الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأشعرية الذين أتبعوهـ ساروا على مذهب السلف واتبعوا منهجهم في كثير من المسائل، وقد وقفوا مع أئمة السلف في الرد على سائر الطوائف في هذه المسائل، ولا شك أن تأثرهم بأئمة أهل السنة وانتسابهم اليهم مشهور لا يحتاج إلى أدلة. أما الكلابية فهم أسلاف الأشعرية حقا، وقد اندمجوا فيهم حتي وصل الأمر- بعد انتشار مذهب الأشعرية- الى أن يطلق اسم الطائفتين على الأخرى، وإن كان الغلب في التسمية للأشعرية، ولما كانت نشأة الأشعرية ترتبط كثيرا بنشأة الكلابية كان لابد من الحديث عن أهم أعلام هذه الطائفة وأهم أقوالهم وآرائهم، أما المعتزلة والجهمية وأهل السنة فأقوالهم وآراؤهم معروفة وقد كتب عنها الكثير، ومن أهم أعلام الكلابية: ابن كلاب، والمحاسبي، والقلانسي.
أولا: ابن كلاب:
هو عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان البصرى، أبو محمد (1)، ويقال: " عبد الله بن محمد (2) ، والأول أشهر، ويلقب كلابا- مثل خطاف- وزنا ومعنى، لأنه كان لقوته في المناظرة يجتذب من يناظره ويجره إليه كما يجتذب الكلاب الشيء (3) .
(1) هكذا ترجمه الذهبي في السير (11/174) ، وابن حجر في اللسان (3/290) ، وابن قاضي شهبة في الطبقات (1/33)، وكذلك سماه الأشعري في المقالات: عبد الله بن سعيد، انظر:(ص:298) .
(2)
هكذا سماه ابن النديم في الفهرست (ص: 230) - ط- طهران، وذكر القولين السبكي في الطبقات (2/299)، كما ترجمه الصفدى مرتين: مرة باسم عبد الله بن سعيد، الوافي (17/197) ، ومرة باسم عبد الله بن محمد (17/492) .
(3)
انظر: السير للذهبي (1/174) ، والطبقات للسبكي (2/299) ، واللسان لابن حجر (3/291) .
ومما يلاحظ هنا أنه يقال له ابن كلاب وليس كلابا، مما يدل عل أن هذا اللقب ليس له وإنما لأبيه أو أحد أجداده، وهذا يجعل التحليل الذى ذكروه محل نظر.
قال عنه الذهبي:"رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه"(1) ، وذكر ابن النديم أنه كانت له مع عباد بن سليمان- المعتزلي- مناظرات (2)، ونقل السبكي عن والد الفخر الرازي (3) ؛ أنه قال في آخر كتابه " غاية المرام في علم الكلام":"ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبد الله بن سعيد التميمي، الذي دمر المعتزلة في مجلس المأمون، وفضحهم ببيانه، وهو أخو يحيى بن سعيد القطان، وارث علم الحديث وصاحب الجرح والتعديل"(4)، قال السبكي معلقا:"وكشفت عن يحيى بن سعيد القطان هل له أخ اسمه عبد الله؟ فلم أتحقق إلى الآن شيئا، وإن تحققت شيئا ألحقته إن شاء الله "(5) ، والصواب أنه ليس أخا له كما حققه ابن حجر (6) والزبيدي (7) .
ولمناقشات ابن كلاب للمعتزلة ومخالفته لهم فقد اتهم بأنه ابتدع أقواله ليدس دين النصارى في ملة المسلمين، وأنه أرضي أخته النصرانية بذلك لما اعترضت على اسلامه، وقد فند هذا القول وكذبه شيخ الإسلام ابن تيمية (8) ، والذهبي (9) .
(1) السير (11/174) .
(2)
انظر: الفهرست (ص: 230) .
(3)
هو: عمر بن حسين بن الحسن الرازى، الشافعي، ضياء الدين، أبو القاسم، خطيب الري من آثاره هذا الكتاب "غاية المرام" الذي مدحه السبكي كثيرا، ذكر في هدية العارفين أنه توفي سنة 559 هـ، انظر: طبقات السبكي (7/242)، وهدية العارفين (ص:784) ، ومعجم المؤلفين (7/282) .
(4)
طبقات السبكي (2/300)، وهذا النص بتمامه في أصول الدين للبغدادى (ص: 309) ، ولعل والد الفخر الرازي نقله عنه، لأن البغدادي توفي سنة 429.
(5)
طبقات السبكي (2/300) .
(6)
في لسان الميزان (3/291) .
(7)
في تاج العروس مادة " كلب"، وفي إتحاف السادة المتقين (2/6) .
(8)
في منهاج السنة (2/397) ، ت رشاد سالم- ط الأولى-، ودرء التعارض (6/155) ، ومجموع الفتاوى (5/555،8/115) .
(9)
السير (11/175) .
ولم تشر المصادر إلى شيوخ ابن كلاب، أما تلامذته فأشار الذهبي إلى أن ممن قيل انه أخذ عنه الكلام: داود الظاهرى، والحارث المحاسبي، ثم ذكر الذهبي أن ابن النجار ذكر لابن كلاب ترجمة لم يحررها وأنه ذكر فيها أنه كان في أيام الجنيد (1) - سيد الطائفة الصوفية- وذكر السبكي أنه وجد بخط الذهبي حاشية على تاريخ ابن النجار كتب فيها بإزاء ما ذكره من حكاية طويلة - بين ابن كلاب والجنيد- مانصه:"لا يصح؛ فإن ابن كلاب له ذكر في زمان أحمد بن حنبل، فكيف يتم له هذا مع الجنيد"(2) ، قال السبكي مؤيدا "والأمر كما قال"(3) . ومن المعلوم ان الحنيد قد توفي سنة 298 هـ، أما ولادته فقد كانت سنة نيف وعشرين ومئتين، وأما ابن كلاب فقد توفي بعد الأربعين ومئتين (4) ، وحددها صاحب هدية العارفين بسنة 241 هـ (5) ، ومن ثم فليس مستبعدا- من الناحية التاريخية- أن يلتقي به وهو في شبابه.
وقد ذكر عبد القاهر البغدادي أن من تلامذة ابن كلاب عبد العزيز المكي (6) ،
(1) انظر: السير (11/175)، والجنيد هو: الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي البغدادي القواريرى، وملقب بالخزاز، لم أطلع على من ترجم لولادته الا الذهبي في السير فإنه ذكر أنه ولد سنة نيف وعشرين، وتوفي سنة 297 هـ وقيل سنة 298 هـ وغلط الذهبي من أرخه بسنة 297 هـ. انظر: تاريخ بغداد (7/241)، وطبقات السلمي (ص: 155) ، والحلية (10/255) ، والأنساب (10/254) في نسب القواريري، وصفة الصفوة (2/416) ، ووفيات الأعيان (1/373) ، وسير أعلام النبلاء (14/66-77) وقد أدخل في ترجمته ترجمة الذي بعده.
(2)
طبقات السبكي (2/299) .
(3)
نفس المصدر والصفحة.
(4)
انظر: نفس المصدر.
(5)
(ص:440) .
(6)
ذكر ابن تيمية في درء التعارض (2/245-257) : انه لايقول بقول ابن كلاب، اسمه: عبد العزيز ابن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم بن ميمون الكناني المكي، يعتبر أحد أصحاب الشافعي، وهو صاحب الحيدة، توفي سنة 240 هـ، انظر: تاريخ بغداد (10/449) ، وميزان الاعتدال (2/639)، وطبقات الشيرازي (ص:103) ، وطبقات الأسنوي (1/41) ، وطبقات السبكي (2/144)، ومقدمة تحقيق الحيدة (ص: 9) وما بعدها.
والحسين بن الفضل البجلى (1) ، والجنيد (2)، وقد قرن الكلاعي-كما نقل عنه ابن عساكر- بين عبد العزيز المكي والحارث المحاسبي وابن كلاب في الزهد ومقاومة أهل البدع فقال بعد إشارته إلى محنة خلق القرآن وتورع أحمد ابن حنبل عن مجادلتهم- وانهم موهوا بذلك على الملوك: "وكان في ذلك الوقت من المتكلمين جماعة كعبد العزيز المكي والحارث المحاسبي وعبد الله بن كلاب وجماعة غيرهم وكانوا أولي زهد وتقشف لم ير واحد منهم أن يطأ لأهل البدع بساطا ولا أن يداخلهم، فكانوا يردون عليهم ويؤلفون الكتب في إدحاض حججهم إلى أن نشأ بعدهم وعاصر بعضهم بالبصرة أيام إسماعيل القاضي ببغداد أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري رضي الله عنه
…
" (3) وسياق هذا الكلام جاء لبيان فضائل الأشعري وأنه صار يؤلف ويقصد أهل البدع ليناظرهم (4) ،
وإلا فعبد العزيز المكي ناقش المعتزلة في مجلس المأمون وأثبت ذلك في كتابه الحيدة (5) ، وابن كلاب ذكر بعض مترجميه أنه دمر على المعتزلة في مجلس المأمون.
(1) هو: الإمام اللغوي المفسر أبو على البجلي الكوفي ثم النيسابوري توفي سنة 282 هـ، طبقات المفسرين (1/156) ، والوافي (13/27) ، وسير أعلام النبلاء (13/414) .
(2)
انظر: أصول الدين (ص:309) .
(3)
تبيين كذب المفتري (ص: 116) .
(4)
انظر: نفس المصدر والصفحة..
(5)
هناك خلاف حول نسبة كتاب الحيدة لعبد العزيز الكناني، فيرى الذهبي في ميزان الاعتدال (2/639) أنها لم تصح نسبتها اليه وتابعه السبكي في الطبقات (2/145)، أما الذين أثبتوا نسبته إليه فهم جماهير العلماء ومنهم: الخطيب في تاريخ بغداد (10/449)، وابن النديم في الفهرست (ص: 236) - ط طهران-، وابن العماد في الشذرات (2/95) ، والفاسي في العقد الثمين (5/466-467) ، وابن حجر في التهذيب (6/363) ، وفي التقريب (2/513) ، وابن تيمية في درء التعارض (2/245) ، ومابعدها حيث نقل منه نصوصا، وأيضا (6/115) ، بل والذهبي في دول الإسلام (1/146) حيث قال عنه "صاحب كتاب الحيدة،، وأشار ابن الجوزي في المنتظم (8/81) الى أنه في عهد القادر بالله سنة 420 هـ اجتمع العلماء والقضاة وكان مما قرأوه المناظرة التي جرت بين الكناني والمريسي، وانظر: مقدمة تحقيق الحيدة: جميل صليبا (ص: 7 ا-23) .
أما مؤلفات ابن كلاب فقد ذكر له صاحب الفهرست: كتاب الصفات، وكتاب خلق الأفعال، وكتاب الرد على المعتزلة (1) ، أما صاحب هدية العارفين فقد ذكر له كتاب الرد على الحشوية، ولم يذكر الرد على المعتزلة (2) .
وقد تقدم أن وفاة ابن كلاب كانت بعد سنة 240 هـ وحددها البعض بسنة 241 هـ.
- أهم أقوال ابن كلاب:
لم يصل الينا شيء مما ذكر من مؤلفات ابن كلاب، ولذلك فالاعتماد في بيان آرائه وأقواله إنما يكون بواسطة الناقلين عنه أو عن بعض كتبه، وأهم مصدر لذلك ماكتبه الأشعري في المقالات، والنتف التي نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض كتبه.
وقد سبق- في الفصل الماضي- عند الحديث عن الأشعري ذكر أهم آراء ابن كلاب بإجمال، ويمكن تفصيل ذلك فيما يلي:
أ- قوله في الأسماء والصفات:
يثبت ابن كلاب الأسماء والصفات لله تعالى، يقول الأشعري: " قال عبد الله ابن كلاب: لم يزل الله تعالى عالما قادرا، حيا، سميعا، بصيرا، عزيزا، عظيما، جليلا، متكبرا، جبار ا، كريما، جوا د ا، وا حدا، صمد ا، فرد ا، باقيا، أولا، ربا، الها، مريدا، كارها، راضيا عمن علم أنه يموت مؤمنا وإن كان أكثر عمره كافرا، ساخطا على من علم أنه يموت كافرا وإن كان أكثر عمره مؤمنا، محبا، مبغضا، مواليا، معاديا، قائلا، متكلما، رحما نا، بعلم وقدرة وحياة وسمع وبصر وعزة وعظمة وجلال، وكبرياء، وجود، وكرم، وبقاء، وإرادة وكراهة، ورضي وسخط، وحب وبغض، وموالاة ومعاداة، وقول
(1) انظر: الفهرست (ص: 230) ، والسير (11/ 176) ، والوافي (17/ 492) .
(2)
انظر: هدية العارفين (ص:440) .
وكلام، ورحمة، وأنه قديم لم يزل بأسمائه وصفاته، وكان يقول: معنى أن الله عالم أن له علما، ومعني أنه قادر أن له قدرة، ومعنى أنه حي أن له حياة، وكذلك القول في سائر أسمائه وصفاته" (1) .
كما يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين وقال: " أطلق اليد والعين والوجه خبرا، لأن الله أطلق ذلك، ولا أطلق غيره، فأقول: هي صفات لله عز وجل كما قال في العلم والقدرة والحياة أنها صفات"(2) .
كما يثبت لله صفة الاستواء والعلو، يقول في كتاب الصفات- في باب القول في الاستواء-:" فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعا به، يجيز السؤال بأين، ويقوله، ويستصوب قول القائل: انه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا، ويحيلون القول به، ولو كان خطأ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالانكار له، وكان ينبغي أن يقول لها (3) : لا تقولى ذلك فتوهمين أن الله عز وجل محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولى إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت، كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه وانه أصوب الأقاويل، والأمر الذى يجب الإيمان لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، فكيف يكون الحق في خلاف ذلك، والكتاب ناطق به وشاهد له؟ "(4) .
(1) المقالات للأشعري (ص: 169) - ط ريتر-.
(2)
نفس المصدر (ص: 217-218)، وانظر:(ص: 522) ، أما" الأصابع ففي طبقات الحنابلة (2/133) اشارة الى أنه يؤولها".
(3)
الإشارة الى حديث الجارية التي سألها الرسول صلى الله عليه وسلم أين الله؟ قالت في السماء، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة، رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ورقمه (537) ، كما رواه غيره.
(4)
درء التعارض (6/193-194) ، وقد نقله عن ابن فورك.
وقال ابن كلاب:" ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة الا ماذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنيه الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك مالا شيء أبين منه ولا أوكد؟ لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه، عربيا ولا عجميا، ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إن كان لا يفصح، لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان كما يقولون، وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم وحده وخمسون رجلا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن"(1) .
ورد ابن كلاب على من يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فقال:" وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا في العالم ولا خارج منه، فنفاه نفيا مستويا، لأنه لو قيل له: صفه بالعدم ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، ورد أخبار الله نصا، وقال في ذلك مالا يجوز في خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص. والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسون "(2) .
وقال مجيبا على شبهتهم: " فإن قالوا: هذا إفصاح منكم بخلو الأماكن منه، وانفراد العرش به، قيل: إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره وأنه عالم بها فلا، وإن كنتم تذهبون الى خلوها من استوائه عليها كما استوى على العرش فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله على العرش، ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض، واستوى على الجدار، وفي صدر البيت"(3) .
(1) درء التعارض (6/194) .
(2)
المصدر السابق (6/119) .
(3)
نفس المصدر (6/119-. 12) ، ويرى ابن كلاب ان استواء الله كونه فوق العرش بلا مماسة، انظر: أصول الدين (ص: 113) .
كما يذكر مناقشات أخرى لنفاة العلو (1) .
ب- صفات الفعل:
مع أن ابن كلاب يثبت الأسماء والصفات كما سبق الا أنه ينفي منها ما يتعلق بمشيئة الله وإرادته، بناء على نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، وهو بهذا قد وافق المعتزلة على هذا الأصل المقرر عندهم المبني على دليل حدوث الأجسام وهو أن من قامت به الحوادث لا يخلو منها، فنفوا جميع الصفات عن الله تعالى بناء على ذلك، أما ابن كلاب فقد خالفهم فأثبت لله الصفات الذاتية والمعنوية وجعلها أزلية (2) ، ونفي الصفات الاختيارية لموافقته لهم على هذا الأصل، ويمكن عرض مذهبه وبيان الأدلة على أنه يقول بهذا الأصل، من خلال ما يلي:
1-
قوله بأزلية الصفات كلها دون أن يفرق بين صفات الذات وصفات الفعل، فيجعل صفات الرضي والسخط والمحبة والكرم والجود أزلية كالسمع والبصر والحياة، حتى لا يفهم منها ما يدل على الصفات الاختيارية له تعالى (3) .
2-
قوله بالموافاة: وأنه اللة لم يزل راضيا عمن يعلم أنه يموت مؤمنا، وإن كان أكثر عمره كافرا، ساخطا على من يعلم أنه يموت كافرا وإن كان أكثر عمره مؤمنا (4)، ومعنى ذلك أن الله لا يرضي عن المؤمن- الذى كان كافرا- بعد سخطه عليه لئلا يقال: إن الله حدث له أمر لم يكن موجودا من قبل.
3-
انه حين أثبت العلو والاستواء ربطهما بما يدل على أنه يقول بنفي
(1) انظر: أصول الدين (6/120) ومابعدها.
(2)
المعتزلة جعلوا الصفات كلها أعراضا ونفوها، أما ابن كلاب فلم يسمها أعراضا وأثبتها أزلية لله، انظر: مجموع الفتاوي (6/36) .
(3)
انظر: المقالات (ص: 169، 546، 584) .
(4)
نفس المصدر (ص: 298،547)، وانظر: المجرد لابن فورك (ص: 45) .
صفات الفعل لله تعالى كما يشاء، يقول الأشعري عن ابن كلاب:"وكان ويزعم أن الباري لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق، وأنه على مالم يزل، وأنه مستو على عرشه كما قال، وأنه فوق كل شيء تعالى"(1) ، ولو أخذت العبارات الأولى لتوهم أن ابن كلاب ينفي العلو والاستواء لنفيه الزمان والمكان قبل الخلق وانه بعد الخلق على مالم يزل، لكن إثباته للإستواء والعلو ففي هذا التوهم، ولكن من مجموع الكلام يتضح مذهبه في نفي أن تكون لله صفة اختيارية.
4-
نفيه لبعض صفات الفعل أن تكون من هذا النوع، يقول الأشعري:"وقال ابن كلاب: الوصف لله بأنه كريم ليس من صفات الفعل"(2) ، ولا شك أن الله كريم أزلا، لكن أيضا يتكرم على عباده بما يشاء كما يشاء متى شاء فهو أيضا صفة فعل.
5-
جعله ولاية الله وعداوته ورضاه وسخطه من صفات الذات لا من صفات الفعل (3)، وهذا معنى قوله: إنها أزلية.
6-
قوله في مسألة الكلام، وجعله مثل صفة العلم والقدرة، يقول الأشعري:" وقال ابن كلاب: ان الله لم يزل متكلما، والكلام من صفات النفس كالعلم والقدرة"(4)، ويقول:"إن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به"(5) .
ومن خلال الأدلة والنقول السابقة عن ابن كلاب يتبين أن ابن كلاب- مع مخالفته للمعتزلة- قد التزم هذا الأصل وقال به، وهذا ما لم يمار فيه أحد من الباحثين (6) .
(1) المقالات (ص:298- 299) .
(2)
نفس المصدر (ص: 179) .
(3)
نفسه (ص: 582) .
(4)
نفسه (ص:517) .
(5)
نفسه (ص: 584) .
(6)
انظر: نشأة الفكر الفلسفي للنشار (1/217)، ونشأة الأشعرية وتطورها (ص:42) وما بعدها، ورسالة: الكلابية وأثرها في المدرسة الأشعرية (ص: 87) - ط على الآلة الكاتبة-.
هذه أهم مسألة تميز بها مذهب ابن كلاب، وقد تلقاها عنه تلاميذه كما تلقاها بعد ذلك الأشاعرة وصارت جزءا من مذهبهم، وقد كانت من أهم الأسباب في موقف علماء السلف من الكلابية ورميهم بالابتداع والأمر بهجرهم، كما كانت أيضا من أهم الأسباب في عدم قبول مذهب الأشعرية والطعن فيه من جانب علماء السلف.
ج- قوله في الكلام والقرآن:
بنى ابن كلاب قوله على الكلام والقرآن فى نفي الصفات الاختيارية لئلا يقال: إن الله تعالى تحل فيه الحوادث، لذلك قال بأزلية الكلام وأنه قائم بالله كالعلم والقدرة، وأنه ليس بحروف ولا أصوات ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وأنه معنى واحد، وأن القرآن الذى يتلى هو حكاية عن كلام الله مع قوله: إن القرآن غير مخلوق، يقول الأشعري مفصلا مذهبه في ذلك: "قال عبد الله بن كلاب: إن الله سبحانه لم يزل متكلما، وأن كلام الله سبحانه صفة له قائمة به، وأنه قديم بكلامه، وأن كلامه قائم به، كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وأن الكلام ليس بحروف ولا صوت، ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وأنه معني واحد بالله عز وجل، وأن الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القرآن، وأنه خطأ أن يقال: كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره، وأن العبارات عن كلام الله سبحانه تختلف وتتغاير، وكلام الله سبحانه ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله عز وجل يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير، وانما سمى كلام الله سبحانه عربيا لأن الرسم الذى هو العبارة عنه (1) - وهو قراءتهـ عربي، فسمى عربيا لعلة، وكذلك سمى عبرانيا لعلة، وهي أن الرسم الذي هو
(1) المشهور أن ابن كلاب يقول عن القرآن: إنه حكاية عن كلام الله، وأن الأشعري منع من ذلك وقال: هو عبارة عن كلام الله، انظر: المجرد لابن فورك (ص: 60) ، ومجموع الفتاوي (12/272)، والتسعينية (ص: 87) ، ومختصر الصواعق (2/290) .
عبارة عنه عبراني، وكذلك سمى أمرا لعلة وسمى نهيا لعلة، وخبرا لعلة، ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي لها سمى كلامه أمرا، وكذلك القول في تسمية كلامه نهيا وخبرا، وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرا أو لم يزل ناهيا، وقال: إن الله لا يخلق شيئا إلا قال له كن، ويستحيل أن يكون قوله كن مخلوقا" (1) .
وهذا النص الطويل يوضح كيف كان مذهب ابن كلاب في هذه المسألة العظيمة- مسألة كلام الله والقرآن- منحرفا عن مذهب السلف، وكيف تأثر به الأشعرية فيما بعد، مع ملاحظة الفرق بينه وبينهم في هذه المسألة فإنه قال هنا: " ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمي كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي لها سمي كلامه أمرا
…
الخ، فهو يقول: إن كلام الله لا يتصف بالأمر والنهي والخبر في الأزل، وان هذه الأمور حادثة مع قدم الكلام، أما الأشعرية فيقولون بأزلية الكلام النفسي وكذلك وصفه بكونه أمرا أو نهيا أو خبرا كل ذلك أزلى، وقد أشار السبكي الى هذه المسألة في ترجمته لابن كلاب فقال:" ثم زاد هو وأبو العباس القلانسي على سائر أهل السنة فذهبا الى أن كلامه تعالى لا يتصف بالأمر والنهي والخبر في الأزل؛ لحدوث هذه الأمور وقدم الكلام النفسي، وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال فألزمهما أئمتنا أن يكون القدر المشترك موجودا بغير واحد من خصوصياته"(2) ، ويقصد السبكي بأهل السنة الأشعرية.
وابن كلاب يقول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق (3) ويرد على المعتزلة في ذلك، لكنه ينكر أن يتكلم الله بصوت، كما يقول: إن كلام الله معني واحد قائم بذات الله تعالى، و "ان ما نسمع التالين يتلونه هو عبارة عن كلام الله عز وجل، وان موسى عليه السلام سمع الله متكلما بكلامه، وأن معنى قوله:
(1) المقالات (ص: 584- 585) .
(2)
طبقات السبكي (2/300)، وانظر: أصرل الدين للبغدادى (ص: 108)، والإرشاد للجويني (ص:119-120) ، ونهاية الإقدام (ص: 303-4 30) ، والمجرد (ص: 328) .
(3)
المقالات (ص: 298) .
{فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]- معناه: حتى يفهم كلام الله ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه حتي يسمع التالين يتلونه " (1) ، ولا شك أن إنكاره أن كلام الله بصوت، قوله إنه معنى واحد، وان القرآن عبارة عن كلام الله، كل ذلك مما أحدثه ابن كلاب وهو مخالف لمذهب السلف.
وهذه المسألة- مسألة كلام اللهـ مرتبطة بالمسألة السابقة مسألة الصفات الاختيارية وبسببهما أعلن السلف البراءة من مذهبهم هذا، وهجروهم ونسبوهم إلى الاعتزال والابتداع.
د- رأيه في أحكام الصفات:
يقصد بأحكام الصفات ما يتعلق بها من أمور كالقدم وهل الصفة هي الذات أو غيرها، وهل هي متغايرة أم لا؟:
1-
يرى ابن كلاب أنه لا ينبغي أن يقال عن صفات الله وحدها إنها قديمة، وإنما يقال: الله بصفاته قديم (2) ، وابن كلاب أراد الهرب من القول بتعدد القدماء مع الله حين يطلق على كل صفة لوحدها أنها قديمة، وهذا يبين وجه التهمة التي اتهمه بها خصومه من انه يدعو إلى النصرانية سرا، فنفاة الصفات اتهموه بذلك لإثباته الصفات لله، وهذا كذب عليه كما سبق.
2-
كما يرى أن الصفات والأسماء لا يقال هي الله ولا هي غيره وانها قائمة بالله تعالى (3) ، وهذا القول موافق لمذهب السلف لأن إطلاق أحد الأمرين يحتمل معنى باطلا، ومن ثم فلابد من الاستفصال (4) .
3-
أما مسألة كل صفة وهل هي الصفة الأخرى أو غيرها فيرى ابن كلاب "أن صفات الباري لا تتغاير، وأن العلم لا هو القدرة ولا غيرها،
(1) المقالات (ص:585) .
(2)
انظر: منهاج السنة (2/391) - ت رشاد سالم- ط الأولى.
(3)
المقالات (ص: 169 وص: 546) .
(4)
انظر: درء التعارض (2/270) .
وكذلك كل صفة من صفات الذات لاهي الصفة الأخرى ولا غيرها" (1) ، وهذا قول موهم، فابن كلاب وان قصد بهذا ماقصده في الفقرة السابقة من أن الصفات لا يقال هي الله ولا غيره حتي لا يتعدد القدماء، الا أنه بقوله: إنه لا يقال الصفة هي الأخرى ولا غيرها يقرب قليلا من أقوال النفاة الذين يرجعون صفات الله كلها إلى صفة واحدة كالعلم أو الإرادة، ولهذا لما نقل الأشعري مقالة أبي الهذيل العلاف المعتزلي في هذه المسألة قال: " وأما أبو الهذيل من المعتزلة فإنه أثبت العزة والعظمة والجلال والكبرياء، وكذلك في سائر الصفات التي يوصف بها لنفسه وقال: هي الباريء، كما قال في العلم والقدرة، فإذا قيل له: العلم هو القدرة؟ قال: خطأ أن يقال هو القدرة، وخطأ أن يقال هو غير القدرة، وهذا نحو ما أنكر من قول عبد الله بن كلاب" (2) . والشاهد من هذا عبارة الأشعري الأخيرة.
هـ- الرؤية:
يثبت ابن كلاب الرؤية كما أثبتها أهل السنة (3) ، ويبني ذلك على أن كل قائم بنفسه يرى (4) ، وابن كلاب يثبت العلو والاستواء ولذلك لا يرد على إثباته للرؤية ما ورد على متأخري الأشعرية الذين أثبتوا الرؤية ونفوا العلو والاستواء (5) .
و القضاء والقدر:
ذكر الأشعري أن ابن كلاب يقول فيه بقول أهل السنة وهو اثبات القدر
(1) المقالات (ص: 170 وانظر: ص 546) .
(2)
انظر: المصدر السابق (ص: 177) .
(3)
المصدر نفسه (ص:298 مع ص 292) .
(4)
انظر: المجرد لابن فورك (ص: 333)، وأصول الدين للبغدادي (ص: 97) ، ومنهاج السنة (3/254) - ت رشاد سالم-.
(5)
انظر: الكلابية وأثرها في المدرسة الأشعرية (ص: 222) وما بعدها، والعجيب أن الباحث حرص على أن يقول إن ابن كلاب لا يقول بالجهة ليكون موافقا لمتأخري الأشعرية.
من الله تعالى، لكن سياق الأشعري لمذهب أهل السنة في القدر ليس دقيقا (1)، وقد أوضح البغدادي جانبا من مذهب ابن كلاب في القدر فقال:"قال شيخنا أبو محمد عبد الله بن سعيد: أقول في الجملة: إن الله أراد حدوث الحوادث كلها خيرها وشرها، ولا أقول في التفصيل: انه أراد المعاصي وان كانت من جملة الحوادث التي أراد حدوثها، كما أقول في الجملة عند الدعاء: ياخالق الأجسام ولا أقول في الدعاء يا خالق القرود والخنازير والدم والنجاسات، وان كان هو الخالق لهذه الأشياء كلها"(2) ، وهذا موافق لقول أهل السنة.
أما مسألة الكسب فلم تذكر المصادر أن له كلاما فيه، والمشهور أن هذه المسألة مما أحدثه وقال به الأشعري من بعد.
ز- الإيمان:
أول مسائل الإيمان تعريفه، ويذهب ابن كلاب إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان والمعرفة، يقول البغدادي:" وكان عبد الله بن سعيد يقول: ان الإيمان هو الإقرار بالله عز وجل وبكتبه وبرسله إذا كان ذلك عن معرفة وتصديق بالقلب، فإن خلا الإقرار عن المعرفة بصحته لم يكن إيمانا"(3)، ويقول السبكي مبينا رأي ابن كلاب وأنه لا يخالف قول الأشعرية انه التصديق: " انه إقرار باللسان والمعرفة وهذا المذهب يعزي إلأى عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان من أهل السنة والجماعة على الجملة، وله طول الذيل في علم الكلام وحسن النظر، ولم يتضح لي بعد شدة البحث انفصال مذهبه عن مذهب القائلين بأنه التصديق، فإن الإقرار باللسان والمعرفة يستدعي سبق المعرفة
…
" (4) ،
(1) لأنه لما ذكر عموم مشيئة الله تعالى قال:"وقالوا ان أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، وهذه حكاية عنهم بحسب ما يعتقده هو وليس مذهبا لهم.
(2)
أصول الدين (ص: 104) .
(3)
أصول الدين (ص: 149) .
(4)
طبقات السبكي (1/95) .