المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المنهج الصحيح للمعرفة والاستدلال - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ١

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد: السلف ومنهجهم لب العقيدة

- ‌المبحث الأول: التعريف بالسلف، وأهل السنة والجماعة وأهل الحديث

- ‌المبحث الثاني: من المقصود بالسلف؟ ونشأة التسمية بأهل السنة والجماعة

- ‌المبحث الثالث: منهج السلف في العقيدة

- ‌الباب الأول: ابن تيمية والأشاعرة

- ‌الفصل الأول: حياة ابن تيمية

- ‌تقدمة

- ‌المبحث الأول: عصر ابن تيمية

- ‌أولا: الصليبيون: [

- ‌ثانيا: ظهور التتار

- ‌ثالثا: المماليك:

- ‌ نظام المماليك الإداري:

- ‌رابعا: سقوط الخلافة العباسية في بغداد وإحياؤها في القاهرة:

- ‌خامسا: الباطنية والرافضة:

- ‌سادسا: بداية ظهور التحاكم إلى غير الشريعة:

- ‌سابعا: الجوانب العلمية والعقائدية:

- ‌المبحث الثاني: حياة ابن تيمية وآثاره

- ‌أولا: اسمه ونسبه ومولده:

- ‌ثانيا: حياته الأولى:

- ‌ثالثا: شيوخه:

- ‌رابعا: هل كان مقلدا لشيوخه

- ‌خامسا: جهاده وربطه بالعمل:

- ‌سادسا: مكانته ومنزلته:

- ‌سابعا: محنه وسجنه:

- ‌ثامنا: تلاميذه والمتأثرون به:

- ‌تاسعا: مؤلفاته ورسائله:

- ‌1- العقيدة الحموية:

- ‌2- جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوى الحموية:

- ‌3- نقض أساس التقديس:

- ‌4- درء تعارض العقل والنقل:

- ‌5- القاعدة المراكشية:

- ‌6- الرسالة التدمرية:

- ‌7- شرح الأصفهانية:

- ‌8- المناظرة حول الواسطية:

- ‌9- الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات:

- ‌10- التسعينية:

- ‌11- النبوات:

- ‌12- الإيمان:

- ‌13- شرح أول المحصل للرازي:

- ‌14- مسائل من الأربعين للرازي:

- ‌عاشرا: عبادته وتوكله وذكره لربه:

- ‌حادي عشر: وفاته:

- ‌الفصل الثاني: منهج ابن تيمية في تقرير عقيدة السلف وفي رده على الخصوم

- ‌تمهيد

- ‌أولا: مقدمات في المنهج

- ‌ثانيا: منهجه في المعرفة والاستدلال:

- ‌ نقض أصول ومناهج الاستدلال الفلسفية والكلامية

- ‌ المنهج الصحيح للمعرفة والاستدلال

- ‌ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها:

- ‌أ- منهجه في العقيدة عموما:

- ‌ب- منهجه في الأسماء والصفات:

- ‌رابعا: منهجه في الرد على الخصوم:

- ‌ا: بيان حال الخصوم

- ‌خامسا: الأمانة العلمية:

- ‌الفصل الثالث: أبو الحسن الأشعري

- ‌أولا: عصر الأشعري:

- ‌ثانيا: نسبه ومولده ووفاته:

- ‌ثالثا: ثناء العلماء عليه:

- ‌رابعا: شيوخه:

- ‌خامسا: تلاميذه:

- ‌سادسا: مؤلفاته:

- ‌1- مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين:

- ‌2- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع:

- ‌3- رسالته إلى أهل الثغر:

- ‌4- الإبانة عن أصول الديانة:

- ‌5- رسالة استحسان الخوض في علم الكلام:

- ‌6- رسالة في الايمان

- ‌7- العمد في الرؤية:

- ‌8- كتاب تفسير القرآن:

- ‌سابعا: أطوار حياته العقدية:

- ‌أ- طور الأشعري الأول (مرحلة الاعتزال) :

- ‌ب- رجوعه عن الاعتزال وأسبابه:

- ‌ج- مذهب الأشعري بعد رجوعه [

- ‌ثامنا: عقيدته:

- ‌الفصل الرابع: نشأة الأشعرية وعقيدتهم

- ‌المبحث الأول: أسلاف الأشعرية "الكلابية" وموقف السلف منهم

- ‌أولا: ابن كلاب:

- ‌ثانيا: الحارث المحاسبي:

- ‌ثالثا: أبو العباس القلانسي:

- ‌موقف السلف من الكلابية:

الفصل: ‌ المنهج الصحيح للمعرفة والاستدلال

4-

وقد وقع الفلاسفة- وأهل الكلام- في غلط كبير، حين بنوا علومهم على أن كل ما لم يدل عليه الدليل يجب نفيه، وهذا تحكم ظاهر إذ أن معناه أن كل ما جهله الناس أو لم يجدوا له دليلا فعليهم أن ينفوه وينكروا وجوده أو حصوله، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ببيانه لقاعدة عامة وهي أن عدم العلم ليس علما بالعدم، أي أن الجهل بالشيء ليس دليلا على أن هذا الشيء غير موجود، وهنا يتبين خطأ المنحرفين حين نفوا أشياء كثيرة- ربما تكون من صفات الله أو اليوم الآخر أو المغيبات- لأنهم لم يجدوا عليها دليلا، وليس الخطأ جهلهم بالدليل، وإنما الخطأ حين جعلوا عدم علمهم بالدليل دليلا على انتفاء هذا الشىء (1) ، والنافي عليه الدليل كما على المثبت (2) .

5-

كما تطرق ابن تيمية كئيرا إلى شبهة أخرى أضلت كثيرا من الفلاسفة والمتصوفة وأهل الكلام، وهي اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان، أو ما يسمى بالكلى المطلق، فهؤلاء قد يتصورون في أذهانهم أشياء مثل الكليات العقلية التي يزعمون أنها تكون خارج العقل ولا يمكن الإشارة إليها ولا الاحساس بها وليست داخل العالم ولا خارجه، ومثل الكليات المجردة مثل وجود مطلق، أو إنسانية مطلقة، ومثل أصحاب الاتحاد المطلق توهموه في أذهانهم فظنوا أنه في الخارج (3) . أما الثاني: فقد أشار إلى‌

‌ المنهج الصحيح للمعرفة والاستدلال

ويمكن أن نعرضه كما يلي:

1-

في البداية يوضح شيخ الإسلام مراتب الدلالة فيقول:" ولا ريب أن الدلالة على مراتب: أحدها: أن يدل الدليل بغير شعور منه ولا قصد، فهذا الذى يسمى لسان الحال.... والدرجة الثانية: أن يكون الدال عالما بالمدلول عليه،

(1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 100،437) ، والصفدية (1/ 180)، ونقض المنطق (ص: 73) ، والجواب الصحيح (4/296) ، ودرء التعارض (4/59، 5/44) .

(2)

انظر: الصفدية (1/166)، وانظر المدرسة السلفية (ص: 305) .

(3)

هذه القضية بحثها ابن تيمية كثيرا- وربما تعرض فيما بعد- وانظر نقض أساس التقديس المطبوع (1/332) ، ودرء التعارض (6/1 1 2، 285،289، 5/111، 127، 173، 313، 6/ 96)، والسبعينية (ص: 0 9، 0 0 1) ، والصفدية (2/1 1 1-17 1 1، 296-308) ، والجواب الصحيح (3/78) .

ص: 245

لكن لم يقصد إفهام مخاطب، ولكن حاله دل المستدل على ما علمه، كالأصوات التى تدل بالطبع مثل البكاء والضحك ونحوهما، فإنها تدل على ما يعلمه المرء من نفسه مثل الحزن والفرح، وكذلك صفرة الرجل وحمرة الخجل

والدرجة الثالثة: الدلالة التي يقصدها الدال، فمنها: الاعلام بغير خطاب مسموع، كمن يعلم لغيره علامات تدله على ما يريد وكإشارة الأخرس ونحو ذلك

" (1) . ويبين في موضع آخر أن الدليل ينقسم إلى ما يدل بنفسه وما يدل بدلالة الدال به، فالخلوقات تدل على الله الخالق، فهذا مثال ما يدل بنفسه، أما ما يدل بغيره فقد يكون دالا بالمواطأة والاتفاق بين اثنين فصاعدا، مثل أن يتفق الرجل مع وكيله على علامة لمن يرسله إليه تدل على أنه أرسله مثل وضع خنصره في خنصره، ومثل وضع يده على ترقوته، ومثل شعار الناس في الحرب فلكل طائفة شعار خاص بهم يعرفون به بعضهم. وتد يدل بغيره قصدا من غير مواطأة مع المستدلين على أنه دليل، لكنهم يعلمون أنه قصد الدلالة لعلمهم بأحوال مثل أن يرسلوا عمامته أو ثوبه مع شخص فيعلمون أنه أرسلها علامة على أنه أرسله (2) . وشيخ الإسلام إنما يهدف إلى عدم حصر الاستدلال بطريقة معينة، فإثبات الصانع وحدوث العالم، ودلالة صدق الأنبياء وغيرها لا ينحصر الاستدلال لها في قالب معين كما فعل أهل الفلسفة والكلام الذين وصل بهم الأمر إلى إنكار ما لم يأت عن غير هذا الطريق الذي زعموه.

2-

يقول المتكلمون: إنه لابد للوصول إلى العلم من النظر ولذلك يقولون: إن النظر يضاد العلم، لأنه لو كان عالما لما احتاج إلى النظر، لكن يرجع هؤلاء فيقولون: إن النظر مستلزم للعلم، وهذا تناقف، ويبين ابن تيمية أن الذي يفصل في القضية أن النظر نوعان: أحدهما: النظر الطلبي، وهو النظر في المسألة التي هي القضية المطلوب حكمها ليطلب دليلها، فهذا هو النظر الذ! ط لا يجامع العلم بل يضاده، لأنه ينظر في المطلوب فقد يجده وتد لا يجده، فهذا نظر في الحكم

(1) درء التعارض (10/200-202) .

(2)

انظر: النبو ات (ص: 266- 279)، وا نظر (ص: 369) .

ص: 246

كالذي ينظر في المسألة لينال دليلها من القرآن والحديث، والثاني: النظر الاستدلالي: وهو النظر في الدليل الذي يوصله ويستلزم المدلول، وهذا هو الذي يوجب العلم ولا ينافيه فهو كالذي ينظر في القرآن والحديث فيعلم الحكم (1) . لكن هل النظر واجب؟ يجيب شيخ الإسلام:" لكن من حصر العلم بطريق عينه، هو مثل حد معين ودليل معين، أخطأ كثيرا، كا أن من قال: إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال أخطأ كثيرا، وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر وقالوا: لا يحصل العلم إلا بة مطلقا، أخطأوا، والذين قالوا:- لا حاجة إليه بحال، بل المعرفة دائما ضرورية لكل أحد في كل حال- أخطأوا، بل المعرفة وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة، فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر، والإنسان قد يستغنى عنه فى حال ويحتاج إليه في حال، وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويستغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية، والترجمة قد يحتاج إليها تارة، وقد يستغنى عنها أخرى، وهذا له نظائر. وكذلك كون العلم ضروريا أو نظريا، والاعتقاد قطعيا وظنيا أمور نسبية، فقد يكون الشىء قطعيا عند شخص في حال، وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلا عن أن يكون مظنونا، وقد يكون الشىء ضروريا لشخص في حال، ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى، وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه، لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم، فهو الحق الذي لا يقبل النقيض، ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقا "(2) . والعلم علمان: عملي ونظرى، فالأول: " ما كان شرطا في حصول المعلوم كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به محتاج إليه.

والثاني: العلم الخبري النظرى، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به كعلمنا بوحدانية الله وأسمائه وصفاته وصدق رسله، وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها" (3) .

(1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 352-353) .

(2)

درء التعارض (3/303-304) .

(3)

درء التعارض (1/88) .

ص: 247

3-

ما حد الدليل؟ هل هو المرشد إلى المطلوب وهو ما يكون العلم به مستلزما للعلم المطلوب، فهو بذاته دليل يوصل إلى المقصود، أم الدليل هو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى المطلوب، اختلف النظار في ذلك، ويرى شيخ الإسلام أن كون بعضهم خص الثاني باسم الإمارة دون الدليل، نزاع اصطلاحي، ولكن يرى أن " الضابط في الدليل أن يكون مستلزما للمدلول، فكل ما كان مستلزما لغيره أمكن أن يستدل به عليه، فإن كان التلازم من الطرفين، أمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، فيستدل المستدل بما علمه منهما على الآخر الذي لم يعلمه (1) ثم بين شيخ الإسلام أن هذا اللزوم إن كان قطعيا كان الدليل قطعيا، وإن كان ظاهرا وقد يتخلف كان الدليل ظنيا، ويمثل للقطعي بدلالة الخلوقات على خالقها وصفاته كالعلم والقدرة والمشيئة والرحمة والحكمة (2) .

4-

والآن ننتقل إلى مسألة أخرى مهمة وهي: طرق العلم والمعرفة ومصادرها هل هى مختصة بجانب معين لا يوصل إلى العلم إلا من خلاله؟ لقد تباينت مذاهب الناس في ذلك فبعضهم حصر العلم بالمحسوس فقط فهو الذي يثبت به الاستدلال يقينا وما عداه لا دليل فيه، وبعضهم حصر الاستدلال بالاعتبار والقياس المنطقي فقط، وبعضهم اعتمد على غير ذلك، ويرى شيخ الإسلام أن طرق العلم متعددة وكثيرة ويمكن إجالها بثلاث طرق:

أحدها: الحس الباطن والظاهر، وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها. والثاني: الاعتبار بالنظر والقياس وإنما يحصل العلم به بعد الىعلم بالحس، مما أفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس مطلقا، فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين لكن يجعل الخاص عاما، والمعين مطلقا، فإن الكليات إنما تعلم بالعقل، كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس.

(1) الرد على المنطقيين (ص: 165)، وانظر:(ص: 151) ، ودرء التعارض (3/303،11/122)، والنبوات (ص: 282) ، ومناهج البحث (ص: 194، 197، 199، 216) ، ونظرية القياس الأصولي (ص: 322) .

(2)

انظر: الرد عل المنطقييين (ص: 65 ا-166) .

ص: 248

والثالث: الخبر، والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب، فهو أعم وأشمل، لكن الحس والعيان أتم واكمل (1) .

ويوسع شيخ الإسلام- في مناسبات مختلفة- الكلام حول هذه الأدلة، ولكنه يركز على مسألة تنوع الأدلة، كما يركز على دليل الخبر الصادق، ولذلك يقول عن أهل الكلام:(إنهم قد سلموا أنه يعلم بالسمع أمور، كما يذكرونه كلهم من أن العلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ونها ما لا يعلم إلا بالسمع، ومنها ما لا يعلم بالسمع والعقل، وهذا التقسيم حق في الجملة، فإن من الأمور الغائبة عن حس الإنسان ما لا يمكن معرفته بالعقل، بل لا يعرف إلا بالخبر " ثم بين طرق العلم فيقول:" وطرق العلم ثلاثة: الحس، والعقل، والمركب منهما كالخبر" (2) ويوضح النقطة الأخيرة في مكان آخر فيقول: " إن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل، فإن الخبر عنه إن كان قد شوهد، كان قد علم بالحس، وإن لم يكن شوهد فلابد أن يكون شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه، وإلا لم يعلم بالخبر شىء، فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل، فكما أن العقل بعد الحس فالخبر بعد العقل والحس، فالإخبار يتضمن هذا وهذا "(3) .

وليس الحس وحده تعلم به الأمور إذ هناك المجريات والمتواترات، ويرى شيخ الإسلام أن هذه الأدلة توصل إلى اليقين، ولكن الخطأ الذي وقع فيه الفلاسفة وأهل المنطق أنهم جعلوا ما علم بالحس يمكن أن يستنبط منه قضية كلية عامة، يبنى عليها القانون المنطقي، يقول شيخ الإسلام عنهم: " إنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا الحسيات، والأوليات والمتواترات والمجربات أو الحدسيات، ومعلوم أنه لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا.... ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرهم

(1) درء التعارض (7/324)، وانظر: الاستقامة (1/29)، والرد على المنطقيين (ص: 364، 473) ، ونقض أساس التقديس المطبوع (2/539) .

(2)

درء التعارض (1/178) .

(3)

نفسه (7/325) .

ص: 249

ما جرت العادة باشتراك بني آدم فيه، وتناقضوا في ذلك، وذلك أن بني آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات، فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب، ويرون جنس السحاب والبرق، وإن لم يكن ما رآه هؤلاء من ذلك هو ما يراه هؤلاء، وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد، وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه، بل كل قوم يسمعون ما لا يسمع غيرهم، وكذلك أكر المرئيات، فانه ما من شخص ولا أهل درب ولا مدينة ولا إقليم إلا ويرون من المرئيات ما لا يراه غيرهم، وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه

وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس، فإنه قد يتواتر عند هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ولم يجربوه، ولكن قد يتفقان في الجنس، كما يجرب قوم بعض الأدوية ويجرب الآخرون جنس تلك الأدوية، فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب " (1) ، فإذا كانت هذه حال هذه الأدلة فلماذا يفرق أهل المنطق! نها، فيقولون: إن ما علم بالحس يمكن أن يكون دليلا عاما، أما المتواترات والمجربات فليست دليلا عاما وإنما يختص بها من علمها، مع أن اشتراك الناس في المتواترات ا! ثر، وفي المجريات يحصل المعنى الكلي الذى يقوم في النفسى بخلاف الحسيات فليس فيها شيء كلي (2) ، لقد أدى هذا التفريق بأهل المنطق أن أنكروا المتواترات والأخبار التى تعلم أو جاءت عن طريق الأنبياء، وكذلك الأدلة القرآنية من الأمثلة الضرورية التي ذكر الله تعالى فيها ما جرى للأم السابقة وأنه يجرى على من عمل مثل عملهم.

إن شيخ الإسلام يرى أن- الحسيات والمتواترات والمجربيات- يمكن أن تكون دليلا ومصدرا من مصادر المعرفة، ولا يفرق بينها، ويمكن أن ننقل نصا يوضح هذه المسألة، يقول: " وقد ذكر من ذكر من هؤلاء المنطقيين أن القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحدس يختص بها من علمها بهذا الطريق، فلا تكون حجة على غيره بخلاف غيرها فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع. وقد بينا

(1) الرد على المنطقيين (ص: 384- هـ 38) .

(2)

الرد على المنطقيين (ص: 385) .

ص: 250

أن هذا تفريق فاسد، فإن الحسيات الظاهرة والباطنة تنقسم أيضا إلى خاصة وعامة وليس ما رآه زيد أو شمه أو ذاقه أو لمسه يجب اشتراك الناس فيه، وكذلك ما وجده في نفسه من جوعه وعطشه وألمه ولذته، لكن بعض الحسيات قد تكون مشتركة بين الناس، كاشتراكهم في رؤية الشمس والقمر والكواكب، وأخص من ذلك اشتراك أهل البلد الواحد في رؤية ما عندهم من جبل وجامع وشهر وغير ذلك من الأمور انحلوقة والمصنوعة ".

" وكذلك الأمور المعلومة بالتواتر والتجارب قد يشترك فيها عامة الناس كاشتراك الناس في العلم بوجود مكة ونحوها من البلدان المشهورة، واشتراكهم في وجود البحر وأكثرهم ما رآه، واشتراكهم في العلم بوجود موسى وعيسى ومحمد وادعائهم النبوة ونحو ذلك، فإن هؤلاء قد تواتر خبرهم إلى عامة بني آدم وإن قدر من لم يبلغه أخبارهم فهم في أطراف المعمورة لا في الوسط، وكذلك المجربات، فعامة الناس قد جربوا أن شرب الماء يحصل معه الري، وأن قطح العنق يحصل معه الموت، وأن الضرب الشديد يوجب الألم. والعلم بهذه القضية تجريبي فإن الحس إنما يدرك ريا معينا وموت شخص معين، وألم شخص معين، أما كون كل من فعل به ذلك يحصل له مثل ذلك، فهذه القضية الكلية لا تعلم بالحس، بل بما يتركب من الحس والعقل، وليس الحس هنا هو السمع. وهذا النوع قد يسميه بعض الناس كله تجريبات، وبعضهم يجعله نوعين: تجريبات وحدسيات، فإن كان الحس المقرون بالعقل من فعل الإنسان كأكله وشربه وتناوله الدواء سماه تجريبا، وإن كان خارجا عن قدرته كتغير أشكال القمر عند مقابلة الشمس سماه حدسيا "(1) .

فهذه الحسيات والمجربات من طرق العلم عند شيخ الاسلام، ولكنه لا يحصر طرق العلم بها، واعتناؤه بهذه الأمور- خاصة التجربة- أثار انتباه وإعجاب كثير من الباحثين المعاصرين حتى قال أحدهم- ممن يخالف شيخ الاسلام في آرائهـ بعد أن نقل كلامه في ذلك: " وأخيرا لا يسعنا أمام

(1) الرد على المنطقيين (ص: 92-93) .

ص: 251

هذه الروح العلمية التجريبية التي أتسمت بها فلسفة ابن تيمية إلا أن نقرر أنه لو قدر لهذه الفلسفة أن توضع في قالب منهجي لعد ابن تيمية- بحق- على رأس الفلاسفة التجريبيين، وحسبه أنه وضع الأفكار في وقت كانت فيه أوربا ترسف في أغلال الجهل وتعاني من جود الفكر النظري طوال العصور الوسطى " (1) .

وإذا كانت مثل هذه القضايا أثارت إعجاب هؤلاء الباحثين بشيخ الإسلام فإن الذى أثار إعجاب تلامذة ابن تيمية- من عصره وإلى اليوم- ما عمل رحمه الله من الدعوة إلى العودة إلى مذهب السلف، ونهجهم، ومن ذلك: المنهج الشرعي للاستدلال، الذى تنكبه الفلاسفة والمتكلمون قديما وتلامذتهم حديثا- وهذا ما نشير إليه في الفقرة التالية.

5-

من أصول الاستدلال وطرق المعرفة الكبرى: الطريق والدليل الشرعي، ولكن ما الدليل الشرعي؟ هل هو مقتصر على ما أفاده الخبر بنصه فقط، أو ما يسميه البعض الدليل السمعى، المختص بما لا يمكن العلم به إلا بالسمع وخبر الصادق، لقد فهم كثير من أهل الكلام هذا، ورأوا أن الشرع- من الكتاب والسنة- ليس فيه أدلة عقلية، وإنما أخبار عن مغيبات يجب التصديق بها، وغفل هؤلاء عن الأدلة القرآنية الكثيرة التي فيها مجادلة ومحاجة المنكرين للألوهية والنبوة، والبعث وغيرها، وهؤلاء المنكرون من مشركي العرب وأهل الكتاب وغيرهم لم يكونوا مقرين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا بما نزل عليه من الكتاب، ولذلك كان من أصول منهج شيخ الاسلام- في كتبهـ التركيز على المنهج الشرعي وينبه إلى غلط أهل الكلام في حصرهم لهم في خبر الصادق فقط يقول: " الدليل الشرعي قد يكون سمعيا وقد يكون عقليا، فإن كون الدليل شرعيا يراد به:

أ- كون الشرع أثبته ودل عليه.

ب- ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه.

(1) المدرسة السلفية (ص: 449) ومؤلفه: محمد عبد الستار نصار، وانظر: مناهج البحث للنشار (ص: 166، 173، 178) .

ص: 252

(أ) فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوما بالعقل أيضا ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعيا عقليا، وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل وهي براهين ومقاييس عقلية، وهى مع ذلك شرعية. وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيا سمعيا.

وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا على هذا الوجه، ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات، والسمعيات، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة. وهذا غلط فهم، بل القرآن دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها وإن كان من الأدلة العقلية ما لا يعلم بالعيان ولوازمه؟ قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]

(ب) وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات، والشارع يحرم الدليل لكونه كذبا في نفسه، مثل أن تكون إحدى مقدماته باطلة، فإنه كذب والله يحرم الكذب لاسيما عليه، كقوله تعالى:{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169} ، ويحرمه لكون المتكلم به يتكلم بلا علم، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء:36] وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقوله:{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران:66] . (1)

(1) درء التعارض (1/198-. 20) .

ص: 253

فالأدلة الشرعية قد تكون سمعية، وقد تكون عقلية نبه عليها الشرع، وشيخ الاسلام دائما ما ينبه إلى أنه لا يمكن أن يتعارض العقل والشرع، ولذلك لم يفصل بين جنس الأدلة-؟ فعل أهل الفلسفة والكلام- فالأدلة قد تكون حسية وتد تكون عقلية وقد تكون شرعية، وكلها صادقة، لأن الكل من عند الله، فالكون مخلوق لله والانسان الذي يعقل ويحس نحلوق لله، والنصوص السمعية منزلة من عند الله، فالذين يتوهمون أنهم قد يعلمون بعقولهم ومقاييسهم أمورا قد يعارضها السمع غالطون أشد الغلط بل ومنحرفون في إيمانهم وثقتهم بما جاء من عند الله من الكتاب والسنة، إذ كلها وحي من الله تعالى، ولهذا يقول شيخ الإسلام منبها إلى أن حصول المعرفة بالشرع على وجوه " أحدها: أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع، فتكون عقلية شرعية، والثاني: أن المعرفة المنفصلة (1) بأسماء الله وصفاته التى بها يحصل الإيمان تحصل بالشرع كقوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى:52]، وقوله:{قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلي ربي} [سبأ:50]، وقوله:{كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} [إبراهيم:1] ، وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن اللة هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه" (2) .

فالهداية التامة والمعرفة الصادقة التي لا يدخلها شك أعظم ما تغ عن طريق الكتاب والسنة، إن كان ثمة طريق غيرهما تحصل به هذه المعرفة، ويوضح شيخ الإسلام في هذافيقول: " وأما النظر المفيد للعلم فهو ما كان في دليل هاد، والدليل الهادكط- على العموم والاطلاق- هو كماب اللة وسنة نبيه، فإن الذكط جاءت به الشريعة من نوعي النظر: هو ما يفيد وينفع ويحصل الهدى، وهو يذكر اللة وما نزل من الحق، فإذا أراد النظر والاعتبار في الأدلة المطلقة

(1) كذ ا، ولعلها: المفصلة.

(2)

درء التعارض (9/37-38) .

ص: 254

من غير تعيين مطلوب فذلك النظر في كتاب الله وتدبره كما قال تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي الله به من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة:15 - 16] . " (1) .

6-

ونعرض للأدلة الشرعية التي ذكرها شيخ الاسلام:

أ- فأولها دلالة السمع من الكتاب والسنة على كل ما تنازع الناس فيه، لأن فيهما الهدى التام، فمن اعتصم بالوحي فقد هدى إلى صراط مستقيم، ولذلك فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، " دعوا الناس إلى عبادة الله أولا بالقلب، واللسان، وعبادته متضمنة لمعرفته، وذكره، فأصل علمهم وعملهم هو العلم بالله والعمل لله"(2)(2) ، ولذلك فالرسل لم يدعوا الناس إلى الإقرار بوجود الله وأنه الخالق، لأن هذا معروف مسلم مركوز في فطر الناس، وإنما دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومنه ينطلق إلى الأمور الأخرى، لأن من عبد الله وحده وأخلص له في العبادة فلابد أن يصدق برسله وبما جاءوا به من عند ربهم تعالى، يقول شيخ الإسلام:" إن الله سبحانه لما كان هو الأول الذي خلق الكائنات والآخر الذي إليه تصير الحادثات فهو الأصل الجامع فالعلم به أصل كل عمل وجامعه، وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته، وإذا حصل لهم ذلك فما سواه إما فضل نافع وإما فضول غير نافعة، وإما أمر مضر "، " ثم من العلم به تتشعب أنواع العلوم، ومن عبادته وقصده تتشعب وجوه المقاصد الصالحة، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي، والبرهان الوثيق، فلا يزال إما في زيادة العلم والايمان، وإما في السلامة من الجهل والكفر، وبهذا جاءت النصوص الالهية في أنه بالإيمان يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وضرب مثل المؤمن - وهو المقر بربه علما وعملا- بالحي والبصير والسميع والنور والظل- وضرب

(1) نقض المنطق (ص: 33) .

(2)

مجموع الفتاوى (2/15) .

ص: 255

مثل الكافر- بالميت والأعمى والأصم، والظلمة والحرور " (1) ، فمنهج الرسل على الضد من منهج المتكلمين الذين يبدأون بالأمور النظرية فيبدأون بإثبات الصانع ثم النبوات ثم السمعيات، وقد تختلط عليهم الأدلة في أول الطريق أو في وسطها أو في آخرها فلا يصلون إلى المقصود، أما الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم جميعا- فيبدأون من حيث ينتهي الفلاسفة، فإذا كان قصارى ما ينتهي إليه هؤلاء إثبات أن هذا العالم لابد له من خالق، فالأنبياء يبينون لأممهم أنه يجب عبادة الله وحده لا شريك له ما دامت قضية الإترار به وبوجوده مسلمة للجميع. وخلاصة هذا الدليل: أن عبادة الله والإخلاص هي الأساس وهي الموصلة

إلى تصديق رسلهـ والله أيدهم بما يدل على صدقهم من المعجزات وغيرها- فإذا تمت الشهادتان: الألوهية والرسالة، كان ما جاء به هؤلاء الرسل من أمر أو خبر هو الحق الذكط يعتصم به المؤمنون وإذا كان المتصوفة على عكس المتكلمين والفلاسفة، فإن أهل الحق والايمان لا يعتمدون على ما يخطر بقلوبهم من خواطر مطلقا، وإنما يزنونها بالكتاب والسنة، ولا يقدمون عليهما شيئا من الأدلة أو الخواطر، ولذلك فما لا أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمر يجل عن الوصف، ولكن عند عوامهم من اليقين والعلم النافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة والمتكلمين، وهذا ظاهر شهود لكل أحد " (2) .

ب- وهناك دليل آخر وهو دليل الفطرة التي فطر الله الناس جميعا عليها، لأن الإنسان خلقه الله تعالى متميزا عن غيره من الخلوقات، فعنده الشعور والإحساس ولديه الإرادة والحركة، ففي الشعور والإدراك يميز بين الحق والباطل والصدق والكذب، وبالارادة والحركة يحب ويبغض فيحب ما ينفعه ويميل إليه، ويبغض ما يضره وينفر منه، وهذه هي الفطرة (3)، يقول شيخ الاسلام: " والله سبحانه

(1) مجموع الفتاوى (2/16) .

(2)

نقض المنطق (ص: 26) .

(3)

انظر: المصدر السابق (ص: 29) .

ص: 256

خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع المم رالمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة، فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة، وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة أحبته وأطمأنت إليه، وذلك هو المعروف، وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته الفطرة وأنكرته " (1) .

ونصوص الفطرة دالة على أن كل مولود يولد على فطرة الاسلام، وهي الحنيفية المقتضية لعبادة الله وحده لا شريك له والحب والخضوع له تعالى. يقول شيخ الإسلام:" فعلم أن في فطرة الانسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع، وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والايمان به هو الحق أو نقيضه؟ والثاني معلوم الفساد قطعا، فتعين الأول، وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والايمان به، وأيضا: فإنه مع الإقرار به إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته، والثافي معلوم الفساد، وإذا كان الأول أنفع له كان في فطرته محبة ما ينفعه، وأيضا فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له اكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به، والثالث معلوم الفساد فوجب أن يكون في فطرته مقتضى يقتضي توحيده، وأيضا: فإما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين أو الاسلام مرجوحا أو راجحا، والأول والثاني باطلان باتفاق المسلمين وبأدلة كثيرة، فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها، وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة، سواء كانت نسبة قدرة أو نسبة قبول "(2) .

وهذه الفطرة بما فيها من الاستعداد والقبول كافية لحصول مقتضاها من معرفة الله وعبادته، لا يشترط لذلك وجود أدلة يتعلمها من خارج، يوضح شيخ الإسلام هذه المسألة فيقول: " وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته وإخلاص الدين له، فإما أن يكون مع ذلك

(1) نقض المنطق (ص: 29) .

(2)

درء التعارض (8/458-459) .

ص: 257

لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل، مثل من يعلمه ويدعوه، أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل، فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفا على مخاطب منفصل دائما، فلا يحصل بدونه البتة، ثم القول في حصول موجبها لذلك انحاطب المنفصل، كالقول في الأول، وحينئذ فيلزم التسلسل في الخاطبين، ووجود مخاطبين لا يتناهون، وهم أيضا مخاطبون وهذا تسلسل في الفاعلين وهو ممتنع، وإن كان من الخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل فى ل على إمكان ذلك بالفطرة، فبطل هذا التقرير وهو كون موجب الفطرة لا يحصل قط إلا نحاطب منفصل، وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل علم أن في الفطرة قوة تقتض! اذلك، وإن ذلك ليمى موقوفا على مخاطب منفصل، لكن قد يكون لذلك المقتضى معارض مانع وهذا هو الفطرة " (1) .

وهذه الفطرة توافق ما أخبرت به الرسل ولا تعارضها أبدا، ولذلك فإن دليل الفطرة على علو الله تعالى لا يمكن أن يكون ما جاءت به النصوص بخلافه كما زعم نفاته (2) ، وهكذا.

ج-- ومن الأدلة النظرية التى تفيد العلم، وقد جاء بها القرآن، دليل " الآيات، فالمخلوقات تدل على الخالق وتوجب العلم به، وآيات الأنبياء توجب العلم بنبوتهم، وهكذا يقول شيخ الاسلام إن من الأدلة " الآيات كما يذكر الله ذلك في القرآن، والآية هي دليل عليه بعينه، لا تدل على قدر مشترك بينه وبن غيره، فنفس الكائنات وما فيها وهو عين وجودها في الخارج مستلزم لوجود الرب، وهو آية له ودليل عليه، وشاهد بوجوده بعينه، لا قدر مشترك بينه وبين غيره " (3) ، ودليل الآيات يختلف عن دليل القياس، لأن دليل الآية هو نفسه مستلزم لعين المدلول عليه، يقول شيخ الاسلام: " وأما استدلاله بالآيات

(1) درء التعارض (8/459-. 46) .

(2)

انظر: درء التعارض (5/ 312)، وانظر: دلالة الفطرة الدرء (8/ 371) ، ونقض التأسيس المطبوع (2/475) .

(3)

نقض أساس التقديس- المطبوع- (2/474)

ص: 258

فكثير في القرآن، والفرق بين الآيات وبين القياس أن الآية هي العلامة، وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول، ولا يكون مدلوله أمرا كليا مشتركا بين المطلوب وغيره، بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول، كما أن الشمس آية النهار قال تعالى:{وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} [الإسراء:12] ، فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار، وكذلك آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم نفس العلم بها يوجب العلم بنبوته بعينه، لا يوجب أمرا بهليا مشتركا بينه وبين غيره، وكذلك آيات الرب تعالى، نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى لا يوجب علما كليا مشتركا بينه وبين غيره، والعلم بكون هذا مستلزما لهذا هو جهة الدليل " (1) ، ودليل الآيات إنما هو استدلال بجزئي على جزئي، وهذا يخالف القياس المنطقي (2) .

د- قياس الأولى:

يرى شيخ الإسلام أن هذا من أدلة القرآن، وأنه يستف م في حق الله تعالى لأن الله تعالى ليس مثل خلقه، بحيث يقاس على خلقه لأن الله تعالى ليس كمثله شىء، وهذا الدليل ركز عليه شيخ الاسلام كثيرا، وبين دلالته على إثبات التوحيد لله ونفى الصاحبة والولد عنه، وعلى إثبات صفات الكمال لله، وعلى النبوة والمعاد، يقول شيخ الإسلام: " وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعا للقرآن فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل، كما لا يضبط التفاوت بين الخالق والخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ونحلوق ما لا يحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم مما يثبت

(1) الرد على المنطقيين (ص: 151) .

(2)

انظر: نفس المصدر (ص: 163)، وانظر:(ص: 356) ، ومجموع الفتاوى (2/9، 48/1)، وانظر: منطق ابن تيمية (ص: 247)، والمدرسة السلفية (ص: 368،443) ، ومناهج البحث (ص: 216) .

ص: 259

لكل ما سواه بما لا يدرك قدره" (1) ، ويقول أيضا: (ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيل (2) يستوي فيه الأصل والفرع، رلا بقياس شمولي (3) تستوي فيه أفراده، فإن الله تعالى ليس كمثله شىء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها"(4) ، ثم طبق هذا على مسألة المعاد (5) ، ثم ذكر أن الله استعمله سبحانه في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه اليه من الولادة سواء سموها حسية أو عقلية (6) ، ثم ذكر النصوص القرآنية التي فيها الانكار على المشركين في زعمهم أن لله ولدا، أو أن لله البنات، ثم عقب شيخ الإسلام قائلا:" فبين سبحانه أن الرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم، فكيف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم، وتستحيون من إضافته إليكم مع أن ذلك واقع لا محالة، ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه، وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم "(7) ،

فذكر قياس الأولى في ذلك (8) .

(1) الرد على المنطقيين (ص: 154) .

(2)

قياس التمثيل هو القياس المشهور في كتب أصرل الفقه وهو: أثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر لمعنى مشترك بينهما وهو العلة كقولنا: النبيذ حرام لأنه كالخمر في الإسكار الذي هو علة الحرمة، انظر التهذيب: شرح الخبيصي وحواشيه (ص: 414)، وإيضاح المبهم (ص: 17) ، وتحرير القواعد المنطقية (ص: 166) ، والمرشد السليم (ص:253) .

(3)

قياس الشمول: هو قياس المناطقة المشهور وهو: قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، مثل أن يقال كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس، النتيجة: كل انسان حساس. انظر المصادر السابقة: الهذيب: شرح الخبيصى (ص: 363)، وتحرير القواعد (ص: 38 1) ، والمرشد السليم (ص: 136) .

(4)

درء التعارض (1/29) .

(5)

انظر: المصدر نفسه (1/ 30- هـ 3) .

(6)

الحسية مثل قول النصارى في عيسى، والعقلية مثل قول الفلاسفة بتولد العقول العشرة والأفلاك.

(7)

درء التعارض (1/36-37) ..

(8)

انظر: في قياس الأولى وشرح ابن تيمية له: منطق ابن تيمية (ص: 254)، ونظرية القياس الأصولي (ص: 334) ، ومناهج البحث (18 2) .

ص: 260

هـ- الميزان القرآني:

وردت نصوص تدل على " الميزان " وأن الله أنزله، مثل قوله تعالى:

{الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17]، وقوله:{والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} [الرحمن: 7-9] وغيرها، فما هذا الميزان؟ يقول شيخ الإسلام: " وقد قال الله سبحانه وتعالى: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17]، وقال:{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25] ، والميزان يفسره السلف بالعدل، ويفسره بعضهم بما يوزن به (1) ، وهما متلازمان، وقد أخبر أنه أنزل ذلك مع رسله كا أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان، وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات، فمعرفة أن هذه الدراهم أو غيرها من الأجسام الثقيلة بقدر هذه تعرف بموازينها، وكذلك مثل هذا الزمان يعرف بموازينه التى يقدر بها الأوقات

فكذلك الفروع المقيسة على أصولها في الشرعيات والعقليات تعرف بالموازين المشتركة بينهما، وهي الوصف الجامع المشترك الذي يسمى الحد الأوسط، فإنا إذا علمنا أن الله حرم خمر العنب لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، ثم رأينا نبيذ الحبوب من الحنطة والشعير والرز وغير ذلك يماثلها في المعنى الكلي المشترك الذي هو علة التحريم، كان هذا القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان التي أنزلها الله في قلوبنا لنزن بها هذا نجعله مثل هذا، فلا نفرق بين المتماثلين، والقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله تعالى به" (2)، ويوضح النقطة الأخيرة فيقول:

" إن القياس الصحيح هو من العدل الذي أنزله، وإنه لا يجوز قط أن يختلف الكتاب والميزان، فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح، لا قياس شرعي

(1) انظر هذين القولين في تفسير الآية: 25 من سورة الحديد: تفسير الطبرى، وزاد المسير.

(2)

الرد على المنطقيين (ص: 372) .

ص: 261

ولا عقلي، ولا يجوز قط أن الأدلة الصحيحة النقلية تخالف الأدلة الصحيحة العقلية

" (1) ، ويورد اعتراضا على هذا ثم يرد عليه، فيقول: " فإن قيل: إذا كان هذا مما يعرف بالعقل فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل؟ قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية، فليس العلوم النبوية مقصورة على مجرد الخبر، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام، ويجعلون ما يعلم قسيما للعلوم النبوية، بل الرسل- صلوات الله عليهم- بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علما وعملا، وضربت الأمثال، فكملت الفطرة بما نبهتا عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه، أو كانت الفطرة قد فسدت بما حصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة، فأزالت ذلك الفساد وبينت ما كانت الفطرة معرضة عنه، حتى صار عند الفطرة معرفة الميزان التي أنزلها الله وبينتها رسله " (2) ، ويوضح شيخ الاسلام أن الله كما أنزل مع رسله الايمان، فلا يحصل الإيمان إلا بهم، فكذلك أنزل الميزان في القلوب وذلك لما بينت الرسل العدل وما يوزن به (3) .

ولما كان القياس أحد الأصول المعتبرة في الأحكام عند جماهير المسلمين، وقف شيخ الإسلام مع أهل المنطق وقفة طويلة حول زعمهم أن قياسهم الشمولي هو الذي يفيد اليقين، أما القياس التمثيلي- الذي هو قياس الأصوليين- فلا يفيد إلا الظن (4) ، ظنا منهم أن استخدامه في الأحكام الفرعية من جانب الفقهاء

(1) الرد على المنطقيين (ص: 373) .

(2)

نفسه (ص: 382) .

(3)

نفسه (ص: 383-384) .

(4)

سبق التعريف بقياس الشمول والتمثيل والفرق بينهما أن الشمولي إنتقال من خاص إلى عام ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص، أما التمثيلى فهو انتقال من حكم معين (جزئي) إلى حكم معين (جزئي) لاشتراكهما في ذلك المعنى الكلى، ومع ذلك فيمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمبة. ويلاحظ أن بعض الباحثين في علوم المنطق ردوا على إخوانهم المناطقة في قولهم: إن القياس التمثيلى ظنى ويينوا أنه قد يكون قطعيا، انظر التهذيب شرح الخبيصى، حاشية العطار (414) كما ذكروا لهـ

ص: 262

دليل على أنه ظني (1) ،

ويرى شيخ الإسلام أنه لا فرق بينهما، بل يمكن إرجاع القياس الشمولي إلى التمثيلى وبالعكس، يقول:(تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل بأن الأول قد يفيد اليقين، والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل، بل حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين، وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين، فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد إلا الظن " (2)، سم بين أنه لا فرق بينهما فيقول:" فإن قلت: النبيذ حرام قياسا على الخمر، لأن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة، وهذا الوصف موجود في النبيذ، كان بمنزلة قولك كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام، فالنتيجة قولك: النبيذ حرام، والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر، والحرام محمولها وهو الحد الأكبر، والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول، وهو الحد الأوسط المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى "(3) ، وبين شيخ الإسلام أن الفقهاء صاروا يستعملون في الفقه القياس الشمولي، كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلى (4) . بل يرى شيخ الإسلام أن قياس التمثيل أقوى من قياس الشمول، لأن التمثيل إنما هو من قياس الغائب على الشاهد الذي جاء في القرآن الكريم وهو الميزان الذي أنزله الله، يقول شيخ الإسلام ردا على المناطقة:" إذا كان لابد في برهانهم من قضية كلية فالعلم بتلك القضية الكلية لابد له من سبب، فإن عرفوها باعتبار الغائب بالشاهد وأن حكم الشيء حكم مثله، كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة علمنا أن النار الغائبة محرقة لأنها مثلها، وحكم الشيء حكم مثله، فيقال: هذا استدلال بقياس التمثيل 000"(5) .

(1) = فوائد في البحث العلمى وتقدم العلوم، انظر: المرشد السليم (ص: 257) .

(1)

انظر: الرد على المنطقيين (ص: 234) .

(2)

نفس المصدر (ص: 211) .

(3)

انظر: الرد على المنطقيين (ص: 211) .

(4)

نفس المصدر (ص: 117) .

(5)

نفسه (ص: 115) ..

ص: 263

والخلاصة أن ما ورد به الشرع من قياس التمثيل واعتبار الغائب بالشاهد هو الموصل إلى اليقين، وهذا هو الاعتبار الذى ورد الأمر به، وهو بتناول قياس الطرد وقياس العكس، ويشرح شيخ الاسلام ذلك ويمثل له من القرآن فيقول:" ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف، فإذا رأى الشيئين المتماثلين علم أن هذا مثل هذا، فجعل حكمهما واحدا، كا إذا رأى الماء والماء، والتراب والتراب، والهواء والهواء، ثم حكم بالحكم الكلي على القدر المشترك، وإذا حكم على بعض الأعيان ومثله بالنظير وذكر المشترك كان أحسن في البيان فهذا قياس الطرد، وإذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما وهذا قياس العكس، وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل ما فعلوا أصابه ما أصابهم فيتقي تكذيب الرسل حذرا من العقوبة، وهذا قياس الطرد، ويعلم أن من لم يكذب الرسل بل اتبعهم لا يصيبه ما أصاب هؤلاء وهذا قياس العكس، وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين، فإن المقصود ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره، والاعتبار يكون بهذا وهذا، قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف:111] ."(1)

7-

هذه هى الأدلة الشرعية- سمعية وعقلية- جاءت بها ودلت عليها النصوص، وهي دالة على التكامل وأن لا تعارض بين العقل والنقل، ورسل الله تعالى جاءوا بالحق المبين، ولا يمكن أن يأتوا بما يعارض العقول الصحيحة، لكن قد يأتون بما تعجز عنه العقول ولا تستطيع إدراكه، ولذا كثيرا ما يردد شيخ الإسلام أن الرسل يخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول (2) .

ولكن إذا كان المنهج القرآني والشرعى لا يقتصر على مجرد الخبر، فلماذا يرد عن السلف أنهم كثيرا ما يقولون: أن مثل هذا الأمر مما لا مجال للعقل فيه، أو ينهون عن إدخال العقل في بعض الأمور، ونحو ذلك؟ هذا سؤال مهم

(1) الرد على المنطقيين (ص: 371)، وانظر: منطق ابن تيمية (ص: 222) .

(2)

انظر: درء التعارض (5/297، 7/327)

ص: 264

ولذلك يخصه شيخ الإسلام بجواب مركز فيقول- عن أهل الكتاب والسنة-

" وأما ما قد يقولونه من أن العقل لا مجال له في ذلك، أو ينهون عن الكلام، أو عن ما سمي معقولات ونظرا، ونحو ذلك، فهذا له وجوه صحيحة ثابتة بالكتاب والسنة، بل وبالعقل أيضا، وبعضهم قد لا يفرق بين ما يدخل في ذلك من حق وباطل، وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة.... ولا ريب أن التقصير ظاهر على اكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك، فيقال: من الوجوه الصحيحة أن ما نطق به الكتاب وبينه، أو ثبت بالسنة الصحيحة، أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه، معقولا ونظرا أو كلاما، وبرهانا، وقياسا عقليا أصلا، بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علما كليا عاما، وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب كل كل أحد، دل يعلمه بعض الناس دون بعض، وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ما عارض النص والإجماع من هذه، وإن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 112] ، فأعداء النبيين دائما يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا".

" وكذلك من الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لا تفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة، وإن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله، وذلك أن قوى العقول متفاوتة مختلفة، ومحميرا ما يشتبه المجهول بالمعقول، فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله، وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء، والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى، ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود:119} ، وأهل الرحمة هم أهل الايمان والقرآن".

ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام: إما بخبره، وإما بخبره وتنبيهه

ص: 265