الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة " (1) ويقول ابن القيم:" وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندى شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا، وكان يقول في سجوده وهو محبوس:" اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ما شاء الله، وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه "(2) ويقول ابن القيم أيضا: "وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والارهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة "(3) . ويقول ابن القيم عن ذكره لربه: " وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: " الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.. وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال:" هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي "(4) .
حادي عشر: وفاته:
لما أخرجت الكتب والأوراق والدواة والقلم من عند شيخ الإسلام في القلعة في يوم الاثنين تاسع جمادى الآخر سنة 728 هـ، تفرغ الشيخ للعبادة وقراءة القرآن واستمر على هذه الحال حتى توفي في ليلة الاثنين العشرين من ذى القعدة من هذه السنة 728 هـ. وكانت وفاته على أثر مرض ألم به أياما يسيرة،
(1) الوابل الصيب (ص: 60) ط دار البيان.
(2)
المصدر السابق (ص: 61) .
(3)
المصدر السابق، نفس الصفحة.
(4)
المصدر نفسه (ص: 53-54) .
ولما كان الشيخ قد ضيق عليه - خاصة بعد إخراج كتبه وأوراقه - فقد كانت وفاته مفاجئة للناس جميعا، فقد أصيبوا بصدمة وما كادوا يعلمون صباح الاثنين حتى خرجوا جميعا في جنازته، واشتد زحامهم عليها، وقد اعتبرها المؤرخون من الجنائز النادرة فيشبهونها بجنازة الإمام أثط عبد اللة أحمد بن حنبل-رحمه الله في بغداد، وابن تيمية مات في دمشق وهى أصغر من بغداد وليست عاصمة للخلافة، كا أن ابن تيمية مات مسجونا مسخوطا عليه من جهة السلطان وكثير من الفقهاء والصوفية الفقراء يذكرون عنه للناس- مما يسىء- أشياء كثيرة، ومع ذلك كانت جنازته مشهودة ومشهورة.
يقول البزار: " ثم إن الشيخ- رحمه اللة- بقي إلى ليلة الاثنين العشرين من ذى القعدة الحرام وتوفي إلى رحمه الله تعالى ورضوانه في بكرة ذلك اليوم وذلك من سنة ثمان وعشرين وسبع مئة وهو على حاله، مجاهدا في ذات الله تعالى، صابرا، محتسبا لم يجبن ولم يهلع، ولم يضعف، ولم يتتعتع، بل كان رضى الله عنه إلى حين وفاته مشتغلا بالله عن جميع ما سواه، قالوا: فما هو إلا أن سمع الناس بموته، فلم يبق في دمشق من يستطع المجيء للصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك وتفرغ له، حتى غلقت الأسواق بدمشق، وعطلت معايشها حينئذ وحصل للناس بمصابه أمر شغلهم عن غالب أمورهم وأسبابهم، وخرج الأمراء والرؤساء والعلماء والفقهاء، والأتراك، والأجناد، والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام، قالوا: لم يتخلف أحد من غالب الناس فيما أعلم إلا ثلاثة أنفس، كانوا قد اشتهروا بمعاداته، فاختفوا من الناس خوفا على أنفسهم، بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس فأهلكوهم "(1) .
ويذكر ابن كثير أن نائب السلطنة كان غائبا فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال- نائب القلعة- فعزاه فيه، وجلس عنده،
(1) الأعلام العلية (ص: 82-83) .
وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون (1) .
" ثم شرعوا في غسل الشيخ
…
ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة رجنح الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به
…
إلى الجامع الأموى والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصى عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فتباكى الناس، وضجوا عند سماع هذا الصارخ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف بل مرصوصين رصا، لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة، جو الجامع ويرى الأزقة والأسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، ونوى خلق الصيام لأنهم لا يتفرغون هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب- لغيبة الخطيب بمصر- فصلى عليه إماما، وهو الشيخ علاء الدين الخراط، ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد
…
واجتمعوا بسوق الخيل " (2) في أرض فسيحة فوضعت الجنازة وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن ثم حملت جنازته إلى قبره، ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله قبيل العصر- رحمهم الله جميعا-. ثم صاروا يتناوبون بالصلاة عليه في قبرهـ ممن لم يتمكن من الصلاة عليه في المرات السابقة-، وما وصل خبر موته إلى بلد إلا وصلى عليه في جميع جوامعه
(1) انظر: البداية والنهاية (14/138) .
(2)
المصدر السابق (14/138-39 1) .
ومساجده خصوصا الشام ومصر والعراق وتبريز والبصرة وغيرها (1) .
وقد رثى بمراثي عديدة، ذكرها كثير ممن ترجم له (2) .
(1) انظر: الأعلام العلية (ص: 85) .
(2)
انظر: في وفاته ومراثيه: العقود الدرية (ص: 369-502) ، وتاريخ ابن الوردى (2/406 - 407) ، وذيل ابن رجب (2/405)، والكواكب (ص: 174) وما بعدها، والدرر الكامنة (1/159) ، وتذكرة النبيه (185/2) .