المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سادسا: بداية ظهور التحاكم إلى غير الشريعة: - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ١

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد: السلف ومنهجهم لب العقيدة

- ‌المبحث الأول: التعريف بالسلف، وأهل السنة والجماعة وأهل الحديث

- ‌المبحث الثاني: من المقصود بالسلف؟ ونشأة التسمية بأهل السنة والجماعة

- ‌المبحث الثالث: منهج السلف في العقيدة

- ‌الباب الأول: ابن تيمية والأشاعرة

- ‌الفصل الأول: حياة ابن تيمية

- ‌تقدمة

- ‌المبحث الأول: عصر ابن تيمية

- ‌أولا: الصليبيون: [

- ‌ثانيا: ظهور التتار

- ‌ثالثا: المماليك:

- ‌ نظام المماليك الإداري:

- ‌رابعا: سقوط الخلافة العباسية في بغداد وإحياؤها في القاهرة:

- ‌خامسا: الباطنية والرافضة:

- ‌سادسا: بداية ظهور التحاكم إلى غير الشريعة:

- ‌سابعا: الجوانب العلمية والعقائدية:

- ‌المبحث الثاني: حياة ابن تيمية وآثاره

- ‌أولا: اسمه ونسبه ومولده:

- ‌ثانيا: حياته الأولى:

- ‌ثالثا: شيوخه:

- ‌رابعا: هل كان مقلدا لشيوخه

- ‌خامسا: جهاده وربطه بالعمل:

- ‌سادسا: مكانته ومنزلته:

- ‌سابعا: محنه وسجنه:

- ‌ثامنا: تلاميذه والمتأثرون به:

- ‌تاسعا: مؤلفاته ورسائله:

- ‌1- العقيدة الحموية:

- ‌2- جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوى الحموية:

- ‌3- نقض أساس التقديس:

- ‌4- درء تعارض العقل والنقل:

- ‌5- القاعدة المراكشية:

- ‌6- الرسالة التدمرية:

- ‌7- شرح الأصفهانية:

- ‌8- المناظرة حول الواسطية:

- ‌9- الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات:

- ‌10- التسعينية:

- ‌11- النبوات:

- ‌12- الإيمان:

- ‌13- شرح أول المحصل للرازي:

- ‌14- مسائل من الأربعين للرازي:

- ‌عاشرا: عبادته وتوكله وذكره لربه:

- ‌حادي عشر: وفاته:

- ‌الفصل الثاني: منهج ابن تيمية في تقرير عقيدة السلف وفي رده على الخصوم

- ‌تمهيد

- ‌أولا: مقدمات في المنهج

- ‌ثانيا: منهجه في المعرفة والاستدلال:

- ‌ نقض أصول ومناهج الاستدلال الفلسفية والكلامية

- ‌ المنهج الصحيح للمعرفة والاستدلال

- ‌ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها:

- ‌أ- منهجه في العقيدة عموما:

- ‌ب- منهجه في الأسماء والصفات:

- ‌رابعا: منهجه في الرد على الخصوم:

- ‌ا: بيان حال الخصوم

- ‌خامسا: الأمانة العلمية:

- ‌الفصل الثالث: أبو الحسن الأشعري

- ‌أولا: عصر الأشعري:

- ‌ثانيا: نسبه ومولده ووفاته:

- ‌ثالثا: ثناء العلماء عليه:

- ‌رابعا: شيوخه:

- ‌خامسا: تلاميذه:

- ‌سادسا: مؤلفاته:

- ‌1- مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين:

- ‌2- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع:

- ‌3- رسالته إلى أهل الثغر:

- ‌4- الإبانة عن أصول الديانة:

- ‌5- رسالة استحسان الخوض في علم الكلام:

- ‌6- رسالة في الايمان

- ‌7- العمد في الرؤية:

- ‌8- كتاب تفسير القرآن:

- ‌سابعا: أطوار حياته العقدية:

- ‌أ- طور الأشعري الأول (مرحلة الاعتزال) :

- ‌ب- رجوعه عن الاعتزال وأسبابه:

- ‌ج- مذهب الأشعري بعد رجوعه [

- ‌ثامنا: عقيدته:

- ‌الفصل الرابع: نشأة الأشعرية وعقيدتهم

- ‌المبحث الأول: أسلاف الأشعرية "الكلابية" وموقف السلف منهم

- ‌أولا: ابن كلاب:

- ‌ثانيا: الحارث المحاسبي:

- ‌ثالثا: أبو العباس القلانسي:

- ‌موقف السلف من الكلابية:

الفصل: ‌سادسا: بداية ظهور التحاكم إلى غير الشريعة:

وفي عام 706 هـ صدر أمر برفع أيدي الرافضة عن كسروان وإقطاعها للأمراء التركمان (1) .

‌سادسا: بداية ظهور التحاكم إلى غير الشريعة:

هذه مسألة من المسائل المهمة التي تميز بها هذا العصر عن العصور التي سبقته، فقد عاش المسلمون منذ بدء الإسلام وانتشاره في البلاد التي فتحوها لا يعرفون نظاما وحكما إلا ما جاءت به شريعة الاسلام، ولا يعني هذا أن الظلم والجور لم يقع، ولا أن سفك الدماء وأخذ الأموال بالباطل لم يوجد، بل حدث من جور بعض السلاطين في العهد الأموي والعباسي وغيرهما- كما وجد من ظلم الولاة وغيرهم ممن قد تكون له سلطة- الشىء الكثير، بل وجد من الفتن والمحن التي أحاطت ببعض المسلمين أو ببعض أمصارهم ما هو مسطور في كتب التاريخ التى ألفها مؤرخون مسلمون، ولكن مع هذا كله كانت هذه المخالفات تقع وترتكب على أنها أمور مخالفة للإسلام أملاها الهوى أو الانتقام أو غير ذلك من الأسباب، ولذلك إذا تولى الحاكم أو السلطان العادل رد هذه المظا لم وانتصر لأصحابها بما يوافق شريعة الإسلام، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن جاروا أو ظلموا، وهذا فيه إقرار أن الظلم والجور قد يقع ولكنه لا يجوز أن يكون مبررا للخروج عليهم وخلع الطاعة ما لم يصل إلى الكفر البواح، أما أن يوجد نظام أو قانون- مخالف للشريعة- ويكون بوسع هذه الطائفة أو الدولة أن تتحاكم إليه مع انتسابها للإسلام فهذا لم يحدث إلا في هذا العصر الذي نتحدث عنه، وإذا وجد من الدول من حكم بعض بلاد المسلمين وفرض عقائد وسن شرائع مخالفة للاسلام وفرضها عليهم، فهؤلاء خارجون عن الإسلام، وذلك كالدولة الفاطمية التي قال عنها ابن تيمية:

(1) = والنصارى وأن كل طائفة ممتنعة يجب قتالها

قال: " وليس هذا مختصا بغالية الرافضة، بل من غلا في أحد من المشايخ وقال: إنه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة

وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين ".

(1)

انظر: تاريخ بيروت (ص: 29) ، والسلوك (2/16) .

ص: 125

" فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنة على غير شريعة الإسلام، وكانوا يظهرون أنهم رافضة، وهم في الباطن إساعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية، كما قال فيهم الغزالي-رحمه الله تعالى-- في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم " ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض ". واتفق طوائف المسلمين: علماؤهم وملوكهم وعامتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام، وأن قتالهم كان جائزا، بل نصوا على أن نسبهم كان باطلا.... والذين يوجدون في بلاد الإسلام من الاسماعيلية والنصيرية والدرزية وأمثالهم من أتباعهم، وهم الذين أعانوا التتر على قتال المسلمين (1) ، وكان وزير هو! والنصير الطوسى من أئمتهم "(2) .

وهذا الذي استجد في هذا العصر جاء مع ظهور التتار وهجومهم على العالم الإسلامى. وهؤلاء التتار كان يحكمهم نظام وقانون وضعه لهم زعيمهم جنكيزخان يسمى بالياسا، أو الياسق، وهذا القانون كانوا يطبقونه بحذافيره، وصارت له عندهم قداسة، وفي هجومهم على المسلمين حملوه معهم وطبقوه.

وكلمة " ياسا" وقد يقال: ياسه، أو يساق أو يسق (3) ، كلمة مغولية [تركية] تعني قانون التتار الذى وضعه زعيمهم، يقول المقريزى- في أثناء ذكره لمهمات "الحجاب "- حجاب السلاطين- في عهده: وأن متوليها مهمته أن ينصف من الأمراء والجند، تارة بنفسه، وتارة بمشاورة السلطان، وتارة بمشاورة النائب،

(1) من العجيب- وابن تيمية يشير إلى تعاون الرافضة مع التتر- أن من نصوص قانون التتار الياسق الذي ذكرهـ أو بعضهـ المقريزي في خططه نصا يأمر بتمييز ولد علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وأن لا يكون عليهم كلفة ولا مؤنة: يقول: " وشرط أن لا يكون على أحد من ولد علي ابن أبي طالب- رضى الله عنهـ مؤنة ولا كلفة ". الخطط (2/220) .

(2)

مجموع الفتاوى (28/635-636) .

(3)

في تاج العروس (7/98) - مما استدركه في فصل الياء مع القاف- قال عن كلمة " يساق "، " كسحاب" وربما قيل يسق بحذف الألف، والأصل فيه يساغ، بالغين المعجمة، وربما خفف فحذف، وربما قلب قافا، وهي كلمة تركية يعبر بها عن وضع قانون المعاملة "، ولما كان معظم الجزاءات المنصرص عليها في نظام الياسا الاعدام صار من معاني هذه الكلمة القتل أو الموت. انظر: المغول في التاريخ (ج-1 ص: 338) .

ص: 126

وأن حكم الحاجب كان " لا يتعدى النظر في مخاصمات الأجناد واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، ولم يكن أحد من الحجاب فيما سلف يتعرض للحكم في شيء من الأمور الشرعية كتداعي الزوجين وأرباب الديون، وإنما يرجع ذلك إلى قضاة الشرع، ولقد عهدنا دائما أن الواحد من الكتاب أو الضمان ونحوهم يفر من باب الحاجب ويصير إلى باب أحد القضاة ويستجير بحكم الشرع فلا يطمع أحد بعد ذلك في أخذه من باب القاضي.... "(1)، ثم ذكر المقريزي التطور الذي حدث بعد ذلك لمهمات الحجاب فقال: " ثم تغير ما هنالك وصار الحاجب اليوم (2) اسما لعدة جماعة من الأمراء ينتصبون للحكم بين الناس

وصار الحاجب اليوم يحكم في كل جليل وحقر بين الناس سواء كان الحكم شرعيا أو سياسيا بزعمهم، وإن تعرض قاض من قضاة الشرع لأخذ غريم من باب الحاجب لم يمكن من ذلك " (3) ، ثم قال: " وكانت أحكام الحجاب أولا يقال لها حكم السياسة وهي لفظة شيطانية لا يعرف اكثر أهل زمننا اليوم أصلها، ويتساهلون في التلفظ بها، ويقولون: هذا الأمر مما لا يمشي في الأحكام الشرعية وإنما هو من حكم السياسة ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " (4) ، ثم ذكر المقريزي معنى " الشرع " ومعنى " السياسة " في اللغة، وأن السياسة نوعان: سياسة عادلة وهي السياسة الشرعية وقد ضنف فيها كتب متعددة، وسياسة ظالمة، وأن الشريعة تحرمها.

ثم عرض لأصل هذه الكلمة وغلط الذين يظنون أن أصلها كلمة عربية فقال: " وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا، وإنما هي كلمة فعلية أصلها ياسة، فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سينا فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلا ما قلت لك واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت

(1) 1 لخطط (2/219) .

(2)

توفي المقريزي: تقى الدين أبو العباس أحمد بن على سنة845، وكان مولده سنة 766 هـ، انظر: اللامع (2/ 1 2) ، والبدر الطالع (1/79) ، والأعلام (1/77) .

(3)

1 لخطط (219-220) .

(4)

المصدر السابق (ص: 220) .

ص: 127

بمصر والشام وذلك أن جنكزخان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق لما غلب الملك أونك خان، وصارت له دولة قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه ياسة، ومن الناس من يسميه يسق، والأصل في اسمه ياسة، ولما تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده حتى قطع الله دابرهم، وكان جنكزخان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره، فصار الياسة حكما بتا بقى في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه" (1) . وقد نقل القلقشندى (2) عن علاء الدين الجويني (3) - الذى كان أحد خواص كتبة أرغون زعيم التتار وكان هجوم هولاكو على بغداد في عهدهـ أنه قال:" ومن عادة بني جنكزخان؛ أن كل من انتحل منهم مذهبا لم ينكره الآخر عليه "(4)، ثم ذكر القلقشندي الياسة فقال:" ثم الذي كان عليه جنكزخان في التدين وجرى عليه أعقابه بعده الجرى على منهاج ياسة التي قررها، وهي قوانين ضمنها من عقله وقررها من ذهنه، رتب فيها أحكاما وحدد فيها حدودا ربما وافق القليل منها الشريعة المحمدية وأكثرها مخالف لذلك سماها الياسة الكبرى، وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزانته تتوارث عنه في أعقابه وأن يتعلمها صغار أهل بيته "(5) ،

ويقول ابن كثير " وأما كتابه الياسة فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم "(6) .

(1) الخطط (2/320) .

(2)

أحمد بن علي بن أحمد الفزاري ولد سنة 756 هـ، وتوفي سنة 1 82 هـ، الضوء اللامع (2/ 8) ، والأعلام (1/ 177) .

(3)

هو: علاء الدين عطا ملك الجويني، اشتغل هو وأبوه في خدمة المغول، ولد سنة 623 هـ، وتوفي سنة 686 هـ. دولة الاسماعيلية في إيران (ص: 127-138) ، والجوينى أحد الذين أرخوا للمغول، وعليه وعلى المؤرخ الآخر رشيد الدين، إعتمد كثير من المؤرخين في تاريخهم للمغرل، ومنهم ابن كثير في ترجمته لجنكزخان البداية والنهاية (13/117) .

(4)

صبح الأعشى (4/310) .

(5)

المصدر السابق (4/310- 311) ..

(6)

البداية والنهاية (13/118) .

ص: 128

ومن نصوص هذا الياسة: " أن من زنى قتل- ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن- ومن لاط قتل، ومن تعمد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد، أو دخل بين اثنين وما يتخاصمان وأعان أحدهما على الآخر قتل، ومن بال في الماء أو على الرماد قتل، ومن أعطى بضاعة فخسر فيها فإنه يقتل بعد الثالثة، ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قتل.... وأن من ذبح حيوانا كذبيحة المسلمين ذبح.... وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى

وألزمهم أن لا يدخل أحد منهم يده في الماء ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى، ومنع أن يقال لشيء: إنه نجس، وقال جميع الأشياء طاهرة ولم يفرق بين طاهر ونجس وألزمهم أن لا يتعصبوا لشيء من المذاهب، (1) ومما يلفت الانتباه أن من ضمن هذا القانون أن السلطان ألزم بإقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة (2) .

هذا هو نظام الياسة الذى وضعه زعيم التتار و" لما مات التزم من بعده من أولاده، وأتباعهم حكم الياسة كالتزام أول المسلمين حكم القرآن، وجعلوا ذلك دينا لم يعرف عن أحد منهم مخالفته بوجه "(3) .

هذه أحوال التتار وأنظمتهم لما هاجموا العالم الاسلامي، ولكن حدث لهم تطور- أشرنا إليه عند الحديث عنهم-، وذلك بدخولهم في الإسلام، وإعلان زعيمهم قازان الإسلام، ودخل كثير من التتار الإسلام. ولكن صاحب إسلام هؤلاء التتر عدة أمور- مخالفة لما يجب أن يكون عليه المسلم- ومنها:

أ- مهاحمتهم لبلاد المسلمين ف! الشام وغيره، ومقاتلتهم ونهب أموالهم وغير ذلك من الفساد.

(1) الخطط (2/220-221) .

(2)

المصدر السابق، والملاحظ أيضا أنه في آخر العهد العباسى ألغى نظام البريد فكان ذلك من العوامل التي ساعدت على ضعف مقاومة المسلمين للتتار.

(3)

المصدر السابق (2/ 221) .

ص: 129

ب- تعظيم نظامهم الياسق، وتنفيذ بعض بنوده ولو كانت مخالفة للشريعة االإسلامية.

ج-- تعطل بعض شرائع الإسلام، مثل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والكف عن دماء المسلمين، وضرب الجزية على اليهود والنصارى، وغير ذلك.

د- إقرار المنكرات، مثل أماكن الخمور والزنا، والسماح للنصارى بتعليق الصلبان، كما حدث في بيت المقدس والخليل زمن التتار.

ولكنهم مع هذا يعلنون إسلامهم وإقرارهم بالشهادتين، بل ويزعم قازان في رسائله إلى السلطان الناصر قلاوون أنهم كلهم أهل ملة واحدة، شرفهم الله بدين الإسلام وأنه دافع عن أهل ماردين الذين هاجمهم بعض جنود المماليك، وأنه إنما يقاتلهم لما أخذته الحمية الإسلامية، وفي مرسوم آخر أصدره لما احتل دمشق يتهم فيه حكام مصر والشام بأنهم خارجون عن طريق الدين، غير متمسكين بأحكام الإسلام (1) .

أمام هذه الأوضاع والدعاوي، ومع نشوب الحرب بين أهل الشام والتتار وقع الناس في حيرة من هذه المسألة، كيف يقاتلون التتر وهم يدعون الإسلام، ويعلنون الشهادتين؟، ولم تقتصر هذه الحيرة على عامة الناس، بل إن العلماء والفقهاء أيضا وقعوا في حيرة، واحتاج الأمر إلى وضوح الحكم في هذه المسألة الواقعية، وبيان الحق فيها، حتى يسير الناس وهم على الهدى، فكان ممن انتدب، وندب نفسه لبيانها شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى-- وجاء ذلك على محورين:

محور علمي: يبين حكم هؤلاء التتار، وقد وردت عدة أسئلة وجهت إلى ابن تيمية حول هؤلاء الذين يعلنون الشهادتين، ويقتلون المسلمين، ويسبون بعض ذراري المسلمين ويهتكون حرمات الدين من إذلال المسلمين، وإهانة المساجد لاسيما بيت المقدس.... وادعوا مع ذلك تحريم قتال مقاتلهم

(1) انظر: نصوص رسائل قازان إلى الناصر قلاوون وأجوبته عليها في وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي (ص: 383-3 5 4) .

ص: 130

لما زعموا من اتباع أصل الإسلام فهل يجوز قتالهم؟ وفي سؤال آخر إضافة إلى ما سبق: وما حكم من يكون من عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف ونحو ذلك؟ ومايقال فيمن زعم أنهم مسلمون، والمقاتلون لهم مسلمون، وكلاهما ظا لم فلا يقاتل مع أحدهما.... أفتونا في ذلك بأجوبة مبسوطة شافية، فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين، بل على أكثرهم، تارة لعدم العلم بأحوالهم، وتارة لعدم العلم بحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في مثلهم، وفي سؤال آخر: سئل عن أجناد يمتنعون عن قتال التتار، ويقولون: إن فيهم من يخرج مكرها معهم، وإذا هرب أحدهم هل يتبع أم لا؟ وفي سؤال سئل عن أموالهم هل أخذها حلال أو حرام؟.

وقد أجاب ابن تيمية عن هذه الأسئلة بأجوبة واضحة كل الوضوح، وبناها على قاعدة في الفتوى عزيزة، لازمة لكل من يتصدى للفتوى- خاصة في المسائل المستجدة- فقال في أحد الأجوبة: " نعم، يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين، وهذا مبني على أصلين:

أحدهما: المعرفة بحالهم.

والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم.

فأما الأول: فكل من باشر القوم يعلم حالهم، ومن لم يباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين، ونحن نذكر جل أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذي يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية فنقول: كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت في الشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة،

ص: 131

وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا البدع الخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها: مثل أن يظهروا الالحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأحماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التى توجب الخروج عن شريعة الإسلام، وأمثال هذه الأمور.... " (1) ، ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة مع المرتدين والخوارج وغيرهم، ثم قال: " وأما الأصل الآخر وهو معرفة أحوالهم [أي التتار] فقد علم أن هؤلاء القوم جازوا على الشام في المرة الأولى عام تسعة وتسعين [بعد الستمائة] وأعطوا الناس الأمان وقرأوه على المنبر بدمشق، ومع هذا فقد سبوا من ذراري المسلمين ما يقال: إنه مئة ألف أو يزيد عليه وفعلوا ببيت المقدس وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله، حتى يقال: إنهم سبوا من المسلمين قريبا من مئة ألف، وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين في المساجد وغيرها، كالمسجد الأقصى والأموي وغيره، وجعلوا الجامع الذي العقبه دكا؛ وقد شاهدنا عسكر القوم، فرأينا جمهورهم لا يصلون ولم نر في معسكرهم مؤذنا ولا إماما، وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله.... وهم يقاتلون على ملك جنكزخان، فمن دخل في طاعتهم جعلوه ولما لهم، وإن كان كافرا، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وإن كان من خيار المسلمين، ولا يقاتلون على الاسلام ولا يضعون الجزية والصغار " (2) ،

ثم بين كيف أنهم يعظمون جنكزخان ويقرنونه بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويقدسون تعاليمه، ثم قال: " ومعلوم بالاضطرار من دين الاسلام باتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام،

(1) مجموع الفتاوى (28/510- 511) .

(2)

مجموع الفتاوى (28/519- 521) ..

ص: 132

أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من أمر ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب " (1) ، ثم تحدث عن وزرائهم، وإظهارهم الرفض، ثم أجاب عن بقية التساؤلات والشبهات (2) .

هذا هو المحور الأول، أما المحور الثاني فهو: المحور العملي، وذلك بالحض على جهاد هؤلاء التتار وإعلان جهادهم، حتى انه ذهب من الشام إلى مصر ليلتقى بالسلطان ومن حوله من الأمراء والوزراء ليحضهم على جهادهم، وجمع الجيوش لقتالهم، وكان لابن تيمية في هذا الجهاد والإعداد له، وقيادة بعض فصائله ما هو مشهور ومسطور وقد أشار إلى هذه المسألة- مسألة شبهة مقاتلة التتار مع ادعائهم الاسلام- ابن كثير-رحمه الله وهو يعرض لبعض وقائعهم، فقال عن وقعة " شقحب ":" وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه "، فقال الشيخ تقي الدين [ابن تيمية] :" هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصى والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسى مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد "(3) ، وابن كثير يقول لما ذكر الياسة وبعض أحكامه، " وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحام إلى الياسة وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإحماع المسلمين "(4)

وقال في تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]

(1) المصدر السابق (28/524) .

(2)

انظر: مجمرع الفتاوى (ج- 28، ص: 1 50-553، وص: 589) .

(3)

البداية والنهاية (14/23-24) .

(4)

البداية والنهاية (13/119) ..

ص: 133

"ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة من ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير "(1) .

وهكذا أوضح ابن تيمية وتلامذته من بعده حكم هذه المسألة، وكان الجواب حاسما في بيان الحكم، وقويا في جهاد هؤلاء التتار وإبعاد خطرهم عن المسلمين.

* * *

وهناك أمر آخر - له علاقة بهذا الموضوع - وجد في عهد المماليك، ألا وهو إعطاء الامتيازات للأجانب - من النصارى وغيرهم - داخل الدولة الإسلامية، وكان الباعث على ذلك حرص المماليك على تنشيط التجارة، وكانت التجارة أكثر ما تكون في ذلك الوقت مع الهند وما جاورها، ومع أوربا، وبالأخص الأندلس وإيطاليا، وقد حرص المماليك على أن رد التجار ببضائعهم المختلفة وتجاراتهم إلى دولة المماليك، فقد أصدر المنصور قلاوون بيانا يعلن فيه - بعد مدح ممالك مصر والشام- حسن معاملة من يرد من التجار غير المسلمين والوفاء بالعهود لهم، كا أوصى بإعادة النظر فى ثغر الإسكندرية وأن يحرص الناظر

(1) تفسير ابن كثير (3/122-123) ، ط الشعب، وانظر: عمدة التفسير لأحمد شاكر (4/173) ، وتعليقه على هذا الموضوع.

ص: 134