الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثامنا: عقيدته:
قبل بيان عقيدته لابد من توضيح بعض الأمور:
الأمر الأول:
أن المصادر التي يرجع إليها في بيان عقيدته هي كتبه الثابتة عنه، أما ماعدا ذلك من المصادر فالجزم بنسبة القول إليه منها لا يخلو من محاذير، والسبب في ذلك - فوق ما في النقل من مظنة تغير العبارات أو الزيادة والنقص- أن الأشعري بالذات له منزلة خاصة لدى أتباعه الذين ينتسبون إليه، والذين طوروا مذهبه وغيروا فيه واقتربوا كثيرا من المعتزلة، لذلك فأقواله التي تخالف ما هم عليه لن تكون محل ارتياح لهم مما قد يؤدى الى تحريف كلامه وأن ينسب إليه ما لم يقله. وأقرب مثال على ذلك مسألة الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين فقد نسب اليه المتأخرون أن له فيها قولين: الإثبات مع التفويض أو التأويل، وهذا غير صحيح مطلقا.
الأمر الثاني:
جمع ابن فورك مقالات الأشعري في كتاب كبير، وذكر فيه قضايا عديدة من مسائل العقيدة، ومن دقائق علم الكلام، مما لم يوجد في كتبه التي وصلت إلينا، وقد قال محقق الكتاب عن قيمته بالنسبة لفكر الأشعري:" سوف تدرك - دون كبير جهد- أهمية هذا الكتاب البالغة، صحيح أن فكر الأشعري لم يكن مجهولا لدينا تماما، فالجوهري منه على الأقل قد وصلنا، خصوصا في كتاب " اللمع" إلا أن ذلك يعد نزرا يسيرا إذا ما قيس بفيض المعلومات التي يزودنا بها كتاب المجرد، ولعلنا لا نبالغ كثيرا إذا نحن تحدثنا بهذا الخصوص عن بعث لفكر الأشعري، ذلك أننا هنا إذا كان البعض لا يزال يشك- لفرط ما كان الأشعري ضحية للأفكار الخاطئة- أننا هنا أمام فكر الأشعري الحقيقي كاملا غير منقوص، لا يؤكد ذلك فقط أن مرجعنا هو ابن فورك، ولا يؤكد ذلك فقط الرجوع الكثير إلى مؤلفات الأشعري " إلى ثلاثين منها، وبعضها يذكر أكثر من عشر مرات" وإنما كذلك المطابقة التامة بين الآراء التي يوردها الكتاب وبين الآراء التي ترد في اللمع أو تلك التي ينقلها أبو منصور البغدادي والجويني وأبو القاسم الأنصاري وغيرهم ".
" هكذا يستعيد الأشعري بصورة نهائية هويته الحقيقية: هويته لا بوصفه تلميذا إمعا لابن حنبل، وإنما باعتباره متكلما حقيقيا من متكلمي عصره، وتلميذا خليقا بشيخه أبى علي الجبائي، متكلما كشيخه، يقطع برأي نفسه في المسائل المختلفة، ويخوض ببراعة شيخه في جميع لطائف "دقيق" الكلام، هويته كرجل استحق بجدارة أن يطلق اسمه على كل المدرسة التي انتسبت إليه"(1) .
ولا شك أن من اطلع على "المجرد" يرى أن هذا الكلام صحيح في الجملة، ويعلل كثيرا من الأمور- المثيرة للتساؤل- ومنها: لماذا كان موقف علماء السلف من الأشعري بهذه الشدة؟، ولماذا نسبت هذه المدرسة- التي قربت كثيرا في مراحلها الأخيرة من المعتزلة- إلى أبي الحسن الأشعري دون غيره؟.
ومع ذلك فالكتاب منطو على مشكلة- عسير حلها- ألا وهي مدى الدقة في نسبة الأقوال إلى الأشعري في هذا الكتاب لأن ابن فورك تصرف في النقل- كما أشار إلى ذلك في مقدمة وخاتمة الكتاب- وقد سبق شرح ذلك في آخر مؤلفات الأشعري (2) .
لذلك فكتاب المجرد يعطي رأيا مجملا في منهج الأشعري الكلامي وأنه خاض في هذه القضايا كلها خوض أهل الكلام، لكنه لا يعطي رأيا محددا في مسألة معينة يمكن أن نطمئن على أنها من كلام الأشعري الا بعد مقارنات بما نقله عنه الآخرون.
الأمر الثالث:
لاشك أن الأشعري جاء بقول توسط فيه بين أقوال المعتزلة وأقوال أهل السنة:
(1) المجرد، مقدمة المحقق (ص: 4- هـ) - ت-- دانيال جيماريه.
(2)
(ص: 359-363) .
أ- فطبيعة نشأته في أحضان الاعتزال بقي تأثيرها على منهجه بعد رجوعه (1) : وتمثل ذلك في:
ا- خبرته بأقوال أهل الكلام ومعرفة دقائق أقوالهم.
2-
قلة خبرته بأقوال أهل السنة، ولذلك لا ينقل أقوالهم مفصلة بالطرق التي ينقلونها، ثم قد ينسب إليهم مالم يقولوه.
3-
قوله بأقوال ابن كلاب، خاصة فيما يتعلق بالصفات الاختيارية.
ب- ورجوعه عن الاعتزال جعله يقول بكثير من أقوال أهل النسة وتمثل
ذلك في:
1-
إثبات الصفات لله ومنها الصفات الخبرية وإقرارها كما جاءت.
2-
إثبات العلو والاستواء والرؤية خلافا للمعتزلة.
3-
إثبات السمعيات، ومنها أمور خالف فيها المعتزلة أو بعضهم مثل الشفاعة، وعذاب القبر، وغيرها.
4-
الاستدلال بالنصوص من الكتاب والسنة، وموافقة إجماع السلف.
والآن نذكر باختصار عقيدته:
أ- إثبات وجود الله:
يحتج الأشعري على وجود الله بخلق الإنسان، يقول في اللمع " إن سأل سائل فقال ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره؟ قيل: الدليل على ذلك أن الانسان الذي هو في غاية الكمال والتمام كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظاما ودما، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الى حال، لأنا نراه في حال كمال قوته وتمام عقله لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعا ولا بصرا،
(1) ذكر ابن عساكر عن الأشعري: أنه قال في بعض عباراته مع مخالفيه:" إني أظهرت بدعة أنقض بها كفرهم"، التبيين (ص: 97) ، وانظر تعليق ابن عساكر وجوابه عن هذا، ولما سئل الأشعري وقيل له: كيف تخالط أهل البدع وقد أمرت بهجرهم أجاب عن ذلك بأنه لابد من إظهار الحق ومعرفة أن لأهل السنة ناصرا، انظر: جوابه في التبيين أيضا (ص: 116) .
ولا أن يخلق لنفسه جارحة، يدل ذلك على أنه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز؛ لأن ما قدر عليه في حال النقصان فهو في حال الكمال عليه أقدر، ومما عجز عنه في حال الكمال فهو في حال النقصان عنه أعجز، ورأيناه طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب الى حال الكبر والهرم لأن الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك فدل ماوصفنا على أنه ليس هو الذى ينقل نفسه ني هذه الأحوال وأن له ناقلا نقله من حال الى حال ودبره على ما هو عليه، لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر" (1) ، ثم يشرح ذلك بأن القطن لا يتحول غزلا مفتولا ثم ثوبا منسوجا بغير ناسج ولا صانع (2) .
واحتج بنفس الدليل في رسالته إلى أهل الثغر فقال:" ونبههم على حدثهم بما فيهم من اختلاف الصور والهيآت، وغرر ذلك من اختلاف اللغات، وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم بما فيهم وفي غيرهم بما يقتضى وجوده، ويدل على إرادته وتدبيره حيث قال عز وجل {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات:21] ، فنبههم عز وجل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك وصرح بقوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون:12-14] (3) . لكن الأشعري لما شرح ذلك أتى باستدلال لا يسلم له حين قال معلقا على الآيات السابقات:"وهذا من أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان ووجود المحدث له، من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديما، وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره، وكونه قديما ينفي تلك الحال
…
" (4) . فقد ذكر أمرين: إثبات حدث
(1) اللمع (ص: 6) - ط- مكارثي.
(2)
انظر: نفس المصدر (ص: 6-7) .
(3)
الرسالة الى أهل الثغر (ص:،3- هـ 3) .
(4)
نفس المصدر (ص: 35) .
الإنسان، وإثبات وجود المحدث له، فاستدل للأول بالتغير الذى يحدث للإنسان وتقلبه من حال الى حال وأن هذا يقتضي حدوثه، ثم استدل بذلك على وجود المحدث له لأن كل متغير لا يكون قديما، وهذا مبني على ما سبق بيانه من نفى حلول الحوادث الذى يقول به الأشعري، والخلاصة أن الاستدلال بحدوث الانسان وخلقه على خالقه دليل صحيح وهو الذي جاء به القرآن، أما الاستدلال على حدث الانسان بتغيره، ثم ربط التغير بالمحدث (الخالق) - وانه لا يكون متغيرا والا لكان محدثا؛ غير مسلم.
أما دليل الأعراض وحدوث الأجسام الذى احتج به المتكلمون، وقالوا: إن إثبات الصانع لا يتم الا بإثبات حدوث الأجسام، ولا يتم إثبات حدوث الأجسام إلا بإثبات حدوث صفاتها (الأعراض) ، ورتبوا على ذلك نفى الصفات عن الله أو بعضها، فقد بين الأشعري أن الرسل لم يدعوا إليه، يقول: " فأما ما دعاهم إليه عليه الصلاة والسلام من معرفة حدثهم ومعرفة محدثهم، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعدله وحكمته، فقد بين لهم وجوه الأدلة في جميعه حتي ثلجت صدورهم به واستغنوا عن استئناف الأدلة فيه، وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم، فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك مقطوعا بما (1) نبههم النبي صلى الله عليه وسلم من الأدلة على ذلك وما شاهدوه من آياته الدالة على صدقه
…
وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول مشهور في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك وانقطعوا إلى الاحتياط فيه، والاجتهاد في طلب الطرق الصحيحة إليه من المحدثين والفقهاء، يعلمه أكابرهم أصاغرهم ويدرسونه صبيانهم في كتاتيبهم لتقرر ذلك عندهم وشهرته فيهم، واستغنائهم ني العلم بصحة جميع ذلك بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته" (2) ، ثم بعد هذه المقدمة المركزة لبيان استغناء الصحابة ومن بعدهم بأدلة الكتاب والسنة قال عن دليل الأعراض: " واعلموا أرشدكم الله أن ما دل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات بعد تنبيهه لسائر المكلفين على حدثهم
(1) في المطبوعة، الجليند "بها" والتصويب من المخطوطة (ص: 6) ، ودرء التعارض (7/207) .
(2)
الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 52-54) .
ووجود المحدث لهم قد أوجب صحة اخباره ودل على أن ما أتي به من الكتاب والسنة من عند الله عز وجل، وإذا ثبت بالآيات صدقه فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عنه وصارت أخباره عليه الصلاة والسلام أدلة على صحة سائر ما دعا اليه من الأمور الغائبة عن حواسنا، وصفات فعله، وصار خبره عليه الصلاة والسلام عن ذلك سبيلا إلى إدراكه، وطريقا إلى العلم بحقيقته، وكان يستدل به من اخباره عليه الصلاة والسلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام" (1) ، لكن الأشعري يعلل ذلك ليس ببطلانها في ذاتها وإنما لأمور أخرى يقول- بعد الكلام السابق-:"من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها" (2) - ثم شرح ذلك ثم قال-:"وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم أرشدكم الله أن طرق الاستدلال باخبارهم عليهم السلام على سائر ما دعينا إلى معرفته مما لا يدرك بالحواس، أوضح من الاستدلال بالأعراض؛ إذ كانت أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء.."(3) .
ب- وحدانية الله:
يستدل الأشعري لذلك بدليل التمانع، وقد شرحه بقوله"لأن الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على احكام، ولابد أن يلحقهما العجز أو واحدا منهما، لأن أحدهما اذا أراد أن يحيى انسانا وأراد الآخر أن يميته لم يخل أن يتم مرادهما جميعا، أو لا يتم مرادهما، أويتم مراد أحدهما دون الآخر، ويستحيل أن يتم مرادهما جميعا لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيا ميتا في حال واحدة، وإن لم يتم مرادهما جميعا وجب عجزهما، والعاجز لا يكون إلها ولا قديما، وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما،
(1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 54-55) .
(2)
المصدر السايق (ص: 55) .
(3)
المصدر السابق (ص: 57) .
والعاجز لا يكون إلها ولا قديما، فدل ما قلناه على أن صانع الأشياء واحد، وقد قال تعالى:{لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء:22] ، فهذا معنى احتجاجنا آنفا" (1) .
ودليل التمانع احتج به العلماء، وهو دليل صحيح، أما الاستدلال له بآية {لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا} ، فقد بناه الأشعري على رأيه في معنى الإله وأن المقصود به: القادر على الاختراع والخلق، ففسر الألوهية بتوحيد الربوبية، يقول الشهرستاني:"قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى، لا يشركه في الخلق غيره، فأخص وصفه تعالى هو: القدرة على الاختراع، قال: وهذا هو تفسير اسمه تعالى: الله"(2) .
والآية إنما هي في توحيد الألوهية، وأما توحيد الربوبية فقد كان المشركون وجميع الأمم مقرين به، ولذلك جاءت الرسل بتقرير توحيد الألوهية والرد على المشركين فيه، واحتجوا على ذلك بتوحيد الربويية، لأنه مستلزم له، أما توحيد الألوهية- الذى دلت عليه الآية- فهو متضمن لتوحيد الربوبية.
ج- عقيدته في الأسماء والصفات:
أما الأسماء:
فيثبت الأشعري جميع ما ورد من أسماء الله تعالى، ويعتمد في ذلك على السمع فقط، فما ورد أثبته، ومالم يرد سكت عن إثباته، ولذلك ناظر أبا علي الجبائي حول هل يسمى الله عاقلا مستخدما هذا المنهج (3) .
وأما الصفات:
فإنه أثبت أيضا ما ورد في النصوص، وإن كان قد استدل لبعضها بالأدلة
(1) اللمع (ص: 8) - ت مكارثي، وذكره أيضا مع الإحتجاج بالآية في الرسالة إلى أهل الثغر (ص:41) .
(2)
الملل والنحل (1/ 100)، وذكره في نهاية الإقدام (ص: 91) ، كما ذكره ابن فورك في المجرد (ص: 47) ، والبغدادي في أصول الدين (ص: 123) .
(3)
سبق عند الحديث عن أسباب رجوع الأشعري.
العقلية إلا أنه جعل أدلة السمع هي المقدمة، ويمكن تفصيل أقواله في الصفات كما يلي:
1-
الصفات العقلية:
وهي صفات الذات العقلية التي يسميها المتكلمون صفات المعاني، وهي سبع صفات: العلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة.
والأشعري يثبت هذه الصفات ويستدل لها بالنصوص وبالعقل، يقول عن أهل السنة:"وأجمعوا على إثبات حياة لله عز وجل لم يزل بها حيا، وعلما لم يزل به عالما، وقدرة لم يزل بها قادرا، وكلاما لم يزل به متكلما، وإرادة لم يزل بها مريدا، وسمعا وبصرا لم يزل به سميعا بصيرا"(1) ، ثم ذكر قدم هذه الصفات، وأن صفاته لا تشبه صفات المخلوقين كما أن نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين، ويحتج على ذلك بدلالة الأسماء على الصفات فيقول:"واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يكن له عز وجل هذه الصفات لم يكن موصوفا بشيء منها في الحقيقة، ومن لم يكن له فعل لم يكن فاعلا في الحقيقة، ومن لم يكن له إحسان لم يكن محسنا، ومن لم يكن له كلام لم يكن متكلما في الحقيقة، ومن لم يكن له إرادة لم يكن في الحقيقة مريدا، وإن وصف شيء من ذلك مع عدم الصفات التي توجب هذه الأوصاف له لا يكون مستحقا لذلك في الحقيقة، وإنما يكون وصفه مجازا أو كذبا
…
وذلك أن هذه أوصاف مشتقة من أخص أسماء هذه الصفاث ودالة عليها
…
" (2) .
ويقول في اللمع:"فإن قال قائل: لم قلتم: أن للباري تعالى علما به علم؟ قيل له: لأن الصنائع الحكمية كما لا تقع منا إلا من عالم كذلك لا تحدث منا إلا من ذي علم، فلو لم تدل الصنائع على علم من ظهرت منه منا، لم تدل على أن من ظهرت منه منا فهو عالم"(3) . ثم قال: "والدليل على أن لله تعالى قدرة وحياة كالدليل على أن لله تعالى علما، وقد قال الله جل ذكره
(1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 67) .
(2)
الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 68-69)، وأشار إلى ذلك في الإبانة (ص: 151) - ت- فوقية.
(3)
اللمع (ص: 12) - مكارثي-، و (ص: 26- 27) - ت- غرابة.
{أنزله بعلمه} [النساء:166]، وقال:{وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر:11، فصلت:47] ، فثبت العلم لنفسه، وقال تعالى:{أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت:15] ، فثبت القوة لنفسه" (1) . وفي الإبانة يذكر الأدلة السمعية على العلم وغيره (2) ، ثم يذكر في معرض الرد على المعتزلة الدليل العقلي فيقول:" فإن قالوا: قلنا: ان الله عالم لأنه صنع العالم على مافيه من آثار الحكمة وأتساق التدبير، قيل لهم: فلم لا قلتم إن لله علما بما ظهر في العالم من حكمة وآثار تدبيره؟؛ لأن الصنائع الحكمية لا تظهر إلا من ذى علم كا لا يظهر الا من عالم، وكذلك لا تظهر الا من ذى قوة كا لا تظهر إلا من قادر" (3) .
2-
الصفات الفعلية:
وهي الصفات المتعلقة بإرادة الله ومشيئته مثل الكلام- وهو صفة ذات أيضا- وا لاستواء، وا لنزول، وا لمجيء، وا لضحك، وا لغضب، وا لرضا، وا لمحبة، وا لتعجب، وغيرهما.
وقد سبق بيان أن الأشعري لا يقول بالصفات الاختيارية ويبني ذلك على أن الله لا تحله الحوادث (4) .
لكن الأشعري يثبت ما ورد في النصوص منها، ويتأولها بأحد أمرين:
أ- إما أن يجعل الصفة أزلية، قديمة مع الله، لا يتجدد له فيها حال كما يشاء، وذلك مثل الكلام، والمحبة، والرضا.
(1) اللمع (ص: 13- 14) - مكارثي-.
(2)
انظر: الإيانة (ص: 22-23،141) - ت- فوقية.
(3)
الإبانة (ص:148-149)، وانظر:(ص:156-159)، وانظر: أيضا اللمع (ص: اا-12) - مكارثي-.
(4)
عند الحديث عن أطوار الأشعري.
ب- وإما أن يجعل مقتضي الصفة مفعولا منفصلا عن الله لايقوم بذاته كالخلق، فإن الله خلق الخلق فلم تحل بذاته حوادث لأن الخلق هو المخلوق، وكذلك يقول في الاستواء والنزول: إنه لا تقوم بالله صفة وإنما فعل فعلا في العرش سماه استواء، كما فعل في سماء الدنيا فعلا سماه نزولا.
ونذكر نماذج من كلامه في هذه الصفات:
- الكلام:
يثبت أن القرآن كلام اللة غير مخلوق، ويذكر لذلك الأدلة من القرآن، ويرد على المعتزلة، يقول:" إن قال قائل: لم قلتم إن الله تعالى لم يزل متكلما وإن كلام الله تعالى غير مخلوق؟ قيل له: لأن الله تعالى قال: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل:40] ، فلو كان القرآن مخلوقا لكان الله تعالى قائلا له: كن، والقرآن قوله، ويستحيل أن يكون قوله مقولا له، لأن هذا يوجب قولا ثانيا، والقول في القول الثاني وفي تعلقه بقول ثالث كالقول في القول الأول وتعلقه بقول ثان، وهذا يقتضي مالا نهاية له من الأقوال، وذلك فاسد، وإذا فسد ذلك فسد أن يكون القرآن مخلوقا"(1) .
وفي الإبانة يذكر أدلة أخرى ومنها، قوله تعالى:{ألا له الخلق والأمر} [الأعراف:54] ، ففرق بين الأمر والخلق (2)، كما يحتج بقوله تعالى {وكلم الله موسى تكليما} [النساء:164] ، "والتكليم هو المشافهة بالكلام، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالا في غيره مخلوقا في شيء سواه، كما لا يجوز ذلك في العلم"(3) ، كما يذكر من الأدلة أن أسماء الله في القرآن، فكيف يكون مخلوقا (4) .
(1) اللمع (ص: 15) - مكارثي-، وانظر: الإبانة (ص: 65) .
(2)
انظر: الإبانة (ص: 63- 64) .
(3)
نفس المصدر (ص: 72) .
(4)
انظر: نفس المصدر (ص: 73) .
ويذكر ما ورد من الروايات عن الامام أحمد وغيره في أن القرآن غير مخلوق (1) .
ويرد على من توقف في القرآن، وقال لا أقول: إنه مخلوق ولا إنه غير مخلوق، ويقول لهم- بعد المناقشة-:" يلزمكم أن تتوقفوا في كل ما اختلف الناس فيه ولا تقدموا في ذلك على قول، فإن جاز لكم أن تقولوا ببعض تأويل المسلمين اذا دل على صحتها دليل، فلم لا قلتم: إن القرآن غير مخلوق بالحجج التي ذكرناها في كتابنا هذا "(2) .
ثم يذكر أن كلام الله في اللوح المحفوظ، وفي صدور الذين أوتوا العلم
وهو متلو بالألسنة، ويقول: "والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة، محفوظ في صدورنا في الحقيقة، متلو بألسنتنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة؟ قال تعالى:{فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6](3) .
وأما مسألة اللفظ بالقرآن فإنه ينكر ذلك ويقول:"القرآن يقرأ في الحقيقة ويتلي، ولا يجوز أن يقال يلفظ به لأن القائل لا يجوز له أن يقول: إن كلام الله ملفوظ به، لأن العرب إذا قال قائلهم لفظت باللقمة من فمي فمعناه رميت بها، وكلام الله لا يقال يلفظ به، وإنما يقال: يقرأ ويتلي ويكتب ويحفظ، وإنما قال قوم: لفظنا بالقرآن ليثبتوا أنه مخلوق ويزينوا بدعتهم وقولهم بخلقه
…
" (4) .
وفي اللمع يشرح عقيدته في كلام الله وأنه أزلي ويبنيه على مسألة حلول الحوادث (5) .
(1) الإبانة (ص: 87- 96) .
(2)
المصدر السابق (ص: 99) .
(3)
نفس المصدر (.. ا- 101) .
(4)
نفسه (ص:101) .
(5)
انظر: اللمع (ص: 22-23) - ط مكارثي-
لكن بقي في مسألة الكلام ما نسب إلى الأشعري من أنه يقول: إن كلام الله واحد، وأنه معنى قائم بذات الله تعالى، وأنه لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا، وأنه ليس بحروف ولا أصوات.
فهذه الأقوال بذاتها لم نجدها منصوصا عليها في كتبه الموجودة، لكن نسبها إليه أعلام الأشاعرة وغيرهم، كابن فورك، والجوينى، والشهرستاني، وأبي نصر السجزي (1) ، ونقلها عن هؤلاء من جاء بعدهم.
- الاستواء والعلو:
أثبت الاستواء واستدل به وبغيره على إثبات علو الله تعالى، يقول: " إن
قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله عز وجل مستو على عرشه؟ قال: {الرحمن على العش استوى} [طه:5]، وقد قال الله عز وجل:{إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر:10]، وقال:{بل رعه الله إليه} [النساء:158]، وقال عز وجل:{يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} [السجدة: 5] وقال حكاية عن فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 26- 27]، كذب موسى عليه السلام في قوله: إن الله عز وجل فوق السموات، وقال عز وجل:{أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك:16]، فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال:{أأمنتم من في السماء} لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات
…
" (2) ، ثم رد على المعتزلة والجهمية وغيرهم في تأويلهم الاستواء
(1) انظر: المجرد (ص: 67)، وا لإ رشاد (ص:120) ، ونهاية الإقدام (ص:304،313،320) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/96)، والرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 95، 119) مطبوع على الآلة الكاتبة.
(2)
الإبانة (45-46) - ط هندية-.
بالاستيلاء والملك والقهر، وقولهم: إن الله في كل مكان، وناقشهم نقاشا قويا مركزا، ثم احتج على الاستواء والعلو بأحاديث النزول، وبأدلة أخرى (1) . هذا مذهب الأشعري وقوله في الاستواء نم ذكره في الإبانة والرسالة إلى أهل الثغر، لكن نجد أن أتباعه ينسبون إليه تفسيرا للاستواء، نذكره لأن مجموعة منهم نسب اليه ذلك، يقول البيهقي:"وذهب أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة أو غيرهما من أفعال، ثم لم يكيف الاستواء الا أنه جعله من صفات الفعل لقوله: {ثم استوى على العرش} [الأعراف:54، يونس: 3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4] ، وثم للترا خي، والتراخي إنما يكون في الأفعال، وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة"(2) ، وأشار الى ذلك البغدادي، وابن فورك وابن عساكر، والجويني (3) .
- النزول والمجيء:
يثبت الأشعري النزول للأحاديث الواردة في ذلك، والتي يذكرها، كما يثبت المجيء لله تعالى ويذكر أدلته من القرآن (4) .
وقد شرحهما في رسالته إلى أهل الثغر بما يوضح مذهبه في أنه لا تقوم
(1) انظر: الإبانة (ص: 46- 50) - هندية-، وكان الاعتماد في الإبانة على الطبعة الهندية لأن طبعة فوقية المحققة فيها زيادات غير صحيحة- خاصة في هذه الفصول-، وانظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 75-76) .
(2)
الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 410)، وانظر: مختصره المسمي:" دقيق الإشارات إلى معاني الأسماء والصفات" لعبد الله بن عبد الأنصاري الخليلي، توفي سنة 724 هـ (ص: 312) مطبوع طباعة أولية.
(3)
انظر: أصول الدين (ص: 113)، والمجرد (ص:325-326) ، وتبيين كذب المفتري (ص:150) . والشامل (ص: 555-556) .
(4)
انظر: الإبانة- هندية- (ص:11، 47، 48) .
بذات الله صفات الفعل فيقول:"وليس مجيئه حركة ولا زوالا
…
وليس نزوله تعالى نقلة لأنه ليس بجسم ولا جوهر
…
" (1) .
وقد نسب البيهقي إلى الأشعري في معناهما مثل ما ورد في الاستواء بأن "يحدث الله تعالى يوم القيامة فعلا يسميه إتيانا ومجيئا، لا بأن يتحرك أو ينتقل
…
وهكذا قال في أخبار النزول: أن المراد به فعل يحدثه الله عز وجل في سماء الدنيا كل ليلة يسميه نزولا بلا حركة ولا نقلة
…
" (2) وهو موافق لتأويلات الأشعري السابقة.
- الرضا والغضب:
يثبتهما لكن يتأولهما بالإرادة، فرضاه عن الطائعين إرادته لنعيمهم، وغضبه على الكافرين إرادته لعذابهم (3) ، وتأويله لهما مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، لكن الأشعري يتأولهما ليسلم له الأصل الفاسد الذى قال به.
3-
الصفات الخبرية:
يثبت الأشعري لله الصفات الخبرية، كالوجه، واليدين، والعينين، ويستدل لذلك بالنصوص، ويرد على من تأولها من الجهمية وغيرهم، وأطال بصفة خاصة في صفة اليدين، وناقش من تأولهما مستدلا بنصوص الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف- رحمهم الله (4) -.
بقى أن بعض المتأخرين زعم أن للأشعري قولا آخر فيها وهو القول
(1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 73-74) .
(2)
الأسماء والصفات للبقي (ص: 448-449) .
(3)
انظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 74- هـ 7) .
(4)
انظر: الإبانة (ص:51-58) - هندية-، و (ص:120- 140) - ت- فوقية، وانظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 72-73) .
بتأويلها (1) ، وهذا غير صحيح، والتأويل إنما هو قول متأخري الأشعرية فقط كالجويني ومن جاء بعده، أما الأشعري فليس له فيها إلا قول واحد.
د- قوله في الرؤية:
يثبت الأشعري الرؤية، وأن المؤمنين يرون الله عز وجل يوم القيامة بأعين وجوههم على ما أخبر به تعالى (2) ، ويحتج لذلك بعدد كبير من النصوص من الكتاب والسنة، ويناقش المعتزلة طويلا (3) .
ويلاحظ أن الأشعري لا يفرق- أحيانا- بين الإدراك والرؤية، ولذلك لما أورد سؤال سائل عن معنى قوله تعالى:{لا تدركه الأبصار} [الأنعام:103] قال: " قيل له: يحتمل أن يكون لا تدركه في الدنيا وتدركه في الآخرة
…
" (4) ، "ويحتمل أن يكون الله تعالى أراد بقوله: {لا تدركه الأبصار} يعني لا تدركه أبصار الكافرين المكذبين" (5) ، وهذان جوابان ضعيفان، ولذلك لما أطال في مناقشة المعتزلة وذكر اعتراضاتهم حول هذه الآية ألمح إلى الجواب الصحيح فقال:"فإن قالوا قوله تعالى: {لاتدركه الأبصار} يوجب أن لا يدرك بها في الدنيا والآخرة وليس ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا، ونبصره بها ولا ندركه بها؟ قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون لا ندركه بأبصار العيون، ولا يوجب إذا لم ندركه بها أن لا نراه بها، فرؤيتنا له بالعيون وأبصارنا له بها ليس بإدراك له بها، كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له بها ليس بإدراك له، فإن قالوا: رؤية البصر هي إدراك البصر، قيل لهم: ما الفرق
(1) ممن ذكر ذلك: الإيجي في المواقف (8/110-112) مع شرحه، والبياضي في إشارات المر ام (ص: 188) .
(2)
انظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 76) .
(3)
عقد الأشعري لمسألة الرؤية أبوابا مستقلة في الإبانة (ص: 3 ا-24) - هندية-، و (ص: 35-62) - ت- فوقية، وفي اللمع (ص: 32-36) - ط مكارثي-.
(4)
الإبا نة (ص: 47) - فوقية، انظر: اللمع (ص: 35) مكارثي.
(5)
الإبانة (ص: 47) .
بينكم وبين من قال: إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته؟، فإذا كان علم القلب بالله عز وجل وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة ولا ادراك فما أنكرتم أن تكون رؤية العيون وإبصارها لله عز وجل ليس بإحاطة ولا ادراك" (1) ، فلو بنى الجواب على التفريق بين الإدراك والرؤية لوضح الأمر ولأصبحت الآية دالة على الرؤية، فيكون الكلام في إثبات دلالتها على المذهب الحق، وليس في بيان عدم دلالتها على نفى الرؤية.
أما الأدلة العقلية على إثبات الرؤية فقد ذكر دليلين:
أحدهما: دلالة الوجود، و" أنه ليس موجودا إلا وجائز أن يريناه الله عز وجل، وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما كان الله عز وجل موجودا مثبتا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل"(2) .
خر: أن: أن الله يرى الأشياء، فإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، ويقول:" ولما كان الله عز وجل رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها"(3) .
هذا كلامه في الإبانة، لكنه في اللمع يستدل على جواز الرؤية باستدلال يقوم على أن الرؤية لا يلزم منها إثبات حدث الباري، أو اثبات حدث معني فيه أو تشبيهه أو غيره مما يقول: إنه يستحيل أن يتصف به، وذلك احترازا من اللوازم الباطلة التي يظنها نفاة الرؤية (4) ، ولذلك ذكر الأشعري عن بعض أصحابه انه التزم جواز اللمس والذوق والشم اذا كان ذلك لا يقتضي إحداث معنى في الباري (5) .
(1) الإبانة (ص: 59) - ت- فوقية، و (ص: 22- 23) - هندية-
(2)
المصدر السابق (ص: 52) - ت- فوقية.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
اللمع (ص: 32-33) - مكارثي-.
(5)
انظر: نفس المصدر (ص: 33) .
واذا كان الأشعري يثبت لله صفة العلو والاستواء، والمباينة للمخلوقات فإثبات الرؤية مستقيم على مذهبه خلافا لمتأخرى أصحابه الذين أثبتوا الرؤية ونفوا العلو فتناقضوا.
والأشعري يرى أنه لا يلزم من اثبات الرؤية التجسيم لأنه لا يشترط أن يكون المرئي جسما يقول: " فإن قال قائل: فهل شاهدتم مرئيا إلا جوهرا أو غرضا محدودا أو حالا في محدود؟ قيل له: لا، ولم يكن المرئي مرئيا لأنه محدود ولا لأنه حال في محدود ولا لأنه جوهر، ولا لأنه عرض، فلما لم يكن ذلك كذلك لم يجب القضاء بذلك على الغائب، كما لم يجب إذا لم نجد فاعلا إلا جسما، ولا شيئا الا جوهرا أو عرضا، ولا عالما قادرا حيا الا بعلم وحياة وقدرة محدثة، أن نقضي بذلك على الغائب، إذ لم يكن الفاعل فاعلا لأنه جسم، ولا الشيء شيئا لأنه جوهر أو عرض"(1) .
هـ- قوله في القدر:
كلام الأشعري في القدر وأفعال العباد طويل جدا ومتفرع إلى مسائل كثيرة، وهو يثبت علم الله الشامل المحيط بكل شيء (2) ،؟ يثبت الكتابة في اللوح المحفوظ وأن الله أثبت فيه جميع ماهو كائن إلى يوم القيامة، وقد دل عليه قوله تعالى:{وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر} [القمر:52- 53](3) ،كما انه يثبت إرادة الله الشاملة لكل شيء- وهي التي بمعنى المشيئة- ويذكر الأدلة على ذلك، ويناقش المعتزلة طويلا الذين يقولون: إن الله لايريد الكفر ولا المعاصي وانها كائنة بغير ارادة منه (4) ، كما أثبت قدرة الله وأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها ورد على القدرية المعتزلة الذين
(1) اللمع (ص: 36) .
(2)
انظر: الرسالة إلى الثغر (ص: 81) .
(3)
المصدر السابق (ص: 79) .
(4)
انظر: الإبانة (ص: 161) وما بعدها- ت- فوقية.
يقولون: إن الله غير خالق لأفعال العباد يقول:"ويقال لأهل القدر: أليس قول الله تعالى: {بكل شيء عليم} [البقرة: 29] يدل على أنه لا معلوم إلا والله به عا لم، فإذا قالوا نعم، قيل لهم: فما أنكرتم أن يدل قوله تعالى: {على كل شيء قدير} [البقرة:20] على أنه لا مقدور إلا والله عليه قادر، وأن يدل قوله تعالى: {خالق كل شيء} [الزمر: 62] على أنه لا محدث مفعول إلا والله محدث له فاعل خالق"(1) .
ويذكر في الإبانة بابا فيه الروايات الواردة في القدر، مثل حجاج آدم وموسى، وحديث النطفة في الرحم وتقلبها، وكل ميسر لما خلق له، وغيرها (2) ، وهي دالة على قدر الله السابق الشامل.
لكن الأشعري مع قوله بهذه المراتب للقدر- مخالفا للمعتزلة وموافقا لأهل السنة- مال الى الجبر، وخالف أهل السنة في بعض المسائل ومنها:
القول بالكسب:
وهو من المسائل التي اشتهرت عن الأشعري، وأخذ بها الأشعرية من بعده، وقد جاء قوله بالكسب لإثبات قدرة الله الشاملة لكل شيء، يقول الأشعري في المقالات:"واختلف الناس في معنى القول: إن الله خالق، فقال قائلون: معنى أن الخالق خالق أن الفعل وقع منه بقدرة قديمة فإنه لا يفعل بقدرة قديمة الا خالق ومعنى الكسب: أن يكون الفعل بقدرة محدثة، فكل من وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب، وهذا قول أهل الحق"(3)، وبعد أن يذكر عددا من الأقوال لأهل الإثبات وغيرهم يقول:"والحق عندي أن معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة، فيكون كسبا لمن وقع بقدرته"(4) .
(1) اللمع (ص: 50- 51)، وانظر: الرسالة (ص: 82) .
(2)
انظر: الإبانة (ص: 225-237) .
(3)
المقالات (ص: 39) .
(4)
نفس المصدر (ص: 542) .
والأشعري يفرق بين حركة الإضطرار كحركة المرتعش، وحركة الاختيار مثل ذهاب الانسان ومجيئه، يقول:"فإن قال قائل: فيجب إذا كانت إحدى الحركتين ضرورة أن تكون الأخري كذلك، وإذا كانت إحداهما كسبا أن تكون الأخرى كذلك، قيل له: لا يجب ذلك لافتراقهما في معني الضرورة والاكتساب، لأن الضرورة ما حمل عليه الشيء وأكره وجبر عليه، ولو جهد في التخلص منه وأراد الخروج عنه واستفرغ في ذلك مجهوده لم يجد منه انفكاكا ولا الى الخروج عنه سبيلا، فإذا كانت إحدى الحركتين بهذا الوصف الذي هو وصف الضرورة وهي حركة المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمي كانت اضطرارا، وإذا كانت الحركة الأخرى بخلاف هذا الوصف لم تكن اضطرارا، لأن الانسان في ذهابه ومجيئه واقباله وإدباره بخلاف المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمي، يعلم الإنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره علم اضطرار لا يجوز معه الشك، فقد وجب إذا كان العجز في إحدى الحالتين أن القدرة التي هي ضده حادثة في الحال الأخرى، لأن العجز لو كان في الحالين جميعا لكان سبيل الإنسان فيهما سبيلا واحدة، فلما لم يكن هذا هكذا وكانت القدرة في إحدى الحركتين وجب أن تكون كسبا لأن حقيقة الكسب: أن الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة لافتراق الحالين في الحركتين، ولأن إحداهما بمعنى الضرورة وجب أن تكون ضرورة، ولأن الأخرى بمعنى الكسب وجب أن تكون كسبا، ودليل الخلق في حركة الاضطرار وحركة الاكتساب واحد، فلذلك وجب إذا كانت إحداهما خلقا أن تكون الأخرى خلقا"(1) ، ويوضح أن كلا منهما خلق لله تعالى سواء كان اضطرارا أو اختيارا، ثم يقول:"ليس العجز بأن يدل على أن الله تعالى خلق المعجوز عنه بأولي من أن تكون القدرة التي جعلها الله تعالى دلالة على أن الله خلق المقدور عليه، لأن ماخلق الله القدرة فينا عليه فهو عليه أقدر، كما أن ماخلق فينا العلم به فهو به أعلم، وما خلق
(1) اللمع (ص: 41- 42) - مكارثي-.
فينا السمع له فهو له أسمع فإذا استوى ذلك في قدرة الله تعالى وجب إذا قدرنا الله على حركة الاكتساب أن يكون هو الخالق لها فينا كسبا لنا
…
" (1) . وهذا الكلام قد يكون ظاهره أن الخلاف بين الأشعري والسلف الذين يقولون: إن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة- خلاف في العبارات والألفاظ (2) -، لكن أقوال الأشعري الأخرى مما له علاقة في الموضوع تدل على أن الخلاف ليس لفظا، ومن ذلك:
أ- مسألة الاستطاعة:
يري الأشعري أن الاستطاعة- التي هي قدرة العبد- لا تكون إلا مع الفعل، وليس له استطاعة قبله، وهذه الاستطاعة التي يثبتها هي التي بها يتحقق الفعل، ويبني ذلك على أن الإستطاعة والقدرة عرض، والعرض لايبقي زمانين، يقول:"فإن قال قائل: فإذا أثبتم له استطاعة هي غيره فلم زعمتم أنه يستحيل تقدمها للفعل، قيل له: زعمنا ذلك من قبل أن الفعل لا يخلو أن يكون حادثا مع الاستطاعة في حال حدوثها أو بعدها، فإن كان حادثا معها في حال حدوثها فقد صح أنها مع الفعل للفعل، وإن كان حادثا بعدها وقد دلت الدلالة على أنها لا تبقى وجب حدوث الفعل بقدرة معدومة، ولو جاز ذلك لجاز أن يحدث العجز بعدها فيكون الفعل واقعا بقدرة معدومة، ولو جاز أن يفعل في حال هو فيها عاجز بقدرة معدومة لجاز أن يفعل بعد مئة سنة من حال حدوث القدرة وإن كان عاجزا في المئة سنة كلها بقدرة عدمت من مئة سنة وهذا فاسد"(3) ، ثم يذكر لماذا القدرة لا تبقي (4) ، ويذكر بعض الأدلة على قوله (5) .
وسيأتي بيان فساد القول بأن العرض لا يبقى زمانين.
(1) اللمع (ص: 43) .
(2)
ممن رجح ذلك الشيخ هادي طالبي في رسالته للماجستير: أبو الحسن الأشعري بين المعتزلة والسلف (ص: 114) - مطبوعة على الآلة الكاتبة-.
(3)
اللمع (ص:54) .
(4)
انظر: المصدر السابق (ص: 55) .
(5)
انظر: نفس المصدر (ص: 56-58) .
ب- هل القدرة مؤثرة أو لا؟:
القدرة المحدثة التي أثبتها للعبد وبها يكسب أعماله، يرى الأشعري أنها غير مؤثرة كما حكى عنه الشهرستاني الذي قال:"ولم يثبت شيخنا أبو الحسن رحمه الله للقدرة الحادثة صلاحية أصلا، لا لجهة الوجود، ولا لصفة من صفات الوجود، فلم يلزمه التعميم والتخصيص"(1)، وشرح ذلك في الملل والنحل فقال:" لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث، لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض، فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث، حتي تصلح لإحداث الألوان والطعوم والروائح، وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام، فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة، غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، ويسمي هذا الفعل كسبا، خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا، وكسبا من العبد حصولا تحت قدرته"(2) ، وهذا يؤيد مافي المجرد من أنه لم يذكر مع القدرة المحدثة سوى العلم والإرادة للمكتسب، كقول ابن فورك:"وكان يقول: إن ما استحق هذه العين المكتسبة من وصف الاكتساب فلأجل تعلق القدرة المحدثة بها، واختلف جوابه في أن العين المكتسبة صارت مكتسبة بتعلق القدرة المحدثة فقط أم باقتران أوصاف أخر إليها، فدار أكثر كلامه على أن التأثير في ذلك للقدرة المحدثة، وربما قال: إنه لا بد معها من إرادة المكتسب وعلمه"(3) ،
وقوله التأثير للقدرة المحدثة أي أن العين وصفت بأنها مكتسبة بتأثير القدرة المحدثة، لا أن القدرة المحدثة مؤثرة (4) ،بدليل أن ابن فورك لما ذكر قوله الثاني لم يذكر إلا أنه يقول بأن
(1) نهاية الإقدام (ص: 72)، وانظر: أيضا (ص: 78، وص: 87) .
(2)
الملل والنحل (1/97) .
(3)
المجرد (ص: 93) ..
(4)
ليس المقصود بالتأثير الانفراد بالإبداع لأن هذا لله تعالى الخالق لكل شيء، وإنما المقصود أن قدرة العبد سبب وواسطة في خلق الله تعالى الفعل بهذه القدرة، ولذلك لابد من الإرادة الجازمة، ووجود القدرة وزوال المانع، انظر: مجموع الفتاوى (8/487-488) .
مع القدرة علم المكتسب وإرادته، وكما هو واضح لا علاقة لهما بالقدرة هل هي مؤثرة أو لا، يوضح ذلك قول الأشعري في اللمع:"فإن قال: فهل اكتسب الانسان الشيء على حقيقته كفرا باطلا وإيمانا حسنا؟ قيل له: هذا خطأ، وإنما معنى اكتسب الكفر أنه كفر بقوة محدثة وكذلك قولنا اكتسب الإيمان إنما معناه أنه آمن بقوة محدثة من غير أن يكون اكتسب الشي على حقيقته بل الذى فعله علي حقيقته هو رب العالمين"(1) .
- تكليف مالا يطاق:
صرح الأشعري بجواز تكليف مالا يطاق (2) ، ويستدل لذلك بعدة أدلة منها قصة أبي لهب ونزول السورة فيه، يقول:" ويقال لهم قد قال الله تبارك وتعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله ومما كسب. سيصلى نارا ذات لهب} [المسد:1- 3] وأمره مع ذلك بالإيمان، فأوجب عليه أن يعلم أنه لا يؤمن، وأن الله صادق في إخباره عنه أنه لا يؤمن، وأمره مع ذلك أن يؤمن ولا يجتمع الايمان والعلم بأنه لا يكون ولا يقدر القادر على أن يؤمن وانه يعلم أنه لا يؤمن، وإذا كان هذا هكذا فقد أمر الله سبحانه أبا لهب بما لا يقدر عليه لأنه أمره أن يؤمن وأنه يعلم أنه لا يؤمن"(3) ، والأشعري يفرق بين عدم الاستطاعة للعجز عن الشيء وعدم الاستطاعة للاشتغال بضده، فيقول:"فإن قال قائل: أليس قد كلف الله تعالى الكافر الإيمان؟ قلنا له: نعم، قال: فيستطيع الإيمان، قيل له: لو استطاعه لآمن، فإن قال: فكلفه مالا يستطيع؟ قيل له: هذا كلام على أمرين: إن أردت بقولك: إنه لا يستطيع الإيمان لعجزه عنه فلا، وان أردت أنه لا يستطيعه لتركه والاشتغال بضده فنعم"(4) ، وهذا تفصيل جيد يزيل الإشكالات الواردة حول تكليف مالا يطاق.
(1) اللمع (ص:40) .
(2)
انظر: المصدر السايق (ص: 68) .
(3)
الإبانة (ص: 195) - فوقية-.
(4)
اللمع (ص:58-59) .
- إنكار التعليل:
يصرح الأشعري بنفي التعليل في أفعال اللهـ خلافا لأهل السنة الذين يقولون بهـ ويقول:"وأجمعوا على أنه عز وجل غير محتاج إلى شيء مما خلق، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وينعم على من يشاء ويعز من يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويغني من يشاء، وانه لا يسأل في شيء من ذلك عما يفعل، ولا لأفعاله علل، لأنه مالك غير مملوك، ولا مأمور ولا منهي، وانه يفعل ما يشاء"(1)، ولذلك يتأول الآية الواردة في ذلك وهي قوله تعالى:{وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56] بأن المقصود: أنه أراد بعض الجن والإنس وهم العابدون لله منهم" (2) ، أى انه عني المؤمنين دون الكافرين (3) . والآية نص في إثبات حكمة الله في خلق الجن والانس، وانه خلقهم للعبادة فهي نص في إثبات التعليل، وقول الأشعري ضعيف كما سيأتي.
- التحسين والتقبيح:
قال بالتحسين والتقبيح الشرعي فقط، يقول عن أهل السنة:"وأجمعوا على أن القبيح من أفعال خلقه كلها مانهاهم عنه وزجرهم عن فعله، وأن الحسن ما أمرهم به أو ندبهم إلى فعله وأباحه لهم، وقد دل الله عز وجل على ذلك بقوله: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] "(4) .
ولا يقبح من الله شيء،"فلا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان، وانما نقول: انه لا يفعل ذلك لأنه أخبرنا أنه يعاقب الكافرين وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره"(5) ،ويعلل ذلك بأن الله هو المالك القاهر وانه لا آمر
(1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 77) .
(2)
اللمع (ص: 68) .
(3)
انظر: الإبانة (ص: 192) .
(4)
الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 78) .
(5)
اللمع (ص:71) .
فوقه، يقول:" والدليل على أن كل مافعله فله فعله أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك ولا فوقه مبيح ولا آمر ولا زاجر ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم وحد له الحدود، فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء إذ (1) كان الشيء انما يقبح منا لأنا تجاوزنا ماحد ورسم لنا، وأتينا مالم نملك إتيانه، فلما لم يكن الباري مملكا ولا تحت آمر لم يقبح منه شيء، فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبحه؟ قيل له: أجل، ولو حسنه لكان حسنا ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض (2) ، ومذهب الأشعري هذا يأتي في الطرف المقابل لمذهب المعتزلة الذين قالوا بالتحسين والتقبيح العقلي، والحق مذهب السلف وهو التفصيل.
و قوله في الإيمان:
صرح في الإبانة " أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"(3)، وفصل ذلك في الرسالة فقال:"وأجمعوا على أن الايمان يزيد يالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شكا فيما أمرنا بالتصديق به ولا جهلا به، لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان، كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كنا مؤدين للواجب علينا"(4)، وقوله: إن الإيمان قول وعمل، ويزيد، وينقص هو قول أهل السنة والجماعة.
ولكنه في اللمع فسره بالتصديق بالله، واحتج بإجماع أهل اللغة على أن الإيمان هو التصديق، كما احتج بقوله تعالى:{وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف:17] أي بمصدق لنا، ويقول الناس:" فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة"، ويريدون: يصدق (5) .
هذا ما هو موجود في كتبه، وقد نسب اليه متأخرو الأشعرية وغيرهم
(1) في طبعة مكارثي إذا، وذكر في الحاشية أن فى إحدى النسخ إذ وهى الصواب.
(2)
اللمع (ص: 71) .
(3)
الإبانة (ص: 27) - فوقية-.
(4)
الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 93) .
(5)
انظر: اللمع (ص: 75) .
انه يقول: إنه المعرفة (1) ، كما نسبوا إليه قولا آخر؛ انه التصديق وان القول باللسان والعمل بالأركان غير داخلين فيه (2) .
أما قوله في مرتكب الكبيرة فهو قول أهل السنة: انه مؤمن بأيمانه فاسق بكبيرته وانه لا يخلد في النار (3) .
ز- قوله في: الشفاعة، وعذاب القبر، والحوض، والصراط، والإمامة والصحابة:
وقوله فيها جميعا: هو قول السلف- رحمهم الله تعالى- كما ذكر ذلك في أواخر كتبه كلها.
هذا هو أبو الحسن الأشعري الذي تنسب اليه طائفة الأشعرية ولعل ما سبق عرضه من حياته، وأطواره وعقيدته يعطي صورة واضحة نوعا ما لهذا العلم الذي تكونت من بعده مدرسة مشهورة انتسبت اليه واشتهرت باسمه.
* * *
(1) انظر: المجرد (ص: 151)، ونهاية الإقدام (ص: 472) ، والفصل لابن حزم (2/266) - ط- المحققة.
(2)
انظر: أصول الدين للبغدادي (ص: 248) ، والمجرد (ص 150) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 101)، ونهاية الإقدام (ص: 472) .
(3)
انظر: الإبانة (ص: 26)، واللمع (ص: 75) ، والرسالة (ص: 93- 94) .