المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب القرآن ومباحث الأقوال: - نشر البنود على مراقي السعود - جـ ١

[الشنقيطي، عبد الله بن إبراهيم]

الفصل: ‌كتاب القرآن ومباحث الأقوال:

‌كتاب القرآن ومباحث الأقوال:

يعني أن هذا هو كتاب تعريف القرآن وذكر مباحث الأقوال المشتمل هو عليها من الأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والمنطوق والمفهوم والناسخ والمنسوخ والحقيقة والمجاز وغير ذلك.

والمباحث جمع مبحث، بمعنى مكان البحث، والبحث: إثبات المحمول للموضوع أو سلبه عنه، والتقدير، والأماكن التي يقع فيها البحث من الأقوال، فمثال إثباته له قوله السبكي: ومنه البسملة فيه البحث عن البسملة التي هي من الأقوال أي إثبات محمولها، وهو بعضيتها منه ثابت لها، ومثال السلب قول الناظم وليس للقرءان تعزى البسلمة، والقرءان في اللغة مصدر بمعنى القراءة، غلب في العرف العام على كتاب الله المثبت في المصاحف كما غلب عليه في عرف الشرع الكتاب من بين سائر الكتب كما غلب الكتاب على كتاب سيبويه في عرف النحاة، وكما غلب على المدونة في عرف أهل مذهب مالك، ولا ينافي علميته، قولهم: إن اللام فيه للعهد وإن لزم اجتماع معرفين لأن المعرف هنا بمعنى العلامة قال زكرياء ثم قال: فإن قلت: قد منع اجتماعهما أكثر النحاة إجراء للعوامل اللفظية مجرى المؤثرات الحقيقية، قلت: قد نقل ذلك الرضى كغيره، ومع ذلك اختاروا جوازه إذا كان في احدهما ما في الآخر وزيادة كما هنا قال بدليل يا هذا، ويا عبد الله، ويا الله، قال: وما قيل أن العلم كبقية المعارف لا يضاف إلا أن نكر ممنوع، بل يجوز عندي إضافته مع بقاء تعريفه، إذ لا مانع من اجتماع تعريفين إذا اختلفا هـ.

ص: 78

والصواب عندي هو الذي في الآيات البينات تجريد ال حينئذ من معنى العهد، بل صارت من حيث صار علمًا مما لا معنى له أصلًا.

لفظ منزل على محمد

لأجل الإعجاز وللتعبد

يعني أن القرءان عند علماء العربية والفقه وأصوله هو: اللفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الإعجاز بسورة منه ولأجل التعبد بتلاوته، أي: طلبه تعالى إياها من العباد لما فيها من الثواب لفاهم معناه وغيره، بل هو أفضل العبادات بعد الفرائض خلاف المعنى بالقرءان في أصول الدين من مدلول اللفظ القائم بذاته تعالى فيطلق القرءان على كل من الأمرين كما يطلق على كل منهما كلام الله، والكتاب.

ووجه الإضافة في تسمية كلام الله بالمعنى الثاني إنه: صفة له، وبالأول أنه: أنشأه برقومه في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى:((بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ))، وبحروفه بلسان جبريل، لقوله تعالى:((إنه لقول رسول كريم)) بناء على أن الرسول جبريل لا محمد صلى الله عليه وسلم، أو بلسان النبي صلى الله عليه وسلم بناء على إنه محمد، لقوله تعالى:((نزل به الروح الأمين على قلبك)) لأن المنزل على القلب هو المعنى واللفظ له صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال.

وهل إطلاق القرءان على الأمرين بالاشتراك، أو هو في الأول مجاز، مشهور الظاهر الاشتراك قاله ابن أبي شريف.

وهل يعتبر في التسمية بالقرءان بالمعنى الأول خصوص المحل فهو اسم لا تأليف القائم بأول لسان اخترعه الله تعالى فيه، أو المعتبر خصوص التأليف الذي لا يختلف باختلاف المتلفظين؟ الصحيح الثاني وهذا الخلاف جار في كل تأليف وشعر ينسب إلى أحد فخرج عن أن يسمى قرءانًا بالمنزل على محمد الأحاديث غير الربانية وتسمى بالنبوية وجه خروجها أن ألفاظها لم تنزل وإنما أنزل معانيها والنبي صلى الله عليه وسلم عبر عنها بفلظه وكذلك ما كان عن اجتهاد فليس منزلًا لا لفظًا ولا معنى كما يخرج التوراة وسائر الكتب السماوية غيره، وخرج بالإعجاز

ص: 79

الأحاديث الربانية وتسمى الإلهية والقدسية وهي حكاية قول الرب كحديث الصحيحين (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) فإن ظن خيرًا فله وإن ظن شرًا فله أو كما قال.

والنبوية ما ليس كذلك، والإعجاز لغة إظهار عجز المرسل إليهم عن معارضته وفي عرف أهل أصول الدين إظهار صدق الرسول في دعواه الرسالة فهو لازم للمعنى اللغوي إذا المقصود من إظهار عجزهم إظهار صدقه في دعواه الرسالة والاقتصار على الإعجاز والتعبد بتلاوته وإن أنزل القرءان لغيرهما كالتدبر لآياته والعمل بما فيه لإنهما المحتاج إليه في التمييز لأن الأحاديث الربانية لم تنزل للإعجاز وإن كان منها ما هو معجز في نفسه قاله ابن أبي شريف. مع أن ابن الهمام اختار أن الإعجاز غير مقصود من الإنزال بل الإنزال للتدبر والتدبر والتفكير وإما الإعجاز فتابع وقد توقف فيه تلميذه ابن تلميذه ابن أبي شريف وخرج بالتعبد بتلاوته أبدًا ما نسخت تلاوته كآية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) وتخرج به الأحاديث أيضًا لأنها ليست متعبدًا بتلاوتها وإن خرجت بما قبل قد يقال إن التعبد بالتلاوة حكم من أحكام القرآن والأحكام لا تدخل في الحدود لتوقف المحدود على الحد الذي من جملته التعبد بالتلاوة والحكم على الشيء فرع تصوره ففيه دور وهو من مبطلات الحدود، وجوابه أن الشيء قد يميز بذكر حكمه لمن تصوره بأمر شاركه فيه غيره كما إذا عرفت أن من اللفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ما نسخت تلاوته وما تعبد بتلاوته أبدًا ولم تعلم عين القرءان منهما فيقال لك هو اللفظ المنزل على محمد للإعجاز بسورة منه المتعبد بتلاوته.

والذي يظهر لي أن محل كون التعريف بالحكم دورا حيث حكم على المحدود به قبل ثم عرفه به كان يقول النحوي: باب منصوبات الأسماء ثم ذكر منها الحال وعرفه بأنه وصف فضلة منتصب .. الخ، إما أن عرف به ابتداء فلا دور فيه لأنه من جملة خواص المحدود.

تنبيه: إنما حد القرءان بما ذكر من الأوصاف مع تشخيصه ليتميز عما لا يسمى باسمه من الكلام وإن كان الجزء

ص: 80

الحقيقي لا يقبل الحد لأنه لا تمكن معرفته إلا بالإشارة ونحوها من المعارف لا تمكن معرفة حقيقة القرءان إلا بأن يقرأ من أوله إلى آخره ويقال هو هذه الكلمات بهذا الترتيب ثم كون القرءان شخصيًا ظاهر على القول باعتبار خصوص المحل في مسمى القرءان مرادًا به اللفظ المنزل إلى ءاخره وإما على الحق من أنه اسم للمؤلف المخصوص الذي لا يختلف باختلاف قارئه فقد قال في الآيات البينات: لمشاركته الشخصي الحقيقي في إنه لا يمكن معرفة حقيقته إلا بالإشارة إليه والقراءة من أوله إلى ءاخره، وحينئذ فمعنى مع تشخصه، إن له حكم المتشخص لعدم تعدده إلا بحسب المحال ولعدم إمكان معرفة حقيقته إلا بأن يقرأ من أوله إلى ءاخره. وكونه غير معتبر فيه خصوص المحل للقطع بأن ما يقرؤه كل واحد منا هو القرءان المنزل عليه صلى الله عليه وسلم بلسان جبريل أو غيره ولو كان عبارة عن الشخص القائم بلسان جبريل مثلًا لكان هذا مماثلًا له لا عينه ضرورة أن الأعراض تتشخص بمحالها فتتعدد بتعدد المحال وكذا الكلام في كل ما ينسب إلى أحد من كتاب أو شعر وكذلك التراجم، نحو باب يرفع الحدث.

فالحاصل أن في ذلك ثلاثة أقوال:

الأول إعلام شخصية سواء قلنا بخصوصية المحل وهو ظاهر أو قلنا اسم للمؤلف المخصوص الذي لا يتغير بتعدد محاله وقد تقدم بيانه.

القول الثاني: إنها أعلام أجناس وضعت لأنواع من الألفاظ بقيد حضورها في الذهن.

القول الثالث: أسماء أجناس لقبولها ال نحو الكافية الشافعية المدونة وانظر بسط ذلك في شرحنا فيض الفتاح عند قولنا وعلمية لأن توقعه .. الخ وإذا كان القرءان مرادًا به المعنى القائم بذاته تعالى فهو علم شخص قطعا ..

وليس للقرءان تعزى البسملة

وكونها منه الخلا في نقله

ص: 81

يعني: أن لفظة بسم الله الرحمن الرحيم ليست من القرءان عند أكثر الأصوليين والفقهاء والأئمة الثلاثة أعني غير ما في سورة النمل فهي منه إجماعًا، قال أبو طالب مكي وكان من أهل الفقه والقراءة والحديث: إجماع الصحابة والتابعين على أنها ليست ءاية منه إلا من سورة النمل وإنما اختلف القراء في إثباتها من أول الفاتحة خاصة فما وقع بعد الإجماع من قول فغير مقبول لأنه خارق للإجماع وخرقه حرام وإنما كتبت في الفاتحة للابتداء على عادة الله في كتبه ومنه سن لنا أن نبتدئ كل كتاب بها وفي غير الفاتحة للفصل بين السور قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم وليست منه أول براءة. قال النووي بإجماع المسلمين قوله وكونها منه .. الخ يعني: أن كون البسملة من القرءان نقله المخالف لمذهب مالك كالسبكي عن الشافعي لأنها مكتوبة بخط السور في المصاحف العثمانية مع مبالغة الصحابة في أن لا يكتب فيها ما ليس منه مما يتعلق به حتى النقط والشكل وقولنا بخط السور احترازًا عن أسماء السور فإنها مكتوبة في المصاحف بغير خط السور، والصحيح عن الشافعي إنها ءاية في جميع أوائل السور غير براءة وروى عنه إنها ءاية من الفاتحة وروى عنه إنه قال لا أدري هل هي ءاية من الفاتحة أو لا؟

وبعضهم إلى القراءة نظر

وذاك للوفاق رأى معتبر

يعني أن الحافظ ابن حجر قال: ينظر إلى القراءات وذلك أي النظر إلى القراءات رأي معتبر لما فيه من التوفيق بين كلام الأئمة فلا خلاف حينئذ قال بعض العلماء وبهذا الجواب البديع يرتفع الخلاف بين أئمة الفروع وينظر إلى كل قارئ بانفراده فمن تواترت في قراءته وجبت على كل قارئ بها في الصلاة وغيرها وتبطل بتركها أيًا كان وإلا فلا.

ولا ينظر إلى كونه مالكيًا أو شافعيًا أو غيرهما وإنما أوجبها الإمام الشافعي لكونه قراءته قراءة ابن كثير، قال البقاعي: وهذا من نفائس الأنظار لكنه مخالف لما في تحصيل المنافع على الدرر اللوامع ولفظه لا يبسمل ملك في صلاة الفرض ولو قرأ برواية من يبسمل بخلاف النافلة قال أبو الحسن الحضري.

ص: 82

وإن كنت في غير الفريضة قارئًا

فبسمل لقالون لدى السور الزهر

وليس منه ما بالآحاد روى

فللقراءة به نفي قوي كالاحتجاج

يعني: أن ما روي عنه صلى الله عليه وسلم بخبر الآحاد على انه قرآن ليس من القرآن كأيمانهما في آية (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) لأن القرآن لإعجاز الناس عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه تتوفر أي تكثر الرواعي أي الأمور الحاملة على نقله تواترًا، وقيل: أنه من القرآن حملًا عن أنه كان متواترًا في العصر الأول لعدالة ناقله ويكفي التواتر فيه.

قوله فللقراءة

الخ يعني: أن عدم جواز القراءة بالشاذ لا في الصلاة ولا خارجها قوي لأنه المشهور من مذهب ملك والشافعي، والشاذ ما نقل بالآحاد على أنه قرآن بناء على أنه ليس من القرآن ومقابل المشهور جواز القراءة به وعزى لنقل ابن عبد البر. قال حلولو ومن لازم جواز القراءة به على أنه قرآن ثبوت بعض القرآن بنقل الآحاد، وأيضًا قد اختلف الناس فيما اختلف القراء السبعة فيه هل هو متواتر أو لا؟ ولا يعلم عن أحد إنكار القراءة بما اختلف فيه القراء من الحروف أو صفة الأداء اهـ ببعض تصرف.

لكن إن أراد بما اختلف فيه القراء ما اختلف فيه عن بعضهم فمسلم وإن أراد ما اختلف فيه اثنان أو أكثر من السبعة مع الاتفاق على عزو كل قراءة إلى من نسبت إليه فلا، قوله كالاحتجاج، يعني: إنه كما لا تجوز القراءة بالشاذ لا يجوز الاحتجاج به ولا العمل في الأحكام الشرعية ولذا لم يوجب ملك ولا الشافعي في كفارة اليمين بالله تعالى التتابع مع قراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات ومقابل المشهور صححه السبكي حيث قال: إما إجراؤه مجرى الآحاد فهو الصحيح.

غير ما تحصلا

فيه ثلاثة فجوز مسجلا

صحة الإسناد ووجه عربي

وفق خط الأم شرط ما أبى

ص: 83

يعني: أن الشاذ يجوز مسجلًا أي قراءته وتلقي الأحكام منه إذا اجتمع فيه قيود ثلاثة:

أولها: صحة إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم لاتصال سنده وثقة نقلته دون شذوذ ولا علة تقدح.

الثاني: أن يوافق وجهًا جائزًا في العربية التي نزل القرآن بها.

الثالث: موافقة خط الأم أي المصحف العثماني وإليه الإشارة بقوله ووفق .. الخ.

وأبى مبني للمفعول بمعنى منع فكل قراءة جمعت الثلاثة فهي عند القراء وبعض الفقهاء قرآن تواترت أم لا، وما اختل منها شرط فشاذة لا يقرأ بها قال ابن الجزري.

وكل ما وافق وجهًا نحوي

وكان للرسم اتفاقًا يحوي

وصح إسنادًا هو القرءان

فهذه الثلاثة الأركان

وحيثما يختل شرط اثبت

شذوذه لو انه في السبعة

مثال ما جمعها قراءة الثلاثة يعقوب وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وخلف قال ابن عرفة: قراءة يعقوب داخلة في السبعة لأنه أخذها عن أبي عمرو، وقال السبكي: إن قراءة خلف ملفقة من السبعة إذ له في كل حرف موافق منهم وقال أبو حيان: لا نعلم أحدًا من المسلمين حظر القراءة بالثلاثة بل قرئ بها في سائر الأمصار والضابط عند الأصوليين وبعض الفقهاء في إثبات القرآن التواتر وما لا فشاذ. قال زكرياء: واشتراطهم التواتر في ذلك منتقض بإثبات قرآنية البسملة مع أنها لم تتواتر. لكن الاحتجاج به إنما هو على من أثبتها.

مثل الثلاثة ورجح النظر

تواترًا لها لدى من قد غبر

تواتر السبع عليه أجمعوا

ص: 84

يعني: أن النظر أي العقل رجح عند بعض من غبر أي مضى أن الثلاثة متواترة قال السبكي في «منع الموانع» : أن القول بأنها غير متواتر وهو السبع وشاذ وهو ما سوى ذلك فلا يجوز عندهم القراءة تواتر القراءات السبع فالقراءات عند القراء وبعض الفقهاء ثلاثة أقسام متواترة وهو السبع ومختلف فيه بين التواتر والصحة كالثلاث وشاذ وهو ما اختل فيه شرط صحة، وعند الأصوليين وبعض الفقهاء متواتر وهو السبع وشاذ وهو ما سوي ذلك فلا يجوز عندهم القراءة بما زاد على السبع وقد خلط بعض شراح السبكي إحدى الطريقتين بالأخرى وبينهما تناف والمراد بالوجه العربي ما هو الجادة لا مطلق الوجه ولو كان فيه تكلف وخروج عن الأصل بدليل أن القراء يقولون بشذوذ قراءة ابن عامر (وكذلك زين لكثير من الشركين قتل أولادهم شركائهم) بضم زين ورفع قتل ونصب أولادهم.

ولم يكن في الوحي حشو يقع

يعني: إنه ممتنع عقلًا أن يقع في الكتاب والسنة لفظ له معنى لا يمكن فهمه لأن القرآن كله هدى وشفاء وبيان وكذلك السنة ولا فائدة أيضًا في الخطاب بما لا يصل أحد إلى فهمه خلافًا للحشوية في تجويزهم ورود ذلك في الكتاب قالوا: لوجوده فيه كالحروف المقطعة أوائل السور وفي السنة بالقياس على الكتاب. وأجيب بأن الحروف أسماء السور كطه ويس وفيها أقوال أخرى مذكورة في كتب التفسير.

وأعلم أن الأدلة من الطرفين ظواهر لا تفيد القطع إذ للحشوية أن يقولوا فائدة إنزال المتشابهة إمساك عنان الراسخ في العلم عن الخوض فيه ومنعه منه، وهذا عندنا أشد تعبًا من بذل المجهود في استعلام الحكم من المحكم لأن النفوس مجبولة على طلب ما منعته قال الشاعر:

منعت شيئًا فأكثرت الولوع به

أحب شيء إلى الإنسان ما منعا

واستشكل تخصيص الخلاف بالحشوية مع وقع المتشابه في القرآن وكون الجمهور منا على أن الوقف على قوله: ((إلا الله)) إما ما لا معنى له أصلًا فلا يجوز وقوعه فيهما باتفاق العقلاء لأن الكلام بما لا معنى له هذيان ونقص والنقص على الله تعالى محال، قال في

ص: 85

المحصول: وحكم الرسول في الامتناع كحكمه تعالى. قال الأصبهاني في شرحه لا أعلم أحدًا ذكر ذلك ولا يلزم من كون الشيء نقصًا في حق الله تعالى أن يكون نقصًا في حق الرسول فإن السهو والنسيان جائزان في حق الأنبياء. فلا يتجه تخصيص الخلاف هنا بالنسبة للسنة بالحشوية. قلت: يمكن الجمع بأن محل كلام المحصول ومن وافقه وهو الكثير ما إذا نطق به عمدًا لأنه عبث وهم معصومون من العبث لأنه إما حرام أو مكروه ومحل كلام الأصبهاني ما إذا أصدر منه سهوًا أو نسابًا والله تعالى أعلم. والحشوية بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة نسبة إلى الحاشلان الحسن البصري لما وجد كلامهم ساقطًا وكانوا يجلسون في حلقته إمامه وقال ردوهم إلى حشا الحلقة أي جانبهما ويجوز إسكان الشين نسبة إلى الحشو وهو الذي لا معنى له يمكن فهمه لقولهم بوجوده في الكتاب والسنة وبالوجهين ضبطها الزركشي والبرماوي وغيرهما.

وما به يعني بلا دليل

غير الذي ظهر للعقول

ما عطف على حشو يعني: أنه لا يجوز عقلًا أن يقع في الكتاب والسنة حشو ولا لفظ يعني به غير ظاهره إلا بدليل عقلي أو غيره يبين المراد منه كما في العام المخصوص بمتأخر عنه احترازًا من المقارن أو المتقدم إذ لا يصدق عليه حينئذ أنه عني به غير ظاهرة فاندفع اعتراض زكرياء بأن تقييده بالمتأخر مضر قال: اللهم إلا أن يقال أنه المتفق عليه أو إن غيره مفهوم بالأولى خلافًا للمرجئة في تجويزهم ورود ذلك من غير دليل حيث قالوا المراد بالآيات والأخبار الظاهرة في تعذيب عصاة المومنين الترهيب فقط بناء على معتقدهم أن المعصية لا تضر مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر قال في الآيات البينات لا يخفى أنه ينبغي أن يكون المراد في قوله يبين المراد منه المراد ولو بحسب الظهور إذ الأدلة المبينة لا يلزم أن تفيد المراد قطعًا. ويرد على المذهب غير المرجئة المتشابه بناء على قول الجمهور أن الوقف على ((إلا الله)) فإنه عنى به غير ظاهره ولا دليل يبين المراد منه إنما الحاصل الدليل الصارف عن ظاهره فكيف يمنع ذلك وينسب خلافه

ص: 86

للمرجئة مع لزوم القول به للجمهور؟ قال بعضهم اللهم إلا أن يخص الدعوى بما لم يصرف الدليل عن ظاهره فإن الدليل العقلي صارف عن ظاهره مبين لمعنى صحيح محتمل وسموا مرجئة لإرجائهم أي تأخيرهم المعصية عن الاعتبار في استحقاق العذاب عليها لأنهم يقولون لا عذاب مع الإيمان فلم يبق للمعصية عندهم أثر وهي بالهمز من أرجأه بمعنى آخره ومنه ((أرجئه وأخاه)) في قراءة ابني كثير وعامر وأبي عمرو وبتركه جمع مرج كمعط ومنه أرجه أخاه في قراءة الكوفيين ونافع وإن اختلفوا في إسكان الهاء وكسرها وقيل سموا مرجئة من الرجاء لرجائهم أن المعصية لا تضر مع الإيمان وعليه فينبغي كما قال ابن أبي شريف أن يقال مرجئة بفتح الراء وتشديد الجيم كمقدمة.

والنقل بالمنضم قد يفيد

للقطع والعكس له بعيد

يعني أن مذهب الأكثر أن الدليل النقلي قد يكون قطعي الدلالة على المراد منه لما ينضم إليه من تواتر معنوي أو لفظي أو مشاهدة كما في أدلة وجوب الصلاة ونحوها فإن الصحابة علموا معانيها بالقرائن المشاهدة ونحن علمناها بواسطة نقل تلك القرائن إلينا تواترًا إلى غير ذلك من النقليات المعلومة المعاني من الدين ضرورة كالعلم بأمور المعاد من البعث والحساب والجنة والنار وسؤال الملكين والجواز على الصراط وغير ذلك وذهبت المعتزلة وجمهور الأشاعرة إلى أنها لا تفيد اليقين مطلقًا وإليه الإشارة بقولنا: والعكس له بعيد، وحجة من قال: إن الدليل النقلي لا يكون قطعًا ما يعارض القطع من مجاز وتخصيص ونقل وتقديم وتأخير ونسخ واشتراك وإضمار مع أنه لابد من العلم بعد المعارض العقلي إذ لابد معه من تأويل النقل لأنه فرع صحة النقل عليه ليس إلا العقل فهو أصل للنقل فإبطاله بتقديم النقل عليه إبطال للنقل أيضًا إذ في إبطال الأصل إبطل الفرع ثم عارض المعارض العقل لأن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوءة وسائر ما يتوقف العقلي غير يقيني فقيامه محتمل إذ غاية الأمر عدم الوجدان وهو لا يفيد القطع بعدم الوجود، ورد عليهم بأنها تفيده بتواتر أو غيره إما ترى أن لفظ السماء والأرض ونحوهما من الألفاظ المشهورة عند أهل اللغة متواترة يعلم أصالة أي بالذات من اللفظ والمعنى استعمالها في

ص: 87

زمنه صلى الله عليه وسلم في معانيها المرادة منها الآن وكذا صيغة الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل وغيرها معلومة الاستعمال في ذلك الزمان في المراد منها الآن وأما عدم المعارض العقلي فيعلم من صدق المخبر فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادًا له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه وهو محال.

ص: 88