الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسيكون الكلام حول هذا الموضوع من خلال ما يلي:
أ- طور الأشعري الأول، المتفق عليه.
ب- رجوعه عن الاعتزال وتاريخه وأسبابه.
ب- مذهب الأشعري بعد رجوعه: هل كان طورا واحدا أو طورين؟.
أ- طور الأشعري الأول (مرحلة الاعتزال) :
لم يشك أحد في أن الأشعري نشأ على مذهب المعتزلة، وأنه أقام علي ذلك فترة طويلة من الزمن، وليس أدل على ذلك من اعترافه هو حين قال فى كتابه " العمد" يعدد مؤلفاته:" وألفنا كتابا كبيرا في الصفات [وهو اكبر كتبه] سميناه كتاب: الجوابات في الصفات عن مسائل أهل الزيغ والشبهات، نقضنا فيه كتابا كنا ألفناه قديما فيها على تصحيح مذهب المعتزلة، لم يؤلف لهم كتاب مثله، ثم أبان الله سبحانه لنا الحق فرجعنا عنه فنقضناه وأوضحنا بطلانه"(1) ، وفي هذا النص نلمح المستوى الذى وصل إليه في مرحلة الاعتزال، وكيف أنه صار يؤلف الكتب على مذهبهم، بل إن هذا الكتاب المنقوض يذكر أنه لم يؤلف للمعتزلة مثله.
أما المصادر التي ترجمت له فتذكر ذلك، فابن النديم يقول:" ابن أبي بشر وهو أبو الحسن على بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري من أهل البصرة، وكان أولا معتزليا ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة في يوم الجمعة"(2) .
ويذكر السجزي (3) المتوفي سنة 444 هـ في رسالته إلى أهل زبيد
(1) التبيين (ص:131) .
(2)
الفهرست (ص: 231) - ط طهران.
(3)
هو: الإمام الحافظ أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوايلي السجزي، انظر الأكمال (7/397) ، والأنساب (13/279)، والتمييز والفصل لإسماعيل بن باطيش (ص: 758) .
المسماة: " الرد على من أنكر الحرف والصوت "رواية عن خلف المعلم (1) - المتوفي سنة 371 هـ- من فقهاء المالكية أنه قال: "أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة، فرجع عن الفروع وثبت على الأصول"(2) ، أى أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الاعراض وغيره.
ويذكر ابن عساكر أن أبا القاسم حجاج بن محمد الطرابلسي قال:
"سألت أبا بكر إسماعيل بن أبي إسحاق الأزدي القيرواني المعروف بابن عزرة (3) رحمه الله عن أبي الحسن الأشعري-رحمه الله فقلت له: قيل لى عنه: أنه كان معتزليا، وأنه لما رجع عن ذلك أبقي للمعتزلة نكتا لم ينقضها، فقال لي: الأشعري شيخنا وإمامنا ومن عليه معولنا، قام على مذاهب المعتزلة أربعين سنة، وكان لهم إماما، ثم غاب عن الناس فى بيته خمسة عشر يوما، فبعد ذلك خرج الى الجامع فصعد المنبر....."(4) وذكر قصته.
ومما ينبغي ملاحظته أن بداية نبوغه وطلبه للعلم قد لا تكون بدأت على مذهب المعتزلة، لأن أباهـ الذي لا يعرف متى كانت وفاتهـ قد أوصى بولده إلى الساجي الإمام المحدث، ومن المحتمل أن يكون قد تتلمذ عليه وعلى أمثاله من العلماء فترة، إلى أن تحول إلى مذهب الاعتزال على يد الجبائي، ويذكر بعض مترجمي الأشعري سببا وجيها لهذه الصلة القوية بينه وبين الجبائي، وذلك حين يذكرون أن الجبائي تزوج بامه (5) ، وبذلك صار الأشعري ربيبا عنده،
(1) اسمه خلف بن عمر، وقيل عثمان بن عمر، وقيل عثمان بن خلف، ويعرف بابن أخي هشام الربعي، من أهل القيروان، اختلف في وفاته فقيل 371 هـ وقيل 373 هـ، ترتيب المدارك (6/210) ، ومعالم الإيمان (3/99) .
(2)
الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 168) ، مطبوع على الآلة الكاتبة.
(3)
هكذا في التبيين لابن عساكر، والذى ترتيب المدارك بن عذرة، وذكر المحقق في الحاشية إن في احدى النسخ عزرة كما في التبيين، وهو فقيه من أصحاب ابن أبي زيد القيرواني وطبقته، رحل الى المشرق ولقي ابن مجاهد الطائي المتكلم- تلميذ الأشعري- وأخذ عنه وعن غيره، لم يذكر له تاريخ ولادة ولا وفاة، ترتيب المدارك (7/274) .
(4)
التبيين (ص: 39) .
(5)
انظر: المختصر لأبي الفداء (2/90) ، وتاريخ ابن الوردي (1/410) ، والوافي للصفدي (4/74) ، وخطط المقريزي (2/359) - ط بولاق.
خاصة إذا كان هذا الزواج في حياة الأشعري المبكرة، حيث يكون التأثير أقوى، والتتلمذ على يد علماء السنة- إن حصل- لم يكن قد بلغ مرحلة النضج وا لاستقلال.
وعلى أي حال فمما لا خلاف فيه أن الأ شعري تتلمذ على يد الجبائي المعتزلي فمن الجبائي وما أهم آرائه؟.
الجبائي هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولي عثمان بن عفان- رضى الله عنهـ، الجبائي (1) البصري، ولد سنة 234- أو- 235 هـ ودرس الاعتزال على شيخ المعتزلة أبي يعقوب يوسف ابن عبد الله الشحام الذى انتهت عليه رئاسة المعتزلة في البصرة، ولما توفي الشحام سنة 267 هـ تبوأ مكانه في رئاسة المعتزلة تلميذه أبو على الجبائي، الذي عده ابن المرتضي على رأس الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة (2) ، وبقي أبو علي ينافح عن مذهب المعتزلة ويرد على من خالفه من المعتزلة وغيرهم، فكان ممن رد عليه أبو الحسن الخياط، والصالحي والجاحظ والنظام وغيرهم من المعتزلة، كما رد على تلميذه أبي الحسن الأشعري الذى كانت له أيضا كتب كثيرة في الرد كل من شيخه الجبائي، ولم يصل إلينا شيء من كتبه، وآراؤه مبثوثه في كتب المقالات - وأهمها كتاب الأشعري- وفى كتب المعتزلة وأهمها كتب عبد الجبار الهمذاني. ومن أبرز تلاميذ الجبائي أبو الحسن الأشعري- الذى ترك الاعتزال- وابنه أبو هاشم الجبائي الذى صار إماما للمعتزلة بعد والده، وقد توفي أبو على الجبائي سنة 303 هـ (3) .
(1) نسبة الى "جبي"بلد من أعمال خوزستان (الأهواز) قريبة من البصرة وليست من أعمالها،انظر كتاب الأقاليم للإصطخرى- المخطوط- (ص: 54) ، والروض المعطار (ص: 156) ، ومعجم البلدان (2/97) ، وكلهم ذكر أبا علي الجبائي ونسبته اليها.
(2)
انظر: كتاب المنية والأمل، تحقيق محمد جواد مشكور (ص: 170) .
(3)
انظر ترجمته فى: الأنساب (3/176) ، والمنتظم (6/137) ، ووفيات الأعيان (4/267) ، وسير أعلام النبلاء (14/183) ، والوافي (4/ 74) ، والبداية والنهاية (11/125) ،وطبقات المفسرين للداودى (2/189) ، ولسان الميزان (5/ 271)، والمنية والأمل (ص:170) ، =
وأهم ما يلاحظ في حياة الجبائي أنه عاش في فترة انحسار الأعتزال، التي بدات في عهد المتوكل- تولي الخلافة سنة 232 هـ-، حين أبطل ما دعا إليه من قبله من الخلفاء من محاربة أهل السنة والدعوة إلي مذهب المعتزلة من القول بخلق القرآن وغيره، والإمام أحمد الذى نصر الله به أهل السنة توفي في أول حياة الجبائي سنة 241 هـ.
ومع ذلك فلم يصل الأمر الى منع دراسة وتدريس الجدل وعلم الكلام، وإنما أبطل المتوكل ما تبنته الدولة من نصرة المعتزلة وفرض مذهبهم على الناس، ولذلك بقيت بعض المساجد في البصرة وبغداد وغيرها يتولى التدريس فيها أو في بعض حلقاتها بعض المعتزلة (1) .
وقد سبق في بيان أحوال عصر الأشعري؛ أنه في عام 279 هـ صدر الأمر بمنع الوراقين من بيع كتب الفلسفة والكلام (2) ، وقد استمر هذا الانحسار بالنسبة للمعتزلة إلى مجىء البويهيين الذين دخلوا بغداد سنة 334 هـ، ومالوا إلى التشيع والاعتزال.
في هذه الفترة عاش الجبائي، وتزعم حركة الاعتزال بعد شيخه الشحام، واستطاع بتبنيه لمذهب شيوخه، وبآرائه التجديدية في مذهب الاعتزال أن يكون له طائفة أو فرقة سميت بالجبائية.
ومن الملفت للنظر حقا أن يكون رجوع الأشعري عن الاعتزال في هذه الفترة التي انحسر فيها مذهب المعتزلة، فكيف يفسر هذا الفرح العظيم لأهل السنة؟ هل كان الجدل بين أهل السنة والمعتزلة في تلك الفترة قويا دون أن يبرز على السطح، أم أن الصراع الذي تلا هذه الفترة حين ظهرت للمعتزلة مكانة وسلطة في عهد البويهيين جعلت علماء السنة يستعيدون الأحداث السابقة التي تدعم مواقفهم ومنها قصة الأشعري؟. فصاروا ينشرونها ويؤلفون حولها.
= والفرق بين الفرق (ص: 183)، والملل والنحل للبغدادي (ص:128) ، والتبصير بالدين (ص:79) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/78)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص: 43) ،- ت النشار-، و (ص: 35) مع المرشد الأمين.
(1)
انظر: الجبائيان (ص:66)
(2)
انظر: عصر الأشعري في أول هذا الفصل.
أما أهم آراء أبي علي الجبائي، فهي مبنية على مذهب المعتزلة القائم على أصولهم الخمسة، ومع أن الجبائي يعتبر إماما للمعتزلة في زمانه الا أنه انفرد بآراء تستوقف الناظر، ولن نتعرض لجميع آرائه فقد كتبت حولها مع آراء ابنه أبي هاشم رسالة علمية (1)، ولكن نذكر منها ما يلفت النظر ويعين على فهم الأجواء التي عاشها الأشعري في فترة تتلمذه عليه:
ا- في مسألة كلام الله، قال بقول المعتزلة: أنه مخلوق، لكنه أتى برأى جديد وهو قوله:" إن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارى كلاما لنفسه في محل القراءة"(2) ، وقوله " كلام الله يوجد مع قراءة كل قارىء، ثم الكلام عنده حروف تقارن الأصوات المتقطعةعلى مخارج الحروف، وليست هي أصواتا"(3) وقوله "إذا اجتمع طائفة من القراء على تلاوة آية، فيوجد بكل واحد منهم كلام الله، والموجود بالكلام كلام واحد"(4)، فهل كان قوله: إن الله يحدث عند قراءة كل قارى كلاما لنفسه، وقوله إن الكلام بلا أصوات يقرب من الكلام النفسي الذى قال به الأشعرية (5) ؟.، ومما يلاحظ أن الأشعري شنعوا عليه في قوله: إن الصوت كامن في الحروف في المصاحف، وقد علق ابن المرتضي على ذلك بقوله: " فالشيخ أبو على خاف ما خاف أهل الأثر في المرتبة الأولى من الكفر في مخالفة السمع، فتكلف مخالفة المعقول في كون الصوت في الحروف المكتوبة، وفي إحداث صوت من الله مع صوت كل قارى، حتى
(1) بعنوان: الجبائيان أبو على وأبو هاشم، تأليف على فهمي خشيم، حصل عليها من جامعة عين شمس بمصر، كلية الآداب بإشراف محمد عبد الهادى أبو ريدة، وقد طبعت في ليبيا- دار الفكر سنة 1968. م- ويظهر الباحث تعاطفه الشديد معهم وقد قال في المقدمة (ص: هـ) " كان المعتزلة استولوا على عقلي بعقلهم منذ زمن بعيد".
(2)
الملل والنحل للشهرستاني (1/81) .
(3)
الإرشاد للجويني (ص: 123) .
(4)
نفس المصدر والصفحة.
(5)
انظر: الجبائيان (ص: 117) .
يكون السامع لكل قارئ سامعا لكلام الله على الحقيقة كما سمعه موسى عليه السلام " (1) .
2-
وهو ينكر الرؤية لكنه لا يكفر من أثبتها كما يقول المعتزلة (2) .
3-
من أصول المعتزلة إنفاذ الوعيد وأن أهل الكبائر لابد أن يخلدوا في النار وقد قال الجبائي بذلك، لكنه قال بأنه يجوز على الله العفو وهذا مخالف لسائر المعتزلة، يقول الأشعري عن المعتزلة:"واختلفوا هل كان في العقل يجوز أن يغفر الله لعبده ذنبا ويعذب غيره على مثله، أم لا على مقالتين: فأجاز ذلك بعضهم وهو الجبائي، وأنكره أكثرهم "(3) .
4-
يرى أن العلة لا توجب معلولها، والسبب لا يجوز أن يكون موجبا للمسبب، ومعلوم أن أكثر المعتزلة يقولون: ان الأسباب موجبة لمسبباتها (4) ، والجبائي " يصف ربه بالقدرة على أن يجمع بين النار والقطن ولا يخلق إحراقا وأن يسكن الحجر في الجو فيكون ساكنا لا على عمد من تحته، واذا جمع بين النار والقطن فعل ما ينفي الا حراق وسكن النار فلم تدخل بين أجزاء القطن فلم يوجد إحراق"(5) . فهذا القول يقرب مما أخذ به الأشعرية من إنكار الأسباب (6) .
5-
وفي الكسب كان له رأي متميز عن المعتزلة، يقول الأشعري:
(1) إشار الحق عل الخلق (ص: 319) - رسالة محققة في جامعة الإمام، ت أحمد مصطفي حسين صالح. وهو في الطبعة الأولى (ص: 125) .
(2)
انظر: شرح الأصول الخمسة (ص:275) .
(3)
مقالات الإسلاميين (ص:276) - ريتر-، ويرى الجبائي: أن الفاسق الملى مؤمن من أسماء اللغة بما فعله من الإيمان، وهذا مخالف لسائر المعتزلة الذين يقولون: إن الفاسق في منزلة بين المنزلتين، بل زعم الجبائي أن في اليهودي إيمانا نسميه به مؤمنا مسلما من أسماء اللغة، انظر: المقالات (ص:269) ، فهل الجبائي يقرب هنا من أقوال المرجئة؟.
(4)
انظر: المقالات (ص: 412- 413) .
(5)
مقالات الإسلاميين (ص:570) .
(6)
انظر: الجبائيان (ص:172) .
" واختلف الناس في معني مكتسب، فقال قوم من المعتزلة: معناه أن الفاعل فعل بآلة وبجارحة وبقوة مخترعة، وقال الجبائي: معني المكتسب هو الذي يكتسب نفعا أو ضررا أو خيرا أو شرا، أو يكون اكتسابه للمكتسب غيره كاكتسابه للأموال وما أشبه ذلك واكتسابه للمال غيره، والمال هو الكسب له في الحقيقة وإن لم يكن له فعلا، قال الأشعري: والحق عندى أن معني الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة فيكون كسبا لمن وقع بقدرته"(1) . وقد خالف الجبائي سائر المعتزلة في معنى أن الله خالق (2)، بل وقال: إن الله " لا يقدر على عين فعل العبد بدليل التمانع
…
" (3) .
6-
وقوله في إرادة العبد خالف فيه سائر المعتزلة، يقول الأشعري:" وأجمعت المعتزلة إلا الجبائي أن الإنسان يريد أن يفعل ويقصد إلى أن يفعل، وإن إرادته لأن يفعل لا تكون مع مراده ولا تكون إلا متقدمة للمراد، وزعم الجبائي: أن الإنسان إنما يقصد الفعل في حال كونه، وأن القصد لكون الفعل لا يتقدم الفعل، وأن الإنسان لا يوصف بأنه في الحقيقة مريد أن يفعل، وزعم أن إرادة البارئ مع مراده"(4) .
7-
قوله بالشريعة العقلية، يقول الشهرستاني عنه وعن ابنه أبي هاشم:" وأثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية الى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعة التي لا يتطرق اليها عقل ولا يهتدى اليها فكر، وبمقتضي العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي، إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف
(1) المقالات (ص: 542) .
(2)
انظر: المصدر السابق (ص: 539) .
(3)
المواقف (ص: 284) ، ومع شرحه (8/64) ، وقد شرح الإيجي معنى التمانع هنا على رأي الجبائي بأنه "لو أراد الله تعالى فعلا، وأراد العبد عدمه، لزم اما وقوعهما فيجتمع النقيضان أو لا وقوعهما فيرتفع النقيضان، أو وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر، لايقال يقع مقدور الله لأن قدرته أعم، لأنا نقول معنى كون قدرته أعم تعلقها بغير هذا المقدور ولا أثر له في هذا المقدور، فهما في هذا المقدور سواء".
(4)
مقالات الإسلاميين (ص:418) .
بالسمع " (1) ، وهذا كلام خطير يدل على مقدار النبوة عند هؤلاء، فالصلاة تجب بالعقل، لكن توقيتها فجرا وظهرا وعصرا يعرف عن طريق النبي، فالنبي جاء بالحكم الوضعي دون الحكم التكليفي، وهذا القول- لشناعتهـ يظهر أن الجبائي لم يسطره في كتاب ولم يكن مذهبا مصرحا به عنده كما يقول عبد الجبار الهمذاني (2) ، وهذه عادة الجبائي (3) .
8-
ومن الأمور المثيرة والتي قال بها الجبائي قولهـ على مذهبهـ إن بغداد- في عهدهـ دار كفر، يقول الأشعري:"واختلفوا هل الدار دار إيمان أم لا؟ فقال اكثر المعتزلة والمرجئة: الدار دار إيمان، وقالت الخوارج من الأزارقة والصفرية: هي دار كفر وشرك، وقالت الزيدية: هي دار كفر نعمة، وقال جعفر بن مبشر ومن وافقه هي دار فسق. وقال الجبائي: كل دار لا يمكن فيها أحد أن يقيم بها أو يجتاز بها إلا بإظهار ضرب من الكفر، أو باظهار الرضي بشيء من الكفر، وترك الإنكار له فهي دار كفر، وكل دار أمكن القيام بها والاجتياز بها من غير اظهار ضرب من الكفر أو إظهار الرضي بشيء من الكفر وترك الإنكار له فهي دار إيمان"، ويعلق الأشعري على رأى الجبائي قائلا:" وبغداد على قياس الجبائي دار كفر لا يمكن المقام بها عنده الا بإظهار الكفر الذي هو عنده كفر أو الرضي، كنحو القول إن القرآن غير مخلوق، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل متكلما به، وأن الله سبحانه أراد المعاصي وخلقها، لأن هذا كله عنده كفر، وكذلك القول في مصر وغيرها على قياس قوله، وفي سائر أمصار المسلمين، وهذا هو القول بأن دار الإسلام دار كفر ومعاذ الله من ذلك"(4) .
9-
ومن أقواله العجيبة أيضا رأيه في النبوة، يقول الأشعري: " واختلفوا
(1) الملل والنحل للشهرستاني (1/81) .
(2)
انظر: المجموع المحيط بالتكليف (ج:3،ص:195) و مخطوط- عن الجبائيان (ص:276) .
(3)
انظر: الجبائيان (ص:276) مع الحواشي.
(4)
مقالات الإسلاميين (ص:463- 464) .
في النبوة هل هي ثواب أو ابتداء، فقال قائلون: هي ابتداء، وقال قائلون: هى جزاء على عمل الأنبياء، هذا قول عباد، وقال الجبائي: يجوز أن تكون ابتداء" (1)، فهل قوله يجوز أن تكون النبوة ابتداء فيه ميل إلى أولئك الذين يقولون: إن النبوة قد تكون مكتسبة؟.
10-
والجبائي كان يتوقف في المفاضلة بين علي وأبي بكر- رضي الله عنهما، (2) ثم مال أخيرا إلى تفضيل على، وألف كتابا لعباد بن سليمان في تفضيل أبي بكر (3) ، ويروي أن الجبائي هم أن يجمع بين المعتزلة والشيعة (4) . 11- أما موقفه من السنة فهو موقف باقي المعتزلة، وقد أورد بعض مترجميه أن أحدهم سأله عن حديث في الاحكام ورد بإسناد فقبله، ولما أورد نفس هذا الإسناد في حديث حجاج آدم وموسى رده (5) .
هذه أهم آراء الجبائي- البارزة- مع ملاحظة أنه يتبني مذهب المعتزلة ويقول بأقوالهم، فهل كان لهذه الأقوال والتناقضات أثر في موقف الأشعري ورجوعه عن مذهب الاعتزال؟ إن أقوال وحياة الجبائي يلاحظ فيها مايلي:
أ- خروجه عن بعض آراء أهل الاعتزال، قد يكون أحيانا خروجا على إجماعهم.
ب- شناعة بعض أقواله: كقوله بالشريعة العقلية، أو دار الكفر، أو أن النبوة يجوز أن تكون ابتداء.
ج- عدم تصريحه ببعض آرائه ومواقفه، ولعل الأشعري الذي كان قريبامنه مطلع عليها كلها، وحين نعلم أن الجبائي قد تعرض لمصادرة أمواله،
(1) مقالات الإسلاميين (ص:448) .
(2)
انظر: المصدر السابق (ص:458-459) .
(3)
انظر: المنية والأمل (ص:171-172) ، ت مشكور.
(4)
انظر: الجبائيان (ص:294) .
(5)
انظر: المنية والأمل (ص:171) .