الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: منهج السلف في العقيدة
سنعرض في هذا المبحث- بشكل مختصر- لمنهج السلف في العقيدة، وتميزهم بهذا عن غيرهم من أهل البدع والأهواء، وهذا الموضوع قد كتب حوله الكثير، ولكن أغلب ما كتب جاء مقدمة لبعض النصوص المحققة في عقيدة أهل السنة، أو لبعض البحوث المتعلقة بجانب من جوانبها، وكان من الواجب أن يفرد برسالة جامعة تستقصي ما يتعلق بهذا الموضوع، وتبين الشبهات المثارة حول مذهب السلف، وترد عليها، كما ترد على دعاوى المنتسبين إليها ممن ليس من أهلها أو ممن انحرف عنها- وعلى حد علمي لم يكتب في ذلك رسالة- (1) .
والكتابة حول هذا الموضوع من خلال التمهيد لهذا البحث المتعلق بموقف ابن تيمية من الأشاعرة لا يمكن التوسع فيها إلا من خلال ما يتعلق بالموضوع، وقد ناقش ابن تيمية-رحمه الله كثيرا من الأشاعرة في هذه المسألة، وبين غلطهم في بعض القضايا المتعلقة بحقيقة مذهب السلف أو بحقيقة منهجهم رحمهم الله وسنشير إلى ذلك في موضعه من هذه الرسالة- إن شاء اللهـ.
أما هنا فسنذكر لمحات في هذا الموضوع تكملة للمبحثين السابقين، والشىء الواضح في هذا أن السلف تميزوا عن أصحاب الأهواء والفرق بميزة الرجوع إلي الكتاب والسنة والاعتصام بهما، وبذلك سلموا من الانحراف، أما من عداهم فلابد أن تجد في انحرافهم أو بدعهم ما كان سببه وقوعهم في مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ارتكاب ما نهى عنه الله ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك:
* نهى الله ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن اتباع المتشابه، فجاءت فرق عديدة تتبع ما تشابه من القرآن، وتضرب كتاب الله بعضه ببعض.
(1) في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سجلت رسالة بعنوان: العقيدة السلفية فى مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات. للباحث محمد المغراوى.
* نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن سب الصحابة وبين فضلهم، فجاءت فرق الرافضة وغيرهم لتسب الصحابة- رضي الله عنهم وتنتقص من شأنهم.
* أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعة الأمير- وإن جار أو ظلم- فجاءت الخوارج ليخرجوا على أئمة المسلمين ويثيروا الفتنة بين المسلمين.
* نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخوض في القدر، فجاءت القدرية وغيرهم ليخوضوا فيه بالباطل.
* أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بابتاع سنته، وأخبر أنه سيأتي أناس من أمته لا يحتجون بسنته، ونشأ بعد ذلك من لا يحتج بخبر الآحاد في العقيدة.
* وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فجاء أقوام يضربون بأقوالهم عرض الحائط ويقولون: نحن رجال وهم رجال.
* وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق- أن هذه الأمة ستفترق إلى فرق عديدة، وذكر أن هناك فرقة هي الفرقة الناجية، وهي الطائفة المنصورة، ثم وجد بعد ذلك من يتزعم الفرق الضالة، أو يتبعها ويترك الاعتصام بالسنة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
والسلف الذين لم يخوضوا في شيء مما خاض فيه أهل الأهواء استقام أمرهم لموافقتهم الكتاب والسنة، ولوعيهم- خاصة أثناء وقوع الفتن وانتشار البدع- وتذكرهم لمثل هذه النصوص التي حذر فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع فيما نهى عنه:
وسنعرض لمنهج السلف من خلال مايلي:
أولا: منهج السلف في العقيدة.
ثانيا: المميزات التى تميزوا بها عن غيرهم.
أولا: منهج السلف في العقيدة
ا- أول قاعدة في منهج السلف هي اقتصارهم في مصدر التلقي على الوحي: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وقد تمثلت هذه القاعدة في عدة ركائز:
أ) الاعتقاد الجازم أنه لا يتحقق رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجنته والنجاة من عذابه إلا بالإيمان بهما والعمل بما جاءا به، وما يترتب على هذا من وجوب أن يعيش المسلم حياته كلها اعتقادا وعملا وسلوكا، مستمسكا ومعتصما بهما، لا يزيغ عنهما ولا يتعدى حدودهما. ومن مستلزمات هذا أن يتحاكم إليهما عند التنازع والاختلاف، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، وقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ولقد تربى الصحابة على ذلك، فعاشوا لا يلتفتون إلى غير الكتاب والسنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذرهم كل التحذير من أن يلتفتوا إلى كتب السابقين التي نزلت على الأنبياء ودخلها التحريف- فضلا عن غيرها من كتب الفلاسفة والملاحدة، فقد روى عبد الله بن ثابت قال:" جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوارة ألا أعرضها عليك، قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، قال: فسرى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والذي نفسى بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين "(1) ،
(1) رواه الامام أحمد في مسنده (3/470- ا 47) ، وعبد الرزاق الصنعاني في المصنف (6/113) ورقمه (10164) .
وفي رواية جابر أنه قال لما غضب على عمر: أمتهوكون (1) فيها يا ابن الخطاب، والذى نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى- عليه السلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " (2) ، وقد طبق هذا عمر- رضي الله عنه عمليا، فقد ضرب رجلا من عبد القيس لأنه انتسخ أحد الكتب السابقة وأمره بمحوه (3) .
والاستغناء بالكتاب والسنة والاعتماد عليهما نابع من اليقين القاطع أن ما جاء به فهو حق وصدق، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: " وأما خبر الله ورسوله فهو صدق، موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلا ولا مخالفا لما عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئا من أخباره وناقضه فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية (4) ، وإن كان العالم بذلك لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره، وهذه حال المؤمنين للرسول الذين علموا أن رسول اللة الصادق فيما يخبر به، ويعلمون
(1) أى: أمتحيرون، هكذا فسره الحسن وأبو قلابة،؟ في شعب الإيمان للبيهقي (1/ 481) والمر اسيل (ص: 224) .
(2)
رواه الإمام أحمد (3/387) ، والدارمي في سننهـ باب ما يتقى من تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم (1/95) ورقمه (441)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/479) - ط الدار السلفية في الهند. وهذا الحديث رواه أبو داود في المراسيل عن أبي قلابة في كتاب العلم (ص: 223) ت السيروان كما رواه ابن أبي حاتم مختصرا كما في تفسر ابن كثير (سورة يوسف: 3) . وانظر التعليق القادم.
(3)
ثم ذكر عمر قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو يعلى الموصلي، وأبو بكر الاسماعيلي، كما نقله عنهما ابن كثير في تفسيره (سورة يوسف: 3) . والحديث حسنه الألباني كا في تخريج المشكاة رقم (177،194)
(4)
السوفسطائية: السفسطة: قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته، والسوفسطائيون: جماعة من فلاسفة اليونان، وزعيمهم بروتاجوراس الذى ولد سنة (480 ق. م) . ونظريتهم تقوم على أنه ليس هناك وجود خارجى مستقل عما في أذهاننا، فما يظهر للشخص أنه الحقيقة يكون هو الحقيقة له، فإذا رأى السراب ماء فهو عنده حقيقة ماء. انظر: التعريفات (ص:63) ، وكشاف اصطلاح الفنون (17313)، وقصة الفلسفة اليونانية (ص: 62-72) ، وربيع الفكر اليوناني (ص: 65) ، والمعجم الفلسفى (1/658) .
من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح لا عقلي ولا سمعي
…
" (1) .
ويقول: " وما أحد شذ بقول فاسد عن الجمهور إلا وفي الكتاب والسنة ما يبين فساد قوله، وإن كان القائل كثيرا
…
، وأما القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة فلا يكون شاذا وإن [كان](2) القائل به أقل من القائل بذاك القول، فلا عبرة بكثرة القائل باتفاق الناس " (3) .
ب) أن هذا الدين كامل، والله تبارك وتعالى يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3]، ويقول أيضا:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16] . يقول ابن تيمية بعد ذكره لهذه الآيات وغيرها: " ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل "(4) ، ومسألة كمال الدين من المسائل المهمة في بيان منهج السلف- رحمهم الله تعالى-، فقد انطلقوا بقوة من هذا المنطلق، وهذا لا يعني أنه لم يكن في عهد الصحابة ومن بعدهم ديانات ومذاهب، بل كانت موجودة، لكن من الذى يلتفت إليها وهو مقتنع تمام الاقتناع بكمال ما لديه من كتاب وسنة وأن فيهما ما يغني ويكفي، وأن ما فيهما حق وصدق لا يأتيه الباطل أبدا، ف-" متى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناها
(1) درء تعارض العقل والنقل (5/ 255) .
(2)
في طبعة النبوات لدار الكتب العلمية (ص: 4 0 2)، ودار الفكر (ص: 38 1) بدون " كان"، والسياق يقتضيها.
(3)
النبوات (ص: 204) ط دار الكب العلمية.
(4)
درء تعارض العقل والنقل (10/304) .
بيانا شافيا فإنها تنظم (1) جميع ما يقوله الناس من المعافي الصحيحة، وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة مما دخل في الكلام من الباطل كما قال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال تعالى:{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41،42]، وقال تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، وقال:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2] ، وفيه من دلائل الربوبية والنبوة والمعاد ما لا يوجد في كلام أحد من العباد، ففيه أصول الدين المفيدة لليقين، وهو أصول دين الله لا أصول دين محدث ورأي مبتدع" (2) .
ج-) وجوب تقديم الشرع على العقل عند توهم التعارض، وإلا ففي الحقيقة والواقع لا يمكن أن يتعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح، ولقد كان تقديم ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما فى غيرهما من معقول أو غيره يعارضها من مسلمات منهج السلف رحمهم الله تعالى.
وليس هذا موضع تفصيل الأدلة لذلك، ولكن نشير إلى أن الأنبياء أعلم بالله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر من غيرهم فيجب رد الأمر إليهم، وهذا كما أن العامة يردون ما يختلفون فيه مما يتعلق بالطب وغيره من أمور الدنيا إلى من هو أعلم به منهم، "وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله وأسماائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت
(1) في الأصل: "فإنها لا تنظم" ط دار الكتب العلمية، وكذا في مصورة دار الفكر، (ص: 221) ، ولعل الصواب حذف " لا".
(2)
النبوات (ص: 334) ط دار الكتب العلمية.
الذي بين العامة وأهل العلم بالطب" (1) .
د) الأدب مع نصوص الكتاب والسنة، وذلك بأن تُراعى ألفاظهما عند بيان العقيدة، وأن لا تستخدم الألفاظ والمصطلحات الموهمة غير الشرعية، ف- "أهل السنة والحديث فيهم رعاية النصوص لألفاظ النصوص وألفاظ السلف"(2) .
2-
عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة، والاقتصار في بيان وفهم العقيدة على ما في الكتاب والسنة، وقد تجلي هذا في منهج السلف من خلال عدة أمور:
أ) الحرص على العلم النافع مع العمل. فالعلم علمان: علم نافع يولد عملا، وينفع صاحبه فى الدنيا والآخرة، وعلم غير نافع، لا ينفع صاحبه في الدنيا أو لا ينفع صاحبه في الآخرة " ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وغير نافع، والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع، وسؤال العلم النافع، ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" (3) " (4) . وقال معروف الكرخي (5) :"إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل"(6) . وللعلم النافع علامات ذكرها بعض العلماء (7) .
ب) النهي عن البدع، ومن ذلك علم الكلام، وقد كان موقف السلف
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/141)، وانظر: قواعد المنهج السلفي مصطفى حلمى (ص: 253-257) ط ثانية.
(2)
نقض التأسيس المطبوع (2/110) .
(3)
رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، ورقمه (2722) .
(4)
بيان فضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب (ص: 17) ط دار الأرقم.
(5)
هو معروف بن فيروز أو فيرزان، أبو محفوظ البغدادى الكرخي، أحد الزهاد، مدحه الإمام أحمد. انظر ترجمته في: مناقب معروف الكرخي وأخباره لابن الجوزى، وتاريخ بغداد (13/199) وطبقات الحنابلة (1/ 1 38) ، وسير أعلام النبلاء (9/ 5 33) .
(6)
رواه أبو نعيم في الحلية (8/361)، وابن الجوزى في مناقب معروف الكرخي (ص: 122-123) .
(7)
انظر مثلا: بيان فضل علم السلف على الخلف (ص: 51-54) .
واضحا ومشهورا من علم الكلام، فقصة عمر- رضي الله عنه مع صبيغ ابن عسل (1) لما علم أنه يتتبع متشابه الكلام ويسأل عنه، فضربه عمر ونفاه إلى البصرة- قصة مشهورة (2) -، لذلك لما حدث يزيد بن هارون بحديث الرؤية، فقال له رجل: يا أبا خالد، ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد (3) وقال: ما أشبهك بصبيغ وأحوجك إلى مثل ما فعل به (4) . وعمر- رضي الله عنه روي عنه أنه قال: " إنه سيأقي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله "(5) .
وقد استمر السلف على هذا المنهج من التحذير من البدع وعلم الكلام وما عليه أهل الأهواء، فالشافعي أثر عنه الكثير في التحذير من أهل الكلام حتى قال:" لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بشيء من الأهواء "(6)، والإمام أحمد-رحمه الله يقول في رسالتهـ الثابتة عنه - الى عبد الله بن يحيى بن خاقان - لما طلب منه المتوكل أن يكتب له حول مسألة "خلق القرآن ": وقد روى غير واحد ممن مضى من سلفنا رحمهم الله أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق،
(1) هو صَبيغ بن شريك بن المنذر بن قشع بن عسل التميمي، ويقال صبيغ بن عسل، نسبة إلى جده. ترجمته في: الإكمال لابن ماكولا (5/ 221،6/206-208) ، والإصابة (3/458) ، ترجمة رقم (27 1 4) ، وتبصير المنتبه (3/4 95) ، والوافي في الوفيات (16/383) .
(2)
رواها: الدارمى في سننه، رقم (46 1)، والآجرى في الشريعة (ص: 73) ، واللالكائي في شرح السنة، رقم (136 - 140) ، والصابوني في عقيدة السلف، رقم (83-85)، تحقيق: بدر البدر، ورواها غيرهم. انظر: الإصابة (3/458) ، رقم الترجمة (27 41) ت البجاوى، والدر المنثور للسيوطي. أول سورة الذاريات.
(3)
" حرد " أي غضب واغتاظ وهم به. انظر: الصحاح، والمعجم الوسيط، مادة:"حرد".
(4)
عقيدة السلف للصابوني، رقم (82) .
(5)
رواه الدارمي رقم (121) ، واللالكائي رقم (202)، والآجري في الشريعة (ص: 52) .
(6)
رواه البيهقي في: مناقب الشافعي (1/452)، وفي الاعتقاد (ص: 39) ، تحقيق: أحمد عصام الكاتب، وأبو نعيم في الحلية (9/111)، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص: 337) ، واللالكائي في شرح السنة، رقم (300)، وابن أبي حاتم: كما في توالي التأسيس لابن حجر (ص:110) .
وهو الذي أذهب إليه، ولست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شىء من هنا، إلا ما كان في كتاب الله عر وجل أو في حديث النبى صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أو عن التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود
…
" (1) .
واشتهر هذا الموقف من علم الكلام ومن المنطق عن أعلام السلف- رحمهم الله وصارت دواوين السنة تذكر كثيرا من الآثار عنهم في موقفهم هذا. بل وصل الأمر في إحدى الحالات أن النساخ كانوا يقسمون أنهم لم ينسخوا كتابا في المنطق (2) .
وموقف السلف من علم الكلام كان لأسباب (3) ، وليس لأنهم عجزوا أو جهلوا أو شغلوا عنه كما يحلو للبعض أن يفسر ذلك، ولا شك أن منهج علم الكلام يقوم على أسس غريبة على المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وأية محاولة للعودة بالمسلمين إلى الإسلام فلابد أن تكون أولى مسلماته العودة إلى صفاء العقيدة وتخليصها مما ران عليها من شوائب علم الكلام والفلسفة، يقول سيد قطب-رحمه الله في معرض كلامه عن المنهج الذي يراه في العقيدة:" ولما كانت هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية.... فقد بدت " الفلسفة الاسلامية- كما سميت - نشازا كاملا في لحن العقيدة المتناسق، ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير، شاب صفاء التصور الإسلامي، وصغر مساحته،
(1) السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (1/139-140) ، وأبو نعيم في الحلية (9/216)، وابن الجوزى في المناقب (ص: 462) باختصار، والذهبي في تاريخ الإسلام (ترجمة الامام أحمد مفردة - ط: دار الوعي بحلب) (ص: 70- 71)، وقال الذهبي في آخرها:" قلت: رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات أشهد بالله أنه أملاها على ولده"، وذكرها فى سير أعلام النبلاء (11/286)، وقال:" إسنادها كالشمس".
(2)
انظر: الكامل لابن الأثير حوادث سنة: 279 (7/453) دار صادر.
(3)
انظر: بيان فضل علم السلف لابن رجب (ص: 55-58)، ومنهج علماء الحديث والسنة مصطفى حلمي (ص: 0 6- ا 6) ، ومنطق ابن تيمية (ص: 277) .
وأصابه بالسطحية، ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط، مما جعل تلك الفلسفة الإسلامية ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام وطبيعته، وحقيقته، ومنهجه وأسلوبه ".
" وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة- على الأقل- سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى " الفلسفة الاسلامية " أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة.... ولكني أقرر وأنا على يقين جازم بأن " التصور الإسلامي " لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ إلا حين نلقي عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم الفلسفة الاسلامية، وبكل مباحث علم الكلام، وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضا، ثم نعود إلى القرآن الكريم
…
" (1) .
ج-) الرد على المنحرفين وأصحاب الأهواء بمنهج متميز، فالسلف رحمهم الله لما حذروا من المنطق ومن علم الكلام لم يكتفوا بهذا، وإنما ردوا وناقشوا أصحاب البدع بالأدلة النقلية والعقلية المبنية على الكتاب والسنة.
والسلف كانوا أصحاب منهج واضح، مقنع، وليس كما يزعم بعض أهل الكلام من أن السلف أو أهل الحديث لا يعرفون الرد ومجادلة الخصوم ويذكرون في ذلك قصة لهارون الرشيد لما منع الجدال في الدين وحبس أهل الكلام، وخلاصتها: أن ملك السند بعث يطلب منه أن يرسل إليه من يناظره، فأرسل إليه قاضيا- أو رجلا من أهل الحديث- فعجز عن مناظرته، فغضب الرشيد وسأل من حوله: " أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟، فقيل له: بلى، هم الذين نهيتهم عن الجدال، وفيهم من هو في الحبس. فأحضروهم، وأرسل واحدا منهم إلى ملك السند، فدس له السم قبل وصوله إليه (2) . وهذه قصة باطلة لأن فتح السند وقتل ملكها كان سنة 93 هـ وهارون الرشيد تولى الخلافة سنة 170 هـ.
(1) خصائص التصور الاسلامي: كلمة في المنهج (ص:10 - 11) .
(2)
المصدر المعروف لهذه القصة- التي وردت بعدة روايات - هو كتاب المنية والأمل- لابن المرتضي المعتزلي (ص: 55 ا - 158) ت: محمد جواد مشكور، وهي في طبعة أرنلد التى أفرد فيها ذكر المعتزلة (ص: 31-33) ، وذكرها النشار في نشأة الفكر الإسلامي (1/504-505) ، وردها، وانظر قواعد المنهج السلفي (ص: 80-82) الطبعة الثانية.
وهذه القصة كما يظهر من مصدرها ليس لها سند صحيح، وسياق القصة يدل على الهدف من وضعها، واذا كان مصدر السلف الأول هو كتاب الله وفيه الحجج والبراهين الدامغة فكيف يخطر على البال أنهم يعجزون عن المناقشة والرد على أهل البدع. أما إن كان القصد المناقشة ببدع وأصول أهل الكلام فلا ريب أن السلف كانوا بعيدين عنها ولا يعرفونها لأنهم في غنى عنها، لكن من عاش منهم مع أهل الكلام ثم رجع إلى منهج ومذهب أهل الحديث فهذا قد تكون له خبرة بهم، ولذلك قال نعيم بن حماد (1) - الذى امتحن في مسألة القرآن فأبى أن يجيب، فحبس ومات في السجن- يقول عن نفسه:" أنا كنت جهميا، ولذلك عرفت كلامهم، فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل "(2) .
والسلف- رحمهم الله لم ينهوا عن جنس النظر والاستدلال، ولكن معارضتهم تركزت على الأساليب الكلامية المبنية على غير الكتاب والسنة (3) . ولذلك روى الآجرى عن محمد بن سيرين لما ماراه (4) رجل في شيء، فقال له محمد:" إني أعلم ما تريد، وأعلم بالمماراة منك ولكني لا أماريك"(5) ، فهو لا يريد الممارأة والجدل، ولو جادله لجادله بمنهج القرآن والسنة لا بمنهج المتكلمين.
(1) هو نعيم بن حماد بن معاوية، أبو عبد الله الخزاعي - ت: 228 هـ، طبقات ابن سعد (7 / 519) ، وتاريخ بغداد (13 / 306)، وتهذيب المزي- المخطوط (ص: 1419) ، وسير أعلام النبلاء (10/595) .
(2)
تاريخ بغداد (13/307)، وتهذيب المزى (ص: 1420) ، وسير أعلام النبلاء (10/597) .
(3)
انظر: قواعد المنهج السلفى: مصطفى حلمي (ص: 85)، ومنهج علماء الحديث والسنة له (ص:40) .
(4)
من المماراة: تقول ماريت الرجل، أى: جادلته. انظر: الصحاح مادة:" مرا" من حرف الياء، وقد وردت اللفظة في الشريعة وفي طبعتى فضل علم السلف " ومارآه" وهر تحريف.
(5)
الشريعة للآجري (ص: 61 - 62)، وانظر: بيان فضل علم السلف لابن رجب (ص: 37) ط دار الأرقم.
وهذا يدل على أن السلف لا يناظرون إلا عند الحاجة، ومناظرتهم لا تكون بمنهج المتكلمين، يقول الآجري:" فإن قال قائل: فإن اضطر في الأمر- وقتا من الأوقات- إلى مناظرتهم وإثبات الحجة عليهم، ألا يناظرهم؟، قيل: الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل-رحمه الله: ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدا من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختيارا، فأثبت الله عز وجل الحق مع أحمد بن حنبل ومن كان على طريقته وأذل الله العظيم المعتزلة وفضحهم وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد ابن حنبل ومن تابعه إلى يوم القيامة "(1) .
3-
حجية السنة في العقيدة ومن ذلك خبر الآحاد، وهذه من القواعد الكبرى في منهج السلف- رحمهم الله تميزوا بها عن كثير من أهل الأهواء والبدع، وما عني أهل السنة بجمع السنة والكلام في متونها وأسانيدها، ونشأة هذا العلم الذى تميزت به الأمة الاسلامية عن غيرها من الأمم، وبذلوا في سبيل ذلك جهودا منقطعة النظير، كل ذلك إنما كان منهم حفاظا على المصدر الثاني الذى هو وحي يوحى من الله تعالى، ولم يميزوا بين الأحاديث المتعلقة بالأحكام والأحاديث المتعلقة بالعقائد.
وقد كان اعمادهم على السنة وتعظيمهم لها مبنيا على أمور منها:
أ) أن من مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله التى لا يتم الايمان إلا بها، ولذلك قرنت بشهادة أن لا إله إلا الله وجوب تصديقه فيما أخبر، سواء كان عن الله أو صفاته أو مخلوقاته أو ما يستقبل من أمور الآخرة وغيرها من المغيبات.
ب) أن أعرف العباد بما صلح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أرغب الناس في نشرالخير وتعريف الخلق به، ولذلك فما من خير إلا ودل أمته عليه،
(1) الشريعة (ص: 62) .
وما من شر إلا وحذرها منه، ومن المعلوم أن أهم الأمور بالنسبة للعباد ما يتعلق بالعقيدة من الأمور الإلهية والمعارف الدينية، والعلم في هذه " مأخذه عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها، وأرغبهم في تعريف الخلق بها، وأقدرهم علي بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في: العلم، والقدرة، والإرادة، وهذه الثلاثة بها يتم المقصود. ومن سوى الرسول: إما أن يكون في علمه بها نقص أو فساد، وإما أن لا يكون له إرادة فيما علمه من ذلك فلم يبينه، إما لرغبة وإما لرهبة، وإما لغرض آخر. وإما أن يكون بيانه ناقصا، ليس بيانه البيان عما عرفه الجنان ".
" وبيان الرسول على وجهين: تارة: يبين الأدلة العقلية الدالة عليها.
والقرآن مملوء من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية على المعارف الالهية والمطالب الدينية. وتارة: يخبر بها خبرا مجردا، لما قد أقامه من الآيات البينات، والدلائل اليقينيات على أنه رسول الله المبلغ عن الله، وأنه لا يقول عليه إلا الحق، وأن الله شهد له بذلك، وأعلم عباده وأخبرهم أنه صادق مصدوق فيما بلغه عنه، والأدلة التي بها نعلم أنه رسول الله كثيرة متنوعة، وهي أدلة عقلية تعلم صحتها بالعقل، وهي أيضا شرعية سمعية " (1) .
ب) أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه، لم يكتم شيئا من ذلك، وأنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ ذلك أتم بلاغ وأبينه حتى ترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد تمثلت هذه الأمور- السابقة- في موقف السلف من السنة وتعطمهم لها، وإنزالها منزلتها اللائقة بها، وذلك بكونها وحيا من الله تعالى وبكونه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. وبدا هذا واضحا من خلال:
أ) الخضوع لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صح - وتعظيمه وعدم الاعتراض عليه بأي نوع من أنواع الاعتراض، ومن ذلك ما روي أن أبا معاوية
(1) رسالة الفرقان دين الحق والباطل- مجموع الفتاوى (13/136) .
الضرير (1) كان يحدث " هارون الرشيد " فحدثه بحديث أبي هريرة- رضي الله عنه: " احتج آدم وموسى "(2)، فقال عيسى بن جعفر:" كيف هذا، وبين آدم وموسى ما بينهما؟، قال: فوثب به هارون وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضه بكيف!، قال: فما زال يقول حتى سكت عنه"(3) ، وفي رواية أنه حبسه، ولم يطلقه حتى حلف الأيمان المغلظة أنه ما سمعه من أحد وما جرى بينه وبينه كلام (4) ، أي لم يتلق هذه الشبهة عن أحد، يقول الصابوني معلقا على هذا:" هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد-رحمه الله مع من اعترض على الخبر الصحيح الذى سمعه، - بكيف،- على طريق الإنكار والاستبعاد له، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد من الرسول صلى الله عليه وسلم "(5) .
ولما سئل ابن المبارك- حين روى حديث النزول- كيف ينزل؟ أجاب: " ينزل كيف يشاء "(6)، وفي رواية أنه قال:" إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخضع له "(7) .
(1) هو: محمد بن خازم أبو معاوية الضرير- روى له الجماعة. تهذيب التهذيب (9/137) ، وتاريخ بغداد (5/242) .
(2)
متفق عليه: البخاري، كتاب القدر، ورقمه (6614) ، الفتح (11/505) ، مسلم في القدر، ورقمه (2652) .
(3)
رواه الصابوني: عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص: 16 ا-117) ط: بدر البدر، وانظر الفقرة التالية.
(4)
رواه الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 181-182) ، والخطيب في تاريخ بغداد (5/243) ، [ومختصرا فى (14/7-8] ، وانظر سير أعلام النبلاء (9/288) ] ، وقد أوردوا القصة بطولها وهي قصة عجيبة تدلءلى مدى حرص الرشيد على السنة وحرب أهل البدع.
(5)
عقيدة السلف للصابوني (ص: 117) وهو آخر الرسالة.
(6)
رواه الصابوني في عقيدة السلف (ص: 29)، البيهقي في الأسماء والصفات (ص: 453) عن الصابوني.
(7)
الصابوني في عقيدة السلف (ص: 172) تحقيق: الأخ ناصر الجديع- مطبوع على الآلة الكاتبة وهو في طبعة بدر البدر (ص: 29) ، لكن عبارته " فاصغ له".
ب) اعتمادهم على الأحاديث الصحيحة، ونبذ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد تمثل هذا عندهم بالإنكار على من اعترض على الأحاديث الصحيحة الثابتة، وتمثل أيضا بذكرهم للأسانيد فيما يروونه، ومعلوم أنه إذا أسند الراوي فلابد من النظر في إسناده والحكم على الحديث صحة وضعفا بعد جمع طرقه ورواياته، ومن الملاحظ على كتب السنة- التي اختصت بالعقيدة- ورود بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيها، ولا شك أن الناظر فيها- في العصور المتأخرة- يحس أنه كان من المفروض تمييز صحيحها من غيره، أو يراد ما صح منها فقط، أما إدخال هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيها فله سلبيات لعل من أهمها التشهير بأهل السنة من جانب أهل التعطيل ووصفهم لهم بالحشو والتشبيه، والتندر بهم بذكر نماذج من هذه الأحاديث. ولكن لو رجعنا إلى هذا الزمن الذي دونت فيه لوجدنا ما يبرر فعلهم هذا، فالعناية بالحديث كانت شديدة، ومعرفة الضعفاء والوضاعين كانت مشهرة، ثم إن هذه الروايات التي أوردوها- ويعلمون أحيانا أنها ضعيفة- قد تكون وردت عند أحد أعلام المحدثين بطريق أو بطرق أخرى صحيحه، فليس هناك ما يضمن مع كثرة المحدثين والرواة في مختلف أمصار المسلمين أن هذه الأحاديث لم ترد إليهم بطرق أخرى.
ج-) حجية خبر الآحاد في العقيدة إذا صح، وهذا من المعالم الرئيسة لمنهج السلف، والقول بأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم ومن ثم فلا يحتج بها في العقيدة بدعة كبرى تلقفها أو أحدثها المعتزلة، ولكن من المؤسف أن كثيرا من العلماء ممن ينتسبون إلى السنة- وخاصة في كتبهم في أصول الفقهـ ظنوا أنها لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن، وانتشرت هذه المقالة بنسبة القول بها إلى الجمهور، ومما يلاحظ أن كثيرا ممن ألف في أصول الفقه هم، إما من المعتزلة أو الأشاعرة أو الماتريدية، فأدخل هؤلاء هذه المسألة وصاروا يذكرون فيها أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن فيحتج بها في الأمور العملية من الأحكام لا العلمية، ويقصدون بها أمور العقائد بينما لو تتبعنا نصوص السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم لوجدنا الإجماع منهم- تقريبا- على عدم التفريق في أخبار الآحاد بين الأحكام والعقائد،
ولذا يحسن هنا أن نذكر قصة إسحاق بن راهويه (1) مع عبد الله بن طاهر (2) ،
فقد روى عن إسحاق بن راهويه قال: " دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال لي: يا أبا يعقوب، تقول: إن الله ينزل كل ليلة؟، فقلت: أيها الأمير، إن الله تعالى بعث إلينا نبيا نقل إلينا عنه أخبار، بها نحلل الدماء وبها نحرم، وبها نحلل الفروج وبها نحرم، وبها نبيح الأموال وبها نحرم، فإن صح ذا صح ذاك، وإن بطل ذا بطل ذاك، قال: فأمسك عبد الله "(3) .
هذا مذهب السلف ومنهجهم لم يؤثر عن أحد منهم ممن يعتد بقوله إذا ورد عليه حديث صح عنده ثبوته أن رد ما دل عليه من أمور العقيدة بأنه خبر آحاد- وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة المهمة، وإنما الغرض الإشارة المجملة.
4-
أن الصحابة أعلم الناس- بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالعقيدة، لذلك فأقوالهم وتفاسيرهم للنصوص حجة لأنهم- رضي الله عنهم قد اكتمل فيهم الفهم والمعرفة لأصول الدين التي دل عليها كتاب الله المنزل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والعجب أن بعض من يدعي الانتساب إلى مذهب أهل السنة يشتد غضبه حينما يعرض لرأي الرافضة في الصحابة وتنقيصهم لهم، ولكن لا يرى بأسا في أن يقرأ أو يسمع لبعض شيوخه من المنتسبين للسنة في مقابل الرافضة والمعتزلة كلاما يؤول إلى تنقيص الصحابة والطعن في فهمهم وعقولهم، مثل عبارة: أن الصحابة لم يعلموا - علم الكلام - لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد،
(1) هو: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلى، أبو محمد بن راهويه المروزى، قرين أحمد بن حنبل حياته (1 6 ا-237) أو (238 هـ) ،. تاريخ بغداد (5/6 34) ، وسير أعلام النبلاء (11/ 358) ، والتهذيب (1/6 1 2)، وطبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 88 1) .
(2)
عبد الله بن طاهر، أبو الحسين بن مصعب، الأمير العادل، أبو العباس، حاكم خراسان، توفى سنة: 230 هـ وله (48) سنة.
تاريخ بغداد (9/483)، وولاة مصر للكندي (ص: 4 0 2-08 2) ، وسير أعلام النبلاء (10/ 684) ، والفرج بعد الشدة (1/339) .
(3)
ذكره البيهقى في الأسماء والصفات (ص: 452) .
ومثل قول بعضهم: إن الصحابة كانوا يقرؤون القرآن ولكنهم يمرون النصوص المتعلقة بالصفات وغيرها دون فهم لها ولمعناها
…
، أو أن الصحابة لو واجهوا الشبهات التي واجهها من بعدهم لتأولوا كما تأولنا
…
الخ.
وهذا- بلا شك- منهج خطير، لا يقف الانحراف فيه عند حد الصحابة، بل قد يلزم منه اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرسول المبلغ عن الله - بمثل هذه التهم التي توجه إلى الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين-.
والصحابة- في نظر أهل السنة، الذين هم أهل الحديث- كلهم عدول، ومن ثبتت صحبته ثبتت له العدالة بمجرد الصحبة، ولا شك أن هذه الأفضلية- أعني أفضلية الصحبة التى اختصوا بها، ولا يمكن أن ينال فضلها أحد ممن جاء بعدهم- تجعل لهم منزلة في فهم العقيدة وإدراكها، لا يمكن أن ينالها من جاء بعدهم. ولذلك كان السلف يفتخرون في أن دينهم أخذوه عن التابعين عن الصحابة، فشريك بن عبد الله (1) لما قيل له: إن قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث أى أحاديث النزول، حدث بنحو عشرة أحاديث في هذا، وقال:" أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمن أخذوا؟ "(2) .
ولمكانة الصحابة عند السلف حرصوا على تدوين أقوالهم وآرائهم في مختلف المسائل، فقد روى صالح بن كيسان (3) قال: " اجتمعت أنا والزهري (4)
(1) هو: شريك بن عبد الله النخعى الكوفي، القاضي، أبو عبد الله، صدوق، بخطئ كثيرا، كان عارفا عابدا، شديدا على أهل البدع، ولد سنة (90 هـ) وتوفى سنة 178 هـ. ميزان الاعتدال (2/270) ، سير أعلام النبلاء (8/172) ، تهذيب التهذيب (4/333) ، التقريب (1/ 351) .
(2)
رواه الصاغاني- كما في: سر أعلام النبلاء (8/158)، والبيهقي فى الأسماء والصفات عن الصاغاني (ص: 451) .
(3)
هو: صالح بن كيسان المدني، أبو محمد أو أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة، ثبت، فقيه، مات بعد سنة: 140 هـ. تهذيب تاريخ دمشق (6/380) ، وتذ كرة الحفاظ (11/48) ، وسير أعلام النبلاء (5/454) ، والتقريب (1/362)، وطبقات الحفاظ (ص: 63) .
(4)
هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله، أبو بكر القرشي الزهري المدني، أحد الأعلام، =
- ونحن نطلب العلم- فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: ثم قال الزهري: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة. قال: فقلت أنا: لا، ليس بسنة، لا نكتبه. قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت " (1) .
والصحابة تميزوا في العقيدة وفهمها بعدة ميزات، أهمها:
أ) أنهم شاهدوا التنزيل، وعاشوا مع النبى صلى الله عليه وسلم وهو يتلقى هذا الوحى من ربه الذي ينزل عليه مفرقا حسب الوقائع والأحداث، فعاصروها جميعا، واحدة فواحدة، فكيف لا يكونون وهم كذلك- أعلم الناس بالتنزيل وأسباب نزولهـ إن كانت له أسباب- وأعلم الناس- من ثم- بمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يقول عاقل: إن من حضر الواقعة أو الحادثة- أيا كانت- أقل علما بها ممن لم يحضرها ولم يشارك فيها.
ب) من المعلوم أن حواري الرسل وصحابتهم الذين اتبعوهم وآمنوا بهم هم اكثر الناس فهما لرسالتهم وما يتلعق بها من أحكام سواء في العقيدة أو الشريعة؛ فهم العارفون بدقائقها المدركون لحقائقها، وهم اكمل الناس علما وعملا، ولا يكون من بعدهم اكمل منهم في شيء من ذلك، ولذلك روى عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنهـ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من نبى بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه
(1) = توفي سنة: 124 هـ. طبقات ابن سعد- الجزء المتمم (ص: 157) ، وتاريخ دمشق- طبعت ترجمته مفردة- ووفيات الأعيان (4/177) ، وغاية النهاية في طبقات القراء (2/262) ، وسير أعلام النبلاء (5/326) ، والواي للصفدي (5/24) ، وتهذيب الهذيب (9/445) .
(1)
رواه عبد الرزاق في المصنف (11/ 258) ورقمه (487 0 2)، والخطيب في تقييد العلم (ص: 6 0 ا- 107) ، وابن سعد في الطبقات (2/388)، وفي الجزء المتمم (ص: 68 1) ، والفسوى في المعرفة (1/637، 641)، وابن عساكر- ترجمة الزهري مفردة- (ص: 62) ، وأبو نعيم في الحلية (3/360) .
فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " (1) ، فمن سار على نهج الصحابة سلم من هذه الصفة الذميمة. ومع كل ذلك فمن أتى بعد الصحابة فلن يكون مثلهم في الفهم والعلم.
ج-) لم يكن بين الصحابة خلات في العقيدة، فهم متفقون في أمور العقائد التى تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلم بكل وضوح وبيان، وهذا بخلاف مسائل الأحكام الفرعية القابلة للاجتهاد والاختلاف، يقول ابن القيم-رحمه الله:" إن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الايمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيمانا. ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدوا لشىء منها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم: يجب صرفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا، وأجروها على سنن واحدة "(2) .
والأمور اليسيرة التى اختلفوا فيها- كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وغيرها لا تؤثر في هذه القاعدة العامة، لأن الخلاف فيها كان لأسباب وقد يكون لبعض الصحابة من العلم ما ليس عند الآخر، لكنهم- رضى الله عنهم- إذا جاءهم الدليل خضعوا له بلا تردد.
د) كان الصحابة يسألون عما يشكل عليهم، وهذا أمر مشهور عنهم - رضى الله عنهم - فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رُوي عنها أنها
(1) رواه مسلم، كتاب الايمان- باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، ورقمه (80) .
(2)
إعلام الموقعين (1/ 51-52) ت: الوكيل.
" كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه "(1) ولذلك سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: " من نوقش الحساب عذب " عن الآية: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7،8]، فأجابها: " إنما ذلك العرض
…
" (2) ، كذلك سأل الصحابة عن رؤية الله فمثل لهم برؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب (3) ، وكذلك قدرة الله على البعث ضرب لها مثالا بالنبات (4) .
ومن هذه الميزات تتضح بجلاء مكانة الصحابة وعلمهم وفهمهم- رضي الله عنهم أجمعين- كما يتبين فضلهم- في هذه الأمور وغيرها- على من جاء بعدهم، وأن أي تجهيل لهم بأسلوب صريح أو غير صريح يعتبر ضلالا وانحرافا، لا يتوقف عند حد اتهام الصحابة أنفسهم بل يتعداه إلى ما بلغوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الدين كلها. وإن العجب ليأخذ الإنسان وهو يقرأ مثل هذا الكلام لأحد الكتاب وهو يعرض لمذهب السلف ومدرستهم، يقول:" ولعلنا نلمح- من خلال هذا العرض- الفرق الواضح بين الايمان والمعرفة، فالأول محله القلب، والثانية محلها العقل. ومن ثم نستطع أن نقرر أن المتديني ن في الصدر الأول قد فقهوا النص الديني- وخاصة ما يتعلق بأمور العقيدة- بقلوبهم، قبل إدراكه بمقاييس العقل، كالذي عرف فيما بعد لدى بعض فرق المتكلمين، وتخريجهم نصوص العقيدة على مقتضى ما وضعوه من مقامات عقلية "
(1) رواه البخارى عن ابن أبي مليكة في العلم، رقم (103)، واسمه: عبد الله بن عبيد الله ابن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد بن جدعان ثقة، فقيه، روى عن مجموعة من الصحابة- منهم عائشة - روى له الجماعة. انظر: التهذيب (5/306) ، والتقريب (1/431) .
(2)
متفق عليه: رواه البخارى عن ابن أبي مليكة عن عائشة، كما رواه عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة، وأرقامه (3 0 1، 4939،6536،6537) ، ومسلم في الجنة، ورقمة (2876) .
(3)
رواه أحمد - عن أبي رزين العقيلى ابن المنتفق - المسند (4/11) ، ورواه أبو داود في السنة، رقمه (4731) ، وابن ماجه في المقدمة، رقمه (180) ، وابن أبي عاصم في السنة، رقمه (459- 460) ، وحسنه الألباني.
(4)
رواه أحمد عن أبي رزين العقيلى، واسمه لقيط بن عامر بن المنتفق، وهو الذي سأله. المسند (4/11) .
ثم يعقب قائلا:" وليس في هذا القول نسبة لهم- أي المتدينين- إلى التجهيل كما فهم تقي الدين ابن تيمية "(1) .
هكذا يقول الكاتب عن الصدر الأول- وفيهم الصحابة- إنهم كانوا يؤمنون بأمور العقيدة بقلوبهم، ولكنهم لا يعرفونها بعقولهم، وإنما عرفها أهل الكلام من بعد لما جاءوا بالمقدمات العقلية، ومع ذلك فليس في هذا تجهيل للصحابة والصدر الأول (2) .
5-
ومن منهج السلف: التسليم لما جاء به الوحي، مع إعطاء العقل دوره الحقيقي، وعدم الخوض في الأمور الغيبية مما لا مجال للعقل فيه، فالسلف رحمهم الله لم يلغوا العقل كا يزعم خصومهم من أهل الكلام، أو من لا خبرة له بمذهب السلف من غيرهم، كما أنهم لم يحكموه في جميع أمورهم كما فعل أهل الضلال، وإنما وزنوا الأمر بموازين الشرع: فما جاء به الوحي فهو حق وصدق ولا يمكن أن يخالف معقولا صريحا أبدا، إذ كيف يخالفها والوحي من الله والعقول مخلوقة لله، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك والمقصود هنا بيان أن من منهجهم التسليم لما ورد في النصوص وعدم معارضتها بشيء من الأهواء أو العقول، مع إعطاء العقل دروه المناسب له (3) .
6-
لم يكونوا يتلقون النصوص ومعهم أصول عقلية يحاكمون النصوص إليها،؟ فعل المعتزلة وغيرهم الذين وضعوا أصولأ عقلية، ثم لما جاءوا إلى القرآن والسنة وما فيهما من دلالات في الاعتقاد، نظروا فما وجدوه موافقا لتلك الأصول العقلية أخذوا به، وما وجدوه مخالفا لشيء نها أولوه أو أنكروا الاحتجاج به، وقد كان سيد قطب-رحمه الله من الدعاة إلى هذا المنهج في العودة إلى العقيدة والتصور الإسلامي، يقول في كلامه حول المنهج الصحيح لذلك: " ومنهجنا
(1) المدرسة السلفية، تأليف: محمد عبد الستار نصار (ص: 478) .
(2)
انظر: في موضوع منزلة الصحابة، قواعد المنهج السلفي (ص: 51-68) الطبعة الثانية.
(3)
انظر: علاقة الاثبات والتفويض (ص: 23-26)، ومنهج علماء الحديث والسنة (ص: 40) ، وانظر: نقض التأسيس المطبوع (1/246-247) .
في استلهام القرآن الكريم، ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقا، لا مقررات عقلية، ولا مقررات شعورية- من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاتهـ نحام إليها نصوصه، أو نستلهم معافي هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة ".
" لقد جاء النص القرآني- ابتداء- لينشىء المقررات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليا تصورات البشر، وأن تقوم عليها حياتهم، وأقل ما يستحقه هذا التفضل من العلى الكبير، هذه الرعاية من الله ذي الجلال- وهو الغني عن العالمين- أن يتلقوها وقد فرغوا لها قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل، ليقوم تصورهم الجديد نطفا من كل رواسب الجاهليات- قديمها وحديثها على السواء- مستمدا من تعليم الله وحده، لا من ظنون البشر، التي لا تغنى من الحق شيئا ".
" ليست هناك إذن مقررات سابقة نحاكم إليها كتاب الله تعالى، إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب إبتداء، ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا، وهذا- وحدهـ هو المنهج الصحيح، في مواجهة القرآن الكريم، وفي استلهامه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته "(1) .
7-
الرجوع إلى النصوص الواردة في مسألة معينة، وعدم الاقتصار على بعضها دون البعض الآخر، وهذا ناشيء من أنهم لا يفرقون بين النصوص وليس لديهم أصول عقلية متقررة سلفا عندهم ليأخذوا من النصوص ما وافقها ويدعوا ما خالفها، كما وقع فيه أهل الأهواء كلهم، إذ ما من طائفة من طوائفهم إلا وأخذت بجزء من النصوص مما يوافق مذهبها ثم تأتي طائفة تطعن في أدلة الطائفة الأخرى
…
وهكذا في جميع مسائل العقيدة.
أما السلف- ومذهبهم هو الوسط- فلا يسلكون مثل هذا المنهج، بل يأخذون بجميع النصوص، فيكون معهم الحق الذي مع كل من الطائفتين المنحرفتين،
(1) خصائص التصور الإسلامي (ص: 14-15) ، ومع هذا المنهج الواضح لسيد قطب فلا يخلو كتابه " في ظلال القرآن " من بعض الهفوات التي وقع بها، خاصة في بعض الصفات كالاستواء وغيره.
ويسلمون من الباطل الذي معهما. والأمثلة على ذلك كثيرة وواضحة والحمد لله. فالسلف يجمعون النصوص في المسألة الواحدة من مسائل العقيدة وغيرها، ثم يأخذون بها جميعا فيخلصون إلى مذهب وسط هو المذهب الحق والعدل.
8-
التزام العدل والإنصاف مع أعدائهم، فهم يعترفون بما عند الخصوم من حق، ولا يعميهم ما يجدونه عندهم من ضلال فيصدهم عن قول الحق فيهم، أو يدعوهم إلى رميهم بما ليس فيهم من الباطل. وهذا بخلاف منهج أهل الأهواء الذين يرمون كل من لم يقل بمقالتهم بشتى أنواع التهم، ويحملون أقوال من يخالفهم أسوأ الاحتمالات، ولا يعترفون له بحق أبدا. أما أهل السنة فيلتزمون الإنصاف مع أنفسهم ومع من يخالفهم، ولذلك فهم يقسمون من عداهم إلى قسمين:
أ) أهل كفر وعناد فهؤلاء يجاهدونهم ويكشفون باطلهم.
ب) أهل بدعة وعصيان. فهؤلاء يحمدون لهم ما عندهم من إيمان وجهاد وخير وخدمة للإسلام، ويردون ما هم عليه من بدعة، ويبينون ما فيها من ضلال ومخالفة لمذهب أهل السنة، ومن كان داعيا إلى بدعته فالموقف منه يشتد حسب خطورة المقالة الضالة التي أتى بها، وحسب المصلحة التى تنجم عن كشف البدعة وتفسيق صاجها.
9-
لا يتعصبون لشخص إلا للرسول صلى الله عليه وسلم، فعندهم أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، لأنه الذي لا ينطق عن الهوى. وهذا بخلاف أهل الأهواء الذين يتعصبون لطائفتهم أو إلى رجل من رجالهم، ويجعلون أقوال هؤلاء كالنصوص، لا تقبل الرد ولا التأويل، ومن ثم يردون نصوص الكتاب والسنة لأجلها. أما أهل السنة فإمامهم وقائدهم الذي يتبعون ما جاء به ويزنون جميع أقوال الناس بأقواله؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: تميز السلف " أهل السنة والجماعة " عن غيرهم:
والقصد من هذا بيان الميزات التى تميز بها أهل السنة عن غيرهم ومن أهمها:
ا- أن أهل السنة ليس لهم اسم يسمون به إلا اسم " أهل السنة والجماعة "، أو " أهل الحديث " فهو الاسم الذي عرفوا به، وهذا بخلاف
أصحاب البدع الذين تسموا بأسماء وألقاب أو عرفوا بها فصارت علما عليهم، ومن المعلوم أن أهل السنة قد يسميهم غيرهم بأسماء وألقاب أخرى، إذ ما من فرقة إلا وسمت أهل السنة باسم يناسب ما خالفها فيه أهل السنة، ولكن بقي أهل السنة لم يلزمهم شىء من هذه الألقاب الباطلة. ولذلك ذكر ابن عبد البر أن رجلا جاء إلى الامام مالك فقال: " يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بينى وبين الله عز وجل، قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل. قال: من أهل السنة؟، قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمى، ولا قدري، ولا رافضي (1) ، ويقول الشيخ عبد القادر الجيلى (2)
في الغنية: " واعلم أن لأهل البدع علامات يعرفون بها فعلامة أهل البدعة الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر بالحشوية، ويريدون إبطال الآثار، وعلامة القدرية تسميتهم أهل الأثر مجبرة، وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، وعلامة الرافضة تسميتهم أهل الأثر ناصبة، وكل ذلك عصبية وغياض لأهل السنة، ولا اسم لهم إ، اسم واحد وهو: أصحاب الحديث، ولا يلتصق بهم ما لقبهم به أهل البدع، كمالم يلتصق بالنبي صلى الله عليه وسلم تسمية كفار مكة ساحرا وشاعرا ومجنونا ومفتونا وكاهنا، ولم يكن اسمه عند الله وعند ملائكته وعند إنسه وجنه ولسائر خلقه إلا رسولا نبياً
…
" (3) .
2-
توسطهم بين الناس، وعدم الافراط أو التفريط، وهذا مبني على أن مذهبهم هو المذهب الوسط. وقد حرص السلف على أن يكونوا وسطا.
(1) الانتقاء لابن عبد البر (ص: 35) .
(2)
أو الجيلاني، وهو الشيخ عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي الحنبلي، وفي مقدمة الغنية في ترجمته (ص: 3) عبد القادر بن موسى وكذا في الأعلام (4/47) - الطبعة الأخيرة-، ولد الشيخ عبد القادر سنة 470 هـ، وتوفى سنة 561هـ. قال عنه الذهبى:" وفي الجملة: الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه"، وسماه في بداية الترجمة شيخ الاسلام وعلم الأولياء. سير أعلام النبلاء (20/439- 451) ، وانظر الأنساب (3/414) ، ط لبنان والمنتظم (10/219) ، وذيل طبقات الحنابلة (1/290-301) ..
(3)
الغنية (1/80) .
في الأمور كلها وأن لا ينساق أحد منهم مع أحد القولين المتطرفين، ولذلك كان الشعبي (1) يقول:" أحب أهل بيت نبيك ولا تكن رافضيا، واعمل بالقرآن ولا تكن حروريا، واعلم أن ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ولا تكن قدريا، وأطع الامام وإن كان عبدا حبشيا ولا تكن خارجيا، وقف عند الشهات ولا تكن مرجيا، وأحب صاع بنى هاشم ولا تكن خشبيا (2) ، وأحب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سنديا "(3) .
3-
ثباتهم على منهجهم لقناعتهم أنه الحق، وعدم تقلبهم كما هي عادة أهل الأهواء، ولذلك روى عن عمر بن عبد العزيز-رحمه الله أنه قال:" من جعل دينه غرضا للخصومات اكثر التنقل "(4)، كما روى عن الامام مالك أنه قال:" كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله "(5)، وروى معن بن عيسى قال: " انصرف مالك بن أنس - رضى الله عنه - يوما من المسجد وهو متكىء على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الحورية- كان يتهم بالإرجاء- فقال: يا عبد الله، اسمع منى شيئا أكلمك به وأحاجك، وأخبرك رأي، قال: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعني. قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال نتبعه. قال مالك-رحمه الله تعالى- -: يا عبد الله، بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وأراك تنتقل
(1) هو: الامام المشهور: عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار، أبو عمرو الهمذاني الشعبى، روى له الجماعة. توفى سنة 05 1 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: أخبار القضاة (2/413-428) والحلية (4/ 0 31) ، وسير أعلام النبلاء (4/294) ، والوافي في الوفيات (16/587) .
(2)
هم أتباع المختار بن أبي عبيد، من الشيعة، وهم من الكيسانية وغيرهم، وسموا بذلك لاستعمالهم العكاكيز في الحرب. انظر: مروج الذهب (3/ 310) ، منشورات الجامعة اللبنانية، وانظر فهارس هذا الكتاب (6/306) .
(3)
تهذيب تاريخ دمشق (7/143) .
(4)
رواه الد ارمي، رقم (310) - باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله، والآجري في الشريعة (ص: 56) ، والبغوى في شرح السنة (1 / 217) ، ط المكتب الإسلامي، ورواه اللالكائي في شرح السنة، رقم (216) .
(5)
رواه اللالكائي في شرح السنة، رقم (293-294) .
من دين إلى دين، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات اكثر التنقل " (1) .
ولذلك ما أكثر تنقل أهل الأهواء، بخلاف السلف الذين عرفوا الحق فثبتوا عليه، وأهل الكلام " لو اعتصموا بالكتاب والسنة لا تفقوا كما اتفق أهل السنة والحديث، فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شىء من أصول دينهم "(2) .
4-
اتفاقهم على أمور العقيدة، وعدم اختلافهم مع اختلاف الزمان والمكان، وهذا ما يمكن أن يسمى به الوحدة الفكرية عندهم " فأهل السنة في أي قرن من القرون، وفي أي مكان لو اختبرت الواحد منهم لوجدته يحمل من العقيدة والمنهج- مع القناعة التامة بذلك- مثل ما يحمله الآخر يقول قوام السنة الأصبهاني (3) : " ومما يدل على أن أهل الحديث هم أهل الحق انك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار - وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى فيهم اختلافا ولاتفرقا في شيء ما وإن قل. بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ " (4) .وهذا وصف دقيق لوحدة أهل السنة وعدم تباين واختلاف أقوالهم مثل ما حدث ويحدث لمن عداهم من أهل الأهواء والابتداع.
(1) الشريعة للآجري (ص: 56-57) .
(2)
درء تعارض العقل والنقل (10/306) .
(3)
هو: الإمام إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشى، التيمي الأصبهاني، (ويقال له: الجوزي، نسبة إلى الجوزة، وهي الفرخة في لغة العجم) ، وبها نسبه تلميذه صاحب الأنساب، وذكر أنه كان يكرهها، لكنه قال: ولولا اشتهاره بها ما نسبته إليها، ويلقب بقوام السنة، ولد سنة: 457 هـ وتوفى سنة: 535 هـ. الأنساب (3/368) ، وطبقات الشافعية للأسنوي (1/359) وشذرات الذهب (4/105) ، وسير أعلام النبلاء (20/ 80) ، والأعلام (1/323) .
(4)
الحجة في بيان المحجة- مخطوط- ورقمة (164) ب.
5-
ردهم على أهل البدع- في كل زمان- حسب البدع التي نشأت فيه، وهذا لأنهم حريصون أتم الحرص على سلامة العقيدة من أن يشوبها شيء من كدر الهوى والابتداع، فكل ما حدثت بدعة ردوا عليها وبينوا فسادها، وهكذا في البدع التي تليها. ولا يفتعلون افتراضات وشبهات ثم يقومون بالرد عليها كما يفعل أهل البدع، وإنما يحرصون على تربية الناس على العقيدة الصحيحة من الكتاب والسنة، ويبينون للناس ذلك ويشرحونه، حتى تمتلىء قلوبهم بعظمة الله، وبعظمة الوحي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما يترتب على هذه التربية من الاعتزاز بهذا الدين وبمذهب أهل السنة والجماعة، وأنه طريق النجاح والفلاح. أما مجادلة أهل البدع والرد عليهم فإنما يأتي عرضا حسب خطورة البدعة والخوف من انتشارها، فيردون عليها فقط ولا يتعدى ذلك إلى افتراض بدع أخرى ثم الرد عليها، حتى توجد هذه البدعة، ولذلك فمن الواضح من منهج السلف أنه " قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك، فمن ابتلي بمن يقول: ليس هذا كلام الله كالامام أحمد كان كلامه في ذم من يقول: هذا مخلوق، أكثر من ذمه لمن يقول: لفظي مخلوق. ومن ابتلى بمن يجعل بعض بعض صفات العباد غير مخلوق، كالبخاري صاحب الصحيح، كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غر مخلوق أكثر. مع نص أحمد والبخاري وغيرهما على خطأ الفريقين "(1) .
6-
حبهم لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وموالاتهم لأهلها، وهذه ميزة بارزة لأهل السنة كما؟ أن ضدها من الإعراض عن السنة وعدم الاهتمام بها، والازراء أحيانا بمن يفنون أعمارهم في روايتها ونقلها وتعليمها للناس- إحدى علامات أهل البدع الكبرى. رُوي عن البخاري أنه قال:" كنا ثلالة أو أربعة على باب علي بن عبد الله فقال: إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم" (2) ،
(1) الجواب الصحيح (3/103) .
(2)
سبق تخريجه (ص: 35) .
إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث أنتم، لأن التجار قد شغلوا أنفسهم بالتجارات، وأهل الصنعة قد شغلوا أنفسهم بالصناعات، والملوك قد شغلوا أنفسهم بالمملكة، وأنتم تحبون سنة النبي صلى الله عليه وسلم (1)، ويقول قتيبة بن سعيد (2) :" إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويهـ وذكر قوما آخرين- فإنه على السنة، ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع "(3)، ويقول الشيخ أبو اسماعيل الصابوني:" وإحدى علامات أهل السنة حبهم لأئمة السنة وعلمائها وأنصارها وأوليائها، وبغضهم لأئمة البدع الذين يدعون إلى النار، ويدلون أصحابهم على دار البوار، وقد زين الله سبحانه قلوب أهل السنة ونورها بحب علماء السنة فضلا منه جل جلاله "(4) .
7-
قبولهم عند الناس والتمكين لهم، فهم العدول الذين تقبل أقوالهم ويحتج برواياتهم. ولو استعرضنا تاريخ الاسلام لوجدنا البارزين فيه كل عصر هم أهل السنة الذين قاموا بالحق ودعوا إليه، وجددوا ما اندرس من أمور الاسلام، وجاهدوا في الله حق جهاده بالنفس والمال والقلم واللسان. يقول إسحاق ابن موسى الخطمي (5) : ما مكن لأحد من هذه الأمة ما مكن لأصحاب الحديث لأن الله عز وجل قال في كتابه: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] فالذي ارتضاه الله قد مكن لأهله فيه، ولم يمكن لأصحاب
(1) شرف أصحاب الحديث (ص: 52) .
(2)
هو: قتيبة بن سعيد بن جميل بن طربف الثقفي، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت، ولد سنة 149 هـ، وتوفى سنة 240 هـ. روى له الجماعة. سير أعلام النبلاء (11/13) ، والأنساب (2/257) ، والتقريب (2/123) .
(3)
شرف أصحاب الحديث (ص: 71-72)، ورواهـ مع اختلاف يسير- الصابوني في عقيدة السلف (ص: 109) ، واللالكائي في شرح السنة، رقم (59) .
(4)
عقيدة السلف للصابوني (ص: 08 ا-109) .
(5)
هو: اسحاق بن موسى الخطمي، أبو موسى المدينى، ثقة متقن من رجال مسلم وبعض أصحاب السنن، توفي سنة 244 هـ، تهذيب الكمال للمزي (2/480) مطبوعة، وسير أعلام النبلاء (10/554) ، والتقريب (1/ 61) .
الأهواء في أن يقبل منهم حديث واحد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأصحاب الحديث يقبل منهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث أصحابه. ثم ان كان فيهم رجل أحدث بدعة سقط حديثه وإن كان من أصدق الناس " (1)) . وهذا على العموم، وإلا فقد روى بعض العلماء عن بعض أهل البدع بشروط دقيقة حددوها.
8-
حرصهم على تنشئة الشباب على السنة، لأن الشاب إذا نشأ على قراءة القرآن ومحبة السنة ومدارستها، وما ينشأ عن ذلك من مجالسة أصحابها والتعلم منهم- أحرى أن يكون معهم وأن يكون صاحب سنة، مبغضا للبدعة وأصحابها. قال عمرو ابن قيس الملائي (2) :" إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه فإن الشاب على أول نشوئه "(3)، وقال عبد الله بن شوذب (4) :" إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها "(5)، وروى عن أيوب [السختياني] (6) أنه قال:" إن من سعادة الحدث والأعجمى أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة "(7) .
(1) شرف أصحاب الحديث (ص: 32) .
(2)
أبو عبد اللة الكوفي، ثقة متقن، عابد، مات سنة بعض وأربعين ومئة حددها بعضهم بسنة 146 هـ. تهذيب التهذيب (8/92) ، والتقريب (2/72) .
(3)
الإبانة لابن بطة (الصغرى)(ص: 133) رقم (92) .
(4)
هو: عبد الله بن شوذب الخراساني، أبو عبد الرحمن، صدوق عابد، ولد سنة 86 هـ، وتوفي سنة 144 هـ، وقيل: 156 هـ. الحلية (6/129) ، سير أعلام النبلاء (7/92) ، تهذيب الهذيب (5/ 255) ، التقريب (1/423) .
(5)
شرح السنة للالكائي رقم (31)، وانظر: الإبانة (الصغرى)(ص: 133) .
(6)
هو: أيوب بن أبي تميمة، كيسان السختياني، أبو بكر البصرى، ثقة، ثبت، حجة، من كبار الفقهاء والعباد، توفي سنة 131 هـ. سير أعلام النبلاء (6/15) ، تهذيب المزي (3/457)، رقم الترجمة: 07 6- مطبوعة-، وتهذيب التهذيب (1/397)(1/397) ، والتقريب (1/89) .
(7)
رواه اللالكائي، رقم: 30، وابن الجوزى في تلبيس (ص: 9) ، الطبعة المنيرية.
9-
الحرص على جماعة المسلمين ووحدتهم، فهم دائما يحضون على الوحدة وينبذون الفرقة والتفرق. وهذا واضح في منهج السلف! القائم على أن أي اتفاق بين المسلمين لا يكون إ، على أساس الرجوع إلى الكتاب والسنة، وتحكيمها، فهم أهل السنة والجماعة المجتمعون على الحق، الحريصون على حمع الناس على كلمة الحق.