمق

" (2) . وفي مناسبة أخرى يقول عن مذهبه:" وكل ذلك فضيحة من الفضائح" (3) . ويقول في معرض مناقشته لابن رشد وأقواله:" قلت: ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل، كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين

" (4) . وفي رده على الطوسي الذي رد على ابن سينا وما رضي برجوعه إلى إثبات الصفات:" قلت: فليتدبر العاقل - الذي هداه الله تعالى وفهمه ما جاءت به الرسل، وما قاله غيرهم - كلام هذا الذي هو رئيس طائفته في وقته، وما قرر به كلام سلفه الملحدين في علم الله تعالى، لما كان ابن سينا - وهو أفضل متأخريهم - قد قال في ذلك بعض الحق الذي يقتضيه العقل الصريح مع موافقته للنقل الصحيح، فأراد هذا الطوسي أن يرد ما قاله ابن سينا من الحق انتصارا لطائفته الملاحدة، فقال في الكلام الذي عظم قدره وتبجح به ما يظهر لمن فهمه أنه من أفسد أقوال الآدمين وأشبه الأشياء، بأقوال المجانين، ولا ريب أن هذه عقول كادها باريها، لما ألحدت في صفات الله تعالى، وأرادت نصر التعطيل وقعت في هذا الجهل الطويل

" (5) .

(1) درء التعارض (5/ 69) .

(2)

نفس المصدر (5/ 70) .

(3)

نفسه (10/ 33) .

(4)

نفسه (3/ 427) .

(5)

درء التعارض (10/ 44 -45) .

ص: 305

هذه أساليبه مع هؤلاء، ويلاحظ أن هذه العبارات جاءت مع المتفلسفة الملاحدة، ومع ذلك فلم يمنعه ما يجده من مقالاتهم وانحرافاتهم الواضحة، من ا، ينصفهم ويعترف لهم بالحق الذي معهم، سواء على وجه الإجمال أم التفصيل عند عرض المسألة المعينة. وينطلق شيخ الإسلام في ذلك ببيان وجوب الإنصاف والعدل مع الآخرين ومع النفس فيقول:" وكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره، ويرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويذكر تناقض أقوال غيره ومخالفتها للمنصوص والمعقول، ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال أو أضعف منها أو أقوى منها، والله تعالى يأمر بالعلم والعدل، ويذم الجهل والظلم كما قال تعالى:{وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]

ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم " (1) . ثم هو يقسم الطوائف إلى طبقات فالفلاسفة والصوفية وأتباع الفلاسفة، هم أبعد عن الحق من المعتزلة، والمعتزلة أقرب منهم، ومتكلمة أهل الإثبات من الكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية أقرب من المعتزلة، والسلف وأهل الحديث أقرب الطوائف إلى الحق (2) . وهو ينبه إلى أنه قد يكون في كلام المبتدعة وأهل الكلام ما هو حق لأنهم قد يذكرون معاني حسنة وصحيحة، ولكن الضلال جاء من جهة أنهم نفوا ما زاد عليها من الحق مما يثبته أهل السنة، ويذكر أمثلة لذلك ومنها:" ما يثبته المتكلمة من أن العبد يتقرب ببدنه وروحه إلى الأماكن المفضلة التي يظهر منها نور الرب كالسموات والمساجد، وكذلك الملائكة، فهذا صحيح، لكن دعواهم أنهم لا يتقربون إلى ذات الله، وأن الله على العرش، فهذا باطل، وإنما الصواب إثبات ذلك وإثبات ما جاءت به النصوص من قرب العبد إلى ربه،

(1) درء التعارض (7/ 463 - 464) .

(2)

انظر الصفدية (1/ 160 - 161) .

ص: 306

وتجلي الرب لعباده بكشف الحجب المتصلة بهم والمنفصلة عنهم، وإن القرب والتجلي فيه علم العبد الذي هو ظهور الحق له، وعمل العبد الذي هو دنوه إلى ربه

ثم بعض المتسننة والجهال إذا رأوا ما يثبته أولئك من الحق قد يفرون من التصديق به، وإن كان لا منافاة بينه وبين ما ينازعون أهل السنة في ثبوته، بل الجميع صحيح، وربما كان الإقرار بما اتفق على إثباته أهم من الإقرار بما حصل فيه نزاع؛ إذ ذلك أظهر وأبين وهو أصل للمتنازع فيه، فيحصل بعض الفتنة في نوع تكذيب، ونفي حال أو اعتقاد ككمال المبتدعة، فيبقى الفريقان في بدعة وتكذيب ببعض موجب النصوص، وسبب ذلك أن قلوب المثبتة تبقى معلقة بإثبات ما نفته المبتدعة، وفيهم نفرة عن قول المبتدعة بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له، فيعرضون عن ما يثبتونه من الحق، أو ينفرون منه أو يكذبون به" (1) .

ثم يذكر أمثلة أخرى فيقول:" كما قد يصير بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها، بل بعض المسلمين يصير في إعراض عن فضائل موسى وعيسى بسبب اليهود والنصارى...... حتى يحكى عن قوم من الجهال أنهم ربما شتموا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب، وعن بعض الجهال أنه قال: سبوا عليا كما سبوا عتيقكم، كفر بكفر وإيمان بإيمان

" (2) . وحين يذكر تناقض الفلاسفة وغيرهم - حتى في قواعدهم المنطقية - وما أوقعتهم فيه من عقائد فاسدة، يقول:" وهم لم يقصدوا هذا التناقض، لكن أوقعتهم فيه قواعدهم الفاسدة المنطقية " (3) . ويركز دائما على أن الانحراف درجات، وأن المنتسبين إلى أصول الدين والكلام أيضا درجات، فيقول:" ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.

(1) مجموع الفتاوى (6/ 25 - 26) .

(2)

نفس المصدر (6/ 26) .

(3)

شرح حديث النزول، مجموع الفتاوى (5/ 341) .

ص: 307

ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه؛ فيكون محمودا فيما رده من الباطل، وقاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد بالباطل باطلا بباطل أخف منه (1) ، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه، ويعادون، كان من نوع الخطأ والله سبحانه يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك " (2) ، والانحراف بعضه أخف من بعض ف- " قد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة، فينتقل إلى ما هو أقل منها شرا وأقرب إلى الخير، فيكون حمد تلك الطريقة ومدحها لكونها طريقة الخير الممدوحة، مثال ذلك: أن الظلم كله حرام مذموم، فأعلاه الشرك فإن الشرك لظلم عظيم، والله لا يغفر أن يشرك به وأوسطه ظلم العباد بالبغي والعدوان، وأدناه ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله

وهكذا النحل التي فيها بدعة، قد يكون الرجل رافضيا فيصير زيديا، فذلك خير له، وقد يكون جهميا قدريا فيصير جهميا غير قدرى، أو قدريا غير جهمي، أو يكون من الجهمية الكبار، فيتجهم في بعض الصفات دون بعض ونحو ذلك" (3)

ومن قواعد إنصافه أنه لا يبرىء بعض أهل السنة من المحدثين وغيرهم من الوقوع في الخطأ فيقول: " لكن يوجد في أهل الحديث مطلقا من الحنبلية وغيرهم من الغلط قي الاثبات أكثر مما يوجد في أهل الكلام، ويوجد فى أهل الكلام من الغلط فى النفى أكثر مما يوجد في أهل الحديث.... "(4) .

تلك قواعد في منطلقه في الانصاف والعدل، وهي التي مهدت لشيخ الإسلام ليتميز بمنهج سليم في هذا الباب، أما الذين ينطلقون في ردودهم الخصوم على أساس أن الحق معهم أو مع طائفتهم، وأن طائفتهم لا يقع فيها خطأ

(1) كذا، ولعل العبارة: ورد الباطل بباطل أخف منه.

(2)

مجموع الفتاوى (3/348-349) .

(3)

الاستقامة (1/ 464- 465) .

(4)

تفسير سورة الاخلاص، مجموع الفتاوى (17/363) .

ص: 308

ولا انحراف، وأن خصومهم على الباطل، وأقوالهم كلها باطلة -هكذا بإطلاق- فهؤلاء لابد أن يقعوا في الخطأ أو باقتراب شيء من الباطل ونسبته إلى الحق، أوجحد شيىء من الحق لأن الخصوم قالوا به.

وننتقل الآن إلى ذكر نماذج من إنصافه لخصومه، والفلاسفة هم أشد خصوم ابن تيمية ومع ذلك يقول فيهم "نعم، لهم في " الطبيعيات" كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم يقصدون الحق لا يظهر عليهم العناد، لكن جهال بالعلم الالهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ "(1)،كما يذكر أنهم يتفاوتون في القرب والبعد عن الحق (2) . ويعترف للمعتزلة ويميزهم عن غيرهم من أهل البدع فيقول: " ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة والخوارج، فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة

ويعظمون الذنوب، فهم يتحرون الصدق كالخوارج، لا يختلقون الكذب كالرافضة ولا يرون أيضا اتخاذ دار الاسلام كالخوارج، ولهم كتب في التفسير القرآن ونصر الرسول، ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض

) (3) ، ويرى أنه لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول لكنهم احتجوا بحجج عقلية أدت الى هذا (4) .

أما الشيعة فيرى أنه "ليس كل ما أنكره بعض الناس عليهم يكون باطلا بل من أقوالهم أقوال خالفهم فيها بعض أهل السنة ووافقهم بعض، والصواب مع من وافقهم، ولكن ليس لهم مسألة انفردوا بها أصابوا فيها "(5) ، ولما ذكر تفضيل الخوارج والمعتزلة عليهم ذكر " أن الزيدية من الشيعة خير منهم [أي من الرافضة] ، وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم) (6) ، ثم قال: " ومع هذا

(1) الرد على المنطقيين (ص: 43) .

(2)

درء التعارض (9/276)

(3)

الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوى (13/97-98) .

(4)

انظر: درء التعارض (7/106-107)

(5)

منهاج السنة، تحقبق: رشاد سالم (1/27) .

(6)

المصدر السابق- مكتبة الرياض الحدينة (3/39) .

ص: 309

فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقا بل وأهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا" (1) .

أما أهل الكلام فكثيرا ما يفضلهم على الفلاسفة، ويرى أنهم أقل انحرافا منهم (2) .

فإذا انتقلنا إلى إنصافه للأفراد، فابن سينا الذى رد عليه كثيرا وذكر عبارات قاسية في الرد عليه يقول عنه: إنه أفضل متأخرى الفلاسفة (3) ، ولما نقل من كلامه في الإشارات والتنبيهات حول مقامات العارفين، ذكر أن فيه حقا وباطلا، وأن ما فيه من حق يقبل، ولما نقل كلامه قال: إنه كلام صحيح (4) . ولما خالف ابن سينا بقية الفلاسفة في مسألة علم الله مدحه شيخ الإسلام وقال:

" وكون ابن سينا خالفهم في هذا هو من محاسنه وفضائله، التي علم فيها ببعض الحق، والحجة معه عليهم، كما أن أبا البركات كان أكثر إحسانا منه في هذا الباب فكل من أعطى الأدلة حقها، وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره كان ذلك مما يفضل ويمدح "(5) ويذكر أن "الصواب في هذا الباب أن يقرر ما ذكره ابن سينا من الطريق الدال على كونه عالما بالمخلوقات فإنها طريق صحيحة

" (6) . ويمدح أبا البركات البغدادي (7) صاحب المعتبر ونحوه ويرى أنهم " كانوا بسبب عدم تقليدهم لأولئك [أى الفلاسفة] ، وسلوكهم طريقة النظر العقلي

(1) منهاج السنة (3/39) .

(2)

انظر الرد على المنطقيين (ص: 395) ، والصفدية (1/161-162) ، ودرء التعارض (7/143) .

(3)

انظر: النبوات (ص: 7) ، ودرء التعارض (10/44) .

(4)

انظر: درء التعارض (6/59) .

(5)

انظر: درء التعارض (10/140) .

(6)

انظر: درء التعارض (10/146) .

(7)

هو: هبة الله بن علي بن ملكا، كان يهوديا فأسلم، ولد نحو سنة 480 هـ، وتوفي سنة 560 هـ عيون الأنباء (ص: 374) ، ووفيات الأعيان (6/74)، وأخبار الحكماء للقفطي (ص: 224)

ص: 310

بلا تقليد، واستنارتهم بأنوار النبوات أصلح قولا في هذا الباب من هؤلاء وهؤلاء، فأثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا، وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله وبين ما بينه من خطأ سلفه، ورأى فساد قولهم في أسباب الحوادث، فعدل عن ذلك إلى أن أثبت للرب تعالى ما يقوم به [من] ، الارادات (1) الموجبة للحوا دث " (2) .

وابن عربى- الصوفي- يرى أنه أقرب الاتحادية إلى الاسلام " لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرا، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذى يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى، والله أعلم بما مات عليه "(3) ، ويرى أنه أقرب إلى الإسلام لأنه " يفرق بين الظاهر والمظاهر، فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه"(4) ومع ذلك فقد رد عليه وبين ما في كلامه وأقواله من الكفر.

والطوسى لما بين مخازيه، وتآمره مع هولاكو ضد أهل الإسلام قال:"ومع هذا فقد قيل: إنه كان آخر عمره يحافظ على الصلوات ويشتغل بتفسير البغوي والفقه ونحو ذلك، فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والله تعالى يقول: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} [الزمر: 53] "(5) .

هذه نماذج لمواقفه من خصومه وإنصافه لهم، وهنا يرد السؤال الذى يطرحه بعض من يترجم لابن تيمية وهو: كيف يوجه شدة ابن تيمية على " خصومه في مواضع، ثم رفقه بهم في مواضع أخرى؟.

(1) في طبعة رشاد سالم- الارادات- بدون "من"، والتصويب من طبعة مكتبة الرياض الحديثة (1/128)

(2)

منهاج السنة، تحقيق: رشاد سالم (1/247) .

(3)

حقيقة مذهب الاتحاديين- مجموع الفتاوى (2/143) .

(4)

رسالته الى نصر المنبجي، مجموع الفناوى (2/470- ا 47) .

(5)

منهاج السنة النبوية- مكتبة الرياض الحديثة- (2/123) .

ص: 311

والإجابة عن هذا السؤال واضحة لمن يتتبع منهج شيخ الإسلام وطريقته في الرد على خصومه.

أ- فشيخ الاسلام يفرق بين الأشخاص والأقوال، فإذا كان في مقام الرد على إحدى المقالات الفاسدة، نقضها بقوة، وردها إلى أصولها الأخرى الفاسدة، وشنع على من يعتقد مثل هذا الكلام، ويستدل بهذا الدليل الفاسد، ومن ثم يكون موقفه قويا وشديدا في سبيل نصرة الحق ورد الباطل، أما حين يتجه إلى صاحبها فقد يكون رجع عن هذه المقالة، أو تاب في آخر عمره، ومن ثم فلابد من إنصافه.

ب- ثم هو-رحمه الله إذا رد إحدى المقالات الباطلة رد على المقالة نفسها فنقضها ونقض ما فيها من استدلال، وشنع على من قال بها فيشتد في موقفه، لكنه حين يحكم على الأشخاص لا يحكم عليهم من خلال هذه المقالة الفاسدة التي ردها، وإنما ينظر إليهم نظرة متكاملة فيرى أن لهذا الشخص جهودا في الرد على النصارى، أو الفلاسفة، أو الرافضة، أو الجهمية، فيمدح أقواله تلك ويمدحه لأجلها. وهكذا

9-

وأخيرا نشير إلى لمحات في منهجه:

أ- فهو يقرن الأمور العلمية بالعملية، وكانت حياتهكما أسلفنا- قائمة على هذا، ولهذا فهو مع ردوده على أصحاب وحدة الوجود- الذين كانوا كثيرين في عهدهـ يقول:" ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم، ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو من قال إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التى لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان علي خلق من المشايخ والعلماء والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدون عن سبيل الله، فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم كقطاع الطريق، وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم"(1) .

(1) مجموع الفتاوى (2/132) .

ص: 312

ولما سئل عمن يقول: إن رد أحمد بن حنبل على اللفظية كان خوفا من الناس أجاب بجواب طويل، لكنه قال في البداية: " بطلان هذا يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد، وقائل هذا إلى العقوبة البليغة التي يفترى بها على الأئمة أحوج منه إلى جواب

" (1) .

ب- ويرى أن بعض المسائل الفرعية التى وقع فيها الخلاف لا ينبغي مفاتحة عوام المسلمين فيها وامتحانهم حولها، ومن ذلك مسألة رؤية الكفار لله، فهو يقول في رسالته إلى أهل البحرين حول هذه المسألة وغيرها " وهنا آداب تجب مراعاتها

ومنها،:" وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين، الذين هم في عافية وسلام من الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها، أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به، بخلاف الايمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، فإن الإيمان بذلك فرض واجب، لما قد تواتر فيها عن النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة "(2) .

ج- كما يرى التدرج في ذكر المسائل العلمية، يقول بعد كلام طويل حول القدر:" ومن فهم ما كتب انفتح له الكلام في هذا الباب، وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل، فإن الكلام فيها بالتدرج مقاما بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها والجواب عما يعارضها، كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها فلهذا يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر دليل كل قول، ومعارضة الآخر له حتى يتبين الحق بطريقة لمن يريد الله هدايته، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور:40] "(3) .

د- ويرى أن القول الباطل قد يتبين بطلانه في نفسه من غير بيان وجه ذلك يقول بعد أن بين مذهب ابن عربي وأنه مبني على الزعم بأن المعدوم شيء ثابت

(1) الكيلانية- مجموع الفتاوى (12/438) .

(2)

مجموع الفتاوى (6/503-504) .

(3)

أقوم ماقيل في القضاء والقدر: مجموع الفتاوى (8/158) .

ص: 313

في العدم: " واعلم أن المذهب إذا كان باطلا في نفسه لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصورا حقيقيا؛ فإن هذا لا يكون إلا للحق، فأما القول الباطل فإذا بين فبيانه يظهر فساده، حتى يقال: كيف اشتبه هذا على أحد، ويتعجب من اعتقادهم إياه "(1) .

ذ- ويرى أيضا أنه لابد من هدم الباطل الذي عند الخصم، ثم بناء الحق مكانه، ولذلك لما ذكر مناظرة الإمام أحمد للجهمية حين سألوا عن كلام الله أهو الله أو غير الله، فقال لهم أحمد: ما تقولون في علم الله، أهو الله أو غيره فعارضه أحمد بالعلم فسكت مناظرة- قال ابن تيمية- معلقا:" وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله بالمناظرة-رحمه الله فإن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد، فينبغي إذا كان المناظر مدعيا أن الحق معه، أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فأعطه إياه، والا فما دام معتقدا نقيض الحق لم يدخل الحق إلى قلبه، كاللوح الذي كتب فيه كلام باطل، امحه أولا، ثم اكتب فيه الحق، وهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم فذكر لهم الإمام أحمد رحمه الله من المعارضة ما يبطلها "(2) . وهذا يدل على براعة علماء السلف - رحمهم الله تعالى-.

هـ- كما يرى شيخ الإسلام أن جواب الشبهة يجب أن يكون قويا حتى ينقضها ويعيب على الذين يوردون شبهات أهل الباطل ثم يردون عليها ردودا ضعيفة، ولما عرض لمسألة مجادلة أهل الكتاب ورأى جواز ذلك، ورد على من زعم أن جواز مجادلتهم منسوخ بآيات الجهاد والقتال (3)، قال في أثناء الوجه السابع: ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناء على ظهور دلائل النبوة نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذين يعتمد في أصول الدين على نظرهم ومناظرتهم، ويزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة قد أوردوا من الشبهات والشكوك

(1) حقيقة مذهب الاتحاديين، مجموع الفتاوى (2/145) .

(2)

جواب أهل العلم والإيمان، مجموع الفتاوى (7/158-159) .

(3)

انظر: الجواب الصحيح (1/66-78) .

ص: 314

والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالا، وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جوابا في المسائل الظنية، بل هى إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين، وهم مثلهم الغزالي وغيره بمن يضرب شجرة ضربا يزلزلها به وهو يزعم أنه يريد أن يثبتها" (1) . والمشكلة أنه في بعض الأحيان يورد البعض الشبهة، وإن لم يوردها الخصوم، ويصورها تصويرا جيدا، ثم يجيب عنها فيأتي الجواب أضعف منها، ولو لم يوردها لكان أفضل.

و ومن قواعد شيخ الإسلام مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك فيما إذا ولد الأمر بالمعروف ترك معروف اكبر، أو ولد النهي عن المنكر منكرا اكبر، وبني ذلك على مسألة المصالح والمفاسد اذا تعارضت، أو تزاحمت الحسنات والسيئات، "فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد؛ فإن الأمر والنهي- وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد: اكثر، لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الانسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام.

وعلى هذا: إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوال فعل الحسنات.

(1) انظر: الجواب الصحيح (1/66-77) .

ص: 315

وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه: أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله.

وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان: لم يأمر بهما، ولم ينه عنهما.

فتارة يصلح الأمر، وتارة لا يصلح لا أمر ولانهى، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة، وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا، وينهى عن المنكر مطلقا" (1) ، ويمثل لذلك في مكان آخر فيقول: " ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب، أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر عظيم مما هم عليه من ذلك- ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة،-لم ينهوا عنه" (2) .

وهذه مسألة مهمة، ينبغي دراستها بعمق، ودراسة أصولها الشرعية لئلا يؤدي الأمر إلى نوع من الافراط أو التفريط في هذه المسألة التي اعتبرها بعض العلماء من أصول الدين.

ز- كان شيخ الاسلام لا يطلب رضى الناس، ويعلل ذلك بأن رضى المخلوقين غير ممكن، ولأننا مأمورون بأن نتحرى رضى الله تعالى، كما أن علينا أن لا نخاف إلا الله، ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له (3) .

ح- أمر بالاجتماع وعدم الفرقة، ويرى أن الاختلاف الذي ذكره الله في القرآن قسمان: قسم يذم فيه الطائفتان جميعا، وقسم يحمد فيه إحدى الطائفتين

(1) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص: 34) ت الجليند.

(2)

مجموع الفتاوى (14/472) .

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (3/232-233) .

ص: 316