الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
والفرع حكم الشرع
قد تعلقا
…
بصفة الفعل كندب مطلقا
يعني: أن الفرع هو حكم الشرع المتعلق بصفة فعل المكلف وتلك الصفة ككونه مندوبًا أو غيره من الأحكام الخمسة مطلقًا، أي سواء كان الفعل قلبيًا كالنية أو بدنيًا كالضوء، قال الناصر اللقاني عند قول خليل: فذلك لعدم إطلاعي في الفرع على أرجحية منصوصة.
والفقه هو العلم بالأحكام
…
للشرع والفعل نماها النامي
أدلة التفصيل منها مكتسب
الفقه لغة: الفهم والشعر والطب، واصطلاحًا هو: العلم بجميع الأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية. والمراد بالأحكام: النسب التامة التي هي ثبوت أمر لأخر إيجابًا أو سلبًا، احترازًا على العلم بالذوات والصفات والأفعال وعن النسبة التقييدية والشرعية المأخوذة من الشرع تصريحًا واستنباطًا احترازًا عن الأحكام العقلية والحسية والاصطلاحية كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وإن النار محرقة، وإن الفاعل مرفوع وإن كان الحاكم في الحقيقة في الأخيرين إنما هو العقل على المشهور، ولكن بواسطة الحس والاصطلاح.
والعملية المتعلقة بكيفية عمل قلبي كالعلم بوجوب النية في الوضوء وبدني كالعلم بسنية الوتر فيشمل العمل عمل غير المكلف لأن الفقه يبحث عن أفعال غير المكلف فالعلم بها من الفقه. لأنه يمنع من المحرمات كالزنى وشرب الخمر ويؤمر بالطاعات.
والمراد بكيفية العمل وجوبه أو ندبه أو ضدهما أو إباحته وهي المسماة عن المناطقة بالمادة وهي الدوام والضرورة وما يقابل الأمرين في نقضهما، فخرج العلم بالأحكام الشرعية الاعتقادية أي المتعلقة بحصول العلم في القلب كالعلم بأن الله تعالى واحد، وأنه يرى في الآخرة فعلمك بوجوب اعتقاد أن الله واحد فقه، وعلمك أن الله واحد ليس به، بل هو من علم الكلام، فالمتكلم يثبت الوحدة، والفقيه يثبت وجوبها. فالحق أن الاعتقاد وسائر الإدراكات انفعال لا فعل للنفس وإذا لم يكن فعلا فلا يكون عملًا إلا على سبيل التسامح قاله في الآيات البينات.
واعترض بعضهم على التقييد بالعمل بأنه يخرج ما ليس بعمل كالطهارة الحاصلة باستحالة الخمر خلا والبيضة فرخا. وكالرق المانع من الإرث ولزوم التصرف وكالسفه المانع من لزوم التصرف مع أن الظاهر أن العلم بها من الفقه لأنه يبحث عنها فيه. وجوابه عندي: أن الطهارة تستلزم حلية تناول الشيء وهو عمل، والرق يمنع أخذ الإرث وهو عمل وانح ذلك النحو.
ويقيد المكتسب خرج علمه تعالى لتعاليه عن الاكتساب والضرورة، وعلم كل نبي وملك بما ذكر، إذ هو ضروري حاصل مع العلم بالأدلة لا مكتسب عنها. فإن قيل: هل يدخل في التعريف علم النبي صلى الله عليه وسلم الحاصل عن اجتهاد بناء على الأصح من جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم فيسمى فقها أو لا يسمى فيكون التعريف غير مانع؟ فالجواب كما لابن أبي شريف: إن ذلك العلم دليل شرعي للحكم فبهذا الاعتبار لا يعد فقهًا بل هو من أدلة الفقه وباعتبار حصوله من دليل شرعي يصح أن يسمى فقهًا إلا أن يقال أنه بواسطة تقرير الله تعالى له عليه يكون ضروريًا فيكون بمنزلة الثابت بالوحي، وذكر الأدلة للبيان لا للاحتراز، إذ لا اكتساب إلا من الدليل. وبقيد التفصيلية خرج علم المقلد فإنه مكتسب من دليل إجمالي لأنه فتوى مجتهد وفتواه حكم الله في حقه. وقال المحلي يخرج به العلم بذلك المكتسب للخلافي من المقتضى، والنافي المثبت بهما ما يأخذه من الفقيه ليحفظه عن إبطال
خصمه؟ فعمله مثلًا بوجوب النية في الوضوء لوجود المقتضى أو بعدم وجوب الوتر لوجود النافي ليس من الفقه وهذا إذا قلنا أن الخلافي يستفيد علمًا بثبوت الوجوب أو انتفائه من مجرد تسليمه من المجتهد وجود المقتضي أو النافي إجمالًا، وإنه يمكنه بمجرد ذلك حفظه عن إبطال خصمه، والحق أنه لا يستفيد علمًا ولا يمكنه الحفظ المذكور حتى يتعين المقتضي أو النافي كأن يقول له: تجب النية في الوضوء لحديث (إنما الأعمال بالنيات) ولم يجب الوتر لحديث (خمس صلوات كتبهن الله على العباد) فيكون هو الدليل المستفاد منه ذلك وحينئذ إن كان الخلافي أهل للاستفادة منه كان فقيهًا قاله المحشيان وهما ابن أبي شريف وزكرياء.
والخلافي صاحب علم الخلاف وهو علم الجدل. وأل في قوله: بالأحكام، للاستغراق وقوله نماها النامي: أي نسبها الناسب فيقول: الشرعية، الفعلية، أي العملية. (والعلم بالصلاح فيها قد ذهب).
المراد بالعلم في حد الفقه ما يشمل الظن كما فسر به الرهوني كلام ابن الحاجب، وجعله القرافي على بابه واستشكل بأن الفقه كما سيأتي في تعريف الاجتهاد ظن لأن أدلته ظنية والمستفاد من الظن ظن فكيف عبر عنه بالعلم في التعريف؟ وأجيب: بأنه لما كان الفقه ظن المجتهد الذي يجب عليه وعلى مقلديه إتباعه كان لقوته بهذا الاعتبار قريبًا من العلم ويعبر عنه به، وأجاب القرافي بقوله: كل حكم شرعي فهو معلوم أي مقطوع به لثبوته بالإجماع، وكل ما يثبت بالإجماع فهو معلوم. وثبوت الإجماع فيه الحكم المختلف فيه هو الإجماع على أن ظن المجتهد حكم الله في حقه وحق من قلده.
وأجاب بعضهم بقوله: مظنون المجتهد مقطوع بوجوب العمل به وكل مقطوع بوجوب العمل به فهو مقطوع به، فمظنون المجتهد مقطوع به. ابن أبي شريف. وهذا الدليل إنما يصح عند المصوبة أي القائلين كل مجتهد مصيب وإلا فهو ممنوع الكبرى عند غير المصوبة.
يعني: أن المراد بالعلم بجميع الأحكام في تعريف الفقه العلم بمعنى
الصلاحية والتهيؤ لذلك بأن يكون له ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام. وقد اشتهر عرفًا إطلاق العلم على هذه الملكة.
فالكل من أهل المناحي الأربعة
…
يقول لا أدري فكن متبعه
يعني: أنه إذا كان المراد التهيؤ والصلاحية لا يقدح في أيمة المناحي الأربعة أي المذاهب قولهم لا أدري فأتبع ذلك القول فإنه يدل على الورع. ولله در القائل:
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا
…
ويكره لا أدري أصيب مقاتله
فقد سئل ملك رحمه الله عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها لا أدري. هذا ما اشتهر في كتب الأصول والذي رواه ابن عبد البر في مقدمة التمهيد على الموطأ أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها لا أدري. وقال أبو حنيفة في ثمان مسائل لا أدري ما الدهر، ومحل أطفال المسلمين، ووقت الختان، وإذا بال الخنثى من الفرجين، والملائكة أفضل أم الإنسان، ومتى يصير الكلب معلمًا وسؤر الحمار ومتى يطيب لحم الجلالة. وكان أحمد يكثر من لا أدري. وسئل الشافعي عن المتعة أفيها طلاق أم ميراث أو نفقة تجب؟ فقال: والله ما أدري. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل. فسبحان من أحاط بكل شيء علما.
كلام ربي أن تعلق بما
…
يصح فعلا للمكلف أعلما
فذاك بالحكم لديهم يعرف
لما ذكر الحكم في تعريف الفقه شرع في تعريفه فتكون ال للعهد الذكرى والصواب تغايرهما لأن المذكور هنا الحكم المتعارف عند الأصوليين وهو خطاب التكليف وهو خطاب الله تعالى والحكم المذكور في تعريف الفقه ليس خطاب الله تعالى بدليل تقييده بالشرع وما هنا لا يكون إلا شرعيًا، وإنما ذكر هنا لكونه من المقدمات التي يتوقف عليها المقصود إذ الأصولي تارة يثبت الحكم وتارة ينفيه، والحكم على الشيء
فرع تصوره. يعني أن الحكم المتعارف عند الأصوليين هو كلام الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف به ومعنى تعلق الخطاب بشيء بيان حاله من كونه مطلوبًا أو غيره قاله في الآيات البينات.
قولهم المتعلق يعني تلعقًا معنويًا قبل وجود المكلف متصفًا بشروط التكليف من البلوغ والعقل ومن العلم بالبعثة وبلوغ الأحكام وغير ذلك، وتنجيزيًا بعد ذلك قولهم بفعل المكلف يعني بما يصح أن يكون فعلًا للمكلف واخترتها على عبارتهم لما في عبارتهم من المجاز الذي لا يليق بالحدود إلا بقرينة واضحة وذلك لأن التكليف الأزلي لا يتعلق إلا بمعدوم يمكن حدوثه والمعدوم ليس بفعل في الحقيقة وتوضيحه أن لفظ الفعل يطلق على المعنى الذي هو وصف للفاعل موجود كالهيئة المسماة بالصلاة والهيئة المسماة بالصوم، ويقال له الفعل بالمعنى الحاصل بالمصدر وهذا هو متعلق التكليف، ويطلق لفظ الفعل على نفس إيقاع الفاعل هذا المعنى ويقال فيه: الفعل بالمعنى المصدري، الذي هو أحد مدلولي الفعل النحوي وليس هذا متعلق التكليف لأنه أمر اعتباري لا وجود له في الخارج، قاله ابن أبي شريف.
والمكلف العاقل البالغ الذي ليس بغافل ولا ملجأ ولا مكره.
قولهم: من حيث أنه مكلف بكسر الهمزة ويجوز فتحها على رأي الكسائي إضافة حيث إلى المفرد، أي: ملزم ما فيه كفلة أو مطلوب منه ووجه تناول الراجح للطلب غير الجازم والتخيير.
وتناول الثاني التخيير إن اعتبار حيثية التكليف أعم من أن يكون بحسب الثبوت كما في الوجوب والتحريم أو بحسب السلب كما في بقية الأحكام، فإن تجويز الفعل والترك برفع الكلفة عن العبد قاله الأبهري فتناول الفعل ما كان قبليًا أو غيره قوليًا كتكبيرة الإحرام أو غيره كأداء الزكاة، والقبلي ما كان منه باب القصود والإرادات كالنية فهو من كسب العبد لأنه فعل لأن القصد إلى الشيء توجه النفس إليه، وما كان منه ما باب العلوم والاعتقادات كالإيمان وسائر الإدراكات فهو تجل وانكشاف يحصل عقب النظر في الدليل أو دونه كالضروري فليس من
كسب العبد لأنه ليس بفعل ولا تكليف إلا بفعل فالتكليف به التكليف بأسبابه كإلقاء الذهن وصرف النظر وتوجيه الحواس والاستسلام بالقلب له فتسمية التصديق الذي هو الاعتقاد فعلًا بهذا الاعتبار لكنه مجاز وإن وقع في كثير من العبارات.
وأما خطاب الوضع فليس من الحكم المتعارف فلا يذكر في تعريفه. ومنهم من جعله منه فقال: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. والمراد بالتعلق الوضعي أعم من أن يجعل فعل المكلف سببًا أو شرطًا لشيء كجعل إتلافه سببًا للضمان أو يجعل شيء سببًا أو شرطًا له كالزوال فإنه سبب لوجوب فعل الظهر. قاله التفتازاني وغيره.
وقد يرد هنا ما أورده ابن أبي شريف بقوله: قلنا: بتقدير تسليم ذلك في الزوال لا يتمشى في فعل غير المكلف كإتلاف الصبي والمجنون في كونه سببًا لوجوب الضمان وإن كان الصبي مكلف عندنا لكن بغير الوجوب والتحريم.
فخرج بفعل المكلف كلامه المتعلق بذاته وصفاته وذوات العالم وأفعاله وصفاتهم كمدلول ((الله لا إلاه إلا هو خالق كل شيء)) ((ولقد خلقناكم)) ((ويوم نسير الجبال)) وخرج بما بعده مدلول ((وما تعملون)) من قوله تعالى ((والله خلقكم وما تعلمون)) فإنه متعلق بفعل المكلف من حيث إنه مخلوق لله تعالى بناء على أن ما مصدرية. وعلى تقدير إنها موصولة أي الذي تعلمونه فقد خرج بما قبله.
تنبيه: قولهم من حيث كذا يراد به الإطلاق وعدم التقييد، كقولهم: الإنسان من حيث هو إنسان قابل للتعليم. وقد يراد التعليل والتقييد كقولهم: النار من حيث هي حارة تسخن. وقوله من حيث أنه مكلف يحتمل كلا من الأخيرين.
قد كلف الصبي على الذي اعتمى
…
بغير ما وجب والمحرم
يعني: أن الصبي مكلف عندنا على ما صححه ابن رشد في البيان والمقدمات، وكذا القرافي في كتاب اليواقيت في أحكام المواقيت، وأن
البلوغ إنما هو شرط في التكليف بالواجب والمحرم لا في الخطاب بالندب والكراهة والإباحة فهو ووليه مندوبان إلى الفعل مأجوران، فإزالة النجاسة مثلًا يخاطب بها لا على وجه الوجوب أو السنية كالبالغ بل على سبيل الندب فقط وعند الشافعية ليس مكلفًا بحكم من الأحكام الخمسة فالأولى أن يقال في التعريف: بما يصح أن يكون فعلًا للعباد. وقد فرق القرافي بين انعقاد أنكحة الصبيان وعدم لزوم طلاقهم بأن عقد النكاح سبب إباحة الوطء وهم أهل للخطاب بالإباحة والندب والكراهة دون الوجوب والتحريم والطلاق سبب تحريم الوطء وليسوا أهلًا للخطاب به فلم ينعقد سببًا في حقهم دليل.
الصحيح حديث الخثعمية التي أخذت بضبعي صبي وقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر وقيل المأمور الولي وحده وقيل الصبي وحده وحيث قلنا أن الولي مأمور إما وحده أو مع الصبي هل الأمر على سبيل الوجوب أو الندب وهو المشهور فلا يأثم بترك الأمر. وعلى أن المأمور الولي وحده لا ثواب للصبي وإنما هو لوالديه؟ قيل: على السواء، وقيل: الثلثان للأم والثلث للأب. وقول خليل: وأمر صبي بها لسبع، يحتمل أن يكون الآمر له هو الولي أو الله تعالى بناء على أن الآمر بالأمر بالشيء آمر به.
والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين وأضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع.
وهو إلزام الذي يشق
…
أو طلب فاه بكل خلق
لكنه ليس يفيد فرعا
…
فلا تضق لفقد فرع ذرعا
يعني: إنهم اختلفوا في التكليف هل هو إلزام ما فيه مشقة وكلفة أو هو طلب ما فيه كلفة؟ فاه أي نطق وقال بكل من القولين خلق كثير فعلى الأول يكون المطلوب فعله أو تركه طلبًا غير جازم مكلفاً به. وعلى الثاني يخرج المباح وقال بعضهم المباح مكلف به من حيث وجوب اعتقاده تتميمًا للأقسام، وإلا فغيره مثله في وجوب الاعتقاد لكن الخلاف في كونه
إلزام ما فيه كلفة أو طلبه لا يفيد فرعًا من الفروع لعدم بناء حكم عليه قال أبو إسحاق الشاطبي فليست من أصول الفقه ولا عونًا فيه وكل ما كان كذلك فلا ينبغي ذكره في الفن.
قوله فلا تضق .. الخ، الذرع بفتح الذال المعجمة تمييز محول عن الفاعل يقال ضاق به ذرعًا ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصًا.
والحكم ما به يجيء الشرع
…
وأصل كل ما يضر المنع
يعني: إن الحكم التنجيزي هو ما جاء به الشرع أي البعثة فلا حكم تنجيزيا يتعلق بنا قبل البعثة لأحد من الرسل. والدليل على انتفاء وجوده انتفاء لازمه من الثواب والعقاب بقوله تعالى ((وما كنا معذبي حتى نبعث رسولا)) ولا مثيبين ولا فرق بين الحكم الأصلي والفرعي فاستغنى في الآية عن ذكر الثواب بذكر مقابله الذي هو العذاب الذي هو أظهر في تحقيق معنى التكليف لأن العقاب لا يكون إلا على شيء ملزم من فعل أو ترك والثواب يكون على ذلك تارة وعلى غيره.
وحكمت المعتزلة العقل حيث جعلوه طريقًا إلى العلم بالحكم الشرعي يمكن إدراكه به من غير ورود سمع فالحكم الشرعي عندهم تابع للمصالح والمفاسد، فما كان حسنا عقلًا جوزه الشرع وما كان قبيحًا عقلًا منعه، ولهذا يقولون: إنه مؤكد لحكم العقل فيما أدركه من حسن الأشياء وقبحها.
والحق عندنا أن الحسن ما حسنه والقبيح ما قبحه، وإنما قيدنا الحكم بالتنجيزي لأن الحكم الذي هو خطاب الله تعالى قديم وإنما الحادث التعلق التنجيزي عند وجود المكلف بصفة التكليف، وأما بعد مجيء الشرع إذا تعارضت الأدلة أو عدمت ولم يظهر لنا نص في شيء بخصوصه فالحكم الأصلي في الأشياء قبل عروض ما تخرج لأجله عن ذلك الأصل المنع كراهة أو تحريمًا في الضار على قدر رتبته في المضرة كأكل التراب وشرب تبعة وشمها لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) أي في ديننا.
والأصل في المنافع كأكل فاكهة لمجرد التشهي والتفكه الإذن ندبًا أو وجوبًا على قدر مصلحته لقوله تعالى في معرض الامتنان ((خلق ما في الأرض جميعا)) ولا يمتن إلا بجائز فيه نفع.
قولنا قبل عروض .. الخ، كالأموال والدماء والأعراض الأصل فيها التحريم وقد يعرض لها ما يجوزها مع أن هذه ورد فيها نص وهو قوله صلى الله عليه وسلم:((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) .. الحديث، والكلام فيما لا نص فيه.
وذهب أبو الفرج المالكي وكثير من الشافعية إلى الحكم بالإباحة قبل وجود الشرع، والأبهري إلى المنع مستدلًا بقوله تعالى ((وما ءاتاكم الرسول فخذوه)) أي وما لا فلا. قال حلولوا في أكل التراب بعد ما ذكر أنه يضر: لكن يتردد النظر في مفسدته هل تنتهي إلى رتبة التحريم أو لا؟ وسكت القول المفصل عن الشيء إذا لم تكن فيه مصلحة ولا مفسدة ولعله لعدم وجوده.
ذو فترة بالفرع لا يراع
…
وفي الأصول بينهم نزاع
راع كروع أفزع متعد، ولازم يعني: أن أهل الفترة لا يروعون أي يعذبون بسبب تركهم للفرع كالصلاة مثلًا لعدم تكليفهم بها. وهم من كان بين رسولين لم يرسل الأول لهم، ولا أدركوا الثاني. قاله في الآيات البينات، ثم قال: فلا خلاف بينهم أنها لا تثبت إلا في حق من أرسل إليهم، نعم من اتفق عليه الملل من الفروع هل هو كالإيمان حتى يجري فيه هذا النزاع؟ فيه نظر اهـ. والمتفق عليه نظمه الجزائري بقوله:
قد أجمع الانبيا والرسل قاطبة
…
على الديانة بالتوحيد في الملل
وحفظ مال ونفس معهما نسب
…
وحفظ عقل وعرض غير مبتذل
واختلف في تعذيبهم بترك الأصول من الإيمان والتوحيد. ومثلهم من لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت الاها.
قال العبادي: وما نرى أن ذلك يكون. قلت: يمكن في الأصم إذا لم يهتد بالإشارة والقرائن، ومبني الخلاف هل يجب الإيمان والتوحيد بمجرد العقل؟ أو لابد من انضمام النقل. العبادي. وهذا صريح في ثبوت تكليف كل أحد بالإيمان والتوحيد بعد وجود دعوة أحد من الرسل وإن لم يرسل إليه وفي تعذيب أهل الفترة بترك التوحيد. وهذا اعتمده النووي في شرح مسلم لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الذين مضوا في الجاهلية في النار.
وحكى القرافي في شرح التنقيح الإجماع على تعذيب موتى الجاهلية في النار وعلى كفرهم ولولا التكليف لما عذبوا. والذي عليه الأشاعرة من أهل الأصول والكلام أنهم لا يعذبون وأجابوا عن جماعة منهم صح تعذيبهم بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القاطع الذي هو ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا)) وبأنه يحتمل أن يكون لأمر مختص به يقتضي ذلك، علمه الله ورسوله نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه وبأن ذلك خاص بمن بدل وغير بما لا يعذبه كعبادة الأوثان.
ثم الخطاب المقتضي للفعل
…
جزما فإيجاب لدى ذي النقل
يعني: أن الخطاب الذي هو كلامه تعالى النفسي إذا اقتضى، أي طلب من المكلف فعل الشيء أي إيجاده اقتضاء جازمًا فذلك الخطاب يسمى إيجابًا، ومتعلقه واجب ومتعلق الندب مندوب، أو متعلق الكراهة مكروه، ومتعلق التحريم حرام، ومتعلق الإباحة مباح، قاله حلولوا.
والمراد بذي النقل، الأصولي الذي ينقل مسائل الفن في الكتب أو يرويها دون تأليف.
(وغيره الندب). يعني: أن الخطاب المقتضى من المكلف أو الصبي إيجاد الفعل اقتضاء غير جازم بأن جوز تركه فذلك الخطاب ندب أي يسمى به. فخرج بغير جازم الإيجاب لأنه لم يجوز تركه.
ما الترك طلب
…
جزمًا فتحريم له الإثم انتسب
الترك مفعول طلب قدم عليه. إن الخطاب الذي اقتضى الترك للشيء بمعنى الكف عنه طلبًا جازمًا فذلك الخطاب يسمى تحريمًا. قوله له أي لفعل المحرم انتسب الإثم كما ثبت الأجر في تركه. وجزمًا بمعنى مجزوم يعني طلبًا مجزومًا به.
أولا مع الخصوص أولا فع ذا
…
خلاف الأولى وكراهة خذا
لذاك
بسكون واو أولا. يعني: أن الخطاب الطالب للترك طلبًا غير جازم فإن كان مدلولًا عليه بالخصوص أي التنصيص على النهي عنه فهو الكراهة وإن كان غير مخصوص بل استفيد النهي من الأوامر إذ الأمر بالشيء نهى عن تركه فهو خلاف الأولى. قوله أولا الأول معناه أولا جزم لكن مع الخصوص كالنهي في حديث الصحيحين (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) والإشارة في قوله فع ذا للخطاب المدلول عليه بغير المخصوص وهو النهي عن ترك المندوبات المستفاد من أوامرها. والإشارة في قوله لذلك للخطاب المدلول عليه بالنهي المخصوص ولا يخرج عن المخصوص دليل المكروه حال كون الدليل إجماعًا أو قياسًا، لأن دليله في الحقيقة مستند الإجماع أو دليل المقيس عليه وذلك من المخصوص وكما يسمى الخطاب المدلول عليه بغير المخصوص خلاف الأولى يسمى متعلقة بذلك. وتسمية الخطاب بالكراهة أو خلاف الأولى بمعنى أنه مثبت لهما، وسواء كان متعلق خلاف الأولى فعلا كفطر مسافر لا يتضرر بالصوم أو تركا كترك صلاة الضحى إذ لم يرد فيه نهي مخصوص لكن الإنسان في الجملة منهي نهي تنزيه عن ترك مندوبات الشرع فالطلب في المطلوب بالمخصوص أشد منه في المطلوب بغير المخصوص فالاختلاف في شيء أمكروه هو أم خلاف الأولى، اختلاف في وجود المخصوص فيه كصوم يوم عرفة للحاج، فهو مكروه لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام عرفة بعرفة. وقيل خلاف الأولى لأنه صح أنه عليه السلام كان مفطرًا فيه. وزيادة قسم خلاف الأولى من صنع المتأخرين للفرق بين
ما هو أشد وغيره. وأما الأقدمون فيطلقون المكروه على القسمين. وقد يقولون في ذي النهي المخصوص مكروه كراهة شديدة وينبني عليهما كون الأحكام خمسة أو ستة وبعضهم يعبر بالنهي المقصود وغير المقصود وهو المستفاد من الأمر. وفسروا المقصود بالصريح وغير المقصود بغير الصريح فرارًا مما يقتضي غير المقصود من كون الشارع لم يقصد النهي في ضمن الأمر، ولا مانع أن يراد بالمقصود بالأصالة وبغير المقصود بالتبع. قاله في الآيات البينات.
وقد يعبر عن المحرم بالمكروه فكثيرًا ما يقول المجتهد أكره كذا يعني أنه حرام.
والإباحة الخطاب
…
فيه استوى الفعل والاجتناب
يعني: إن الإباحة التي هي القسم الخامس أو السادس من الأحكام الشرعية هي الخطاب المستوي بين فعل شيء وتركه كالاستمتاع بالمطعم والمأكل والمشرب المباحة.
وذهب بعض المعتزلة إلى أن الأحكام أربعة بإسقاط الإباحة. قال الفهري: والصحيح إنها خطاب تسوية فهو حكم شرعي إذ هي التخيير بين الفعل والترك المتوقف وجوده كغيره من الحكم على الشرع، ورفع الإباحة نسخ، وقيل الأحكام اثنان التحريم والإباحة وفسرت بجواز الإقدام الشامل لبقية الخمسة وعليه يتخرج قوله صلى الله عليه وسلم (أبغض المباح إلى الله الطلاق) فإن البعض يقتضي رجحان طرف الترك والرجحان مع التساوي محال إلا أن ما أخذ من البراءة الأصلية ليس بحكم شرعي وإليه أشار بقوله:
وما من البراءة الأصلية
…
قد أخذت فليست الشرعية
يعني: إن الإباحة المأخوذة من البراءة ليست حكمًا شرعيًا بخلاف ما أخذت من الشرع. فالأولى كشربهم للخمر في صدر الإسلام قبل أن يرد في إباحتها نص من تقريره أو غيره بل هي إباحة عقلية.
وهي والجواز قد ترادفا
…
في مطلق الإذن لدى من سلفا
يعني: إن لفظي الإباحة والجواز قد ترادفا عند بعضهم على معنى هو مطلق الإذن في الفعل، فعلى هذا يدخل فيهما المخير فيه والمندوب والواجب وتكون الأحكام اثنين باعتبار المنهي والمأذون فيه.
والعلم والوسع على المعروف
…
شرط يعم كل ذي تكليف
يعني: إن الخطاب على قسمين خطاب وضع لا يشترط في أكثره علم المخاطب ولا قدرته، وخطاب تكليف يشترط في جوازه ذلك. فالغافل والساهي والنائم غير ملكفين عن الأكثر. وجوزه قوم، والقولان عن الأشعري بناء على أنها مانعة من الوجوب والأداء، وجه الأول أن الذي يطلب بالتكليف قصد إيقاع الفعل المأمور به على وجه الامتثال وذلك يتوقف على العلم بالتكليف به والغافل ومن في حكمه لا يعلم ذلك فيمتنع تكليفه، وإن وجب عليه بعد يقظته ضمان ما أتلفه من المال وقضاء ما فاته من الصلاة غافلًا لوجود سببيهما ودليل اشتراط العلم في التكليف قوله تعالى ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)) وقوله تعالى ((مبشرين ومنذرين ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)) والفرق بين التكليف المحال كما هنا والتكليف بالمحال الآتي في الملجأ والمكره هو كما قال ابن العربي: إن الأول الخلل فيه من جهة المأمور، والثاني من جهة المأمور به. وما ذكره عياض في الشفاء من الاتفاق على خروج الساهي والنائم عن حكم التكليف، وقول ابن الحاجب في المنتهى المخطئ غير مكلف اتفاقًا، قال حلولوا: إنما ذلك في عدم المواخذة بالإثم.
(واعلم) إن الشأن عند أهل الأصول أن يتكلموا أولًا في المسألة على الجواز العقلي فإن امتنع الشيء عقلًا علم ضرورة امتناع وقوعه، وإن جاز عقلًا نظروا بعد ذلك هل وقع في الشرع أو لا؟ فإذا قال في الأصولي: يجوز ذلك أو يمتنع فإنما مراده في العقل، وكذلك يشترط في خطاب التكليف القدرة على المكلف به فالعاجز عن شيء غير مكلف بفعله لقوله تعالى ((لا يكلف الله نفسًا إلى وسعها)) أي طاقتها فلا يجوز تكليف الملجأ وهو من لا مندوحة له عما ألجئ إليه كالملقى من شاهق جبل على شخص يقتله يمتنع تكليفه بالملجأ إليه أو بنقيضه لعدم
قدرته على ذلك، وقيل يجوز تكليف الغافل والملجأ بناء على جواز التكليف بالمحال، وكذا يمتنع تكليف المكره وهو من لا مندوحه له عما أكره عليه إلا بالصبر على ما أكره به يمتنع تكليفه بالمكره عليه أو بمقابله على الصواب لعدم قدرته على الامتثال فإن الفعل للإكراه لا يحصل به الامتثال ولا يمكن الإتيان معه بنقيضه.
والمراد بالمكره الذي لا اختيار له بل صار مضطرًا وأما من له اختيار وتتحرك دواعيه فمذهب أهل الحق فيه إنه مكلف بالمأمورات والمنهيات. وأجازت المعتزلة أن يكره على فعل المنهي عنه ومنعوا أن يكره على فعل العبادات؟ وأما حكاية إمام الحرمين وغيره الإجماع على تكليف المكره بنقيض القتل فمحموله على التكليف من حيث إيثاره نفسه على المقتول بالبقاء على مكافئة الذي خيره بينهما المكره بقوله اقتل هذا وإلا قتلتك. فيأثم بالقتل من جهة الإيثار لا من جهة الإكراه.
وقولنا: لإيثاره نفسه بالبقاء هو هكذا في عبارة المحلي، وتعقبه في الآيات البينات بما نصه (هذا لا يأتي إذا كان المكره به غير القتل كالقطع إذ لا يتحقق الإيثار بالبقاء إلا إذا كان المكره به مفوتًا لنفسه إلا أن يجاب إن هذا مفهوم بالأولى). وفيه أيضًا ما نصه (ربما يقال في غير المكافي يكلف بالمكره عليه ارتكابًا لأخف الضررين هذا إذا كان المقتول غير مكافي للمكره وإما إذا كان المكره مكافئًا للمقتول فعلى قياس ذلك ربما يقال يكلف بنقيض المكره عليه صابرًا على العقوبة ارتكابًا لأخف الضررين لأن قتل المكره أخف لأن المأمور بقتله أعظم حرمة) بقى إن هذا كله واضح إذا كان كل من المكره به والمكره عليه القتل إما إذا كان المكره عليه القتل والمكره به القطع مثلًا فلا يظهر هذا التوجيه. قال ابن العربي: والمشهور قتل المكره بفتح الراء وكسرها. حلولوا: ولعله فيمن يصح منه الإكراه كالسلطان والسيد لا مطلقًا ويشترط مع العلم والقدرة شروط أخرى يختص بكل عبادة شروط منها. والامتثال: هو افتعال من مثل بوزن ضرب أي قام وانتصب فمعناه القيام والانتصاب للإتيان بالمأمور به أو من المثل بمعنى الشبه فمعناه على هذا: الإتيان بمثل المأمور به، والمندوحة: السعة كالمنتدح من ندحت الشيء إذا وسعته.
ثم خطاب الوضع هو الوارد
…
بأن هذا مانع أو فاسد
أو ضده أو أنه قد أوجبا
…
شرطا يكون أو يكون سببا
هذا شروع منه في تعريف خطاب الوضع، سمي خطاب الوضع لأن متعلقه الذي هو كون الشيء سببًا مثلًا ثابت بوضع الله تعالى أي جعله، فمعناه أن الله تعالى قال إذا وقع هذا في الوجود فاعلموا أني حكمت بكذا. قال القرافي.
يعني أن خطاب الوضع هو الخطاب النفسي الوارد بكون الشيء مانعًا من شيء آخر كالحيض فإنه مانع من صحة الصلاة أو بكون الشيء فاسدًا أو صحيحًا أو موجبًا لغيره سواء كان الموجب شرطًا أو سببًا فالشرط يلزم من عدمه العدم والسبب يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، فإن في قوله أو أنه بالفتح والضمير يرجع إلى اسم الإشارة والمشار إليه الشيء، ووصف الخطاب النفسي بالورود مجاز والمراد به التعلق بقرينته استحالة الحقيقة والعلاقة اللزوم، فإن من لازم الوارد بالشيء تعلقه به. قاله في الآيات البينات.
والشيء يتناول فعل المخاطب وقوله واعتقاده ولا يشترط في أكثر خطاب الوضع العلم ولا القدرة. وقد يعرض له أمر خارج يوجب اشتراط ذلك ككل سبب هو جناية بالنسبة إلى العقوبة دون الغرم وكذلك كل سبب في نقل الأملاك في المنافع والأعيان يشترط فيه العلم والرضى وكون الصحة والفساد من خطاب الوضع خلاف ما اختاره ابن الحاجب من أن الحكم بهما أمر عقلي. قال الرهوني: وهو الحق. لأنهما صفتان للفعل الحادث وحدوث الموصوف يوجب حدوث الصفة فلا يكونان حكمين شرعيين وإن توافقا على الشرع هـ.
وعد القرافي من خطاب الوضع التقادير الشرعية وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم وعكسه كتقدير الأثمان في الذمم والأعيان في السلم في ذمة المسلم إليه، والذمة نفسها هي من جملة المقدرات لأنها معنى شرعي مقدر في المحل قابل للإلزام والالتزام. قال:
والشرح للذمة وصف قاما
…
يقبل الالتزام والالزاما
وعد الآمدي الرخصة والعزيمة من خطاب الوضع (وهو من ذاك أعم مطلقًا)
يعني: أن خطاب الوضع أعم مطلقًا من خطاب التكليف، يجتمعان في الزنى والسرقة والعقود فإنها أسباب تعلق بها التحريم والإباحة، وهي أسباب العقوبات وانتقال الأملاك. وكذلك الوضوء وستر العورة شرطان فهما خطاب وضع وواجبان فهما خطاب تكليف والنكاح واجب أو مندوب أو مباح وهو سبب في إباحة الوطء. والبيوعات مباحات وسبب لإباحة التصرف في ملك الغير وينفرد الوضع بأوقات الصلوات فإنها أسباب لوجوبها والحيض مانع ولا ينفرد التكليف إذ لا تكليف إلا له سبب أو شرط أو مانع. قاله القرافي في التنقيح، وشرحه. وجعلهما في الفروق بينهما عموم من وجه وهو الصواب.
(والفرض والواجب قد توافقا).
(كالحتم واللازم مكتوب .. )
يعني: أن الواجب والفرض يطلقان اصطلاحًا على ما الإثم في تركه ثبت بدليل قطعي أو ظني فعلي هذا يتراد فإن مع الحتم واللازم والمكتوب إن أريد به ذلك المعنى نحو (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)(وخمس صلوات كتبهن الله على العباد) وقد يطلق الواجب على مقابل الركن وقد يطلق الفرض أيضًا على الركن وعلى ما لابد منه.
والفرض عند أبي حنيفة ما ثبت بدليل قطعي كقراءة القرءان في الصلاة الثابتة بقوله تعالى: ((فاقرءوا ما تيسر من القرءان)) والواجب ما ثبت بدليل ظني كقراءة الفاتحة فيها الثابتة بحديث (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وهو آحاد فيأثم بتركها ولا تفسد به الصلاة عنده. قوله (مكتوب) بالجر عطف على الحتم بعاطف محذوف. (وما فيه اشتباه للكراهة انتمى).
يعني: أن المشتبه ينسب للكراهة، أي يقال فيه مكروه قاله ابن رشد في المقدمات ومثل له بقوله صلى الله عليه وسلم (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات) أي مكروهات.
وليس في الواجب من نوال
…
عند انتفاء قصد الامتثال
فيما له النية لا تشترط
…
وغير ما ذكرته فغلط
يعني: أن الواجب الذي لا يتوقف صحة فعله على نية لا نوال فيه أي أجر إذا لم ينو فاعله حين التلبس به امتثال أمر الله تعالى وذلك كالإمامة في الصلاة والإنفاق على الزوجات والأقارب والدواب ورد المغصوب والودائع والعواري ودفع الديون فهي وإن وقعت واجبة مبرئة للذمة لا ثواب فيها. قاله القرافي في التنقيح. إلا مسألة الإمامة.
وإماما تتوقف صحة فعله على نية ففيه الثواب وإن لم ينو الامتثال.
واحكم بالغلط على غير ذلك لمخالفته للقرافي وغيره أعني ما ذكر بعض شروح خليل من توقف الأجر على نية الامتثال توقفت صحة الفعل على نية أم لا وحقيقة النية وحكمتها وما تشترط فيه وما لا تشترط نظمناه بقولنا:
والنية القصد لأن تميلا
…
لصوب حكمه علا مفعولا
حكمتها التمييز والتقرب
…
فيما إلى التعبدات ينسب
وغيره التمييز مثل الاشترا
…
لبعض أيتام عليه حجرا
فما نهى عنه وما لا يطلب
…
لا نية فيه اتفاقا تجب
كما تمحض من الأمر لما
…
ليس عبادة كاعطا الغرما
كقربة تعينت للرب
…
كنية ذكر فعل القلب
وأوجبنها لغير ما ذكر
…
إما اتفاقا أو على الذي شهر
يعني: أن النية هي قصد إمالة الفعل إلى جهة الحكم الشرعي بأن ينوي إيقاع الفعل على الوجه الذي أمر الله به أو نهي عنه أو إباحة قاله القرافي. وحكمتها في العبادات التقرب إلى الله بها وتمييزها عما ليس بعبادة كالوضوء يكون للصلاة ويكون للتبرد والتنظيف والجلوس في المسجد يكون لتعمير المسجد وللصلاة فهو عبادة ويكون للفرجة ولتلقي الأخبار وتكون الحكمة أيضًا التمييز لنوع العبادة عن نوعها الآخر ككونها فرضًا أو نفلًا والفرض منه كفاية ومنه عين ومنذور وغيره.
قوله: (وغيره التمييز -البيت -) يعني: أن حكمتها في غير العبادات التمييز فقط كوصي على أيتام لا ينصرف شراؤه لأحدهم إلا بالنية لأن التصرف إذا دار بين جهات لا ينصرف لأحدها إلا بالنية ومتى اتحدت الجهة انصرف لها دون النية لتعينها كتصرفه لنفسه، ولغيره بالوكالة لا ينصرف لغيره إلا بالنية لأن تصرف الإنسان لنفسه أغلب قاله القرافي.
قوله: (فما نهى عنه -البيت) يعني أن النواهي لا يحتاج فيها إلى نية شرعا إذ يخرج الإنسان عن عهدة المنهي عنه لمجرد تركه وإن لم يشعر به فضلًا عن القصد إليه لكن إن نوى بتركها وجه الله تعالى حصل له الثواب وكان الترك قربة قاله القرافي وغيره.
وقيل يشترط قصد الترك ولم أقف عليه في المذهب وغير المطلوب لا يتقرب به إلى الله فلا معنى للنية فيه لكن يقصد في المباح التقوي على مطلوب كما يقصد بالنوم التقوي على قيام الليل فمن هذا الوجه تشرع نيته لا من حيث هو مباح. قاله القرافي وغيره.
قال السبكي والأصح أن المباح ليس بجنس للواجب وأنه غير مأمور به من حيث هو. قاله: (كما تمحض. البيت) يعني أن ما تمحض من الأوامر لغير العبادات لا تجب فيها النية كدفع الدين للغرماء ورد الودائع والعواري والمغصوبات لأن المصلحة المقصودة من هذه ونحوها انتفاع أربابها بها مع براءة المطلوب بها، وذلك لا يتوقف على النية. قوله:(كقربة -البيت -) يعني: أنه لا تجب النية فيما كان من الأوامر
عبادة لكنه متعين له تعالى لا يمكن أن يصرف لغيره لأنه صار كاللفظ النصي لا يحتاج إلى نية لانصرافه بصراحته إلى مدلوله وذلك كالنية وسائر أفعال القلب من الإيمان بالله تعالى وتعظيمه والخوف منه ورجائه والتوكل على كرمه والمحبة له وكذلك قراءة القرءان وسائر الأذكار لين الإنسان يثاب على نيته حسنة واحدة وعلى فعله عشرًا إذا نوى، لأن الأفعال مقاصد والنيات وسائل والوسيلة اخفض رتبة من المقصود. وذكر بالجر والعاطف محذوف وعدم وجوب النية في هذا القسم المتعين له تعالى محله حيث لم تكن له أنواع وإلا وجبت. قوله:(وأوجبنها -البيت -) يعني: أن النية واجبة في غير ما ذكر وهو ما كان من الأوامر محض عبادة فيها لبس لترددها بالنظر بين عبادته تعالى وبين غيرها تجب فيما تمحض للعبادة ليتميز ما لله من العبادة عما ليس له من العبادات.
ولتمييز مراتب العبادات فيما له مراتب فالأول كالغسل يقع عبادة ويقع للتبرك والتنظيف بالتمييز يصلح الفعل للتعظيم والثاني كالصلاة تنقسم إلى نفل وفرض كفائي وعيني ومنذور وغيره وأدائي وقضائي فتجب فيها اتفاقًا وعلى المشهور فيما فيه شائبة العبادة وشائبة غيرها. قال ابن الحاجب: والمذهب افتقارها للنية ترجيحًا للعبادة وذلك كالطهارة لا الترابية فإنها محض تعبد والزكاة بالزاي والذال المعجمة فمن رأي أنه تعالى أوجب مجانبة الحدث والخبث في الصلاة كانت من المأمورات التي لا تكفي صورتها في تحصيل منفعتها فتجب فيها النية ومن رأي أنه تعالى حرم ملابستها فيها كانت من المنهيات فلا تجب فيها النية. والذكاة دائرة بين أصل الحل في الأكل وبين سبب التقرب إلى الله تعالى بالضحايا والهدايا وبين سبب براءة الذمة من الهدي أو فدية أو نذر حتى ينوي أحدهما فيرتب عليه الشرع حكمه ليعين سببه ودفع الزكاة للمساكين دائر بين سبب أصل التقرب إلى الله تعالى الذي هو صدقة التطوع وبين سبب براءة الذمة من الزكاة الواجبة. وعند تعارض الشائبيتين لا فرق في وجوب النية بين أن يغلب أحداهما أو يتساويا كما هو المذهب عند ابن الحاجب. وفي المنهج المنتخب تفصيل مخالف لذلك.
ومثله الترك لما يحرم
…
من غير قصد ذا نعم مسلم
يعني أن الواجب الذي لا تشرط فيه النية جعل الله تعالى ترك المنهي بقسميه في عدم الأجر عند عدم قصد الامتثال والتقرب إليه بذلك الترك نعم فاعل ذلك مسلم من الإثم وإن لم يشعر به أصلًا وذا مضاف إليه إشارة للامتثال ومسلم بتشديد اللام المفتوحة (فضيلة والندب والذي استحب ترادفت .. )
فضيلة مبتدا، واللذان بعده معطوفان عليه والخبر ترادفت يعني أن الثلاثة ترادفت على معنى هو ما فعله الشارع مرة أو مرتين بما في فعله ثواب ولم يكن في تركه عقاب. ( .. ثم التطوع انتخب).
عيني: أن التطوع عندنا هو ما ينتخبه الإنسان أي ينشئه باختياره من الأوراد. وانتخب بالبناء للمفعول.
رغيبة ما فيه رغب النبي
…
بذكر ما فيه من الأجر جبى
أو دام فعله بوصف النفل
رغيبة مبتدأ خبره الموصول بعده وسوغ التفصيل الابتداء بالنكرة يعني إنما في فعله ثواب ولا عقاب في تركه يسمى رغيبة إذا رغب النبي صلى الله عليه وسلم في فعله بأن ذكره مقدار ما جبى فيه من الأجر أي جاء كقوله من فعل كذا وكذا فله كذا. قاله في المقدمات. أو دام صلى الله عليه وسلم على فعله بصفات النوافل لا بصفة السنة وانظر ما مراده بصفة النفل وصفة السنة هل هما القرينتان فصفة السنة هي القرينة الدالة على أن هذا متأكد والأخرى هي الدالة على أن هذا غير متأكد أو غير القرينتين. والظاهر أن المراد بصفة السنة الظهور في جماعة وجبى بالجيم والموحدة مبني للمفعول والجباية في الأصل الجمع يقال جبى الخراج أي جمعه. (والنفل من تلك القيود أخل).
والأمر بل أعلم بالثواب
…
فيه نبي الرشد والصواب
والنفل مفعول أخل قدم عليه والأمر بالجر عطف على اسم الإشارة يعني أن النفل هو ما خلا عن القيدين المذكورين في الرغيبة وهما الترغيب
في فعله بذكر ما فيه والمداومة منه صلى الله عليه وسلم على فعله وما خلا من الأمر به أي لم يأمر به عليه السلام بل أعلم أن فيه ثوابًا من غير أن يأمر به أو يرغب فيه الترغيب المذكور أو يداوم على فعله. قاله في المقدمات. بخلاف الرغيبة فإنها أمر بها.
وسنة ما أحمد قد واظبا
…
عليه والظهور فيه وجبا
يعني: أن السنة هي ما واظب عليه صلى الله عليه وسلم وأمر به دون إيجاب وأظهره في جماعة هذا معناها عند جل أصحاب مالك ومعنى وجب أنه يجب ذكره لتمام حقيقة السنة.
وبعضهم سمى الذي قد أكدا
…
منها بواجب فخذ ما قيدا
يعني أن بعض أصحاب مالك سمي السنة المؤكدة واجبًا وعليه جرى ابن أبي زيد في الرسالة حيث يقول: سنة واجبة. قوله: (فخذ ما قيدا) أي خذ ما ذكر لك من الاصطلاحات في هذا النظم لما يترتب عليها من الأحكام كقولهم لا يسجد لفضيلة وإن سجد عمدًا بطلت صلاته، وفرقوا في السنة بين المؤكد وغيره إلى غير ذلك. قال خليل عاطفًا على ما يبطل الصلاة: بسجوده لفضيلة أو تكبيرة. قال شيخنا البناني: لم أر ما يشهد للمصنف فيما ادعاه من البطلان في السجود لتكبيرة وأما السجود لفضيلة ففي الحطاب عن ابن رشد صدر فيه بعدم البطلان. قلت الذي في الحطاب أن ابن رشد صدر بعدم البطلان في القنوت لا في كل فضيلة.
والنفل ليس بالشروع يجب
…
في غير ما نظمه مقرب
يعني: أن النفل المراد به ما قابل الواجب لا يجب بالشروع فيه خلافًا لأبي حنيفة في قوله بوجوب إتمامه به، لقوله تعالى:((ولا تبطلوا أعمالكم)) حتى يجب بترك إتمام الصلاة والصوم منه قضاؤهما. وأجيب بأن النفل يجوز تركه وترك إتمامه المبطل لما فعل منه ترك له وبان ما حمل عليه الآية هو أبعد الوجوه فيها بل الأظهر إن معناها لا تبطلوا أعمالكم بالكفر بعد الإيمان لقوله قبل ذلك في الكفار والمنافقين وسيحبط
أعمالهم فكأنه يقول يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا أعمالكم بالكفر مثل هؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بكفرهم وما ذكر معه وتؤولت أيضًا على أن معناها لا تبطلوا أعمالكم بالرياء والعجب وتأويل الزمخشري لا تبطلوا حسناتكم بفعل السيئات وذلك مخالف لمذهب أهل السنة من أن السيئات لا تبطل الحسنات.
والنفل كالوضوء والقراءة والذكر والوقف إذا لم يقبله أهل للقبول فإنه يرد والسفر إلى الجهاد والصدقة كمن خرج إلى مسكين بكسرة فلم يجده قيل: لا أكلها، وقيل: لا، وقيل: يأكلها إن كان معينًا إلا ما استثناه بقوله: (في غير .. الخ) والمقرب بكسر الراء المشددة أي من يقرب المسائل للفهم والمراد به الحطاب شارح خليل وأشار إلى نظمه بقوله:
قف واستمع مسائلًا قد حكموا
…
بأنها بالابتداء تلزم
صلاتنا وصومنا وحجنا
…
وعمرة لنا كذا اعتكافنا
طوافنا مع ائتمام المقتدى
…
فيلزم القضا بقطع عامد
يعني: إن هذه المسائل السبع هي التي يجب إتمامها بالشروع وتجب إعادتها على من قطعها عمدًا بلا عذر غير الائتمام قال الحطاب فإن الظاهر عدم لزوم إعادته وهو الدخول خلف الإمام فإنه يلزم بالشرع ولا يجوز له الانتقال لكنه إذا قطع لا تلزمه الإعادة مع الإمام.
ما من وجوده يجيء العدم
…
ولا لزوم في انعدام يعلم
بمانع يمنع للدوام
…
والابتدا أواخر الأقسام
أو أول فقط على نزاع
…
كالطول الاستبراء والرضاع
ما نكرة موصوفة بالجملة بعدها وهي مبتدأ خبره جملة يعلم بمانع والفعل مبني للمفعول.
أعلم أن الأحكام تتوقف على ثلاثة هي السبب والشرط وانتفاء المانع وهو ما يلزم من وجوده عدم الحكم ولا يلزم من عدمه وجود له
ولا عدم لذاته فبالأول احترز من السبب وبالثاني احترز من الشرط وبالثالث من مقارنة عدم وجود السبب فالمعتبر من المانع وجوده. قوله: (يمنع .. الخ) استيناف بياني وهو الجملة التي تكون جوابًا لسؤال مقدر كان سائلًا سال ما يمنع المانع؟ فأجيب بأنه على ثلاثة أقسام مانع يمنع دوام الحكم وابتداءه معًا ومانع يمنع ءاخر الأقسام أي القسمين الذي هو ابتداء الحكم فقط ومانع يمنع أول الأقسام الذي هو الدوام مع نزاع أي خلاف أي اختلف فيه هل يلحق بالأول أو بالثاني. فالأول كالرضاع يمنع من ابتداء النكاح واستمراره إذا طرأ عليه كان يتزوج صبية فترضعها أمه فتصير أخته فتحرم عليه، والثاني كالاستبراء المانع من ابتداء النكاح فقط ولا يبطل استمراره إذا طرأ عليه، والثالث كالإحرام بالنسبة إلى وضع اليد على الصيد فإنه يمنع من وضع اليد عليه ابتداء فإذا طرأ على الصيد فهل يجب نزع اليد عنه فيه خلاف، وكالطول يمنع من نكاح الأمة ابتداء فإذا طرأ عليه ففيه خلاف هل يبطله أو لا، وكوجود الماء يمنع من التيمم ابتداء فإن طرأ بعده فهل يبطله؟ فيه خلاف بناء على أن الدوام كالابتداء أم لا. قوله لزوم اسم لا أخت أن خبره في انعدام والاستبراء معطوف بمحذوف على مدخول الكاف.
ولازم من انتفاء الشرط
…
عدم مشروط لدى ذي الضبط
كسبب وذا الوجود لازم
…
منه وما في ذاك شيء قائم
يعني أن الشرط هو ما يلزم من عدمه عدم الحكم كالطهارة شرط في صحة الصلاة، ويلزم من عدمها عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الشرط وجود الحكم الذي هو صحة الصلاة، ولا عدمه، فالشرط هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. فقوله ولازم من انعدام الشرط عدم مشروط مشار به للقيد الأول. وقوله وما في ذاك شيء قائم مشار به للقيد الأخير. أي: وما في وجود ذلك الشرط شيء قائم أي لازم من وجود أو عدم. قوله: (كسبب) يعني أن السبب كالشرط في كون كل منهما يلزم من عدمه العدم، فالسبب يلزم من عدمه عدم المسبب ويلزم من وجوده وجود المسبب وإلى هذا أشار بقوله:(وذا الوجود لازم منه) أي وهذا السبب وجوده وجود
المسبب لازم منه، فاسم الإشارة مبتدأ والوجود مبتدأ ثان ولازم منه خبره والجملة خبر المبدأ الأول. وما تقدم في تقرير قوله كسبب إنما هو على مذهب الفقهاء من دخول الكاف على المشبه إما على مذهب أهل البيان من دخولها على المشبه به فيجعل الشرط مشبهًا والسبب مشبهًا به والتشبيه بمعنى التشابه على كل من التقريرين.
واجتمع الجميع في النكاح
…
وما هو الجالب للنجاح
يعني أن كلا من المانع والشرط والسبب قد يجتمع في شيء واحد كما في النكاح فإنه سبب في وجوب الصداق وشرط في ثبوت الطلاق ومانع من نكاح أخت المنكوحة وكما في الجالب للنكاح أي فوز الدنيا والآخرة أعني الإيمان فإنه سبب الثواب وشرط لصحة الطاعة أو وجوبها ومانع من القصاص إذا قتل المؤمن الكافر.
والركن جزء الذات والشرط خرج
…
وصيغة دليلها في المنتهج
يعني أن الفرق بين الركن والشرط هو أن الركن هو جزء الذات أي الحقيقة الداخلة فيها، والشرط هو ما خرج عن ذات الشيء وحقيقته فالركن كالركوع من الصلاة والثاني كالطاهرة لها وإطلاق كل منهما على الآخر مجاز علاقته المشابهة في توقف وجود الماهية على كل منهما، والفرد يرادف الركن والشرط والفرض يوجد في النكاح والبيع مثلًا كما يوجد في الوضوء والصلاة لأن الفرض هو المتحتم ووجود أركان البيع والنكاح متحتم إذ لا توجد حقيقتها بدونهما. قوله:(وصيغة دليلها) يعني أن الصيغة كصيغة النكاح والبيع ونحوهما مما يحتاج لصيغة دليل على الماهية لا ركن من الأركان (في المنتهج) بفتح الهاء أي الطريق الصحيح رد به ابن عبد السلام على من يعدها من الأركان إذ الدليل غير المدلول وجعلها من الأركان موجود في كلام ابن الحاجب وخليل لكن ليس بصواب.
ومع علة ترادف السبب
…
والفرق بعضهم إليه قد ذهب
يعني أن السبب والعلة مترادفان عند جمهور الأصوليين فالمعبر عنه هنا بالسبب هو المعبر عنه في القياس بالعلة وذهب بعضهم الذي هو السمعاني تبعًا للنحاة وأهل اللغة إلى الفرق بينهما فقال السبب الموصل إلى الشيء مع جواز المفارقة بينهما ولا أثر له فيه ولا في تحصيله كالحبل للماء والعلة ما يتأثر عنه الشيء دون واسطة كالخمر للإسكار ويعبر عن السبب بالباعث.
شرط الوجوب ما به مكلف [نكلف]
…
وعدم الطلب فيه يعرف
مثل دخول الوقت والنقاء
…
وكبلوغ بعث الأنبياء
يعني أن الشروط ثلاثة: شرط وجوب وشرط صحة وشرط أداء، قاله القاضي أبو عبد الله بردلة واستدل عليه بكلام الشيرازي على مختصر ابن الحاجب الأصلي ومثله للشيخ زكرياء في حاشيته على المحلي وهو التحقيق خلاف ما توهمه بعضهم كميارة في تكملة من أن شرط الأداء هو شرط الصحة، إذا تقرر ذلك فشرط الوجوب هو ما يكون الإنسان به مكلفا كدخول الوقت والنقاء من الحيض والنفاس وكبلوغ دعوة الأنبياء وإقامة أربعة أيام ولا يطلب المكلف بتحصيله كان في طوقه أم لا والمراد بالشرط في الأقسام الثلاثة ما لابد منه فيتناول السبب.
ومع تمكن من الفعل الأدا
…
وعدم الغفلة والنوم بدا
يعني أن ما به يكون التمكن من الفعل مع حصول ما به يكون الإنسان من أهل التكليف هو شرط الأداء أي شرط التكليف بأداء العبادة أ .. فعلها، فالنائم والغافل غير مكلفين بأداء الصلاة مع وجوبها عليهما فالتمكن شرط في الأداء فقط (وقوله: بدا) أي بدا كونهما مثالين لشرط الأداء عند من يمكنه الاحتراز منهما، إذ شرط الأداء لابد أن يكون مقدورًا عليه مطلوبًا فعله. وفي التوضيح أن الفرق بين شرط الوجوب وشرط الأداء أن كل ما لا يطلب من المكلف كالذكورة والحرية يسمى شرط وجوب وما يطلب منه كالخطبة والجماعة يعني للجمعة يسمى شرط أداء. قال ميارة في التكميل:
ما ليس في طوق المكلف أعلما
…
كالطهر من حيض ووقت قد سما
أو هو في الطوق ولا به طلب
…
شرط وجوب كإقامة فطب
وغيره شرط لدى الأداء وذا
…
كخطبة ستر وشبه احتذا
قلت ظاهر قولهم ما به يكون من أهل التكليف إن المراد أن شرط في الإيجاب الإعلامي الذي المقصود منه اعتقاد وجوب إيجاد الفعل. والمراد من شرط الأداء حيث فسروا الأداء بالتكليف بأداء العبادة أي فعلها أنه شرط في الإيجاب الإلزامي الذي المقصود منه الامتثال الذي لا يحصل إلا بالاعتقاد والإيجاد معًا.
وشرط صحة به اعتداد
…
بالفعل منه الطهر يستفاد
يعني أن شرط الصحة هو ما اعتبر للاعتداد بفعل الشيء طاعة كان أو غيرها كالطهارة بالماء أو بالتراب للصلاة والستر لها والخطبة للجمعة واستقبال القبلة.
والشرط في الوجوب شرط في الأداء
…
وعزوه للاتفاق وجدا
يعني أن كل ما هو شرط في الوجوب فهو شرط في الأداء قاله بان عرفه، وحكى عليه السعد الاتفاق على ما نقله اللقاني في حاشيته على المحلي. وعليه فكل ما هو شرط في الوجوب كالبلوغ والعقل وبلوغ الدعوة فهو شرط في الأداء، ويزيد شرط الأداء بالتمكن من الفعل قاله القاضي بردلة.
وصحة وفاق ذي الوجهين
…
للشرع مطلقًا بدون مين
وفاق مبتدا وللشرع متعلق به خبره صحة، يعني أن الصحة عند المتكلمين هي موافقة الفعل ذي الوجهين لأذن الشرع مطلقًا أي كان ذو الوجهين عبادة أو معاملة ووجهاه أن يقع تارة موافقًا للشرع لجمعه الشروط وانتفاء الموانع، وتارة مخالفًا لانتفاء شرط أو وجود مانع بخلاف ما لا يقع إلا موافقًا للشرع كمعرفة الله ورد الودائع لأن القاعدة أن العرب لا يصفون المحل بالشيء إلا إذا كان قابلًا لضده فمعرفة الله ليست معرفة إذا كانت مخالفة له بل جهلاً.
وفي العبادة لدى الجمهور
…
أن يسقط القضا مدى الدهور
يعني أن صحة العبادة عند جمهور الفقهاء هي سقوط القضاء بأن لا تحتاج إلى فعلها ثانيًا، فما وافق من عبادة ذات وجهين للشرع كصلاة من ظن أنه متطهر ثم تبين حدثه صحيحة عند المتكلمين باطلة عند الفقهاء فعلى الأول لا أثم فيها ولا قضاء.
قال الزركشي ووصفهم إياها بالصحة صريح في ذلك فإن الصحة هي الغاية من العبادة، وروى عنهم وجوب قضائها، وعلى الثاني لا إثم فيها أيضًا لكن يجب القضاء.
وصرح القرافي بالاتفاق على أنه، مثاب على تلك الصلاة المتبين فيها عدم الطهارة. وحكى ابن الكاتب في ذلك خلافًا، وقال عز الدين الشافعي: لا ثواب إلا فيما لا يفتقر إلى الطهارة كالتسبيح والتكبير والدعاء، وعلى هذا فهل يحصل له ثواب من قال ذلك في نفس الصلاة وهو أليق بالكرام، أو ثواب من قاله خارج الصلاة فيه احتمالان. والخلاف مبني على أن الصلاة هل من باب الكل وعليه لا ثواب، أو الكلية فيثاب. وقولنا: كصلاة: الخ إنما هو بناء على أن الحقائق الشرعية تصدق بالفاسد كالصحيح لا على أنها لا تتناول إلا الصحيح، ومذهب الفقهاء أنسب للغة لأن العرب لا تسمى الآنية صحيحة إلا إذا كانت لا كسر فيها البتة، وهذه الصلاة مختلفة على تقدير الذكر فهي كالآنية المكسورة من جهة قاله القرافي.
تنبيه:
معرفة الله لا توصف بالصحة بخلاف الإيمان لأن معرفة الله تعالى هي إدراكه على ما هو به، والإيمان التصديق بأمور مخصوصة بشروط مخصوصة، فتارة يستجمع ما يعتبر فيه شرعًا فيكون موافقًا، وتارة لا يستجمع فيكون مخالفًا قاله في الآيات البينات.
يبنى على القضاء بالجديد
…
أو أول الأمر لدى المجيد
يعني أن الخلاف في تعريف الصحة مبني عند المجيد بضم الميم أي الممعن للنظر في علم الأصول على الخلاف في القضاء هل هو بأمر
جديد أو بالأمر الأول، فعلى الأول بنى المتكلمون مذهبهم في العبادة التي لم تفعل في وقتها من أنها موافقة الأمر فلا يوجبون القضاء لما لم يرد نص جديد به وعلى الثاني بنى الفقهاء.
وهي وفاقه لنفس الأمر
…
أو ظن مأمور لدى ذي خبر
يعني أن الصحة عند ذي خبر بضم الخاء المعجمة أي معرفة بالفن وهو تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي موافقة ذي الوجهين نفس الأمر عند الفقهاء، وعند المتكلمين موافقة ظن المأمور، فهم متفقون على أن الصحة موافقة الأمر لكن الفقهاء يعتبرون الموافقة في نفس الأمر والمتكلمون يعتبرونها في ظن المكلف فكانت صلاته المذكورة صحيحة عند المتكلمين دون الفقهاء.
قال السبكي تسمية الفقهاء لها باطلة ليس لاعتبارهم سقوط القضاء في حد الصحة كما ظنه الأصوليون بل لأن شرط الصلاة عندهم الطهارة في نفس الأمر، والصلاة بدون شرطها باطلة وغير مأمور بها، وكون الصلاة بدون شرطها باطلة وغير مأمور بها مبني على أن حصول الشرط الشرعي شرط في صحة التكليف ووقوعه (بصحة العقد يكون الأثر).
يعني أن ترتب أثر العقد وهو ما شرع العقد له كالتصرف في البيع والاستمتاع في النكاح إذا وجد فهو ناشئ عن صحة العقد لا عن غيرها، وليس المراد أنه متى وجدت الصحة نشأ عنها الثمرات لأن بيع الخيار صحيح ولا ينشأ عنه قبل تمام عقده ثمرة. ولا يرد على ذلك الخلع والكتابة الفاسدان فإنه يترتب عليهما أثرهما من البينونة والعتق مع أنهما غير صحيحين لأن ترتب أثرهما ليس للعقد بل للتعليق وهو صحيح لا خلل فيه، ونظير ذلك القراض والوكالة الفاسدان فإنه يصح فيهما التصرف لوجود الإذن فيه وإن لم يصح العقد، فظهر لك أن الصحة منشأ الترتب لا نفسه، خلافًا لمن قال بذلك إذ لو كانت نفسه لم توجد بدونه. (وفي الفساد عكس هذا يظهر).
يعني أن فساد العقد عكس صحته في إنه لا يترتب عليه اثر العقد لأن النهي عندنا كالشافعي يدل على الفساد إلا لدليل، ويدل على الصحة عند أبي حنيفة قال إذا اشترى جارية شراء فاسدًا جاز له وطؤها وكذلك جميع العقود، وقالت الشافعية يحرم عليه الانتفاع مطلقًا وإن بيع ألف بيع وجب نقضه.
قال: القرافي ونحن خالفنا أصلنا وراعينا الخلاف في المسألة وقلنا أن البيع الفاسد يفيد شبهة اللك فيما يقبل الملك، فإذا لحقه أحد أربعة أشياء تقرر الملك بالقيم وهي: حوالة الأسواق، وتلف العين، ونقصانها، وتعلق حق الغير بها، وإلى ذلك أشار بقوله:
إن لم تكن حوالة أو تلف
…
تعلق الحق ونقص يولف
وتعلق الحق به: كرهنه وإجارته، ويترتب أيضًا على كونه يفيد شبهة الملك ضمان المبيع بالقبض. قوله: (يولف بالبناء للمفعول أي نقص موجود في ذاته.
كفاية العبادة الأجزاء
…
وهي أن يسقط الاقتضاء
أو السقوط للقضا
يعني أن الأجزاء من أوصاف العبادة كالصحة، فيقال صلاة صحيحة مجزئة، فأجزاء العبادة هو كفايتها، وتلك الكفاية أن يسقط طلب الشارع لها من المكلف لإتيانه بما يخرج به من عهد التكليف لموافقته الشرع وذلك هو الصحة وهو الامتثال أيضًا، ولا يشترط في الأجزاء إسقاط القضاء، فإجزاء العبادة صحتها لا ناشئ عنها كما يقتضيه كلام السبكي، وصرح به المحلي وإن خالفا في ذلك ابن الحاجب القائل: إن الإجزاء هو الصحة، ولعلهما اطلعا على ما قاله وخالفا قصدًا لعدم امتناع مخالفتهما له، خصوصًا من مثل السبكي لماله من الباع الواسع في الفن والتحقيق وكثرة الاستدراكات فيه على ابن الحاجب وغيره مع عدم انحصار كلام الأصوليين فيما ينقله ابن الحاجب، وهذا على جر العبادة في قول السبكي: والعبادة أجزاؤها، وأما إن رفعنا
العبادة فهو موافق لابن الحاجب قوله: (أو السقوط للقضاء أو للتنويع الخلاف يعني بعضهم ذهب إلى أن الإجزاء هو سقوط القضاء عليه فالصحة والإجزاء مترادفان على القول المرجوح فيهما عند السبكي يعني حيث قال وفي العبادة إسقاط القضاء، وأما على ما مشى عليه هو أعني الناظم فيترادفان على الراجح في الصحة والمرجوح في الإجزاء. ورده القرافي بأن من مات في وسط الوقت ولم يصل أو صلى صلاة فاسدة فقد وجد في حقه سقوط القضاء دون الإجزاء إذ القضاء إنما يتوجه بعد خروج الوقت وبقاء التكليف والميت ليس أهلًا للتكليف.
وذا أخص
…
من صحة إذ بالعبادة يخص
ذا مشار به إلى الإجزاء، يعني أن الإجزاء أخص مطلقًا من الصحة وهي أعم مطلقًا لأن الإجزاء مختص بالعبادات لا يتجاوزها إلى المعاملات، والصحة توصف بها المعاملات كالعبادات، فيقال: عقد صحيح ولا يقال عقد مجزئي.
والصحة القبول فيها يدخل
…
وبعضهم للاستواء ينقل
يعني أن الصحة يدخل فيها القبول والثواب لشملها لهما في أعم منهما مطلقًا عند الجمهور. قال السبكي فالجمهور تصح ولا يثاب، وبعضهم نقل استواء الصحة والقبول أي: ترادفهما فاللام في للاستواء زائدة وهي مفعول ينقل، وإنما لم يتعرض الأصوليون لذكر القبول وإن كان من أوصاف العبادة لأنه أمر مغيب عنا لا تدخله أحكامنا لأنهم إنما يذكرون ما تدخله أحكامنا بضوابط عندنا معلومة أو مظنونة وهو بناء على أنه ليس مرادفًا للصحة قال القرافي:
وخصص الإجزاء بالمطلوب
…
وقيل بل يختص بالمكتوب
يعني أن الإجزاء إثباتًا كان أو نفيًا يختص بالمطلوب أعني العبادة واجبة كانت أو مندوبة لا يتجاوزها إلى العقد المشار له في الصحة وإن كان قد يكون عبادة حيث طلب، إذ المراد ما أصل وضعه التعبد لا ما يطرأ له
ذلك كالعقد قاله في الآيات البينات وهذا هو المشهور. وقيل إن الإجزاء مختص بالمكتوب أي الواجب من العبادة.
ومنشأ الخلاف حديث ابن ماجه وغيره مثلًا، أربع لا تجزئ في الأضاحي، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: اذبحها ولن تجزئي عن أحد بعدك. ومعنى كونهما منشأ الخلاف أن من قال بوجوب ما وصف في كل منهما بالإجزاء لما قام عنده من دليل الوجوب قال لا يوصف بالإجزاء إلا الواجب، ومن قال بالندب لما قام عنده من دليل الندب قال يوصف به كل من الواجب والمندوب، ومن استعمال الإجزاء في الواجب اتفاقًا لا تجزئي صلاة لا يقرأ فيها بأم القرءان قاله المحلي بناء على أن الصلاة في الحديث هي الواجبة، وليس كذلك فإنها نكرة في سياق النفي تعم الواجب والمندوب فاستعمال الإجزاء فيها إنما هو على القول الآخر.
تنبيه:
جزأ الثلاثي إذا كان مهموزًا كان بمعنى الكفاية أيضًا، قال المازري.
وقابل الصحة بالطلان
…
وهو الفساد عند أهل الشان
يعني: أن الصحة يقابلها البطلان، فهو مخالفة ذي الوجهين الشرع وقيل في العبادة عدم إسقاط القضاء والبطلان هو الفساد عند أهل هذا الشأن، أي الفن. قوله: قابل بكسر، الموحدة لأنه فعل أمر.
وخال النعمان فالفساد
…
ما نهيه للوصف يستفاد
يعني أن النعمان وهو أبو حنيفة خالف الجمهور في تعريف الفساد، فقال مخالفة ما ذكر للشرع بأن يكون منهيًا عنه إن كانت لكون النهي عنه لأصله فهي البطلان كالمخالفة في الصلاة المفقودة منها بعض الشروط أو الأركان، إلا أن التمثيل للمخالفة لأصله بفقد الشروط فيه نظر لأن الشروط خارجة عن المشروط قاله في الآيات البينات. ثم قال اللهم إلا أن يراد بقولهم لأصله ما يتوقف عليه الأصل شرطًا كان أو ركنا هـ. وكبيع الملاقيح وهو ما في البطون من الأجنة لانعدام ركن من البيع وإن كان منهيًا عنه
لوصفه اللازم له، فهي الفساد كما في صوم يوم النحر للإعراض بصومه عن ضيافة الله تعالى للناس بلحوم الأضاحي التي شرعها فيه، والإعراض وصف لازم لصوم غير داخل في مفهومه، ومقتضى نقل التفتازاني أن الوصف هو إيقاع الصوم فيه. قال في الآيات البينات: يمكن حمل إحدى العبارتين على الأخرى بأن يكون جعل الوصف هو إيقاع لاعتبار ما تضمنه من الأعراض المذكور هـ. وكما في بيع الدرهم بالدرهمين لاشتماله على الزيادة فيأثم به، ويقيد بالقبض الملك الخبيث أي الضعيف لكونه مطلوبًا رفعه بالتفاسخ للتخلص من المعصية، فالباطل لا اعتداد به عنده ويعتد بالفاسد، فلو نذر صوم يوم النحر صح نذره لأن المعصية في فعله دون نذره ويؤمر بفطره وقضائه ليتخلص من المعصية ويفي بالنذر ولو صامه خرج عن عهدة نذره لأنه أدى الصوم كما التزمه فقد اعتد بالفاسد.
فعل العبادة بوقت عينا
…
شرعا لها باسم الأداء قرنا
فعل مبتدأ، وبوقت يتعلق به، وجملة عين بالبناء للمفعول نعت وقت، وشرعا ظرف عامل فيه عين، وجملة قرن باسم الأداء خبرا لمبدأ، وقرن مبني للمفعول، واقترانه باسم الأداء اقتران الدال بالمدلول، قال القرافي في التنقيح في تعريف الأداء: وهو إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعًا لمصلحة اشتمل عليها الوقت، فقولنا في وقتها احترازا من القضاء، وقولنا شرعا احترازا من العرف، وقولنا اشتمل عليها الوقت احترازا من تعيين الوقت لمصلحة المأمور به لمصلحة في الوقت، كما إذا قلنا الأمر للفور فإنه يتعين الزمان الذي يليه ورود الأمر ولا نصفه بكونه أداء في وقته ولا قضاء بعد وقته، وكمن بادر لإزالة منكرًا وإنقاذ غريق فإن المصلحة هنا في الإنقاذ سواء كان في هذا الزمان أو في غيره. وأما تعيين أوقات العبادات فنحن نعتقد إنها لمصالح في نفس الأمر اشتملت عليها هذه الأوقات وإن كنا لا نعلمها، وهكذا كل تعبد معناه إنا لا نعلم مصلحته لا إنه ليس في مصلحة طردا لقاعدة الشرع في عادته في رعاية مصالح العباد علي سبيل التفضل فقد تلخص إن التعيين في الفوريات لتكميل مصلحة المأمور به، وفي العبادات لمصلحة في الوقت، فظهر الفرق هـ.
قال في الشرح: قولي: إذا قلنا الأمر للفور فإنه يتعين الزمان الذي يلي ورود الأمر ليس كذلك، بل قال القاضي أبو بكر: لابد من زمان لسماع الصيغة وزمان لفهم معناها وفي الثالث يكون الامتثال هـ. قوله فعل العبادة أي فعل كلها، فالعقود لا توصف بالأداء.
وكونه بفعل بعض يحصل
…
لعاضد النص هو المعول
يعني: أن كون الأداء حاصلًا بفعل بعض العبادة في وقتها هو المعول عليه عندنا والمشهور للنص العاضد له وهو حديث الصحيحين ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)). فالأداء عليه هو فعل بعض العبادة وقتها المقرر لها شرعًا مع فعل البعض الآخر في الوقت -صلاة كان أو صومًا -أو بعده في الصلاة، وهل البعض المفعول في الوقت من الصلاة يجب أن يكون ركعة فأكثر، وهو المشهور عندنا الذي مشى عليه خليل بقوله: وتدرك فيه الصبح بركعة لا أقل والكل أداء، أو يكون بأقل منها قولان. قال حلولو قال الشيخ ابن عبد السلام: وأما القول بأن الأداء فعل كل العبادة في الوقت فليس في المذهب، نعم ذكر البرزلي كونه في المذهب.
وقيل ما في وقته أداء
…
وما يكون خارجًا قضاء
يعني أن سحنون قال: ما صلي من الصلاة في الوقت فهو أداء وما صلي بعده قضاء بناء على أنها من قبيل الكلية لا من قبيل الكل المبني عليه القولان السابقان، وما قاله سحنون مقابل للمشهور ويبنى على الخلاف حكم من صلت ركعة فغربت الشمس فحاضت فعلى أنها كلها أداء لا تقضي تلك الصلاة لأنها حاضت في وقت أدائها، وعلى أن بعضها قضاء تقضيها، إذ لم تحض إلا بعد خروج الوقت فتخلدت في ذمتها قال في التكميل:
عليهما القضا لمن قد صلت
أي ركعة فغربت فحاضت وينبني على الخلاف أيضًا جواز الاقتداء به في بقية الصلاة بعد خروج الوقت، قال في التكميل:
وأجر الاقتداء بعد ما خرج
…
وقت الضرورة على ذا لا حرج
فعلى أنها أداء لا يصح الاقتداء به لأن المأموم قاض الإمام مؤد، والمساواة في الأداء والقضاء واجبة، وعلى أن الركعة الأخيرة قضاء يصح وينوى القضاء وأحرى على القول الأول القائل أن كلها قضاء، والمذهب كما في الحطاب عند قوله: والكل أداء أن نية الأداء والقضاء كل منهما تنوب عن الأخرى، ونقل خليل في التوضيح عن سند وابن عطاء الله أنهما قالا: لا نعرف خلافًا في إجزاء نية الأداء عن نية القضاء في الصلاة، ونقل أن الباجي خرج قولًا بعدم الإجزاء فيهما من قولهم بعدم الإجزاء في مسألة صوم الأسير على أن التخريج المذكور بحث فيه في التوضيح باحتمال أن سبب عدم الإجزاء في الأسير أن رمضان عام لا يكون قضاء عن رمضان عام قبله، لأن الأداء لا ينوب عن القضاء بدليل أنه يجزئه اتفاقًا إذا تبين إنه صام ما بعد رمضان كما في ابن الحاجب قاله شيخنا البناني عند قوله: أو الأداء أو ضده قال في المنهج.
هل نية الأداء والقضاء
…
تنوب ذي عن ذي بالاستواء
أي هل نية الأداء تنوب عن نية القضاء وعكسه أو لا، وفي المذهب قول، إن الصلاة إذا فعلت في الضروري من غير عذر كانت كلها قضاء، قال ميارة وعليه فتقضي إذا حاضت في الركعة الاولى هـ. يعني فيما إذا صلت ركعة قبل الغروب وأخرى بعده وأما ذو العذر إذ صلاه في الضروري فهي أداء.
والوقت ما قدره من شرعا
…
من زمن مضيقا موسعا
لما ذكر الوقت في تعريف الأداء احتيج إلى تعريفه بأنه الزمان الذي قدره الشارع للعبادة موسعًا كان -كزمن الصلوات الخمس والوتر والفجر والعيدين والضحى -أو مضيفًا -كزمن صوم رمضان وأيام البيض. فما لم يقدر له زمان في الشرع كالنذر والنفل المطلقين وغيرهما وإن كان الزمان فوريًا -كالإيمان بالله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للقادر -لا يسمى فعله أداء ولا قضاء، وإن كان الزمان لازمًا له والوقت المقدر شامل للوقت الأصلي، والوقت التبعي كوقت أولى المجموعتين جمع تقديم بالنسبة للثانية، ووقت ثانية المجموعتين جمع تأخير بالنسبة
للأولى، والوقت التبعي هو الذي لا يقدر لغير صاحبة الوقت أولا، بل ثانيًا عند عروض مسوغ الجمع. ولا يرد على التعريف أنه غير مانع كما قال ناصر الدين اللقاني: بأن وقت الصلاة عند خروج وقت الأداء هو وقت تذكرها، لأنا نقول كما في الآيات البينات: أن المفهوم من المقدر هو المعين أوله وءاخره، فلا يصدق على زمان تذكر الفائتة فإنه ليس كذلك.
وضده القضا تداركا لما
…
سبق الذي أوجبه قد علما
يعني أن القضاء ضد الأداء، والقضاء لغة: فعل الشيء كيف كان. قال تعالى: ((فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض))، واصطلاحًا: هو فعل العبادة كلها خارج الوقت المقدر لها على المشهور في الأداء، حال كون ذلك الفعل تداركا لشيء علم تقدم ما أوجب فعله في خصوص وقته، وتدارك الشيء واستدراكه وإدراكه: الوصول إليه. قوله تداركا. الخ خرج به الصلاة المؤداة في الوقت إذا أعيدت بعده في جماعة مثلًا بناء على جوازه فلو صلى شخص في الوقت وحده ثم وجد جماعة يصلون تلك الصلاة بعد الوقت، أو صلى منفردًا خارج الوقت ثم وجد جماعة فاتتهم تلك الصلاة فجمعوها وأعاد معهم فهل له الإعادة معهم، قال المشدالي ظاهر الكتاب يجوز، وعرضته على ابن عرفة فقال: ظاهر الكتاب ما قلت، والذي عندي أنه لا يفعل، لأن تعليلهم الإعادة بتحصيل فضيلة الوقت يقتضي تخصيصها بالوقت. المشدالي: إنما عللوا الإعادة لتحصيل فضل الجماعة. الحطاب: وقد رأيت لسند التصريح بأن الإعادة لتحصيل فضل الجماعة مختصة بالوقت. وخالفنا تعبير السبكي بما سبق له مقتض الشامل للوجوب والندب، لأنه راعى مذهبه فقط من قضاء النافلة التي لها أسباب عند الشافعية، ونحن لا يقضي عندنا غير الفرض إلا الفجر فتقضى إلى الزوال على المشهور، وقيل لا تقضى مطلقًا، وليس المراد بالاستدراك مجرد الوصول إلى ما سبق له موجب لفعله في الوقت، بل لابد مع ذلك أن يكون الوصول إليه مطلوبًا على وجه الجبرية للخلل الواقع، والخلل ما أخل بالإجزاء، وكون العلماء يقولون حجة القضاء ويسمون ما أدركه المسبوق من الصلاة أداء، وما يصليه بعد الإمام قضاء لا ينقض حد القضاء، لأن الحج لما أحرم به وتعين بالشروع بعد ذلك قضاء قاله القرافي
ويطلق القضاء على ما وقع على خلاف نظامه قال القرافي. وقال الرهوني: يرد على حد الأداء والقضاء مسالة، وهي: من صلى خارج الوقت يظن أن الوقت باق فإنه لا يتناوله حد الأداء ولا حد القضاء، قلت بل يتناوله حد القضاء ونية الأداء تنوب عن نية القضاء.
من الأداء واجب وما منع
…
ومنه ما فيه الجواز قد سمع
يعني أن الأداء له ثلاث حالات.
الأول: أن يكون واجبًا إذا جرى السبب ووجد الشرط ثم لم يتفق الفعل، كمن ترك الصلاة عمدًا فإطلاق القضاء في حق هذا حقيقة.
الحالة الثاني: أن يكون ممنوعًا، كصوم الحائض فتسمته قضاء مجاز محض، والصحيح أنه أداء.
الحالة الثالثة: أن يكون جائزًا، كالمريض والمسافر إذا كان الصوم يضر بالمريض ولا يهلكه فقد أبيح له الفطر كالمسافر، والصحيح أن تسميته في حقهما قضاء مجاز لثبوت التخيير، أما الذي يخشى الهلاك فصومه ممنوع، فإن صام فهل يكون مؤديًا للواجب قياسًا على الصلاة في الدار المغصوبة تصح، لأنه مطيع لله تعالى بصومه وجان على النفس بالفساد كما جنى الغاصب على منافع المغصوب؟ أو لا يكون مؤديًا له لأنه حرام والحرام لا يجزء عن الواجب؟ فيه احتمالان.
واجتمع الأداء والقضاء
…
وربما ينفرد الأداء
(وانتفيا في النفل)
يعني أن العبادة قد توصف بالأداء والقضاء معًا كالصلوات الخمس، وقد توصف بالأداء وحده كصلاة الجمعة والعيدين، وقد لا توصف بهما كالنوافل التي لا وقت لها. واستشكل وصف الجمعة بالأداء من جهة أن العرب لا تصف الشيء بصفة إلا إذا كان قابلًا
لضدها، وأجيب بأن الجمعة قابلة عقلًا أن يدخلها القضاء، لكن الشرع هو الذي منع منه.
تنبيه: قال في التنقيح: لا يشترط في القضاء تقدم الوجوب بل تقدم سببه عند الإمام والمازري وغيرهما من المحققين، خلافًا للقاضي عبد الوهاب وجماعة من الفقهاء، فإن الحائض تقضي ما حرم عليها فعله في زمن الحيض، والحرام لا يتصف بالوجوب، وبسط ذلك ذكرته في الفقه في كتاب الطهارة، ثم تقدم السبب قد يكون مع الإثم المتعمد المتمكن، وقد لا يكون كالنائم والحائض، والمزيل للإثم قد يكون من جهة العبد كالسفر وقد لا يكون كالحيض، وقد يصح معه الأداء كالمرض، وقد لا يصح، أما شرعًا كالحيض، أو عقلًا كالنوم. قال في الشرح: قولي خلافًا للقاضي عبد الوهاب معناه: أنه قال أن الحيض يمنع من صحة الصوم دون وجوبه، فاشترط في خصوص هذه الصورة تقدم الوجوب مع السبب، ولم يجعل ذلك شرطًا عامًا.
والعبادة
…
تكريرها لو خارجا أعاده
(للعذر .. )
يعني أن العبادة توصف بالإعادة وهي تكرير العبادة، أي، فعلها أولًا في الوقت، ثم فعلها ثانيًا حيث كان في الوقت، بل ولو كان الفعل الثاني خارجًا عن الوقت عندنا. والمخالف يشترط كون الثاني في الوقت أيضًا. قوله: للعذر، يعني أن التكرار لابد أن يكون لعذر من فوات ركن أو شرط، وذلك لا يختص بالوقت أو من تحصيل مندوب، وهو مختص بالوقت قاله القرافي، كالإعادة لتحصيل فضل الجماعة إذا بقى الوقت عند الجمهور، أو مطلقًا عند المشدالي وهو ظاهر الكتاب.
والرخصة حكم غيرا
…
إلى سهولة لعذر قررا
(مع قيام علة الأصلي)
الرخصة لغة: السهولة واللين والمسامحة، واصطلاحًا: الحكم المتغير من حيث تعلقه بالمكلف، من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب الحكم الأصلي، كما إذا تغير من حرمة الفعل أو الترك إلى الحل. فخرج بالتغيير: ما كان باقيًا على حكمه الأصلي، كالصلوات الخمس، وبالسهولة: نحو الحدود والتعازير مع تكريم الآدمي المقتضي للمنع من ذلك وحرمة الاصطياد بالإحرام بعد إباحته قبله، وبالعذر: ما تغير إلى سهولة لا لعذر، كحل ترك تجديد الوضوء بعد حرمته، وبقيام السبب للحكم الأصلي: النسخ، كإباحة ترك ثبات الواحد من المسلمين لعشرة من الكفار في القتال بعد حرمته، وسببها قلة المسلمين في صدر الإسلام وقد زالت لكثرتهم بعد ذلك، وعذرها مشقة الثبات المذكور، وقلنا من حيث تعلقه، لأن تغير الحكم محال إذ هو كلام الله تعالى النفسي، القديم، ولابد أن يرد الدليل بتعلق الخطاب تلعقا ذا سهولة بالنسبة إلى ما كان له من التعلق، احترازًا عما إذا لم يرد دليل لكم سقط التعلق لسقوط محله، كما في العضو المقطوع يسقط غسله لسقوطه لكن لا يسمى رخصة. قاله ابن أبي شريف.
واختلف هل التيمم عزيمة؟ أو عزيمة في حق العادم للماء، ورخصة في حق العاجز عن استعماله. قال الحطاب في شرح المختصر خليل: والحق أنه رخصة ينتهي في بعض الصور للوجوب، كمن لم يجد الماء، أو خاف الهلاك باستعماله أو شديد الأذى. فإن تغير إلى مماثل في السهولة أو الصعوبة كأن تغير من وجوب فعل إلى وجوب فعل مماثل للفعل الأول في قدر مشقته فالذي يظهر كما في الآيات البينات أن مثل ذلك من العزيمة فالحكم منحصر في الرخصة والعزيمة كما هو ظاهر كلامهم.
وقال اللقاني: والحق أن الفعل لا يتصف بالعزيمة ما لم يقع في مقابلة الرخصة. قال في الآيات البينات فليتأمل المراد بالوقوع في مقابلة الرخصة وهل يطرد في أمثالهم؟
وتنبيه: الرخصة بضم الراء مع ضم الخاء وإسكانها قال الزركشي ويقال: خرصة بتقديم الخاء، قال: والظاهر أنها مقلوبة من الأولى
وغيرها عزيمة النبي
يعني: أن غير الرخصة عزيمة وهو ما لم يتغير أصلًا أو تغير إلى سهولة لا لعذر أو لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي كما تقدمت أمثلته والعزيمة القصد المصمم لأنه عزم أمره أي قطع وحتم صعب على المكلف أو سهل.
أعلم: أن بعضهم كالبيضاوي جعل الرخصة والعزيمة قسمين للحكم وجعلهما بعض كابن الحاجب قسمين للفعل الذي هو متعلق الحكم، قال ابن أبي شريف: والأول أقرب إلى اللغة إذ الرخصة لغة السهولة وشرعا على الأول التسهيل والترخيص بمعنى النقل إلى سهولة على وجه خاص وعلى الثاني الفعل الذي هو متعلق ذلك التسهيل والعزيمة القصد المصمم، وشرعا على الأول الطلب والتخيير وهو الفعل بالمعنى الشامل للكف والتسهيل أقرب إلى السهولة من متعلقه والطلب والتخيير على الوجه المذكور أقرب إلى القصد المصمم من متعلقهما.
وتلك في المأذون جزما توجد
…
وغيره فيه لهم تردد
يعني: أن الرخصة أي متعلقها من فعل المكلف يكون مأذونًا فيه بأن يكون واجبًا كأكل المضطر للميتة أو مندوبًا كالقصر في السفر، والمشهور أنه سنة وإنما كان القصر راجح الفعل للجمع فيه بين الترخيص وبراءة الذمة بخلاف الفطر في السفر ولذا اختلف العلماء في الأرجح فيه هل هو الفطر أو الصوم أو هما سواء وهذا إذا كان الصوم لا يجهده بفتح الياء أو يشق عليه فإن شق كان الفطر أولى فإن لم يخف الهلاك بالصوم وإلا حرم ومباحًا كالسلم الذي هو بيع موصوف في الذمة، والأصل فيه المنع للغرر وكالعرايا.
قوله: فيه .. يعني أن غير المأذون من مكروه بقسميه وحرام هل يكون متعلق الرخصة أو لا؟ فيه خلاف فلذلك اختلف في العاصي بسفره هل يباح له الترخص بناء على اختلاف المفسرين في قوله تعالى: ((غير باغ ولا عاد)) هل هو في نفس الأكل أو في السبب الموصل إلى
الاضطرار؟ فالمراد بالإباحة في قول خليل: وسفر أبيح مقابل الحرمة فيدخل المكروه والمطلوب ويخرج سفر المعصية فقط وقال عبد الباقي: وكره التيمم بسفر مكروه. وقال ابن الحاجب في التيمم: ولا يترخص بالعصيان على الأصح. على أن الحق هو ما رجحه سند والقرطبي وابن عبد السلام وابن مرزوق من الجواز مطلقًا واختلف في الصائد للهو على المشهور وهو الكراهة هل مباح له الترخص أو لا؟ فإن انقطعت المعصية كالعاصي بالوطء إذا لم يقدر على مس الماء أبيح له التيمم. قاله ابن رشد:
والعزيمة تنقسم إلى الأحكام الخمسة وخصها ابن الحاجب في مختصره الكبير بالوجوب والقرافي بالوجوب والندب قال في التنقيح: والعزيمة طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع.
وربما تجي لما أخرج من
…
أصل بمطلق امتناعه قمن
يعني: أن الرخصة قد تطلق على ما استثنى من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا أي سواء كان لعذر شاق أم لا؟ كالسلم وضرب الدية على العاقلة والقراض والمساقاة وبيع العرية ونحو ذلك، قاله حلولو لكن الظاهر لي أن العرية من الرخصة بالمعنى الأول كالسلم كما تقدم إلا أن يراد بالثاني ما يشمل بعض أفراد القسم الأول. قوله: بمطلق معلق بقمن بفتح الميم وكسرها أي حقيق ضمير امتناعه للمخرج وقمن نعت أصل.
وما به للخبر الوصول
…
بنظر صح هو الدليل
لما وقع ذكر الأحكام والأدلة في تعريف الفقه بينت الأحكام وأقسامها وما يتعلق بها ثم احتيج إلى بيان دليل؟ قال زكرياء: قال إمام الحرمين: ويسمى دلالة ومستدلًا به وحجة وسلطانًا وتبيانًا وبرهانًا.
إلا أن الأخير خاص بالقطعي. والدليل فعيل بمعنى فاعل وقد يأتي بمعنى الدلالة كما تأتي الدلالة بمعناه والدليل عند المتكلمين
ما يمكن التوصل به بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري لأن مطالبهم يقينية والموصل إلى اليقين لا يكون ظنيًا، ومطالب الفقهاء عملية والعمل لا يتوقف على العلم وأيضًا فإن موضوع أصول علم الفقه الأدلة السمعية وهي تعم العلم والظن فلذلك عرفه الأصوليون بما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري والمراد التوصل بالقوة كما دل عليه التعبير بالإمكان فقد لا ينظر في الدليل ولا يخرجه ذلك عن كونه دليلًا وصحة النظر بأن ينظر فيه من الجهة التي من شأنها أن ينتقل الذهن بها إلى ذلك المطلوب المسماة وجه الدلالة، والخبري ما يخبر به بأن يكون كلامًا يصح السكوت عليه، والنظر هنا الفكر لا بقيد المؤدي إلى علم أو ظن حذرًا من التكرار إذ يصير التقدير ما يمكن به علم المطلوب الخبري وظنه بصحيح الفكر فيه المؤدي إلى علم أو ظن، والفكر حركة النفس في المعقولات وأما في المحسوسات فيسمى تخييلًا. فالدليل القطعي كالعالم لوجود الصانع والظني كالنار لوجود الدخان. وأقيموا الصلاة لوجوبها وجه الدلالة الحدوث في الأول والإحراق في الثاني والأمر في الثالث تقول: العالم حادث وكل حادث له صانع فالعالم له صانع، والنار شيء محرق وكل محرق له دخان فالنار لها دخان، وأقيموا الصلاة أمر بالصلاة وكل أمر بشيء لوجوبه. واحترز بالصحيح عن الفاسد فإنه لا يمكن التوصل به إلى المطلوب إذ ليس هو في نفسه سببًا للتوصل ولا آلة له وإن كان قد يفضي إليه على وجه الاتفاق كوضع ما ليس بدليل مكانه كوضع المقدمات غير المناسبة للمطلوب إما كلها أو بعضها مثل أن يكون المطلوب كون العالم حادثًا فيوضع مكان الدليل العالم متعجب وكل متعجب ضاحك قال في السلم:
وخطأ البرهان حيث وجدا
…
في مادة أو صورة فالمبتدا
أما ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب تصوري فليس بدليل بل هو المعرف بكسر الراء ويسمى حدًا:
والنظر الموصل من فكر إلى
…
ظن بحكم أو لعلم مسجلا
لما تقدم ذكر النظر في تعريف الدليل بينه هنا بأنه الفكر الموصل بكسر الصاد إلى ظن حكم أو الموصل العلم أي يقين سواء كان علمًا بحكم أو ذات ومسجلًا بصيغة اسم المفعول اسم مصدر والنظر لغة يطلب على الانتظار وعلى رؤية العين وعلى المقابلة يقال: دار فلان تنظر لدار فلان، وفي اصطلاح المتكلمين التفكر والاعتبار في المنظور فيه ليستدل به على جماله تعالى وجلاله فخرج الفكر غير المؤدي إلى علم أو ظن كأكثر حديث النفس فلا يسمى نظرًا، وشمل التعريف النظر الصحيح القطعي والظني والفاسد فإنه يؤدي إلى علم أو ظن بواسطة اعتقاد أو ظن ومنهم من لا يستعمل التأدية إلا فيما يؤدي بنفسه، قاله المحلي وأورد عليه أن النظر الفاسد لا يؤدي إلى علم بل يستلزم الجهل وأجيب: بأن ما قيل فيه ذلك خال عن الاعتقاد، والظن بخلاف ما هنا قال زكرياء: نعم لك أن تقول سيأتي أن العلم لا يقبل التغيير فإن كان العلم الحاصل بذلك لا يتغير بتبين فساد النظر فذلك وإلا فليس علمًا وهو المختار فشمول النظر الفاسد لشرطه المذكور إنما يأتي في تأديته إلى الاعتقاد أو الظن لا إلى العلم.
الإدراك من غير قضا تصور
…
ومعه تصديق وذا مشتهر
الإدراك لغة: وصول غاية الشيء ومنتهاه ومنه الدرك الأعلى والدرك الأسفل يقال أدركت الثمرة إذا وصلت وبلغت حد الكمال والتصور الإدراك أي وصول النفس إلى المعنى بتمامه من نسبة أو غيرها بلا حكم معه من إيقاع النسبة أو انتزاعها. أما وصول النفس إلى المعنى لا بتمامه فيسمى شعورًا كعلمنا بأن الملائكة أجسام لطيفة نورانية من غير أن ندرك حقيقة تلك الأجسام التي هي عليها والإدراك للنسبة وطرفيها مع الحكم المسبوق بالإدراك لتلك النسبة وطرفيها يسمى تصديقًا كإدراك الإنسان والكاتب وكون الكاتب ثابتًا للإنسان وإيقاع أن الكاتب ثابت للإنسان أو انتزاع ذلك أي نفيه فلابد من تقدم التصورات الثلاث على الحكم كما لابد من تقدم إدراك طرفي النسبة الذين هما المحكوم عليه والمحكوم به على إدراكها وتفسير الحكم بما تقدم هو ما عليه متأخروا المناطقة فهو فعل للنفس صادر عنها.
وقيل: الحكم إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة فليس الحكم فعلًا للنفس بل هو انفعال للنفس وإذعان وقبول للنسبة لأن العلوم والاعتقادات أنوار تشرق في النفس. وتفسير الحكم بما ذكر هو ما عليه متقدموا المناطقة قال بعضهم: وهو التحقيق. والإيقاع والانتزاع والإيجاب والسلب والإسناد عبارات وألفاظ.
قوله (وذا مشتهر)، يعني: أن تفسير التصديق بما ذكر هو المشهور وقيل: التصديق هو الحكم وحده فتلخص أن في التصديق قولين أحدهما أنه إدراك النسبة بطرفيها مع الحكم وثانيهما أنه الحكم، وأن في الحكم قولين أحدهما أنه الإيقاع والانتزاع، وثانيهما: أنه إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة، وعلى الثاني من كل منهما المحققون كالقطب الرازي والعضد والسعد التفتازاني والسيد، ووجه تسمية التصديق تصديقًا أن الحكم إذا عبر عنه مثلًا بقولنا: زيد كاتب أو ليس بكاتب لزمه احتمال أن يكون صادقًا أي مطابقًا للواقع وأن يكون كاذبًا فهو باعتبار أنه قد يصدق صادق في الجملة وبالنظر إلى ذلك سمي تصديقًا لا تكذيبًا اعتبارًا بأشرف قسمي لازم الحكم.
(جازمه دون تغير علم * علما .. )
يعني أن جازم القضاء الذي هو الحكم إذا كان لا يقبل التغير بأن كان لموجب بكسر الجيم من حس أو عقل أو عادة يسمى علمًا وبعضهم يعبر بدل لا يقبل التغير بالثابت .. وأورد أنه إن أريد بالثبوت عسر الزوال على ما قيل ففيه أنه قد يعسر زوال التقليد أيضًا وإن أريد عدم الزوال أصلًا على ما هو المشهور ففيه أن العقلاء كثيرًا ما يعتقدون خلاف معتقدهم الأول، مع أن الحق هو الاعتقاد السابق وأجيب بأن المراد بالثبوت كونه مأخوذًا من ضرورة أو برهان. ومعنى الموجب هو الأمر المقتضي له بمعنى أن الله تعالى يخلق للعبد عنده العلم لا بمعنى التأثير أو التوليد.
قولنا: من حس أو عقل أو عادة قال: الشيخ زكرياء أو مانعة خلو إذ قد يكون الموجب مركبا من حس وعقل كالتواتر ومن حس وعادة كالحكم بأن الجبل حجر لمن شاهده. والحس يشمل الظاهر
والباطن كعلمك بجوعك وعطشك ونحو ذلك من الوجدانيات. وأورد أن العلوم العادية تحتمل النقيض لجواز خرق العادة كانقلاب الحجر ذهبا. وأجيب بأن احتمالها للنقيض بمعنى أنه لو فرض نقيض العلوم لم يلزم محال لذاته لا بمعنى أنه محتمل للحكم بالنقيض في الحال كما في الظن أو المآل كما في الجهل المركب والتقليد، فإن منشأه ضعف الإدراك إما لعدم الجزم أو لعدم المطابقة أو لعدم استناده إلى موجب قاله في الآيات البينات
وغيره اعتقاد ينقسم
إلى صحيح أن يكن يطابق
…
أو فاسد أن هو لا يوافق
يعني: أن غير الحكم الجازم الغير القابل للتغير يسمى اعتقادًا والمراد بغير الحكم الخ. الحكم الجازم القابل للتغير بأن لم يكن لموجب طابق الواقع أم لا، إذ يتغير الأول بالتشكيك والثاني به أو بالإطلاق على ما في نفس الأمر والاعتقاد منه صحيح وهو ما يطابق الواقع كاعتقاد المقلد أن الضحى مندوب ومنه فاسد إن لم يطابقه كاعتقاد الفلاسفة قدم العالم ولا إشكال في إفادة التقليد للمقلد الاعتقاد، والدليل يفيد المجتهد الظن وهو أضعف من الاعتقاد والفرق أن المقلد خال من المتزاحمات والمجتهد ينظر في الأدلة المتعارضة عنده فغاية ما يتم له في الغالب ترجيح أحد الجانبين على الآخر بخلاف المقلد فإنه يأنس بمعتقده فلا يزال يقوي عنده ولذلك ترى عقيدة أهل الصلاح والتقى من العوام كالطود الشامخ لا تحركه الرياح وعقيدة أهل الجدل كخيط في الهواء تقلبه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا قوله أو فاسد بالجر عطف على الصحيح وضمير هو للاعتقاد ويوافق بكسر الفاء.
والوهم والظن وشك ما احتمل
…
لراجح أو ضده أو ما اعتدل
يعني: أن الحكم غير الجازم بأن كل معه احتمال نقيض المحكوم به من وقوع النسبة أو لا وقوعها ينقسم إلى وهم بسكون الهاء وظن وشك فالوهم هو الحكم بالشيء مع احتمال نقيضه احتمالًا راجحًا، والظن ضد بأن احتمالًا مرجوحًا والشك ما احتمل لما اعتدل
معه أي تساوى فالأول كاحتمال غلط العدل في خبره أو كذبه والثاني كالحكم بصدق العدل والثالث كالحاصل من خبر المجهول إذا لم يترجح منه أحد الطرفين فالشك بخلاف ما قبله حكمان لأنه اعتقادان يتقاوم سببهما وقيل أن الشك والوهم ليسا من التصديق إذا الوهم ملاحظه المرجوح والشك التردد في الوقوع وعدمه والجواب إن الشاك حاكم بجواز كل واحد من النقيضين بدلًا عن الآخر وأن الوهم حاكم بالطرق المرجوح حكمًا مرجوحًا والتحقيق في الشاك أنه إن نشأ شكه عن تعارض الأدلة فهو حاكم بالتردد أو لعدم النظر فهو غير حاكم ولهذا الخلاف اختلف في الوقف هل يعد قولًا أو لا؟
قوله: لراجح .. الخ، الثلاثة راجعة إلى الوهم والظن والشك على اللف والنشر المرتب والتاء في احتمل واعتدل مفتوحة قال الأبياري والأصل إتباع الظن مطلقًا حيث لا يشترط العلم ما لم يرد في الشرع منع من ذلك كمنع القضاء بشهادة الواحد وإن غلب على الظن صدقه وهذا مما قدم فيه النادر.
أما الشك فساقط الاعتبار إلا في النادر كنضح من شك في إصابة النجاسة وغسل اليدين عند القيام من النوم وقد صرح المقري بحرمة إتباع الوهم.
والعلم عند الأكثرين يختلف
…
جزما ..
يعني: أن العلم الحادث عند أكثر المتكلمين يتفاوت في جزئياته إذ العلم مثلًا أن الواحد نصف الاثنين أقوى في الجزم من العلم بأن العالم حادث وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بربه لا يساوي علم غيره وكذا غيره من الأنبياء وبعض المؤمنين في العرفان أقوى من بعض وقال علي رضي الله تعالى عنه: لو كشف الغطاء لما زادني يقينًا وجه الدليل أن نفي الشيء فرع ثبوته قال البوصيري:
لم يزده كشف الغطاء يقينا
…
بل هو الشمس ما عليه غطاء
ولا شك أن حق اليقين أقوى من عين اليقين وعين اليقين أقوى من علم اليقين. (وبعضهم بنفيه عرف).
وإنما له لدى المحقق
…
تفاوت بحسب التعلق
يعني أن بعض المتكلمين ذهبوا إلى أن العلم لا يتفاوت في جزئياته إذ حقيقته الكشف فليس بعضها وإن كان ضروريًا أقوى في الجزم من بعض وإن كان نظريًا سواء قلنا باتحاد العلم عند تعدد المعلوم أو بتعدد وإنما يتفاوت بحسب التعلقات فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام علموا من صفات الله تعالى ما لم يعلمه غيرهم فالتفاوت بحسب المتعلقات وأيضًا فحضور الأنبياء لا يدانيه حضور فالتفاوت عروض الغفلة لغيرهم دونهم وكذا رجحان بعض المومنين في العرفان هو بحسب زيادة المعارف وقلة الغفلات عنها بعد حصولها قوله: وإنما له: يعني أن من نفى تفاوت العلم في نفسه وهم المحققون إنما يكون له التفاوت عنده بحسب التعلق بالمعلومات إذا العلم صفة واحدة متعلقها وهو المعلومات متعدد كما في علمه تعالى فالعلم على هذا القول لا يتفاوت إلا بكثرة المتعلقات كما في العلم بثلاثة أشياء والعلم باثنين وتفاوته بكثرة المتعلقات مبني على ما أشار له بقوله.
لما له من اتحاد منحتم
…
مع تعدد لمعلوم علم
يعني: أن تفاوت العلم بكثرة المتعلقات كائن، لأجل ما علم من وجوب اتحاد العلم مع تعدد المعلومات، كما هو قول بعض الأشاعرة قياسًا على علم الله تعالى. وذهب الأشعري وكثير من المعتزلة إلى تعدده بتعدد المعلوم وطعنوا في القياس بالخلو عن الجامع وعلى كلا القولين فمطلق العلم جزئيات.
قال في الآيات البينات: اعلم أن الجزئيات إما بحسب المحال التي يقوم بها العلم كزيد وعمرو فالقائم بزيد جزئي للعلم، والقائم بعمرو جزئي آخر. وإما بحسب المتعلقات كالعلم بشيء والعلم بشيء آخر فالأول جزئي العلم والثاني جزئي آخر فإن قلنا باتحاد العلم فالمراد الجزئيات باعتبار المحال كعلم زيد وعلم عمرو مثلًا ولا يتأتي إرادتها باعتبار المحل الواحد كزيد إذ لا يكون له إلا علم واحد ولا معنى لنفي التفاوت في العلم الواحد، وإن قلنا بتعدده فالمراد
الجزئيات باعتبار المحال كعلم زيد وعلم عمرو مثلًا وباعتبار المحل الواحد أيضًا كعلم زيد بهذا الشيء وعلمه بذلك الشيء الآخر.
وعلى أن العلم يتعدد بتعدد المعلومات لا يتفاوت بكثرة المتعلقات لأن العلم حينئذ لا يتعلق بأكثر من معلوم واحد فكل متعلق معلوم بعلم خاص به نعم التفاوت على هذا يكون بقلة الغفلة عن معلوم دون غيره وهذا هو المراد بألف النفس أحد المعلوقين دون الآخر، قال ابن أبي شريف: وقد أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث الصحيحين (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا) إلى التفاوت بكثرة التعلقات إذ لو قصدت الإشارة إلى التفاوت في العلم الواحد لكانت العبارة لو تعلمون كما أعلم وأشار صلى الله عليه وسلم إلى التفاوت باعتبار عروض الغفلات بقوله في حديث مسلم (لو تدومون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة في الطرق).
يبنى عليه الزيد والنقصان
…
هل ينتمي إليهما الإيمان؟
يعني أن الخلاف في تفاوت العلم بنفسه في القوة والجزم يبنى عليه الإيمان بمعنى التصديق هل ينسب إلى الزيد والنقصان أولا، إما بالنظر إلى الأعمال فلا شك أنه يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصانها.
والجهل جا فى المذهب المحمود
…
هو انتفاء العلم بالمقصود
بقصر جا للضرورة يعني أن الجهل هو انتفاء العلم بالمقصود أي ما شأنه أن يقصد ليعلم بأن لم يدرك أصلًا ويسمى الجهل البسيط أو أدرك على خلاف هيئته في الواقع ويسمى الجهل المركب لأنه جهل الشيء وجهل أنه جاهل له كاعتقاد الفلاسفة قدم العالم، وخرج بالمقصود عدم العلم بالأرضين السفلي والسماوات العليا مثلًا فلا يسمى انتفاء العلم به جهلًا وقيل الجهل هو إدراك المعلوم على خلاف هيئته في الواقع وعليه فالبسيط ليس بجهل والقولان ذكرهما ابن مكي في قصيدته المسماة بالصلاحية قال:
وإن أردت أن تحد الجهلا
…
من بعد حد العلم كان سهلا
وهو انتفاء العلم بالمقصود
…
فاحفظ فهذا أوجز الحدود
وقيل في تحديده ما يذكر
…
من بعد هذا والحدود تكثر
تصور المعلوم هذا حرفه
…
وحرفه الآخر يأتي وصفه
مستوعبًا على خلاف هيئته
…
فافهم فهذا القيد من تتمته
سميت بالصلاحية لأنها نظمت لصلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي بشين معجمة وألف وذال معجمة مكسورة بعدها مثناة تحتية قال زكرياء: وهي من أحسن تصانيف الأشعرية في العقائد وكان صلاح الدين يأمر بتلقينها للصبيان في المكاتب.
زوال ما علم قل نسيان
…
والعلم في السهولة اكتنان
يعني: أن النسيان هو زوال المعلوم عن الحافظة والمدركة فيستأنف تحصيله وأن العلم في السهولة اكتنان أي غيبة عن الحافظة فقط فهو الذهول عن المعلوم الحاصل فينتبه له بأدنى تنبيه وقيل النسيان غفلة عن المذكور والسهو غفلة عن المذكور وغيره، وقيل بالترادف بينهما.
ما ربنا لم ينه عنه حسن
…
وغيره القبيح والمتسهجن
يعني: أن الحسن مع قطع النظر عن كونه فعل المكلف خصوصًا هو ما لم ينه عنه من مأذون فيه واجبًا كان أو مندوبًا أو مباحًا، ومن فعل غير المكلف كالساهي والنائم والبهيمة وكالصبي بالنسبة إلى الواجب والمحرم على الصحيح أو مطلقًا على غيره هذا هو الحسن الشرعي، والقبيح في الشرع وهو المستهجن بصيغة اسم المفعول: هو ما نهى تعالى عنه من مكروه وحرام ويدخل في المكروه خلاف الأولى، قال في التنقيح: فالقبيح ما نهى الله تعالى عنه والحسن ما لم ينه عنه، وقيل الحسن المأذون فيه والقبيح المنهي عنه ولو بالعموم وعليه يكون فعل غير المكلف واسطة. وقال إمام الحرمين: ليس المكروه قبيحًا لأنه لا يذم عليه ولا حسنًا لأنه لا يسوغ الثناء عليه بخلاف المباح فإنه يسوغ عليه وجعله
بعضهم واسطة لأن الحسن عنده ما أمر بالثناء عليه. وأما الحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته كحسن الحلو وقبح المر وبمعنى صفة الكمال والنقص كحسن العلم وقبح الجهل فعقلي إجماعًا وأهل العراق يطلقون القبيح في الشرع على المكروه والمحرم وما لا بأس بفعله وهو ما فيه شبهة قليلة وإن كان مباحًا كسؤر كثير من الحيوانات بخلاف الشرب من دجلة لا يقال فيه لا بأس به.
هل يجب الصوم على ذي العذر
…
كحائض وممرض وسفر
يعني: أنه إذا انعقد سبب لوجوب شيء على مكلف ثم طرأ ما اقتضى جواز ترك ذلك الشيء لذلك المكلف كطرو الحيض أو المرض أو السفر أو السكر أو الإغماء بعد انعقاد سبب وجوب الصوم في حق من طرأ له ذلك أو طرأ قبل انعقاد سبب الوجوب ما منع انعقاده فهل يوصف الحال جواز تركه بالوجوب لأنه يجب عليهم القضاء بقدر ما فاتهم فكان المأتى به بدلا من الفائت والبدل واجب. فدل على أن الفائت واجب وإلا لم يكن بدلًا عنه لقوله تعالى ((فمن شهد منكم الشهر فليصمه)) وهؤلاء شهدوه وجواز الترك لهم لعذرهم الثابت في المريض والمسافر بقوله تعالى ((فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر)) وفي الحائض بالإجماع أو لا يوصف بالوجوب وإلا كان ممتنع الترك وقد فرض جائزه فلو ثبت أنه مع ذلك ممتنع لاجتمع النقيضان وأجيب بمنع ذلك لأن المنافي للوجوب هو جواز الترك مطلقًا لا جوازه وقت العذر فقط فاختلف زمن النفي والإثبات وأجيب عن الأول بأن شهود الشهر موجب عند انتفاء العذر لا مطلقًا فوجوب الصوم له سبب ومانع ولا يتحقق الوجوب إلا بوجود سببه وانتفاء مانعه وهو العذر المذكور فالاستدلال بالآية على الوجوب في محل العذر غير صحيح، وبأن وجوب القضاء بقدر ما فات المشعر بالبدلية لا يتوقف على سبق نفس الوجوب بل يكفي فيه سبق إدراك سبب الوجوب، قاله في الآيات البينات.
وجوبه في غير الأول رجح
…
وضعفه فيه لديهم وضح
يعني: أن ابن رشد ذكر في المقدمات أن الراجح عند المالكية في المرض والسفر وجوب الصوم وأنه في الأول الذي هو الحيض ضعيف.
وهو في وجوب قصد للادا
…
أو ضده لقائل به بدا
هو مبتدأ خبره بدأ يعني أن الخلاف أي ثمرته تظهر عند من يقول بوجوب التعرض في البدل للنية فعلى ان الفائت واجب يقصد القضاء أي ينويه، وعلى الآخر ينوي الأداء فاللام في قوله بمعنى عند قال في الآيات البينات: ذهب الجمهور إلى أن الفعل في الزمان الثاني قضاء على أن المعتبر في وجوب القضاء سبق الوجوب في الجملة لا سبق الوجوب على ذلك الشخص فعلى هذا يكون فعل النائم والحائض ونحوهما قضاء وبعضهم يعتبر الوجوب عليه حتى لا يكون فعل النائم والحائض ونحوهما قضاء لعدم الوجوب عليهم بدليل الإجماع على جواز الترك وبعضهم يقول بالوجوب عليهم بمعنى انعقاد السبب وصلاحية المحل وتحقق اللزوم لولا المانع ويسميه وجوبًا بدون وجوب الأداء اهـ.
ونفس الوجوب هو اشتغال الذمة بفعل أو مال ووجوب الأداء لزوم تفريغ الذمة عما اشتغلت به كذا ذكره في التلويح وبما ذكرنا من ظهور ثمرة الخلاف في نية الأداء أو القضاء يكون الخلاف معنويًا خلافًا للسبكي في جمع الجوامع من أنه لفظي لا فائدة فيه لأن تأخير الصوم حالة العذر جائز بلا خلاف والقضاء بعد زوال العذر واجب بلا خلاف، وجعل بعضهم من فوائده هل وجب القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول؟
ولا يكلف بغير الفعل
…
باعث الأنبيا ورب الفضل
يعني: أن الله تعالى لا يكلف أحدًا إلا بالفعل بناء على امتناع التكليف بالمحال لأن غير الفعل غير مقدور للمكلف والفعل ظاهر في الأمر لأنه مقتض للفعل غالبًا ومن غير الغالب نحو اترك ودع وذر والإطلاق بناء على الغالب واقع حتى في الكتاب والسنة مع أنها في معنى النهي والتكليف بالاعتقادات التي هي من الكيفيات النفسانية دون
الأفعال الاختيارية على الصحيح عند بعض المحققين تكليف بأسبابها كإلقاء الذهن وصرف النظر وتوجيه الحواس قال في الآيات البينات: على أنه وقع إطلاق فعل القلب على التصديق في عبارة المواقف والمقاصد وغيرهما. لكن كأنه باعتبار أنه يعتبر في الإيمان مع التصديق الذي هو التجلي والانكشاف إذعان واستسلام في القلب للأوامر والنواهي فتسمية التصديق الذي هو الاعتقاد فعلًا بهذا الاعتبار.
وإما كون المنهي عنه فعلًا فقد أشار لبيانه بقوله:
(فكفنا بالنهي مطلوب النبي .. )
يعني: أن الذي طلب منا أي كلفنا به في النهي الشارع المجازى الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم. الكف بمعنى الترك والانتهاء أي انصراف النفس عن المنهي عنه وذلك فعل يحصل بفعل الضد للمنهي عنه فالمقصود بالذات هو الانتهاء وإما فعل الضد فلا يقصد إلا بالالتزام بل قد لا يقصد أصلًا ولا يستحضره المتكلم ومتى قصد فعل الضد وطلب من حيث هو كان أمرًا لا نهيًا عن ضده قال السبكي في شرح المنهاج: أن الانتهاء مقدم في الرتبة في العقل على فعل الضد. فكان معه كالسبب مع المسبب ولكافر إذا أسلم فقد وجد منه ثلاثة أشياء، كفره أولًا المنهي عنه ثم انتهاؤه عنه والترتيب بينهما في الزمان ثم تلبسه بالإيمان والترتيب بينه وبين الانتهاء عن الكفر ليس في الزمان وإنما هو في الرتبة ترتب المعلول على العلة وهما في زمان واحد حتى لو فرض أن الانتهاء يحصل بدون فعل الضد حصل المطلب به ولم يكن حاجة إلى فعل الضد لكن ذلك فرض غير ممكن وهذا المعنى حاصل في جميع الأفعال وكل ما تلبس به الإنسان.
قال السبكي في طبقاته: لقد وقفت على ثلاثة أدلة تدل على أن الكف فعل لم أر أحدًا عثر عليها، أحدها قوله تعالى:((وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)). فإن الأخذ التناول والمهجور المتروك فصار المعنى تناولوه متروكًا أي فعلوا تركه. والثاني ما روى أنه صلى الله عليه وسلم (قال: أي الأعمال أفضل؟ فسكتوا ولم يجبه أحد فقال: هو حفظ اللسان) والثالث (قال قائل من المسلمين
والنبي صلى الله عليه وسلم يعمل بنفسه في بناء المسجد: لئن قعدنا والنبي يعمل لذلك منا العمل المضلل) فمعنى قعدنا تركنا الاشتغال ببناء المسجد. وقيل: المكلف به في النهي فعل الضد للمنهي عنه.
قولنا وذلك فعل يحصل بفعل الضد، قاله المحلي واعترضه في الآيات البينات بأمرين، الأول: أنه وإن كان فعلًا إلا أنه من الأفعال الاعتبارية التي لا تحقق لها في الخارج فيكون عدميًا فكيف كلف به مع أنه غير مقدور لأن العدمي غير مقدور باعتبار حصوله بفعل الضد المقدور قلنا لا حاجة إلى العدول في المكلف به في النهي عن ما يتبادر من كونه النفي إلى كونه الانتهاء بل قد يمكنه التزام كونه النفي لأنه مقدور باعتبار ما يتحقق به من الضد. والثاني أنه قد يخفي المراد بحصوله بفعل الضد فإن المنهي عن شرب الخمر مثلًا إذا ترك الشرب وسائر الأفعال كالأكل وشرب الماء وغير ذلك أي ضد شرب الخمر بفعله حتى حصل به الانتهاء عن شربه فإنه لم يحصل به إلا انتفاء الشرب ولم يحصل هنا أمر وجودي مضاد للشرب حتى يتحقق وجود ضد يحصل بفعله اللهم إلا أن يراد بالضد ما يشمل النقيض الذي هو النفي.
(والكف فعل في صحيح المذهب)
قال أبو عبد الله المقري: قاعدة اختلف المالكية في الترك هل هو فعل أو ليس بفعل والصحيح أن الكف فعل وبه كلفنا في النهي عند المحققين، وغيره ضد فيقال هل الكف كالإتيان أو لا؟ وهل الكف كالفعل أو لا؟ وقال قوم منهم أبو هاشم المعتزلي: إن المكلف به في النهي الانتفاء بالفاء للمنهي عنه وذلك للمكلف بأن لا يشاء فعله الذي يوجد بمشيئته فإذا قيل لا تتحرك فالمطوب منه على أنه الانتهاء هو الكف عن التحرك الحاصل بفعل ضده الذي هو السكون وعلى الثاني فعل ضده وعلى الثالث انتفاؤه بأن يستمر عدمه الناشيء من السكون قال اللقاني: لا ينحصر تحقق الانتفاء في استمرار العدم إذ يمكن تحققه بتجدد العدم كما إذا نهى عن التحرك من هو متلبس به. فبالسكون يخرج من عهدة النهي على جميع الأقوال.
له فروع ذكرت في النهج
…
وسردها من بعد ذا البيت يجي
الضمير في له للخلاف في الكف هل هو فعل أو لا؟ يعني أنه ينبني عليه فروع ذكرها في المنهج المنتخب وجلبتها هنا على سبيل التضمين وهذا النوع يسمى استعانة وهي تضمين بيت فأكثر والمذكور هنا ثلاثة أبيات:
من شرب أو خيط ذكاة فضل ما
…
وعمد رسم شهادة ..
قوله من شرب بيان للنفع الكامن المستتر في البيت قبله وهو:
وهل كمن فعل تارك كمن
…
له بنفع قدرة لكن كمن
فشرب إشارة إلى من عنده فضل طعام أو شراب فلم يعطه مضطرًا حتى مات يضمن ديته على الأول دون الثاني وخيط إشارة إلى من به جائفة فطلب من شخص ما يخيط به فمنعه حتى مات هل عليه ديته أو لا؟ وذكاة إشارة إلى من مر بصيد لم تنفذ مقاتله وأمكنه تذكيته فلم يفعل حتى مات هل يضمنه أو لا؟ وكذلك الآيسة يخاف موتها. وفضل ما، إشارة إلى من عنده فضل ماء ولجاره زرع يخاف عليه فلم يمكنه منه حتى هلك هل يضمن أو لا؟ وكذلك الخلاف فيمن عنده عمد فطلبها صاحب جدار خاف سقوطه فلم يفعله حتى سقط، وفيمن أمسك وثيقة حق حتى تلف الحق. وهذا معنى قوله رسم شهادة، قال المنجور: ورسم شهادة بالإضافة، ويصح تنوين رسم ويكون قوله شهادة إشارة إلى أن من جحد شهادة هل يغرم إذا ضاع الحق.
وما عطل ناظر وذو الرهن كذا
…
مفرط في العلف فادر المأخذا
قوله: وما عطل، إشارة إلى ما عطل ناظر اليتيم من ربعه أو جنانه أو أرضه فلم يكره مع إمكانه أو ترك الأرض حتى تبورت هل عليه غرم أم لا؟ وذو الرهن، إشارة إلى ما عطل المرتهن من كراء الرهن -ولكرائه خطر وبال -هل يضمنه أو لا؟ ومفرط الخ .. إشارة إلى من دفعت إليه دابة مع علفها وقيل له: علفها واسقها حتى أرجع إليك، فتركها بلا علف حتى ماتت، في ضمانه قولان لأبي الأصبغ
والشيخ أبي محمد، والعلف هنا بسكون اللام والمأخذ مأخذ هذه الفروع المبنية عليه.
وكالتي ردت بعيب وعدم
…
وليها وشبهها مما علم
إشارة إلى ذات العيب يزوجها وليها القريب فيفلس، هل يرجع عليها الزوج بالصداق أو لا؟ وشبه هذه المسائل مما علم من هذا الأصل، كقتل شاهدي حق، وقتل المرأة نفسها قبل الدخول كراهية منها في زوجها هل لها صداق أم لا؟ إلا أن هاتين المسألتين ليستا من مسائل الترك، ويدخل في ذلك مسألة السجان، والقيد، والقفص، والسارق، والدواب، واللقطة، فيجري فيها الخلاف في الضمان. وهذه المسائل تتبنى أيضًا على قاعدة التعدي على السبب هل هو كالتعدي على المسبب.
والأمر قبل الوقت قد تعلقا
…
بالفعل للإعلام قد تحققا
يعني أن الأمر وسائر أقسام التكليف يتعلق عند الجمهور بالفعل قبل المباشرة له قبل دخول وقته إعلامًا. وقوله الآتي: وبعد الإلزام، يعني به أن التكليف يتعلق بالفعل قبل المباشرة له بعد دخول وقته إلزامًا، فإعلامًا وإلزامًا حالان من ضمير الأمر المستتر في يتعلق، قاله اللقاني. قال العبادي: ويجوز أن يكون إلزامًا وإعلامًا مفعولًا مطلقًا على حذف مضاف، أي تعلق إلزام وتعلق إعلام.
قال المحشيان وهما في اصطلاح العبادي زكرياء وابن أبي شريف: الفرق بين التعلقين أن تعلق الإعلام مقصوده اعتقاد وجوب إيجاد الفعل لا نفس الإيجاد، وتلعق الإلزام مقصوده الامتثال، ولا يحصل إلا بكل منهما، فإيجاد الفعل قبل اعتقاد الوجوب غير كاف في الخروج عن العهدة، واعتقاد الوجوب كذلك، فلابد معه من الإيجاد.
قال في الآيات البينات والمتبادر من هذا الفرق وما تقدم في تفسير التعلق المعنوي تغاير التعلق المعنوي والتعلق الإعلامي، وإن
المعنوي أزلي والإعلامي حادث، وعلى هذا تكون التعلقات ثلاثة: تنجيزي، ومعنوي، وإعلامي، وأما الإلزامي فهو التنجيزي.
قوله: الأمر مبتدأ خبره جملة قد تحققا وللإعلام متعلق به.
وبعد للإلزام يستمر
…
حال التلبس وقوم فروا
يستمر حال من الإلزام، يعني أن التعلق الإلزامي يستمر عند الأكثر حال التلبس به أي المباشرة له، وقوم من أهل الأصول فروا أي ذهبوا إلى انقطاعه حال المباشرة خوف تحصيل الحاصل وهو عبث لا فائدة فيه. وأجيب بأن الفعل ذا الأجزاء كالصلاة لا يحصل إلا بالفراغ منه لانتفائه بانتفاء جزء منه.
فليس يجزي من له يقدم
…
ولا عليه دون حظر يقدم
أي فعلى أن التكليف يتوجه على المكلف قبل المباشرة لا يجزئ المكلف ما أتى به من المأمورات قبل وقته لأنه آت بغير ما أمر به فلا تبرأ ذمته ولا يقدم عليه إقدامًا خاليًا من الحظر أي المنع أي لا يجوز الإقدام على فعله فيقدم مبني للفاعل وهو المكلف (وذا التعبد .. )
أي وهذا الذي لا يجزئ أن قدم على وقته ولا يجوز الإقدام عليه هو ما تمحض للتعبد كالصلاة والصوم
وما تمحضا
…
للفعل فالتقديم فيه مرتضى
يعني: أن ما تمخض للمفعولية كأداء الديون ورد الوديعة ورد المغصوب يرتضى تقديمه قبل وقت لزومه وإنما ارتضى لجوازه وإبرائه الذمة ما لم يشتمل التقديم على أمر محرم فيمنع للمعارض.
وما إلى هذا وهذا ينتسب
…
ففيه خلف دون نص قد جلب
يعني: أن المنتسب إلى شائبة التعبد وشائبة المفعولية كالزكاة والوضوء يختلف في جواز تقديمه وإبراء الذمة منه بناء على تغليب إحدى
الشائبتين على الأخرى دون نص أي دليل على جواز تقديمه كالوضوء فيجوز اتفاقًا أن يصلي به قبل دخول الوقت ما شاء.
وقال إن الأمر لا يوجه
…
إلا لدى تلبس منتبه
منتبه فاعل قال، أي: قال بعض الأصوليين ذو انتباه أي فطنة: أن الأمر وغيره من أقسام التكليف لا يوجه بالبناء للمفعول أي لا يتعلق بالفعل إلزامًا إلا عند التلبس به وإما قبل ذلك فإعلام، وإنما كان لا يتعلق به إلزامًا إلا عند المباشرة له لأنه لا قدرة عليه إلا حينئذ. قال زكرياء أي لأنها القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلا يكون إلا مع المباشرة.
اعلم أن الأصوليين من الأشعرية والمعتزلة متفقون على أن المأمور بالفعل بقصد الامتثال إنما يتعلق به الأمر عند الاستطاعة لكن للمعتزلة أصل وهو أن الفعل لا يكون متعلقًا للقدرة حال حدوثه فالاستطاعة عندهم قبل الفعل لا معه، وأصل الأشعرية أن القدرة الحادثة تقارن المقدور لا تسبقه فالاستطاعة عندهم معه لا قبله لأن القدرة الحادثة عرض، وبقاء العرض محال عندهم، فلو تقدمت على وجود الحادث لعدمت عند وجوده فلا يكون الحادث متعلقًا لها، فلزم على أصل الأشعرية أن الأمر إنما يتعلق بالفعل تعلق إلزام حال حدوثه لا قبله، ولزم على أصل غيرهم تعلقه به قبله لا معه.
فاللوم قبله على التلبس
…
بالكف وهي من أدق الأسس
هو جواب عن ما قيل إنه يلزم عدم العصيان بترك ما أمر به إذا قلنا: إن الأمر لا يتوجه إلا عند المباشرة. والجواب أن اللوم قبل التلبس بالفعل مرتب على التلبس بالكف عن الفعل وذلك الكف منهي عنه لأن الأمر بالشيء يفيد النهي عن تركه. واعترض بعضهم هذا التعليل بأن لا يفيد المطلوب وهو أن الكف منهي عنه لأن النهي يتوقف على وجود الأمر وهو متوقف على وجود التعلق الإلزامي وهو هنا منتف فينتفي الأمر فينتفي النهي وهو نقيض المطلوب. ومنعه في الآيات البينات بأن الأمر والنهي واحد عند السبكي، إذ مذهبه أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده،
فبالنسبة إلى الفعل أمر، وبالنسبة إلى الترك نهي، فمن أين الفرعية. قوله: وهي الخ .. يعني أن هذه المسألة التي هي الكلام على وقت توجه التكليف بالفعل المباشرة أو حالتها. قال القرافي: إنها من أدق الأسس بضمتين جمع أساس أي من أغمض الأصول مع قلة جدواها إذ لم تظهر لها ثمرة في الفروع وفيه نظر لما يذكر في البيت بعده.
وهي في فرض الكفاية فهل
…
يسقط الإثم بشروع قد حصل
يعني: أن الفائدة المسألة المذكورة تظهر في فرض الكفاية هل يسقط الإثم عن الباقين بالشروع فيه أو لابد من كمال العبادة بناء على انقطاع التكليف بالشروع واستمراره؟ وتظهر في مسائل أخر قاله: حلولو في شرح جمع الجوامع.
للامتثال كلف الرقيب
…
فموجب تمكنا مصيب
الرقيب من أسمائه تعالى يعني أنهم اختلفوا في فائدة التكليف هل هي الامتثال فقط وعليه فمن جعل التمكن من إيقاع الفعل شرطًا في توجه التكليف فهو مصيب أو هي مترددة بين الامتثال والابتلاء كما أشار له بقوله:
أو بينه والابتلا ترددا
…
شرط تمكن عليه انفقدا
فاعل تردد ضمير التكليف المفهوم من قوله كلف، وبينه متعلق بتردد، والابتلاء معطوف على الضمير المضاف إليه دون إعادة الخافض لجوازه عند ابن مالك. يعني أن التكليف أي فائدته مترددة عند بعضهم بين الأمرين، فتكون تارة للامتثال فقط وقد تكون للابتلاء أي الاختبار هل يعزم ويهتم بالعمل فيثاب أو يعزم على الترك فيعاقب. قال حلولو: والحق الثاني وأن التمكن إنما هو شرط في إيقاع الفعل لا في توجه التكليف وإليه أشار بقوله شرط تمكن، قوله عليه أي: على القول الأخير:
عليه تكليف يجوز ويقع
…
مع علم من أمر بالذي امتنع
في علم من أمر
يعني أنه ينبني على الخلاف في فائدة التكليف الخلاف في التكليف هل يجوز عقلًا ويقع شرعًا معلومًا للمأمور أثر سماعه الأمر للدال على التكليف مع علم الأمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته بناء على أن التمكن من الامتثال ليس بشرط، أو لا يعلم إلا بعد التمكن بناء على أنه شرط، والأول مذهب الجمهور. وحجة المخالف انتفاء فائدة التكليف من الطاعة والعصيان. وأجيب بوجودها بالعزم على الفعل فيترتب الثواب، والترك فيترتب العقاب. وقول المخالف لا يعلم المأمور بشيء إنه مكلف به عقب سماعه للأمر به، لأنه قد لا يتمكن من فعله لموته قبل وقته أو عجز عنه. جوابه أن الأصل عدم ذلك، وبتقدير وجوده ينقطع تعلق الأمر الدال على التكليف، كالوكيل في البيع غدا إذا مات أو عزل قبل الغد ينقطع التوكيل، وعلى الخلاف من أفطر متعمدًا في رمضان ثم جن أو مات بقية نهاره فتلزمه الكفارة على مذهب الجمهور، ولا تلزمه على المقابل. وقد أوجب مالك الكفارة على من أفطرت في أول النهار متعمدة ثم حاضت آخره. وأمر الأول مبني للمفعول، والثاني للفاعل، وقوله بالذي امتنع متعلق بتكليف، وفي علم متعلق بامتنع.
(كالمأمور في المذهب المحقق المنصور)
يعني أنه يصح التكليف ويوجد معلومًا للمأمور أثره مع علم الآمر والمأمور جميعًا انتفاء شرط وقوعه عند وقته، كأمر رجل بصوم يوم علم موته قبله، وكمن علمت بالعادة أو بقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنها تحيض في يوم معين من رمضان، هل يجب عليها افتتاحه بالصوم؟ فعندنا نعم، فإن المرخص في الإفطار لم يوجد، قال حلولو نعم لو علمت أنها تحيض قبل الفجر لم يتأت منها انعقاد الوجوب لفوات مقصد التكليف من العزم والاهتمام بالعمل.
فإن قلت: إذا علم المأمور انتفاء شرط الوقوع انتفت الفائدة التي هي العزم على الامتثال، فالجواب إنها موجودة على تقدير وجود الشرط، كما يعزم الزاني المجبوب على أن لا يعود إليه بتقدير القدرة عليه، وكذا من نظر إلى محرم فعمى فلا يشترط في كل العزم على عدم اتفاقا، بل يكفي الندم وحده. وقال القرافي في الذخيرة وقد
يكون الندم وحده توبة في حق العاجز عن العزم والإقلاع. قال في الآيات البينات: عدم اشتراط ذلك في صحة توبته لا ينافي ذلك صحة نظيره فائدة لصحة التكليف، ولهم أيضًا أن يتأيدوا بجواز التكليف بالمحال ولو لذاته، ثم قال: ولا يسع عاقلًا أن يعترف بوجود الفائدة في المحال الذاتي وينكرها فيما نحن فيه هـ. وبهذا يظهر لك أن جواز للتكليف في المسألة هو التحقيق وهو الذي نصره السكبي وأن حكى الآمدي وغيره الاتفاق فيها على عدم صحة التكليف.